انقضَّت هزيمة 1967 كالصاعقة على رؤوس العرب كافة، وإنْ أعطت العمل الفدائي الفلسطيني دفعة قوية. وخيراً فعل الباحث الفلسطيني يزيد صايغ برصد نقطة التحول هذه في العمل الفدائي المومى إليه، "لإعادة توثيق محاولة الثورة، ولتوضيح نهضة الفدائيين في الفترة التي تلت الحرب" – على النحو الذي يبينه صايغ نفسه (ص 7). ثم ينتقل المؤلف إلى البحث "في وقع الثورة على العلاقات بين الفدائيين، من ناحية، وعلى منظمة التحرير الفلسطينية والحكومات العربية، من ناحية أُخرى، قبل تقويم دلائلها على التطور اللاحق لحركتهم." (ص 7)
ويلقي صايغ خيطاً من الضوء على ملابسات تأسيس فتح، بالذات على صدور هذه الحركة الفدائية عن فكرة توريط الجيوش العربية في حرب مع إسرائيل.
في اللحظات الأخيرة من حرب 1967، عقدت اللجنة المركزية لفتح اجتماعاً، في دمشق، قررت فيه "الانتقال إلى الأراضي المحتلة وإعادة تأسيس الكفاح المسلح هناك." وانتقل ياسر عرفات، فعلاً، إلى شمال الضفة الغربية، واضعاً في رأس أولوياته إعادة إقامة اتصال بأعضاء فتح المقيمين، أصلاً، في الضفة الغربية، وإنشاء مخابئ للأسلحة. وكانت فتح قد رأت أنها لقيت استجابة عاطفية من شعبها، قبل سنة 1967، إلا إنها الآن بحاجة إلى جذبه إلى المشاركة النشيطة.
وتمكنت من أعضاء اللجنة المركزية فكرة تكرار ثورة 1936، غير مستوعبين الفوارق الضخمة في الزمان، وطبيعة العدو. وأمل أعضاء هذه اللجنة، إلى جانب بناء ثورة مسلحة شاملة، بأن تنشأ قيادة وطنية فلسطينية "حرة من النفوذ العربي." بل إن بعض أعضاء اللجنة المركزية لفتح تطلع إلى "إنشاء كيان فلسطيني، أو دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة"، وإنْ كانت اللجنة انتهت إلى اعتماد استراتيجية تقوم على إنشاء قواعد ارتكاز في الأراضي المحتلة. وقد شجع اللجنة المركزية على اعتماد هذه الاستراتيجية تصاعد المقاومة المدنية ضد الإسرائيليين، وتدفق أعضاء جدد إلى صفوف فتح، بصورة مستمرة؛ الأمر الذي حث أعضاء اللجنة المركزية على اتخاذ قرار بدء العمليات القتالية ضد الإسرائيليين؛ فعبر عرفات نهر الأردن، على رأس ثلاثين فرداً، وأنشأ مقر قيادة سرية في نابلس، وعجلت فتح في إعادة إطلاق الكفاح المسلح، في 28 آب/ أغسطس 1967، بهدف التأثير في مؤتمر القمة العربي الطارئ، المنعقد في الخرطوم، حينذاك.
* * *
وإذا ما انتقلنا إلى "حركة القوميين العرب"، فسنجدها تعاني الأمرّين من الانسلاخات المتوالية عنها، وانقسامها ما بين تيارين: أولهما يطالب بتبني الماركسية – اللينينية، بينما يتمسك التيار الثاني بالشعارات التقليدية للحركة. أما الفرع الفلسطيني للحركة فقد عانى – عدا هذا الانقسام – جراء الضربات الأمنية المتلاحقة التي وجهت إليه في ضفتي الأردن، سنتي 1963 و1966، وإنْ كان صايغ اكتفى بالإشارة إلى الضربة الثانية، فحسب.
