حديث صحافي للدكتور حيدر عبد الشافي بشأن بعض القضايا المتعلقة بعملية السلام
النص الكامل: 

[.......]

أظهرت ردود الفعل العالمية على اختفاء طائرة الرئيس عرفات أن منظمة التحرير تتمتع برصيد كبير حتى لدى الذين يسعون عادة إلى إبعادها. هل يؤثر ذلك على طبيعة العلاقات الأميركية ـ الفلسطينية بعد اليوم؟

لا أستبعد ذلك. ولا شك في أن احتمال خسارة أبي عمار أثار في أذهان الأميركيين وغير الأميركيين تقديراً لمنزلته ومكانه في مسيرة السلام الحالية. وربما مهد ذلك لتغيير في التوجه الأميركي بالنسبة إلى منظمة التحرير.

ماذا تنتظرون من جولة المفاوضات الثنائية المقبلة في 27 نيسان [أبريل] الجاري؟ هل يمكن أن تأتي بجديد والانتخابات الإسرائيلية على الأبواب؟ أم أنها تفيد فقط، كما يعتقد بعض الجهات المفاوضة وغير المفاوضة، في المحافظة على اندفاع مسيرة التسوية؟

الحقيقة أننا انتهينا من الدورة السابقة والمفاوضات في مأزق بسبب اختلاف وجهات النظر الإسرائيلية والفلسطينية في صدد الفترة الانتقالية وعدد من الأمور الأساسية: الاستيطان، التحكم بالمصادر الطبيعية، صلاحيات الحكومة الفلسطينية الانتقالية ولا سيما صلاحية الاشتراع. بل هناك خلاف على الأسس التي تستند إليها عملية السلام، وتحديداً على قرار مجلس الأمن 242. أصبح واضحاً أن الموقف الإسرائيلي، القائم على تجاهل القرار 242 والمبني على القوة المجردة، موقف تحد. وهو ليس تحدياً للفلسطينيين فحسب، بل للعالم أجمع، وبالذات للدول الديمقراطية الأوروبية والأميركية التي تعلن باستمرار ضرورة الحفاظ على المبادئ الأساسية للشرعية الدولية والتي خاضت في الأمس القريب حرباً قذرة تحت ادعاء مساندة هذه المبادئ. نحن إذاً في حال انتظار ماذا يكون موقف هذه الدول من التحدي الإسرائيلي لكل ما تدعي الدفاع عنه. بمعنى آخر، لا نشعر أننا في استعجال كي نقطع المفاوضات. فلا نريد أن تسجل علينا مسؤولية قطع عملية التفاوض. نحن نذهب إلى واشنطن آخذين في الاعتبار أن الاحتمال الأكبر هو خلو الموقف الإسرائيلي من أي جديد. ولكنني أعتقد أنه من المعقول إعطاء الدول الغربية التي ترعى المؤتمر فرصة لتحديد موقفها.

ألا تعتقدون أن الانتقادات التي وجهتها وزارة الخارجية الأميركية إلى الوفد الفلسطيني بعد الجولة الأخيرة تعطي صورة عن طريقة تحديد الولايات المتحدة موقفها؟

التمييز الأميركي واضح ومعروف. ولكني أقدر أن أميركا في مأزق. فوصول عملية المفاوضات إلى الطريق المسدود يشكل إحراجاً ويجعل الأنظار تتجه إليها حتى تتحرك. ومن جهة أخرى، واجهت الإدارة الأميركية هجوماً في الكونغرس بسبب موقفها من مسألة ضمانات القروض. وقد تكون أرادت إسكات هذه الحملة بالضغط على الطرف الأضعف. لكن هذا لا يعني أن الموقف الأميركي لن يتبدل. فتصرف الإدارة في مسألة ضمانات القروض، يشكل نهجاً جديداً في السياسة الأميركية. ونأمل بالطبع أن يتطور هذا النهج، خصوصاً إذا نجحت الإدارة الحالية في الانتخابات. وفي أي حال، لم نترك الانتقاد الأميركي لنا من دون رد، ولاحظنا أنهم لم يستمروا في هذا الانتقاد. على العكس، عادوا وقالوا أنهم ربما أساؤوا التعبير.

