شهادة خليل الوزير (أبو جهاد) عن ذكرياته وهو ابن 12 عاماً عن احتلال القوات الصهيونية لمدينة الرملة وتهجير أهلها عام 1948. ويبين أبو جهاد أن الاستراتيجية الصهيونية آنذاك كانت بث الذعر في نفوس الفلسطينيين وإرغامهم على ترك وطنهم.
"مددت يدي إلى داخل الحقيبة للحصول على الخبز والجبنة وبيجامتي الجديدة... ورأت أمي جندياً يهودياً يصوّب سلاحه في اتجاهي، ويطلق عدة رصاصات."
[كان أبو جهاد آنذاك طفلاً عمره 12 عاماً]
قال لي أبو جهاد: "أذكر يوم هاجمت القوات الصهيونية مدينة يافا كأنه البارحة. لقد أرسل عرب المدينة إلينا في الرملة بعض السيارات والشاحنات. وكانوا يصرخون (النجدة ليافا، النجدة ليافا). وأذكر رجال الرملة ونساءها يركبون تلك السيارات والشاحنات. وكان لدى أحدهم مسدس قديم جداً، وبضعة سكاكين وعِصِي. وكنّا آنذاك يساعد بعضنا بعضاً، إذ كنّا نعلم أن اليهود سيستهدفون الرملة واللد إذا استولوا على يافا. وهذا ما حدث تماماً. فقد حاصروا الرملة واللدّ في ليلة واحدة، واستطاعوا أن يفعلوا ذلك بسهولة، لأن الأردنيين انسحبوا من دون قتال، وأصبحنا محاصَرين ووحيدين.
"لم يستطع أهلنا القتال، إذ لم يكن لديهم ما يقاتلون به. وقام رئيس بلدية المدينة ووفد من البلدية بزيارة القادة العسكريين اليهود. وخاطبهم رئيس البلدية قائلاً: (أجل، يمكنكم أن تدخلوا المدينة، لكن ينبغي لكم ألاّ تؤذوا الناس وألاّ تأخذوا أسرى، كما يجب أن تسمحوا للناس بالبقاء في بيوتهم، وبمزاولة حياتهم الطبيعية). أجاب اليهود: (كلا). فقد أرادوا أن نترك بيوتنا، أن نترك مدينتنا.
"وحين قرّرنا عدم المغادرة، صبّ اليهود على مدينتي الرملة واللد نيران مدفعيتهم. ولا أستطيع أن أنسى ما جرى. أصيب الجزء العلوي من بيتنا، فأقمنا في الجزء السفلي منه. ثم انفجرت قذيفة أُخرى في الشارع، ودمَّر الانفجار باب بيتنا. وكانت القذائف تتساقط في أنحاء الرملة كلها، وطلب رئيس البلدية من السكان جميعاً أن يلجأوا إلى المساجد والكنائس. وكنّا نعيش في جزء مسيحي من المدينة، فلجأنا إلى كنيسة الروم الكاثوليك. وسقط بعض جيراننا قتلى على الطريق من جرّاء القصف.
"بقينا في الكنيسة يومين قبل أن يدخل اليهود المدينة. وكان الرجال والنساء والأطفال ينامون جنباً إلى جنب. ولم يكن هناك موطئ قدم بين أجسادهم. فكان علينا أن نضع أرجلنا على أجساد الآخرين. وحين وصل اليهود، صعدت إلى الطبقة الخامسة، ونظرت من خلال مصاريع النوافذ، فرأيت بأمِّ عيني الجنود اليهود يطلقون النار ويقتلون عدداً من النساء والأطفال كانوا ما زالوا في الشارع. لا أستطيع أن أنسى ذلك! ثم راقبت الجنود وهم يدخلون بيوتنا، يرفسون الأبواب ويخلعونها، ويطلقون النار. وفي بعض الأحيان، اقتادوا أناساً إلى الشارع وقتلوهم.
"كان الناس في الكنيسة يبكون، وكانوا يقولون: (دير ياسين، دير ياسين). وبتنا متأكدين أننا سنُذبح. أعدّ الكاهن راية بيضاء، وخرج بها لملاقاة الجنود اليهود حين وصلوا إلى شارع الكنيسة. ثم عاد ومعه الجنود، فدخلوا الكنيسة وقالوا لجميع الناس فيها: (إرفعوا أيديكم). فرفع كل واحد منهم يديه. ثم بدأ اليهود تفريقنا، وقالوا أنهم يريدون جميع الشبّان والرجال من سنّ الرابعة عشرة إلى سنّ الخامسة والأربعين. واقتادوهم جميعاً إلى السجن ومعسكرات الاعتقال. ولم يتركوا وراءهم سوى الأطفال والنساء والمسنّين.
"في اليوم التالي، سمح لنا اليهود بالعودة إلى بيوتنا. وهنا أيضاً لا يمكنني أن أنسى ما جرى. فقد حضر الجنود اليهود إلى بيتنا في تلك الليلة ما لا يقل عن عشر مرات. اقتحموا البيت، وقلبوا كل شيء فيه رأساً على عقب. قالوا أنهم كانوا يبحثون عن أسلحة، لكنّ ذلك كان في الواقع جزءاً من سياستهم الرامية إلى جعلنا نشعر بالخوف وعدم الطمأنينة. وكان هدفهم إرغامنا على الفرار من بيوتنا وبلدنا. وكانت جدتي في ذلك الحين مسنّة ومريضة جداً. وفي كل مرة حضر اليهود فيها إلى بيتنا في تلك الليلة، كانوا ينزعون الأغطية عن سريرها. وحين أدرك اليهود أننا لا ننوي ترك بيوتنا، أصبحوا أكثر فأكثر غضباً.
