بينما يشرع المحللون في إجراء تقويم شامل في الشرق الأوسط ضمن إطار الحرب الباردة، بما في ذلك علاقة واشنطن بإسرائيل، فإنهم قد يستنتجون – كما استنتج محررا هذا الكتاب – أن القوتين العظميين لم تفشلا فحسب في فرض إرادتيهما على الدول العميلة لهما في المنطقة، في مناسبات عدة، بل إن هذه الدول كثيراً ما استطاعت أن "تمارس سياسات انتهازية، وأن تستغل شركائها بطريقة أدت إلى تأزم العلاقات بين الدولتين العظميين، وإلى خلق المزيد من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط" (ص 3).
واستخدم الكتّاب الذين ساهموا في هذا المجلد بعض الحالات المعيّنة للدراسة، كالعلاقة الأميركية – الإسرائيلية، والروابط السوفياتية – السورية، للبرهان على أن القوتين العظميين واجهتا "صعوبات مشتركة في لجم عملائهما في الشرق الأوسط"، كما ورد في تعبير الكاتب جاكوب بيركوفيتش. والواقع أنه يجزم أن "هاتين القوتين، ناهيك بتدبير أمور الدول العميلة لهما، كانتا في كثير من الأحيان تخضعان لتدابير هؤلاء العملاء" (ص 27).
ويوفّر تحليل فيليب وندسور للعلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، خلال أعوام رئاسة ريغان، مثالاً واضحاً للحجة القائلة أن "الذيل هو الذين كان يهز الكلب." فقد كانت سياسة واشنطن تستند إلى الفكرة القائلة إن قوة إسرائيل العسكرية هي، في آن واحد رادع للقوى الراديكالية التي يرعاها السوفيات، وقطب يستقطب نشوء "إجماع استراتيجي" مساند لأميركا قد يشارك فيه بعض الدول العربية المعتدلة. ولكن ما حدث فعلاً، بدلاً من ذلك، هو أن "المحاولة الأميركية لحل مشكلات الشرق الأوسط من خلال استخدام دولة عميلة كقطب الرحى في بناء نظام جديد، أدّت فقط إلى تأجيج التوترات الكامنة" (ص 47).
واستناداً إلى وندسور، فقد استخدمت إسرائيل علاقاتها بواشنطن لخدمة مصالحها الخاصة في المنطقة، كما دل على ذلك اجتياحها للبنان سنة 1982، ولقمع السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وقد أدت هذه التطورات إلى تصاعد التكلفة السياسية والعسكرية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وإلى إضعاف موقفها في العالم العربي، وإلى وضعها في مسار صدامي مع الشيعة في لبنان، وإلى تأجيج التوتر بين الدولتين العظميين. ويقول وندسور "إن المحاولات الأميركية لحل المعضلات في سياستها الشرق الأوسطية من خلال جعل إسرائيل محور إجماع استراتيجي له مضامين عالمية، أدت فقط إلى تأزيم العداوات الإقليمية، وإلى إلحاق الهزيمة بالسياسة الأميركية" (ص 49).
وبخلاف أنظمة التحالف الدائمة والرسمية، والتي تتضمن تعريفات واضحة إجمالاً عن قوانين اللعبة وواجباتها، فإن نوع "التحالف" الذي ساد بين إسرائيل والولايات المتحدة يعكس التزاماً بلا حدود، من جانب واشنطن، تجاه الاستمرار في تمويل ودعم إسرائيل عسكرياً، ومن دون أي مقابل من جانب تلك الدولة. ويكمن الجانب الأفضل لعمالة إسرائيل في أنها تملك "حرية التمتع بالالتزام من دون دفع ثمن التحالف" (ص 51).
