ميلمان ورافيف. "الجواسيس الناقصون: تاريخ الاستخبارات الإسرائيلية" (بالإنكليزية)؛ أوستروفسكي. "عن طريق الخداع" (بالإنكليزية)
الكتاب المراجع
النص الكامل: 

كانت لفظة "الاستخبارات الإسرائيلية" تبعث في العقل الغربي، فيما مضى من الأيام، صوراً لعمليات في غاية البراعة ولنوعية من الأعمال ساهمت في خلق انطباع عن الإسرائيليين أنهم بشر خارقون؛ يعملون بفعالية وأعصاب باردة، بل إنهم بلا رحمة أحياناً، لكنهم دوماً إلى جانب الحق؛ يحاربون الشيوعية والإرهاب وغيرهما من الشرور في العالم. ولائحة نجاحاتهم تشمل القبض على أدولف أيخمان، وسرقة طائرة ميغ – 21 سوفياتية، وعملية عنتيبي الباهرة لإنقاذ الرهائن.

لكن، استناداً إلى هذين الكتابين، فإن لائحة الفشل والعمليات المحبَطة والانتهاكات لدى الاستخبارات الإسرائيلية هي أطول من اللائحة الأولى. ففي الكتاب الأول يفصّل الصحافي الإسرائيلي يوسي ميلمان، ومراسل سي. بي. إس. دان رافيف، قائمة من العمليات الفاشلة والانتهاكات، وهي قائمة مدهشة لا بطولها فحسب بل أيضاً بما تكشف عنه من جهاز للاستخبارات فالت من عقاله، وتقديرات تشوبها المنافسات الداخلية وشهوة السلطة. ونشاطات لا تستطيع – ولربما لا ترغب – القيادات السياسية السيطرة عليها. وفي الكتاب الثاني، يؤكد عميل الموساد السابق، فكتور أوستروفسكي، الانتهاكات أكثر مما يؤكد الفشل، وهو ما يعزز صورة الموساد بأنها تخضع لقانونها الخاص بها فحسب.

ويبيّن ميلمان ورافيف كيف أن الاستخبارات الإسرائيلية قد أعماها الإيمان بالقوة الإسرائيلية التي لا تُغلب، إلى الحد الذي جعلها غير قادرة مراراً على تقدير القوة العربية. فأوساط الاستخبارات فشلت في التنبؤ بحرب سنة 1973، وفشلت في التنبؤ بالمستنقع اللبناني في إبان اجتياح سنة 1982، وفشلت في التنبؤ باندلاع الانتفاضة؛ والسبب وراء ذلك كله، في رأي المؤلِّفين، هو الإيمان الراسخ بأن العرب قاصرون، وبالتالي غير قادرين على مواجهة إسرائيل فعلاً. والفشل سنة 1973، في رأيهما، يعود مباشرة إلى ما سُمّي فيما بعد "هاكونسبتزيا" (ha-konseptzia) (أي الفكرة)، أو الإيمان بأن العرب لن يبادروا إلى الهجوم ابداً، لأن من الجلي الواضح أنهم لا يستطيعون الانتصار، أو أن إسرائيل – إذا وصلت الغباوة بهم إلى فعل ذلك – تستطيع أن تسحقهم بسهولة. (ص 215)

ويبدو أن هذا الارتياح الذاتي حيال القدرات العربية سنة 1973، قد علّم الاستخبارات الإسرائيلية العبر للاستعبار بها لاحقاً في لبنان، وحتى في الضفة الغربية وغزة، ويكتب ميلمان ورافيف: "عجز الشين بيت [جهاز الأمن الداخلي] والحكّام العسكريون للأراضي المحتلة عن النظر إلى الفلسطينيين كشعب سياسي" (ص 18). فقد انصب اهتمامهم طوال الأعوام العشرين من الاحتلال، قبل الانتفاضة، على السيطرة على السكان الفلسطينيين من خلال مزيج من الترغيب والترهيب. وقد نجحوا في السيطرة على الإرهاب إلى الحد الذي جعلهم عاجزين عن معرفة أي شيء عما يسمّيه الكاتبان ميلمان ورافيف "خطوط النفوذ". فقد كان لدى الشين بيت لائحة من الأسماء، وكان في وسعه القبض على العشرات ممن يمسّون مثيري الشغب، لكنه لم يكن يعلم شيئاً عن تركيبة ونفوذ، أو حتى مجرد وجود المنظمات الفلسطينية التي دعمت الانتفاضة فيما بعد، وأضفت عليها تماسكها.

إن كتاب "الجواسيس الناقصون"، لا يتمتع ببنيان جيد، فهو خليط عجيب من الحكايات التي لا تصوّر شيئاً، ولا تتعلق بأي شيء محدد. فالأسلوب شنيع، والروابط مبتورة على نحو مزعج، والثغرات في المعلومات كبيرة. أما التحليل فسطحي أو غير موجود، الأمر الذي يخلّف الانطباع بأن الكتاب كله كتلة متشابكة من الخيوط الفالتة.