"بعد ذلك بيومين، أذاع اليهود بياناً عبر مكبِّرات الصوت، أمرونا فيه بمغادرة بيوتنا، والتجمّع عند نقاط معينة على الطريق. وقالوا أنهم يجهزون عدداً من الحافلات لنقلنا إلى مدينة رام الله. وأمضينا ثلاثة أيام على جانب الطريق. وكانوا يطلقون النار فوق رؤوسنا ليلاً. وفي اليوم الثاني، لم تكن الحافلات قد وصلت. فأمروا الرجال المسنِّين بالسير إلى رام الله. وبقيت مع ثلاثة من إخوتي ـكان أحدهم لا يزال رضيعاً ـوأخواتي الثلاث، وأمي، وجدَّتي، وعمتي.
"في اليوم الثالث وصلت الحافلات. وكان معنا عدد من الحقائب، وفي إحداها بعض الخبز والجبنة، وبيجامة جديدة كنت أعتز بها كثيراً. وحين أخبرنا اليهود أننا لا نستطيع نقل حقائبنا إلى الحافلة، قمت بمحاولة للحصول على الخبز والجبنة وبيجامتي الجديدة. تحدثت إلى أحد السائقين، بلهجة بريئة لطفل صغير، وقلت له بالعبرية: (يا سيد، يا سيد، أريد إحضار بعض الطعام)، وأشرت إلى واحدة من حقائبنا، فقال: (حسناً، حسناً). وما أن مددت يدي إلى داخل الحقيبة حتى سمعت صراخاً غاضباً بالعبرية. وفي تلك اللحظة، ضمتني أمي إلى صدرها، إذ رأت جندياً يهودياً يصوّب سلاحه في اتجاهي، ويطلق عدة رصاصات. لو لم تر أمي ما كان يجري، لكنت أُصبت، وربما قُتلت. لقد أخطأتني الرصاصات بأعجوبة، واخترقت ساق أحد جيراننا [...]، وهو اليوم يعيش في عمّان. وإذا ذهبت لرؤيته، سيخبرك أن الرصاصات التي استقرت بساقه، هي التضحية التي قدّمها من أجل أن يعيش خليل الوزير!"
وفي النهاية، تم وضع نساء الرملة وأطفالها في حافلات، وأُرسلوا إلى رام الله. لكنّ مأساتهم كانت بعيدة عن نهايتها. فالأسوأ كان في انتظارهم.
"على مسافة أكثر من عشرة أميال من رام الله، أوقف اليهود الحافلات، وطلبوا منا أن ننزل منها ونمشي بقية الطريق. وأشاروا قائلين: (تلك هي المدينة رام الله، وعليكم أن تجتازوا تلك المرتفعات والأودية). بدأنا نمشي. وكان علينا أن نسير ببطء. فبعض النساء كن عجائز ومريضات، وكان عليهن أن يتوقفن كل بضع دقائق كي يلتقطن أنفاسهن ويرتحن. وبعضهن الآخر، ممن هن أكثر قدرة على المشي، أنهكهن حمل أطفالهن.
"في الليلة التالية، قصفنا اليهود بمدفعيتهم وبقذائف الهاون. فاختبأنا في البداية خلف بعض الصخور. إلاّ إنه حين تواصل القصف، بدأ الجميع يصرخون مذعورين... ورحنا نركض، ونركض، ونركض طوال الطريق إلى رام الله. ولا يمكنني أن أنسى ما جرى. فقد ترك بعض الأمهات أطفالهن، لأنهن لم يعدن قادرات على حملهم. حتى إن عمتي طلبت من أمي أن تترك بعض أطفالها وراءها. وكانت أمي تحمل ثلاثة أطفال، فقالت عمتي لها: (لن تستطيعي أن تركضي وأنت تحملين ثلاثة أطفال. إنك ستُقتلين. ينبغي لك أن تتركي طفلين منهم، وسنرسل إليهما من يساعدهما حين نصل إلى رام الله). لكن أمي رفضت، والتفتت إليّ قائلة: (يا خليل، أنت في الثانية عشرة فقط، ولست قوياً بما فيه الكفاية ـهل تظن أنك تستطيع أن تحمل إحدى أخواتك وتركض بها؟) فأجبت: (نعم)، وحملتها. وبقي بعض الأطفال لأنه لم يكن هناك من يحملهم، وبقي بعضهم الآخر، لأن أمهاتهم قُتلن. وحتى الآن، لا أستطيع أن أنسى ذلك.
"لم يكن في المنطقة أية قوات عربية ـلا قوات نظامية ولا متطوعين ـلم يكن هناك قوات عربية من أي نوع. وكان اليهود يعرفون مَنْ نحن، وأين كنا. وكان اعتداؤهم علينا متعمَّداً ومخطَّطاً، وذا هدف واحد فقط. فقد أرادوا التأكد من أننا سنصل إلى رام الله في حالة واضحة من الذعر والحزن. وكانوا يأملون بأن تبث حالتنا والحكايات التي سنرويها الذعر في قلوب الآخرين، وتدفعهم إلى الفرار من بيوتهم. وكان ذلك كله جزءاً من استراتيجيا صهيونية ذكية وناجحة جداً، لإخافتنا وإرغامنا على ترك وطننا."
وقد ناقشت الأحداث السالفة الذكر مع والدة أبو جهاد حين التقيتها في دمشق، وكان ابنها على مسافة أميال كثيرة منها، محاصَراً في مدينة طرابلس. ولم تكن والدته رأته منذ أن تحدثتُ إليه. وأكدت روايتها كل ما قاله أبو جهاد حرفاً بحرف.