وفي الوقت الذي يشير صايغ إلى الروابط الحميمة بين الرئيس المصري عبد الناصر وبين حركة القوميين، عند وقوع حرب 1967، فإن هذه العلاقات كانت تحولت إلى حالة من الحب المفقود، عقب أزمتين قويتين اعترضتا هذه العلاقة. وقد وقعت أولى هاتين الأزمتين مطلع سنة 1966، عندما انحاز عبد الناصر إلى حزب الشعب اليمني، بقيادة عبد القوي مكاوي، في مواجهة القوميين العرب في جنوب اليمن، الذين حملوا إسم "الجبهة القومية"، حتى وصل الأمر بعبد الناصر إلى حد اعتقال بعض قادة الجبهة الأخيرة، في السجن الحربي في القاهرة. ووقعت الأزمة الثانية عندما اعتقلت أجهزة الأمن المصرية نشيطي فرع الحركة المصريين، في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1966. وحدثت قطيعة بين حليفي الأمس، وإنْ لم تخرج إلى العلن. لكن فرع الحركة في قطاع غزة لم يمس بسوء من قبل أجهزة الأمن المصرية هناك.
وحين احتل الإسرائيليون الضفة والقطاع، عمدوا إلى محاولة افتعال تعايش عربي – يهودي هناك، الأمر الذي أقلق مركز القوميين العرب، ودفعه إلى اعتماد "الكفاح الشعبي المسلح"، وأوفد كادراً مخضرماً إلى الضفة، لإحياء الفرع هناك، كما أقام قيادة عليا للإشراف على النشاط الفلسطيني، ضمت جورج حبش، وهاني الهندي، ووديع حداد. وتخصص الأخيران بالعمليات الخارجية للجبهة الشعبية، لاحقاً، بينما نجح الكارد الموفد إلى الضفة في إحياء بعض الخلايا القديمة، في تشرين الأول/ أكتوبر 1967.
وفتحت القيادة العليا حواراً مع فتح، امتد حتى أواخر آب/ أغسطس 1967، وانتهى إلى التزام الطرفين التركيز على ضم أعضاء جدد، وجمع الأسلحة في الضفة والقطاع، مع تأجيل بدء العمليات القتالية شهراً واحداً، على الأقل، وأدرجا في جدول الأعمال توحيد التنظيمات الفدائية الفلسطينية. لكن فتح قطعت الحوار، وبدأت الكفاح المسلح في الضفة، على النحو المبيَّن سالفاً.
* * *
تدفق مئات الشباب الفلسطيني إلى معسكر تدريب فتح في سوريا، ومنها إلى الضفة الغربية، بهدف تشكيل خلايا مسلحة، فيما عرف بعملية "التعشيش". وفي الضفة الغربية أقام عرفات معسكراً للتدريب في جبال طوباس/ قباطية، وقسّم الضفة إلى ثلاث قيادات: شمالية، ووسطى، وجنوبية.
ويرى المؤلف أن عوامل ثلاثة أُخرى شجعت فتح على بدء الأعمال العسكرية، وهي: توزع السكان؛ حقائق الجغرافيا والطبوغرافيا، حيث للضفة حدود مشتركة مع الأردن يبلغ طولها 66 كلم، بعكس قطاع غزة المطوَّق كلياً بأرض تسيطر إسرائيل عليها، وتمتع الضفة بتماس مباشر مع مراكز إسرائيل السكانية والاقتصادية والعسكرية، ناهيك بوعورة تضاريس الضفة، الملائمة لتحركات الفدائي والمعرقلة لتحركات المركبات الإسرائيلية؛ أما العامل الثالث فكان تبعثر قوات الاحتلال الإسرائيلي على مساحة واسعة هناك.
بدأت فتح انطلاقتها الثانية بسلسلة نداءات تحريضية، أصدرها عرفات من معقله، لشن حملة عصيان مدني ضد الاحتلال. وتشكلت المجموعات الفدائية في "دوريات المُطارَدَة"، التي ضمت كل منها 10 – 15 فرداً، بأسلحة خفيفة، افتقرت إلى الصواريخ المضادة للدبابات. وعمدت هذه المجموعات إلى الاتصال بالقرى المحيطة، بغية الحصول على الطعام والدواء والمأوى، وتجنيد أعضاء جدد، في محاولة لإعادة إنتاج تراث ثورة 1936 – 1939، مستندة إلى رباط الأواصر العائلية.
