[.......]
تعود المرحلة الحالية من السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط إلى الوراء أكثر من سنة، إلى 6 آذار/ مارس 1991، حين لخص الرئيس بوش أمام الكونغرس الأميركي المبادئ الأساسية للتوجه الأميركي الناشئ. فأشار إلى أن الجغرافيا في العصر الحديث لا تضمن الأمن، وأن الأمن لا يتوفر من السطوة العسكرية وحدها، فأعلن أن الولايات المتحدة ستعمل لتحقيق تسوية سلمية شاملة ترتكز إلى قراري مجلس الأمن 242 و338 وإلى مبدأ مبادلة الأرض بالسلام. واستطرد قائلاً إنه يجب توسيع إطار هذا المبدأ بحيث يشمل الأمن والاعتراف بإسرائيل ويضمن في الوقت نفسه الحقوق السياسية الفلسطينية المشروعة. وأصبحت كلمتا الأمن والإنصاف مفتاحي ما تلا ذلك من أحداث.
وبعد أقل من ثمانية أشهر، وبفضل المهمات الثماني التي قام بها وزير الخارجية بيكر إلى درجة كبيرة، اجتمع الأطراف الأساسيون في الصراع العربي الإسرائيلي للمرة الأولى حول مائدة واحدة للتحدث عن السلام. وقمنا بدور الوسيط في رسم توجهات لمسائل مشاركة الفلسطينيين والأمم المتحدة يقبلها جميع الأطراف. كذلك، حصلنا على الموافقة على ما يستطيع المؤتمر فعله وما لا يستطيع. وبعد أكثر من أربعة عقود على ولادة إسرائيل، وبعد أكثر من عقد على كامب ديفيد والمعاهدة المصرية الإسرائيلية، أصبحت المفاوضات الحقيقية بين إسرائيل وجيرانها العرب ـ كل جيرانها العرب ـ حقيقة واقعة، وكذلك أصبح وعد الوصول إلى سلام شامل.
وفي الأشهر الخمسة التي مرت على اجتماع مدريد، شهدنا أربع جولات من المفاوضات الثنائية ـ بين إسرائيل وسوريا، وإسرائيل ولبنان، وإسرائيل ووفد أردني فلسطيني مشترك، مرة أخرى، كانت هناك إحباطات، ولكن مرة أخرى أيضاً، تم تحقيق تقدم. فعرض الإسرائيليون والفلسطينيون أفكارهم حول كيفية رسم هيكلية الترتيبات المؤقتة أو الانتقالية التي ستحكم الوضع في الأراضي المحتلة إلى أن يتم الاتفاق على شروط الوضع النهائي وتنفيذها. وعقدت سوريا وإسرائيل مباحثات شاملة وجوهرية بشأن قرار مجلس أمن الأمم المتحدة رقم 242 ومتطلباته. واتفق لبنان وإسرائيل على أن مشكلتهما الرئيسية ليست الحدود المقبولة من الطرفين، بل كيفية ضمان الأمن والسلام في جنوب لبنان وشمال إسرائيل. وفي غضون ذلك، يبحث الأردنيون والإسرائيليون عن سبل عملية لمعالجة المسائل المحدودة نسبياً التي يختلفون حولها.
وقد بدأنا أيضاً مجموعة مباحثات تضم عدداً أكبر من الدول، بما في ذلك الكثير من بلدان المنطقة وما عداها. والقصد هنا هو معالجة المسائل الإقليمية ـ مثل المياه والبيئة والتنمية الاقتصادية واللاجئين والحد من التسلح والأمن ـ التي لا يمكن طرحها إلا على أساس إقليمي أو متعدد الأطراف. وهذه هي المشكلات ـ والفرص ـ التي تؤثر في الشعوب. اجتمع 36 بلداً في موسكو لبدء هذه المباحثات. ومن المقرر أن تجتمع مجموعات عمل متابعة في وقت لاحق من الربيع الحالي. والهدف هو جعل هذا الجزء من العالم منطقة متكاملة بأكثر من المعنى الجغرافي للكلمة.