وتحاول مقالة وندسور، شأنها في ذلك شأن مقالات بعض اختصاصيي الشرق الأوسط المخضرمين، مثل برنارد رايش وروبرت و. فريدمان، أن تبرهن – وبصورة فعالة – حجة الكتاب الرئيسية في أنه "كثيراً ما يطغى الحامي على الدولة العميلة"، لكن "الدولة العميلة هي الأخرى كثيراً ما تستخدم قوة عظمى لخدمة مصالحها" (ص 29). لكن الكتاب يعاني قصوراً كبيراً. فقد فشل محرّراه في طرح تفسير نظري وتاريخي مقنع بشأن السبب الذي من أجله وقعت واشنطن وموسكو ضحيتين طوعيّتين لمكايد عملائهما في الشرق الأوسط.
إن النموذج العام للعلاقة بين الحامي والعميل، الذي يطرحه الكتاب، يضع علامة استفهام على منهج "سياسة الأمر الواقع" الذي يقيس نتائج السياسات الخارجية بالاعتماد اعتماداً شبه كامل على اعتبارات التوازن العسكري للقوى، ويفترض أن القوتين العظميين قادرتان، بالتالي، على فرض إرادتيهما على الدول الصغيرة. لكن حجة الكتاب هي أن بعض الأمم الصغيرة، مثل كوبا وإسرائيل، يملك "ميزات" أخرى لا يمكن قياسها بمقياس الميزان المبسّط للقوى، والتي تستطيع أن تستخدمها في علاقاتها بحُماتها.
غير أن المشكلة تكمن في أن البحث في هذه "الميزات" يبقى عاماً جداً، وغير قابل للتحديدز وعلى سبيل المثال، ثمة تركيز محدود على محتويات "العلبة السوداء" في السياسات الأميركية والإسرائيلية، وعلى الطريقة التي تحدد فيها هذه المسارات العلاقة بين هاتين الدولتين. والواقع أنه لا يوجد أي اهتمام حصري بإطار الشرق الأوسط الفريد لدى تفسير التورط الأميركي (أو السوفياتي) فيه. ويُفهم من ذلك، ضمناً، أن ليس ثمة من فارق كبير بين العلاقة الأميركية - الإسرائيلية، مثلاً، والعلاقة السوفياتية – الكوبية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن تحليل علاقة الحامي بالعميل محصور حصراً تاماً تقريباً في إطار الحرب الباردة، ويبدو أنها توحي بأنه "ومن جراء تنافس الدولتين العظميين الحاد للحصول على حلفاء، فإن هامش المناورة لدى الدول الصغيرة يصبحان ذوي شأن كبير." لذا، فإن هذا التنافس "هو الذي يمنح الدول الصغيرة العميلة قدرتها غير المتوقعة على ممارسة الضغط"، وخصوصاً لأن "انسحاب العميل من العلاقة يُرى أنه أمر كارثي بالنسبة إلى القوة العظمى." لذا، فإن التأثير الكبير للدول العميلة الصغيرة، وبغض النظر عن أهميتها الفعلية، "هو نتيجة طبيعية للدولتين العظميين المتنافستين، واللتين تملكان سياسات عالمية" (ص 21).
ولا ريب أن حاجة الولايات المتحدة إلى "خدمات استراتيجية" يقدمها اللاعبون الإقليميون في الحرب الباردة، لا يمكن أن تفسّر كلياً التزام أميركا تجاه إسرائيل، وتجاه دولة أخرى في الشرق الأوسط هي العربية السعودية. فمن الصعب، بعد كل هذا وذاك، أن نتخيّل أن تعمد إسرائيل، أو العائلة المالكة في السعودية، إلى التهديد بأنها ستنسحب من الحلف لتلتحق بالمعسكر السوفياتي خلال الحرب الباردة.
والواقع، وسعياً وراء تطبيق النموذج العام للعلاقة بين الحامي والعميل على الشرق الأوسط، خلال الحرب الباردة، فإن محررَّي الكتاب قد فشلا في إدراك أن التكلفة العالية التي تكبدتها القوى الخارجية خلال تورطها في الشرق الأوسط تتجاوز التنافس بين الدولتين العظميين في الحرب الباردة، وقدرة اللاعبين المحليين على استغلالها.
