الانتفاضة الفلسطينية: حرب بوسائل أخرى
The Palestinian Uprising: A War by Other Means
By F. Robert Hunter. London: I. B. Tauris, 1991.
من الكتب العديدة التي أشارت عناوينها إلى الانتفاضة، منذ اندلاعها في الأراضي الفلسطينية المحتلة في كانون الأول/ ديسمبر 1987، يعتبر هذا الكتاب من القلة التي تركز فعلاً على تلك الظاهرة. إذ يدخل الكاتب صميم الموضوع، ويبذل جهداً خاصاً لفهم الانتفاضة من الداخل، على أساس بحثه الميداني وأحاديثه مع عشرات من الفلسطينيين والإسرائيليين. والنتيجة كتابة تاريخ للانتفاضة بصورة جيدة ومتكاملة، من دون الأهداف المسبقة للدراسات الأخرى.
يرى مؤلف الكتاب هنتر، كما يوحي اختياره للعنوان، أن الانتفاضة بمثابة حرب؛ بمعنى أنها معركة متواصلة ذات هدف سياسي، لا ثورة عابرة. ويظهر أن الفلسطينيين الرازحين تحت نير الاحتلال كسبوا، بمرور الأعوام، خبرة تنظيمية قيمة، مكنتهم في النهاية من مواصلة الانتفاضة. وقد ساهمت منظمة التحرير الفلسطينية في هذه العملية مساهمة ضخمة من خلال الحملات السياسية والتجنيد السري. ونجد نظيراً لهذه العملية في النظام الإسرائيلي للسجون، الذي خرّج كثيرين من الناشطين المتمرسين، حتى أن الفلسطينيين يشيرون إليه بأنه "مدرسة للكوادر". وإلى ما يسميه هنتر "إعادة بناء المجتمع الفلسطيني"، هناك تأثير المساعدة المالية من الخارج التي صممت لمساندة "الصمود" والبناء المتواصل للمؤسسات، وهي أمور ساهم فيها مساهمة كبيرة أيضاً مجموعات سياسية أُخرى ورؤساء بلديات محليون.
كان التسييس الواسع للمجتمع الفلسطيني، وخلق عوامل تساعد في التعبئة العامة، من نتائج هذه الأمور. لكن الصورة لم تكتمل بعد. وكما يبين هنتر، فإن الاستياء المتنامي من أداء وصدقية القيادة الهرمة لمنظمة التحرير الفلسطينية، دفع أجيالاً جديدة من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة إلى فرض أنفسهم. واقترن هذا الأمر بتدابير أمنية إسرائيلية قاسية، وتعدٍ مستمر على الأراضي والموارد الفلسطينية، الأمر الذي أحدث انفجاراً، ما أن أتى أخيراً حتى كان دائماً.
إن مساهمة هنتر القيّمة تكمن في تفسيره للأسباب التي أخّرت اندلاع الانفجار. وهذا البعد يفتقر إليه ويشوهه العمل الذي أنجزه زئيف شيف وإيهود يعري عن الانتفاضة*، مع أن له أساساً متيناً في دراسة سابقة عن السياسة الإسرائيلية لجيوفري أرونسون**. يقول المدافعون عن إسرائيل إن سبب الأعوام العديدة من الهدوء النسبي هو سياسة إسرائيلية معتدلة؛ لكن صورة الاحتلال المعتدل والخيّر لا تظهر إلا بفضل نظام للسيطرة على السكان معقد وضخم، ويستمد تأثيره من كونه قادراً على الانتشار والتطفل بصورة طاغية.
لكن من سخرية القدر أن تساهم قدرة النظام الإسرائيلي على الانتشار في قوة الانتفاضة. فمن ناحية، دفعت السياسات الإسرائيلية قطاعات الشعب الفلسطيني كلها إلى التماس الانفصال التام عن إسرائيل فعلياً، لذلك جسّد مفهوم "التخلص" من الاحتلال كلمة انتفاضة. ومن ناحية أُخرى، ساهم النظام نفسه في تزويد الفلسطينيين بالأدوات التي يحتاجون إليها لشن مقاومة فعالة. ويشهد على سعة انتشار المقاومة الفلسطينية وتأصلها القدرة على مواصلة الانتفاضة في عامها الخامس، على الرغم من مقتل ألف شخص وجرح مئة ألف واعتقال سبعين ألفاً – وهذه شريحة ضخمة ومروعة لأن عدد السكان 1.75 مليون نسمة فقط.
على الرغم من ذلك، فقد تمكنت إسرائيل من التغلب على كثير من التأثيرات المادية للانتفاضة، التي عانت بدورها رتابة متزايد وفقدان الاتجاه وضعف المعنويات بفعل ضغط العقوبات الإسرائيلية الكبيرة. وقد انعكست هذه الأمور في تدني المشاركة الجماهيرية في الانتفاضة، وفي نقمة بعض القطاعات مثل أصحاب الحوانيت وطبقات رجال الأعمال، وفي لجوء متنام إلى العنف موجَّهاً إلى فلسطينيين في أحيان كثيرة.
إن ما كان أكثر خطورة بالنسبة إلى إسرائيل هو الأضرار النفسية والسياسية التي خلّفتها الانتفاضة، كاشفة عن نفسها من خلال ممارسات وحشية استقطبت الشباب. وهذا لا يكاد يفاجئنا، لأن الجيش نفسه متهم بإدارة فرق موت رسمية تصطاد الناشطين الفلسطينيين، ولأن تحرك اللجنة الدولية للصليب الأحمر في أيار/ مايو 1991 كان كافياً لتسقط تحفظها لفترة قصيرة وتتهم السلطات الإسرائيلية، علانية، باستخدام التعذيب ضد المعتقلين الفلسطينيين بصورة منتظمة.
يكتب هنتر عشية أزمة الخليج، فتفوته الأحداث المهمة التي حملت فلسطينيي الانتفاضة أخيراً إلى مسرح العالم في مدريد، في تشرين الأول/ أكتوبر 1991. لكن من عوامل قوة الكتاب أنه يبحث في الانتفاضة، ويحلل الاتجاهات السياسية فيها بطريقة تثير الإعجاب، وتتلاءم مع تفسير التبدلات الداخلية التي سمحت للفلسطينيين بأن يشاركوا في عملية السلام. ويبدو الكاتب ساذجاً، أحياناً، عندما يبيح للفلسطينيين في الأراضي المحتلة التكلم نيابة عن أنفسهم، كونهم ضحايا الهيمنة الإسرائيلية ومشاركين في الانتفاضة، لكنه يكشف بفعالية أكبر بصيرة الشعب الذي يخلق الحدث.
* Intifada/ the Palestinian Uprising: Israel’s Third Front.
** Israel, Palestinians and the Intifada: Creating Facts on the West Bank.