وباختصار، لقد قطعنا شوطاً كبيراً في الأشهر القليلة الماضية. فلدينا أخيراً عملية سلام شرق أوسطية تؤمن آلية يمكن من خلالها معالجة المشاكل السياسية الرئيسية الضرورية لاستقرار المنطقة. ونحن نتجاوز الآن الأمور الإجرائية إلى الأمور الجوهرية. وفيما لا ينبغي على أحد التقليل من أهمية الخلافات، وهي كبيرة بوضوح، أو من أهمية المطبات، إلا إن ما أنجز هو أمر ذو شأن. فلدينا للمرة الأولى عملية شاملة يمكن من خلالها بحث الأفكار بشكل بناء.
وتبقى مشاركة الولايات المتحدة ذات أهمية محورية لهذه العملية. ومع ذلك فقد حرصنا على عدم المبالغة في محوريتها. فقد وصفنا بأننا "وسيط أمين" أو "عامل مساعد" للسلام، غير أن هناك أيضاً حدوداً لما نستطيع عمله وما يتوجب علينا عمله. فنحن لا نستطيع ولا نريد فرض موقف على أي طرف. ونستطيع أن نطرح أفضلياتنا لا أن نفرضها. فنحن في نهاية المطاف لسنا من الشرق الأوسط ولا نحن نعيش فيه. وواجب الذين من الشرق الأوسط أن يناقشوا مستقبلهم وأن يتعلموا التحادث ثم العيش معاً.
أين ستأخذنا هذه العملية؟ من المجازفة دائماً إنْ لم نقل من الحماقة أن نتكهن. دعوني أعرب عن ذلك بما يلي: في آخر تقمص لي كنت أستاذاً جامعياً، وكتبت الكثير عن المفاوضات وأسباب نجاح بعضها وفشل البعض. واستنتجت بأن أي صراع يصبح جاهزاً للحل عند توفر أربعة عوامل. أولاً، عندما يصبح زعماء الأطراف الأساسيين ملتزمين بإيجاد تسوية واقعية. ثانياً، ينبغي أن يكون هؤلاء الزعماء من القوة بحيث يجلبون معهم شعبهم وحكومتهم. ثالثاً، من الضروري وضع الخطوط العريضة للتسوية على المائدة. رابعاً، من الضروري توفر مائدة يجلس إليها اللاعبون الرئيسيون.
وكما تبدو الأمور الآن في الشرق الأوسط، ليس واضحاً ما إذا كانت هذه المتطلبات المسبقة الأربعة موجودة كلها. ففي بعض الحالات تطرح تساؤلات حول التزام الزعماء بالتسوية، وفي حالات أخرى حول قدرتهم. ولدينا أجزاء من معادلة مقبولة ولكن ليس لدينا صفقة متكاملة. والشيء الأكيد إلى جانبنا هو أن هناك عملية يشارك فيها الجميع.
ويتطلب صنع السلام بنجاح انضباطاً حقيقياً. ولا شك أن الطريق إلى السلام وعر. وعلى جميع الأطراف تجنب إطلاق التصريحات والقيام بالأعمال التي لا تفعل أكثر من تعقيد الأمور. وفي الوقت نفسه، وبما أننا نتحدث عن الشرق الأوسط، ستكون هناك أعمال عنف واستفزازات أخرى ستدفع بهذا الطرف أو ذاك إلى محاولة الانسحاب. غير أن هذه إغراءات ينبغي التغلب عليها إذا كان للتقدم أن يتحقق.
وسيتطلب صنع السلام التنازلات أيضاً. كل تنازل يجلب معه تكاليف ومخاطر معينة. وتنبغي دراسة هذه بعناية، ذلك أن هناك مقترحات، حقيقية أو خيالية، لا خير فيها ولا تستحق العناء. فعندما تتعلق الأمور بقضايا الحرب والسلام والأمن، ينبغي عدم التصرف بشكل متهور لأن ما هو موضع رهان هو أمر كبير جداً.