ولكن ألا تخشون أن تتكرر التجربة عندما يحين موعد الحسم وأن تفضل الولايات المتحدة الاستمرار في الضغط على الطرف الأضعف للتوصل إلى نتيجة؟

هذا وارد. أنا أضع دائماً في الاعتبار أنه من الأسهل أن يمارس الضغط على الأضعف. غير أنه لا سبب يدفعنا إلى الاستجابة للضغط الأميركي. المسألة تتعلق بقضايا أساسية لا نستطيع أن نتهاون فيها، حتى لو أدى بنا الأمر إلى طلب تعليق المفاوضات.

يبدو لجزء من الرأي العام العربي وبالأخص الفلسطيني أن الطرف الفلسطيني، ومنظمة التحرير بالذات، أذعنت للضغط الأميركي في كل مرة كانت تتعثر المفاوضات، ولا سيما عندما قبلت مشاركة الوفد في مؤتمر موسكو. ما هو ردكم على هذا الكلام؟

ما تم إلى الآن لا يشكل تفريطاً في الأساسيات. لكنني أعتقد أن الموقف الفلسطيني سيكون متحداً في رفض تقديم أي تنازلات إضافية، لأن الجانب الفلسطيني قدم كل التنازلات الممكنة.

[.......]

ما هو البديل الممكن؟ هل يكون تصعيد الانتفاضة؟ وهل يمكن للانتفاضة استعادة زخمها؟

هناك أكثر من خيار، لكن الشرط الأساسي هو أن يستطيع الفلسطينيون، على تعدديتهم السياسية، تحقيق موقف متحد. لا ينبغي أن تحول التعددية دون التوصل إلى موقف فلسطيني متحد على أسس ديمقراطية صحيحة. وإذا تحقق ذلك، لن يكون من الصعب إيجاد البديل، سواء كان تفعيل الانتفاضة أو العمل من أجل حمل الأسرة الدولية على نقل عملية السلام إلى مجلس الأمن بحيث ننتهي من المؤتمر الحالي، أو أي خيار آخر.

يبدو لمن يراقب تطور الوضع في الأرض المحتلة من الخارج أن التأييد الشعبي للمشاركة الفلسطينية في المفاوضات يتضاءل بشكل ملحوظ. ألا يشكل ذلك عائقاً أمام بروز موقف متحد؟

كلا. هذا يشكل فقط حرجاً للوفد المفاوض ولاستمرار عملية التفاوض التي لا تحقق أي تقدم في الوقت الذي تمعن إسرائيل في انتهاك الحق الفلسطيني وتصعيد القمع وتنشيط الاستيطان. من الصعب إقناع الشارع الفلسطيني في هذا الظرف بأن عملية المفاوضات يمكن أن تستمر. ولكن، كما قلت، السلاح الناجع في وجه هذا الوضع الصعب هو إنهاء هذا الصراع الذي لا معنى له، الصراع الفئوي بين التنظيمات السياسية المختلفة، وقد أدى إلى إفراغ الساحة الفلسطينية في المناطق المحتلة من الإحساس بوجود هيبة وطنية تهيمن على مجرى الأمور. الإنسان الفلسطيني ما زال مستعداً للصمود والتضحية، على رغم كل السلبيات والمصاعب. لكن المطلوب من القيادة الفلسطينية بشكل خاص، وبكل عناصرها، هو أن تترك جانباً الاعتبارات الذاتية والفئوية وأن تسعى إلى موقف متحد على أساس ديمقراطي.

ألا يحول نفوذ الحركة الإسلامية المعارضة لمبدأ التفاوض دون التوصل إلى مثل هذا الموقف المتحد؟

التيار الإسلامي يستمد الدعم من تعثر عملية المفاوضات وعدم استتباب سلام عادل. ويستند من ناحية أخرى إلى الأيديولوجيا الإسلامية التي انتشرت في الفترة الأخيرة في أنحاء مختلفة. هذا شيء طبيعي في نظري. ويجب أن يكون التصرف حيال هذه الظاهرة تصرفاً عاقلاً مبنياً على تحقيق المبدأ الديمقراطي. هذا هو السبيل للتعامل مع دعاة الحركة الإسلامية.