وكما يقترح ل. كارل براون، فإن عدم قدرة القوى الخارجية على فرض قوتها على الشرق الأوسط، والنكسات الكبرى التي أصيبت هذه القوى بها في المنطقة منذ سقوط الدولة العثمانية هي، إلى حد كبير جداً، نتيجة الطبيعة "الفسيفسائية" للمنطقة. إذ يعمد خليط من النُخب والحكومات المحلية، التي تفتقر إلى الشرعية السياسية والقدرة على الحياة اقتصادياً، إلى جرّ القوى الخارجية إلى جانبها دعماً لمصالحها (أنظر: L. Carl Brown, International Politics and The Middle East: Old Rules, Dangerous Game, Princeton, N. J.: Princeton University Press, 1984).
أما الدولة الخارجية فتجد نفسها قد انجذبت، في النهاية، نحو التنافس السياسي والعسكري في المنطقة، الذي قد يؤدي إلى تكلفة عالية، بما في ذلك التورط العسكري المباشر (كما حدث، مثلاً، في حرب الخليج).
والسبب الذي حمل واشنطن على دفع هذه التكلفة الباهظة ليس هو الحرب الباردة بقدر ما هو معدل المنافع السياسية والاقتصادية التي تجنيها النُخب الأميركية السياسية والمختصة بالشؤون الخارجية من خلال التورط في المنطقة. فالدعم لإسرائيل، الذي ينظّمه اللوبي الإسرائيلي، يوفّر لأعضاء الكونغرس الأصوات وأموال الحملات الانتخابية، بينما العلاقات بالسعودية تضمن مصالح شركات النفط الكبرى والمجمّع العسكري – الصناعي.
وقد استخدمت القوى المحلية وأعضاء المؤسسة السياسية الأميركية الحرب الباردة لتبرير التورط الأميركي في الشرق الأوسط، كما برهنت هذه الحرب عن التكلفة التي تتكبدها القوى الخارجية كجزء من تورطها في المنطقة. لكن التكاليف هذه كانت تدفعها بريطانيا العظمى خلال سيطرتها على المنطقة قبل الحرب الباردة، كما تدفعها واشنطن الآن، بينما هي تدخل فترة الهيمنة على المنطقة التي تلي الحرب الباردة.
والواقع أن ما يتطلَّع المحرران إليه من أن نهاية الحرب الباردة ستمكّن واشنطن وموسكو من تطوير "منهاج مشترك للدولتين العظميين حيال المنطقة والحد من تأثير العملاء"، هو تطلع قد تخطّته الأحداث (ص 29). فالذنب الإسرائيلي ما زال يهز الكلب الأميركي، حتى بعد سقوط جدار برلين. كما أن التزام الولايات المتحدة تجاه حكومات الدول النفطية العربية قد تخطى نهاية الحرب الباردة.
لكن نهاية الحرب الباردة قد تؤدي إلى حدوث تغيير كبير في قدرة بعض القوى الإقليمية، كإسرائيل، وبعض اللاعبين السياسيين الأميركيين، كاللوبي الإسرائيلي، على تبرير تكلفة التدخل الأميركي الباهظة في المنطقة. وهذه نقطة فشل الكتاب في تركيز الضوء عليها. إن نهاية ما ينظر إليه أنه التهديد السوفياتي من جهة، وتصاعد المشكلات الاقتصادية على الجبهة الداخلية من جهة أخرى، سيجعلان من الصعب إقناع الرأي العام الأميركي بقبول سيناريو الذنب الذي يهز الكلب، وقد يؤديان في نهاية المطاف إلى إعادة "ميزان النفوذ" إلى سابق عهده في علاقة الولايات المتحدة بدولة عميلة، كإسرائيل.