ولكن إذا كان من المهم فحص تكاليف ومخاطر اتفاقيات محتملة، فإن ما يعادل ذلك أهمية هو تقييم تكاليف ومخاطر رفض التسوية، والتمسك بالأمر الواقع. وهنا أستطيع القول إن الوضع في الشرق الأوسط مكلف وخطر في آن معاً. وهناك موارد هائلة يتطلبها الاستعداد للحرب ـ مليارات الدولارات من أموال الميزانية ومليارات ساعات العمل الضائعة في الخدمة العسكرية. وتدفع البلدان المعنية أيضاً تكاليف خسارة التجارة والاستثمار، وخسارة الشركات التي تقرر وضع مواردها في بيئة أقل تعرضاً للصراع. وفوق كل شيء هناك الكلفة الإنسانية للحرب نفسها ـ الدمار الفعلي والجرحى والموتى.
وهناك بالنسبة للفلسطينيين كلفة إضافية متمثلة بالعيش تحت الاحتلال، وبعدم القدرة على ممارسة حقوقهم السياسية المشروعة. ولكن تكاليف الاحتلال تنطبق على إسرائيل أيضاً. وهذه تقاس ليس فقط بحوادث العنف أو تكاليف التحكم، بل أيضاً في مجال السياسة والديموغرافيا. فإسرائيل وجدت لا لتكون مجرد دولة، بل لتكون دولة يهودية، وديمقراطية ناجحة ومجتمعها ناجحاً. وإسرائيل بحاجة إلى صنع السلام، لا كخدمة للعرب، بل للوفاء بواجبها تجاه نفسها.
وإذا كان من الضروري فحص التكاليف والمخاطر الحقيقية لاستمرار الوضع الراهن، فمن الضروري أيضاً النظر إلى منافع السلام المحتملة. وأعني هنا المنافع التي تتعدى المنافع الواضحة لتجنب الحرب. وإذا تسنى لي الاستشهاد بما قاله الرئيس بوش في مؤتمر مدريد في تشرين الأول/أكتوبر: "إن هدفنا ليس مجرد إنهاء حالة الحرب في الشرق الأوسط وإبدالها بحالة عدم تعد. هذا ليس كافياً، وهذا لن يدوم. بل إننا نسعى إلى السلام ـ السلام الحقيقي ـ وأعني بالسلام الحقيقي المعاهدات والأمن والعلاقات الدبلوماسية والعلاقات الاقتصادية والتجارة والاستثمار والتبادل الثقافي وحتى السياحة... شرق أوسط يعيش فيه الرجال والنساء العاديون حياة عادية."
وأنا أتوقع أن يبدو هذا لبعضكم إنْ لم نقل لمعظمكم أمراً طوباوياً. وقد تكونون على حق. ولكن من كان يتوقع خلال الحرب العالمية الثانية أن تصبح ألمانيا واليابان ذات يوم اثنتين من أوثق حليفاتنا وشريكاتنا؟ ومن كان يتوقع قبل خمس سنوات فقط انهيار جدار برلين، وتوحيد ألمانيا ونهاية الحرب الباردة؟ ومن استطاع منكم رؤية ما نشهده الآن من تقدم في كمبوديا أو جنوب أفريقيا؟ فالسلام والمصالحة محتملان حتى في الشرق الأوسط. أما الآن، فالشرق الأوسط يقف بعيداً عن هذا النمط ـ غير أن ذلك لا ينبغي أن يقنع أحداً.
إن قولي هذا لا يعني تأييد أي مجموعة محددة من الترتيبات بشأن الوضع الانتقالي أو النهائي. وأكرر هنا ما قاله الرئيس بوش في مدريد، إننا نأتي دون خرائط تحدد أماكن رسم الحدود. فهذا شأن المفاوضات وهدفها. وهذه مسائل تقررها شعوب المنطقة. فهم الذين عليهم العيش مع مضاعفات المفاوضات، نجاحها أو فشلها.
ولكن لنا دوراً أساسياً نلعبه. فهناك الكثير من الشك والكثير من مخلفات الحرب بحيث يصعب على شعوب الشرق الأوسط صنع السلام بأنفسهم. ودورنا أن ندعم جهودهم. وفي هذه المرحلة من العملية نستطيع المساعدة بأفكارنا واقتراحاتنا ومساعينا الحميدة. ولاحقاً، نستطيع إذا كانت في ذلك رغبة وإذا وافق الكونغرس تقديم ضمانات أمنية ومساعدات مالية إضافية. غير أننا لا نستطيع أن نكون فاعلين وأن نكون قوى دفع باتجاه السلام ووسيطاً أميناً إلا إذا اعتبرنا منسجمين مع أنفسنا.