لقد عارضتم حضور الوفد الفلسطيني مؤتمر موسكو. كيف تنظرون الآن إلى جولة المفاوضات المتعددة الطرف المفترض انعقادها في شهر أيار [مايو]؟ وهل تشكل الموافقة الأميركية على حضور فلسطينيين من الخارج أعمال اللجنة المعنية باللاجئين إنجازاً، كما يصوره البعض؟

ليس منطقياً في نظري أن يبحث في القضايا الإقليمية في هذا الظرف، ما دامت المشكلة السياسية الرئيسية معلقة وإسرائيل مستمرة في موقفها العدواني. وأعتقد أن المفاوضات المتعددة الطرف في ظل هذا الوضع تفتح احتمالات إيجابية بالنسبة إلى إسرائيل فقط، لجهة تطبيع علاقاتها مع المحيط العربي. وهذا شيء سلبي. أما مسألة اللاجئين، فإني أعتبر أنه يجب طرحها فقط في المسار الثنائي. وأخشى أن يكون لطرحها في المتعددة الطرف نتائج سلبية. والمشكلة أن لا موقف فلسطينياً موحداً من هذه المسألة كما أن لا موقف عربياً موحداً بالطبع.

يقودنا الحديث إلى سؤال بسيط وصعب في آن: ما هو مصير فلسطينيي الشتات؟

موضوع فلسطينيي الشتات ليس مهملاً. فالقرار 194 الصادر عن الجمعية العامة ما زال ساري المفعول، ويشار إليه كل سنة في الأمم المتحدة. هذا من ناحية المبدأ. لكن إسرائيل غيرت ملامح الأرض كلها. هذا لا يعني أنه يجب إهمال حق اللاجئين في العودة. ومن وجهة نظر الوفد الفلسطيني، ستطرح قضية لاجئي 1948 على مائدة المفاوضات. وربما شكل طرحها عنصر ضغط كبيراً في اتجاه حمل المجموعة الدولية على الضغط بدورها على إسرائيل من أجل التخلي عن الأراضي المحتلة. أما إذا تفتحت الأمور لمفاوضات جادة لإقرار سلام صحيح، فلا شك في أن القرار 194 يجب أن يؤخذ في الاعتبار. لا أعني بذلك حرفية القرار وعودة اللاجئين إلى أماكن سكنهم. لقد اختفت هذه الأماكن، ويا للأسف، وتغيرت معالم البلد. ولكن لا بد من أن تؤخذ روحية القرار في الاعتبار. الحد الأدنى الذي نطالب به هو انسحاب إسرائيل من المناطق المحتلة عام 1967 وهذا في ذاته يفتح مجالاً لا بأس به لنسبة كبيرة من اللاجئين حتى يستقروا على أرض فلسطينية إذا أرادوا.

 [.......]

كيف يتعامل الوفد الفلسطيني مع مسألة القدس؟

نحن نطرح دوماً قضية القدس. وعندما نتكلم عن الأراضي المحتلة، نضيف عبارة "بما فيها القدس". وليس عندنا أي استعداد للتفريط في مسألة القدس. فهي من المسائل الأساسية. في المقابل، نحن مستعدون لإظهار مرونة، مثلاً في ما يتعلق بالقسمة المادية للمدينة. يمكن أن نتخلى عن هذا المطلب، على أن تكون حدود السلطة واضحة وأن يعرف أين تبدأ السلطة الفلسطينية وأين تنتهي.

ما هو تصوركم لطريقة ممارسة السيادة الفلسطينية في كل من المرحلتين، علماً أن الفلسطينيين يشتركون في المفاوضات في إطار وفد مشترك مع الأردن؟

هناك سيادة فلسطينية مقررة دولياً على المناطق المحتلة، بل على رقعة الأرض التي حددها قرار التقسيم عام 1947. هذا من الناحية القانونية. أما خلال المرحلة الانتقالية، فهناك ضرورة حماية المواطنين. هذا يتم الاتفاق عليه بالتفاوض. يمكن مثلاً أن نطلب الحماية من هيئة دولية، ويمكن أن نطلب حماية مصرية في قطاع غزة، إلى أن يعيد الفلسطينيون تهيئة إمكاناتهم الأمنية.