وتوهم قادة فتح أن في إمكانهم إطلاق انتفاضة عامة، بعد أن توقعوا تدفق الدعم إلى المجموعات الفدائية من التنظيم في المدن والقرى، لكن توقعهم هذا لم يتحقق. ويرى صايغ أن ذلك يعود إلى التنظيم الضعيف، والأمن المتخلف، والتدريب العسكري المتواضع. ويستند المؤلف إلى أحد كبار كوادر فتح في إرجاع هذا الإخفاق أيضاً إلى كون "الناس يفكرون بمعايير الثورات السابقة." كما كان هناك، في المجال العسكري، غموض الأهداف التكتية، "على الرغم من التشديد البالغ على العمل العسكري. وكان افتقار قيادات القطاعات الثلاثة في الضفة الغربية إلى ضباط عمليات محليين أمراً ضاراً."
ويرصد المؤلف عوامل أُخرى وراء هذا الإخفاق، أدت إلى حالات انهيار سريع تحت التعذيب، مثل عدم وجود تقسيم حقيقي للمهمات والوظائف داخل الشبكات السرية. كما أنه لم توجه عناية كافية لإنشاء خلايا منفصلة للتعبئة السياسية بين السكان، وهو ما أضعف إمكان نشوء مقاومة مدنية فعّالة، وأدى إلى عدم إمداد فتح بدماء جديدة، وعطّل الإفادة من مهارات الأعضاء على النحو الأمثل.
وكان الاحتلال قد شن، في آب/ أغسطس 1967، حملة اعتقالات ضد نشيطي فتح في الضفة والقطاع، وألحقها بحملة أخرى في الشهر التالي، طالت زهاء 180 فتحاوياً آخر. وتوالت الاعتقالات حتى شملت جُل جهازي فتح، العسكري والتنظيمي، في الضفة والقطاع.
ورافقت هذه الحملات أساليب قمع جماعية إسرائيلية أُخرى ضد الشعب في الضفة والقطاع، مثل إبعاد النشيطين السياسيين، وفرض حالات حظر تجول شامل ومديد، ناهيك بنسف بيوت اتهم أصحابها بإيواء الفدائيين.
وفي رأيي أن المؤلف اكتفى هنا برصد عوامل القصور والتقصير في المجال التكتي، سياسياً وعسكرياً وتنظيمياً، بينما أهمل العامل الأهم، وهو المزاج الجماهيري في الضفة؛ إذ لم تكن الجماهير هناك مستعدة لخوض الكفاح المسلح بعد، وبالكاد تحركت قطاعات منها أحياناً في أشكال كفاح متواضعة. ويعود هذا إلى عدة عوامل، أهمها:
- القنوط الذي وجدت الجماهير نفسها أسيرة له، بفعل هزيمة ثلاثة جيوش عربية على يد الجيش الإسرائيلي.
- عدم ميل الجماهير إلى التضحية من أجل عودة العسف الأردني.
- انخفاض مستوى العسف الإسرائيلي في الضفة الغربية عنه في قطاع غزة، الأمر الذي حجَّم ردة الفعل على هذا العسف هناك.
- عدم معاناة شعب الضفة اقتصادياً، وهو ما حصر أسباب السخط على الاحتلال في حد ذاته. ولم يكن "الاستقلال" قد ظهر في أُفق الضفة الغربية وقتئذ، الأمر الذي أجّل تحرّك الجماهير وانعطافها نحو الكفاح المسلح، إلى ما بعد ظهور هذا الاستقلال في الأفق، مع اندلاع حرب 1973، وما تلاها من مستجدات، مثل اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في خريف سنة 1974.