ونحن نبذل قصارى جهدنا لكي نكون منصفين ومنسجمين. دعوني أوضح لكم كيفية ذلك. إننا ملتزمون بثبات بأمن إسرائيل ورفاهها. وبينما ندعم الحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني، فإننا لا ندعم إقامة دولة فلسطينية، لأننا نعتقد أنها ستكون مصدر اضطراب وتهديد محتمل لإسرائيل. ونعتقد أن القدس يجب أن تبقى موحدة على أن يحدد وضعها النهائي عبر المفاوضات. وسنتحرك بناء على قراري مجلس الأمن 242 و338 وعلى مبدأ الأرض في مقابل السلام.
وأريد أن أقول شيئاً عن مبدأ آخر. إننا نعارض المستوطنات لأننا نعتقد أنها تشكل عقبة في طريق السلام. وهذا ليس من اختراع حكومة بوش بل كان مبدأ كل الحكومات الأميركية، ديمقراطية وجمهورية منذ 1967. والمنطق بسيط: المستوطنات تشكل عملاً أحادياً من إسرائيل يضر بنتائج المفاوضات ويضعف بصراحة احتمالات السلام. وأقول للذين يعارضون ربط المستوطنات بضمانات القروض إن السلام هو أيضاً هدف إنساني وهذا السلام ضروري إذا كان للمهاجرين ولكل الإسرائيليين أن ينعموا بجودة الحياة التي يستحقون.
دعوني أوضح أيضاً ما لا تقول عليه سياستنا. إننا لا نتحدى حق اليهود أو أي شخص آخر في العيش حيث يشاؤون. ولا نستخدم ضمانات القروض لتقرير حدود إسرائيل النهائية. ولسنا نضع سابقة تقوم على حرمان العون الضروري لأمن إسرائيل. ولا نسعى للحلول في المفاوضات محل الفرقاء العرب. وما نفعله هو إعطاء الفرصة لأول مباحثات سلام شاملة تعقد في الشرق الأوسط كل فرصة للنجاح، ليس أكثر ولا أقل.
أعلم أن الخلاف حول هذه المسألة سبب توتراً شديداً في علاقتنا بإسرائيل. وأدرك ما يشعره الكثيرون منكم من ألم. وصدقوني إذا قلت لكم أنني أشارككم الألم. وآمل أن تسد فجوة الخلاف مع إسرائيل، ونحن في الحكومة ملتزمون ببذل الجهد الصادق لتحقيق ذلك. ولكن حتى لو لم نجد معادلة مقبولة من الحكومتين، ينبغي عدم السماح لهذه المسألة بإضعاف الروابط الأميركية ـ الإسرائيلية أو بإثارة الشكوك حول دعم الولايات المتحدة لأمن إسرائيل. هنا أيضاً لا يسعني سوى الاستشهاد بما قاله الرئيس بوش الذي كتب أخيراً أن "معيار العلاقة الجيدة ليس القدرة على الموافقة بل القدرة على الاختلاف حول التفاصيل دون تعريض الأساسيات للخطر. ونحن نفعل ذلك على الدوام مع بريطانيا وينبغي أن نتمكن من فعل ذلك مع إسرائيل."
هذا، إذاً، هو الوضع الآن. فبعد سنة واحدة من نهاية حرب الخليج، نعمل لإحلال السلام والاستقرار في جزء من العالم لنا فيه مصالح دائمة وحيث التهديدات لمصالحنا أيضاً دائمة. وللولايات المتحدة دور رئيسي تلعبه، في ردع الحرب وتشجيع السلام. وأي إغراء بالتهرب من هذا الدور، التهرب من المسؤولية سيسبب لنا المشاكل إذا وقعنا في فخه.
[.......]
المصدر: المكتب الصحافي للسفارة الأميركية في تونس. وقد ألقى هاس كلمته هذه في جامعة ميامي في الولايات المتحدة الأميركية.
* ريتشارد هاس: المدير الأول لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي الأميركي.