هل هذا يعني إمكان طلب حماية أردنية في الضفة الغربية؟ وهل هذا مدخل إلى الكونفدرالية؟

المطلوب حماية الفلسطينيين، أثناء الفترة الانتقالية، من المستوطنين ومن كل من يريد الإساءة إلى الأمن سواء كان إسرائيلياً أو فلسطينياً أو عربياً. ونظرياً يمكن أن نطلب الحماية من أي كان. أما الكونفدرالية، فهذه قضية أخرى. وهي لا يمكن أن تتم إلا بين وحدات مستقلة. ولا يمكن الحديث فعلاً عن الكونفدرالية الأردنية ـ الفلسطينية إلا بعد تحقيق الدولة الفلسطينية.

كيف تفسرون التصريحات التي صدرت أخيراً في هذا الصدد في الطرف الفلسطيني؟ هل كانت تلبية أو استباقاً لمطلب أردني؟

في الحقيقة، لا أعرف مصدر الحديث الذي جرى بشكل متواتر عن الكونفدرالية. هل هي بالونات اختبار؟ لا أدري. لكنني أعتقد أنه من السابق لأوانه الحديث عن الكونفدرالية ما دام مطلب الدولة الفلسطينية لم يتحقق.

كيف تقومون فاعلية التنسيق العربي في المفاوضات؟ هل يمكن أن يعقد أي من الأطراف العرب اتفاقاً مع إسرائيل بمعزل عما قد يصل إليه الأطراف الآخرون؟

لقد ناقشنا هذا الموضوع بصراحة بين الوفود العربية. وعقدت جلسات متكررة وبرز توافق بين الجميع على عدم جواز حصول أي اتفاق مع إسرائيل على حساب الأطراف العرب الآخرين.

وآمل أن يتم احترام هذا الموقف الذي نردده حين نلتقي، ونحن نكاد نلتقي يومياً أثناء جولات التفاوض. ثم إني أتصور أن الولايات المتحدة تعرف حقيقة الترابط بين الجبهات الثلاث وتدرك أنه لا يمكن التقدم على إحداها بمعزل عن الأُخريين. وأعتقد أنها تدرك أيضاً أن العقدة الأساسية التي يحرك حلها الموقف هي في الجبهة الفلسطينية. ولا بد من القول هنا إن لا أحد في الجانب العربي، لا الفلسطينيين ولا السوريين ولا اللبنانيين، قادر على تحقيق المعجزات وإن القدرة العسكرية لإسرائيل هي التي تقرر الوضع القائم. إن لم تواجه هذه القوة الطاغية بعوامل قوة تضع حداً لها، أعتقد أنه لن يحدث تغيير. هذا هو الوفد الفلسطيني كما السوري واللبناني.

هل تنتظرون من الانتخابات الإسرائيلية تحولاً يؤثر بشكل فعال على مسيرة المفاوضات؟

في الواقع، لا. فلا فرق أساسياً بين مواقف "الليكود" و"العمل" على الأمد البعيد. كلاهما يرفض المطلب الفلسطيني بحدوده الدنيا. قد يلجأ "العمل" إلى خطوات تكتيكية، ليس أكثر. مثلاً، يقول "العمل" أنه سيجمد عملية الاستيطان. ولكنه لا يحدد ماذا يعني بذلك. هل يعني تجميداً مؤقتاً؟ وما هي حدوده؟... ستكون هناك حركات من هذا النوع. وهذا بالطبع لا يكفي. وعموماً، لا نستطيع التنبؤ بالموقف الفعلي لحزب العمل لجهلنا نمط التعامل الأميركي معه.

[.......]

 

المصدر: "النهار " (بيروت)، 11/4/1992. وقد أجرى الحديث سمير قصير.

* حيدر عبد الشافي: رئيس الوفد الفلسطيني إلى مفاوضات السلام.