حادثتان خطِرتا الشأن تشكلان الوجدان اليهودي العصري: المحرقة الكبرى (holocaust)، ونشوء دولة إسرائيل. الحادثة الأولى قضى فيها تحت السيف النازي ستة ملايين يهودي، بينهم مليون طفل. والحادثة الثانية استقوى فيها الناجون من المحرقة وكل الحالمين بانبعاث الحياة اليهودية في فلسطين، وبتسفيه الزعم المسيحي القائل باستحالة رجوع اليهود إليها، أو اجتماع شملهم فيها منذ خراب الهيكل حتى قيام الساعة. والحادثة الثانية كانت، فضلاً عن ذلك، انتصاراً لتلك الفئة من اليهود الصهيونيين التي أرادت تحويل فلسطين من موطن لليهود إلى دولة حصرية لهم، كما كانت هزيمة لفئة أُخرى من اليهود الصهيونيين أملت بإنشاء دولة ديمقراطية ذات قوميتين، تتعايش فيها الديانات الثلاث. وقد رافق انتصار الفئة الأولى نشوء لاهوت يهودي جديد هو اللاهوت المحرقاني (المنسوب إلى المحرقة) الذي احتلَّت فيه دولة إسرائيل مكان الصدارة، وعُدَّت ردّاً تاريخياً على المحرقة الكبرى، وعلامة على ديمومة العهد الإلهي بعدم تخلِّي الله عن شعبه. لكن واقع الدولة ومنطقها باتا يشكلان، لليهود عامة وللاهوتيين منهم خاصة، إحراجاً لم تزل شدَّته تتزايد حتى راح نفر منهم غير قليل يتساءل هل هي دولة يهودية حقاً، أم مجرَّد دولة لليهود؟
يهود اليوم، الأصوليون منهم وغلاة المتدينين أو المندمجون في المجتمعات الغربية اندماجاً ينقطعون معه عن فلك التهوُّد، متنازعون في سوادهم الأعظم بين المثل العليا النبوية التي ينتسبون إليها ويحتكمون، وبين الولاء لدولة إسرائيل التي يرون فيها مرجعاً لتحديد هويتهم اليهودية، ودرعاً واقية من أية محرقة كبرى ثانية، وإنْ لم تتسق أعمالها وسياساتها مع مقتضيات المثل العليا النبوية. والفئة التي هزمت مع نشوء دولة إسرائيل هي تلك التي تعتبر أن التمسك بالمثل النبوية اليهودية لم يزل، منذ ألفي عام وأكثر، المعيار المجرَّب الوحيد لتحديد الهوية اليهودية، وأنه إذا كان لا بد من أن يتنكَّر الكيان السياسي اليهودي للمثل النبوية والخلقية العليا فلا حاجة باليهود إلى كيان سياسي. لكن هذا الموقف مبدئي إلى حدّ يُفْقِدُه القدرة على تغيير التوجُّه العام في الوجدان اليهودي. ولئن كان اللاهوتيون المحرقانيون محقِّين في زعمهم أن حادثتي المحرقة ونشوء دولة إسرائيل تحدّدان إطاراً مرجعياً للهوية والالتزام اليهوديين العصريين، فمن الحقيقي أيضاً أن الأيديولوجيا الصهيونية واللاهوت المحرقاني يقمعان كلاهما أعمق حدوس الشعب اليهودي في شأن معاناة الفلسطينيين ومشابهتها لمعاناة اليهود.
والموقف الذي يقترحه الكاتب لا يطعن في هذا الإطار المرجعي، وإنما يسعى لتخطيه. فهو يُقرُّ بأهمية المحرقة الكبرى، وإنْ لم يقر بكل العِبَر التي استخلصت منها. وهو يقرّ بأهمية إسرائيل أداة لتحديد الهوية والالتزام اليهوديين بعد المحرقة، لكنه يدعو إلى تذكُّر محدودية هذه الأداة – أي تعلُّقها بالأوضاع التاريخية التي استلزمت استعمالها لهذا الغرض – ويرفض جعل الأداة محكاً لاستقامة العقيدة اليهودية، مثلما يرفض الميل إلى إحاطة الأداة بهالة من التقديس تحولها إلى مُطْلَق يتعالى على الأوضاع التاريخية التي استلزمتها. لذلك، يدعو الكاتب إلى توسيع الإطار المرجعي الذي رسمه اللاهوت المحرقاني، بحيث لا يقتصر على المحرقة وإسرائيل بل يضمُّ إليهما عنصراً ثالثاً، هو شعور اليهود الحدسي بمشابهة معاناة الفلسطينيين لمعاناتهم هم. ولا نفي، في إطار كهذا، لبراءة الشعب اليهودي، لكن لا إثبات لخلاصه إلا مع الإقرار ببراءة الشعب الفلسطيني وحريته والتزام خلاصه، وفاءً لأعلى المثل النبوية اليهودية ولأعمق حدوس الشعب اليهودي.