أما في قطاع غزة فقد وجدت عوامل مناقضة، ولعل هذا ما يفسر نهوض العمل الفدائي في القطاع طوال السنوات الأربع الأولى من الاحتلال الإسرائيلي (1967 – 1971)، حتى أن المنظمات الفدائية، التي اضطرت إلى إيفاد فدائيين إلى الضفة، لتشكيل بؤر ثورية، لم تشعر بحاجة إلى إرسال عناصر فدائية إلى القطاع، بل إن فتح عمدت إلى نقل 43 عضواً من أعضائها المسلحين من شبكاتها في غزة، وضمتهم إلى دوريات المُطارَدَة في جيال الخليل. (ص 29)
* * *
اضطر عرفات إلى الاستعانة ببعض التنظيمات الصغيرة في الضفة، مثل "كتائب العودة"، و"جبهة النضال الشعبي"، التي أسسها القومي العربي المخضرم، د. صبحي غوشة، والتي بدأت نشاطها بحشد الشخصيات المحلية والهيئات الاجتماعية، بهدف تنظيم أعمال احتجاج مدنية، في موازاة تخزين السلاح، وتدريب أعضاء الجبهة. وقد ساعد هؤلاء، فيما بعد، في تهريب عرفات حين تعقبته أجهزة الأمن الإسرائيلية.
كما أقام عرفات علاقات وطيدة بجبهة التحرير الفلسطينية – طريق العودة.
* * *
يفرد المؤلف زهاء أربع صفحات من كتابه للشيوعيين؛ إذ كان لفرع "الحزب الشيوعي الأردني" في الضفة الغربية لجنة قيادية، عارضت الانخراط في العمل العسكري، وركزت على تشجيع شعب الضفة على الصمود في أرضه، مع تنظيم أعمال احتجاج مدنية ضد الاحتلال، وتنظيم العمل الجماهيري. وفي الحقيقة، لم تسقط اللجنة القيادية العمل العسكري من حسابها، بل طفقت تعد لخوض غماره.
ويعيد صايغ تلكؤ الحزب الشيوعي الأردني في تبني الكفاح المسلح إلى معارضة نائب الأمين العام للحزب، فهمي السلفيتي، لهذا الشكل من الكفاح. وهذا تبسيط لا يليق بحزر عريق مثل الشيوعي الأردني، أو بكاتب قدير مثل يزيد صايغ. حتى أن الأخير يرى أن هذا الحزب تخلص من خلافاته بطرد السلفيتي من الحزب سنة 1970 (ص 36)، بينما الحقيقة أن السلفيتي انشق مع مجموعة من أنصاره عن الحزب، ولم يطرد منه.
ولا أدري لماذا يطلق المؤلف على "الحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة" إسم "التنظيم الشيوعي الفلسطيني". ويسجل صايغ أن هذا الحزب نسّق أنشطته مع فرع الحزب الشيوعي الأردني في الضفة الغربية، عقب حرب 1967، على الرغم من الاختلاف الملحوظ بين الحزبين في البرنامج والأداء وأشكال الكفاح المعتمدة، وحتى التحالفات.
وثمة خطأ آخر في المعلومات وقع المؤلف فيه، حين ذكر أن زياد الحسيني مثَّل جيش التحرير الفلسطيني في "الجبهة الوطنية المتحدة" (ص 37) التي تشكلت في قطاع غزة، وضمت الشيوعيين والبعثيين وجبهة تحرير فلسطين وجيش التحرير، منذ أواخر تموز/ يوليو 1967، إذ كان الشخص الذي مثّل الجيش وقتئذ الرائد حسين الخطيب (العميد الآن).
كما أنه ليس صحيحاً أن العمل العسكري للشيوعيين في قطاع غزة تم في كنف القوة الفدائية لجيش التحرير، على الرغم من العلاقات الحميمة التي ربطت بين الطرفين. بل العكس هو الصحيح، إلى حد ما (ص 38). فعندما وقعت هزيمة 1967، بادر الشيوعيون إلى توفير الملاذ لنسبة غير قليلة من ضباط وجنود جيش التحرير، ممن بقوا في القطاع، كما أمدوهم ببطاقات شخصية مزوّرة، تمكِّنهم من التنقل والإفلات من قوات الاحتلال.
واللافت للنظر أن المؤلف لم يلقِ الضوء على كيفية ولوج الشيوعيين في القطاع مجال الكفاح المسلح.
وفي الصفحة نفسها، ثمة واقعة يعرفها كل من تابع وقائع تلك الحقبة، إذ كادت قوات الاحتلال تعتقل عرفات، في منامة معهد المعلمين في رام الله؛ فقد وصلت هذه القوات إلى فراشه ووجدته دافئاً، بعد أن كان القائد الفلسطيني غادره قبل ذلك بلحظات. ولم يكن المكان في الرملة، على ما يذكر صايغ.
* * *
لقد اهتمت جبهة التحرير الفلسطينية – بقيادة أحمد جبريل – بزرع خلايا لها في الضفة الغربية، من دون قطاع غزة. وقد عمدت، غداة هزيمة 1967، إلى جمع الأسلحة والذخائر والتي خلَّفها السوريون في الجولان، فضلاً عن الجهود المستميتة التي بذلتها لإنشاء خلايا لها في الضفة الشرقية للأردن، وتحديد مواقع البيوت الأمينة، والمعابر الملائمة، على امتداد نهر الأردن.
وما أنْ بدأت فتح انطلاقتها الثانية، حتى بادرت قيادة جبهة التحرير إلى إرسال مجموعة تدريبية خاصة، مؤلفة من زهاء عشرة مدربين – عُرفوا باسم "مجموعة المغاربة" – إلى الضفة الغربية، من أجل استقبال المجندين المحليين الجدد، وتدريبهم هناك.
والتقت جبهة التحرير الفلسطينية الفرع الفلسطيني للقوميين العرب، وسرعان ما توحدا مع "أبطال العودة"، مشكلين "الجبهة الشعبية". وقد مني أول هجوم فدائي لهذه الجبهة بالفشل، وأفضى إلى اعتقال الأغلبية الساحقة من أعضاء خلايا الجبهة في الضفة الغربية، بينما تمكن الباقون من الإفلات، والتوجه سراً إلى الضفة الشرقية.
أما المسؤول القومي العربي الذي اعتقلته قوات الاحتلال في قطاع غزة، فلم يكن ينضوي تحت لواء "الجبهة الشعبية"، بل كان المسؤول العسكري لـ"طلائع المقاومة الشعبية"، وهو الإسم الذي اختاره لنفسه فرع حركة القوميين العرب في القطاع أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 1967. كما أن هذا المسؤول لم يعتقل أوائل شباط/ فبراير 1968، بل أواسط كانون الثاني/ يناير من السنة ذاتها، حين عثر المحتلون على قوائم كاملة بأسماء أعضاء الجهاز العسكري للطلائع في حديقة منزله. وشكل ذلك ضربة قاصمة لطلائع المقاومة الشعبية، فغاب هذا الفصيل عن الساحة، مفسحاً المجال لظهور فرع الجبهة الشعبية، بمن تبقى طليقاً من أعضاء فرع حركة القوميين العرب في قطاع غزة.
ولا تعود الضربات المتلاحقة التي وُجِّهت إلى مختلف التنظيمات الفلسطينية في الضفة والقطاع إلى مظاهر القصور المنوه عنها في الكتاب فحسب، بل أيضاً إلى الإجراءات الإسرائيلية المضادة؛ إذ عمدت سلطات الاحتلال إلى إلغاء التشريعات الموجودة وإحلال أوامر عسكرية محلها. كما مارست هذه السلطات شتى صنوف العقوبات الجماعية، وغطت الضفة والقطاع بشبكة من العملاء، ودمرت عدداً من الكهوف، وردت أو سمّمت بعض الآبار، لحرمان الفدائيين من استخدامها، وعزز الجيش الإسرائيلي وجوده في منطقة الحدود بهدف قطع الاتصال بين الفدائيين في الضفة ومراكز إسنادهم في الضفة الشرقية. كما شن هذا الجيش الغارات المتلاحقة على قواعد الفدائيين في الضفة الغربية.
ويرى المؤلف أن فتح والقوميين العرب هما المنظمتان الوحيدتان، فعلاً، اللتان كان لهما وجود حقيقي في الميدان، واللتان قاومتا الاحتلال بنشاط.
وهذا قول يفتقر إلى ما يدعمه، إذ إن الأعمال العسكرية لقوات التحرير الشعبية طوال سني 1967 – 1971، فاقت، كماً وكيفاً، أعمال كل من فتح والقوميين العرب. كما أن النشاط السياسي والجماهيري للشيوعيين في الضفة والقطاع، حينذاك، فاق نشاط المنظمتين مجتمعتين.
وينتقل صايغ إلى الحديث عن تحول الدول العربية إلى الاعتراف بالمنظمات الفدائية. فمصر، التي ظلت حكومتها تعتبر فتح مجرد امتداد لجماعة رجعية، عادت فتحمست لإقامة علاقة بها، ورأت في العمل الفدائي وسيلة لتسخين الجبهات الأخرى، وفتح جبهات خلف خطوط العدو، ولتقوية موقف المفاوضين العرب، فضلاً عن جمع المعلومات الاستخباراتية. أما الموقف الرسمي السوري فقد اتسم بغموض معين، أساساً بسبب ارتباك السياسة الداخلية السورية آنذاك. وتأرجح الموقف السوري من الفدائيين عامة، ومن فتح خاصة، ما بين الانفراج والتقييد، الأمر الذي دفع فتح إلى تطوير صلاتها بالعراق؛ فغدت السيارات العسكرية العراقية تنقل الفدائيين والمتدربين إلى نهر الأردن، وتألفت في العراق "لجان مساندة الثورة"، اتخذ منها حزب البعث هناك "مطية لنشاطه الجماهيري" في الأشهر التي سبقت استيلائه على السلطة في تموز/ يوليو 1968، وليس في آذار/مارس – على ما يذكر المؤلف. (ص 57)
كما تمكن الفدائيون من التحرك، بحرية متزايدة، في الأردن ولبنان.
* * *
على أن نهضة الفدائيين بعد حرب 1967 جاءت، إلى حد بعيد، على حساب منظمة التحرير، وهي التي طالما اعتبروها "أداة طيِّعة للحكومات العربية." وكان بين ما تمخضت الحرب عنه حرمان المنظمة من أكبر تشكيل قتالي تابع لها (قوات عين جالوت)، ومن المصدر الرئيسي لمجنديها (قطاع غزة). وكان أنْ بدأت المنظمة بالتحول السريع نحو النشاط الفدائي. وتصور ضباط الجيش أن دورهم هو "المقاومة... بمضمون لا يستطيع تقديمه إلا العسكريون المحترفون." أما الجنود والضباط الذين واصلوا نشاطهم العسكري في قطاع غزة، على شكل حرب عصابات، فقد شجعوا قيادتهم في الخارج على تشكيل ذراع عصابات لجيش التحرير، أطلقوا عليها – منذ شباط/ فبراير 1968 – اسم "قوات التحرير الشعبية".
لكن المرحلة لم تكن تحتمل استمرار أحمد الشقيري على رأس منظمة التحرير، فتضافرت جملة من العوامل اضطرته إلى تقديم استقالته أواخر سنة 1967، ليحل محله المحامي اليساري المعروف يحيى حمودة. لكن الأخير لم يكن إلا قنطرة لقيادة الفصائل التي سرعان ما نجحت في الاستئثار بقيادة المنظمة، منذ شباط/ فبراير 1969. وكان طبيعياً أن يفوز الفصيل الرئيسي (فتح) بنصيب الأسد في هذه القيادة. وكان انتقال قيادة المنظمة إلى يد الفدائيين أحد مردودات نهوض العمل الفدائي الفلسطيني، عقب هزيمة 1967.
ويورد المؤلف (ص 66) معلومة مشوشة، حين يتحدث عن "التوتر الذي ساد بين شريكتيها [الشعبية] في الائتلاف – حركة القوميين العرب وجبهة التحرير الفلسطينية." وكان الأدق الحديث عن "التوتر الذي ساد بين طرفي الائتلاف." كما يورد معلومة تقتضي التصحيح، وهي خروج "جبهة التحرير الفلسطينية" من هذا الائتلاف، الذي يذكر صايغ أنه حدث صيف سنة 1968، والصحيح هو تشرين الأول/ أكتوبر 1968.
ويلاحظ المؤلف أن اندحار الفدائيين في المرحلة الأولى، بعد تلقيهم ضربات قاصمة في الضفة والقطاع على يد أجهزة الأمن الإسرائيلية، قد أدى إلى "انغماس الحركة الفدائية... انغماساً مباشراً، في السياسات العربية، وإلى تعريضها لتدخل الدول العربية، على نحو مستمر وجسيم"، وذلك بعد أن ارتدت عن الضفة والقطاع المحتلين إلى الضفة الشرقية للأردن واعتمدت أسلوب تصدير العمل الفدائي من هناك إلى داخل المناطق المحتلة.
وبعد،
فقد نجح يزيد صايغ في تقديم بانوراما واسعة نسبياً تبرز هذه النقطة المضيئة من تاريخنا السياسي العسكري المعاصر. فقدم، في 81 صفحة من القطع المتوسط، عرضاً ضافياً لبضعة أشهر حفلت بالأحداث الجسام، لا تحتل عادة سوى بضعة أسطر في كتب التاريخ الوطني والعلوم السياسية.
ولعل اللافت للنظر أن المؤلف اعتمد، أساساً، على الشهادات التاريخية لأشخاص ساهموا في صنع أحداث تلك الحقبة، وتراجعت كثيراً مراجعه من الكتب والدوريات. وقد أسعفه الزمن في التقاء الشخصيات، قبل أن تختفي عن مسرح الحياة، أو يعتري ذاكرتها الوهن.
على أن هذه المزية لم تخلُ من سلبية ملموسة. ذلك بأن المؤلف عمد إلى اعتماد إجابات أعضاء سابقين في "الجبهة الشعبية – القيادة العامة"، كما هي، من دون تمحيص، أو حتى توجيه أسئلته نفسها إلى أعضاء مؤسسين في الجبهة المذكورة؛ الأمر الذي يعطي القارئ الحق في التشكك في مدى موضوعية المعلومات التي أوردها هؤلاء الأعضاء السابقون، وخصوصاً أنهم انضموا إلى خصوم "القيادة العامة". وعلى سبيل المثال، نرى صايغ يرجع تأسيس الجبهة المذكورة – وكان إسمها عند التأسيس "جبهة التحرير الفلسطينية" – إلى الضابط الفلسطيني في الجيش السوري عثمان حداد (ص 41)، بينما لم يكن حداد ضمن المؤسسين، إذ اقتصر التأسيس على أحمد جبريل وفضل شرورو، وإنْ كان حداد وعلي بشناق أصبحا ضمن قيادة هذه الجبهة لاحقاً، حين انضما إليها بعد مرور زهاء خمسة أعوام على تأسيسها. وكان على المؤلف توجيه أسئلته إلى جبريل وشرورو، أيضاً، للاقتراب من الحقيقة.
ومن جهة أخرى، فإن الكاتب توجه بأسئلته في شأن "الحزب الشيوعي الفلسطيني" إلى الصديق حسن عصفور. والمثير للدهشة أن صايغ لم يلاحظ أن عصفور لم يكن، سنة 1967، في سن تؤهله للحصول على عضوية هذا الحزب، ومع ذلك فقد تلقى المؤلف منه إجابات عن وقائع لم يعشها عصفور.
وتتعارض هذه التقصيرات مع حرص صايغ "على إجراء مقابلة بين هذه المصادر، لضمان أقصى ما يمكن من دقة تاريخية وصدق" – على ما يذكر في تمهيده. كما تتعارض مع تلك الجملة التي أوردها صايغ في تمهيده للكتاب، والتي يقول فيها "... وكي أدع القارئ يحكم على مدى صدقه [المصدر]."
على أن هذه الهنات لا تقلل من القيمة الفكرية والتاريخية لهذا الكتاب، على الرغم من أهميتها.