وثمة مثال بارز للتحليل غير السليم؛ فموضوع المؤلِّفين الأساسي، إذا كان ثمة من موضوع أصلاً، هو أن الاحتلال قد أضفى الوحشية على أوساط الاستخبارات الإسرائيلية. لكن المؤلِّفَين، وفي الحالات النادرة التي يوجد فيها أي تحليل ذي عمق، يتعاطيان التحليلات الخلقية المشوشة والتي تكشف عن رؤية منغلقة على عنصريتها، وفي نهاية المطاف عن رغبة في تبرير المساوىء الإسرائيلية. ففي صدد تفسير السبب الذي من أجله أصبح الشين بيت أداة للتعذيب في الضفة الغربية وغزة، يطرح المؤلفان التحليل الآتي:

حتى حرب الأيام الستة، كان الشين بيت منظمة نادرة من نوعها؛ إذ إن موظفيه كانوا كعائلة صغيرة فيها الكثير من الأمور المشتركة: فقد سبق أن خدموا في الجيش البريطاني أو في الهاغاناه، وكانوا في أغلبيتهم من القطاع الأوروبي الأشكنازي من السكان اليهود... وبغية إقامة شبكات الاستخبارات الواسعة [بعد سنة 1967]، كان لا بد من توسيع قاعدة الطاقة البشرية في الشين بيت، فجُعلت معايير التجنيد فيه أكثر سهولة وأقل انتقاء... فالناطقون بالعربية الذين أصبحوا الآن ذوي أهمية حيوية يوجَدون في صفوف القطاع الشرقي  السفارادي من السكان اليهود. وحتى ذلك الحين، كان معظم الذين اختيروا رجالاً خدموا سابقاً في وحدات قتالية نخبوية في الجيش... دُرِّبوا على محاسبة النفس والإلمام بالأخلاقيات. وكي يلبي الشين بيت حاجاته الملحة، أخذ الآن يضيف إلى صفوفه أناساً ممن خدموا في وحدات دعم فحسب، حيث لا يُغرس في عقول الجنود مثل ذاك المقدار من المظاهر الصافية للأخلاقيات. (ص 192)

 

              وعلى الرغم من هذا التبشير الخلقي الذي ليس في محله، وعلى الرغم من نواقص الكتاب الأدبية، فإنه يفيد القارىء لاحتوائه على فحص مفصّل ومخلص في الغالب لتاريخ الاستخبارات الحديث في إسرائيل، ومن خلال لائحة طويلة من الانتهاكات التي تورطت فيها: أساليب التعذيب التي يستخدمها الشين بيت في الأراضي المحتلة، والمحاولات الجارية لطمسها؛ قضية الجاسوس بولارد في الولايات المتحدة؛ استخدام أجهزة الاستخبارات في صفوف الجوالي اليهودية خارج إسرائيل، في محاولة لتشجيع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل؛ التسييس الشديد من قبل حزبي العمل والليكود لأجهزة الاستخبارات التي يجب أن تبقى خارج السياسة؛ النمو البارز في الأعوام الأخيرة لجيل من عملاء الاستخبارات السابقين غير المنضبطين، والمتورطين في صفقات مخدرات وأسلحة مع شبكات الإجرام الدولية.

              أما رواية فكتور أوستروفسكي لفترة الأعوام الثلاثة والنصف التي أمضاها في الموساد، كمتدرب وضابط قضايا ذي رتبة متدنية، فهي بمثابة تكملة عجيبة لكتاب ميلمان ورافيف. فمن خلال التركيز على الموساد فحسب، ووصف بعض العمليات المنتقاة فقط (عمليات هي، في الغالب، أكثر تشويقاً للقرّاء)، وتجاهل نوعية تقديرات وأحكام الموساد تجاهلاً كلياً تقريباً، يعطي المؤلف انطباعاً عن منظمة أكثر مهارة، لكن موضوعه الأشمل يشبه موضوع ميلمان ورافيف إلى حد يدعو إلى العجب. وقد يشكك القارىء في أطروحة أوستروفسكي، وهي أن السواد الأعظم من مشكلات إسرائيل ينبع من فساد الموساد الخلقي، أو أن كل الآثام التي ترتكبها الموساد تحدث من دون علم الحكومة الإسرائيلية. كذلك قد يشكك القارىء في قوله إن "في وسع إسرائيل أن تكون أعظم بلد في العالم لولا أن الموساد تدمرها من خلال احتيالها على السلطة" (ص 216). وقد يشكك القارىء حتى في صحة بعض الروايات التي يرويها المؤلف. لكن من الصعب أن يتفادى القارىء صحة استنتاجه أن الموساد منظمة تسيء استخدام القوة، وقد أضحت فالتة من عقالها.

              ويعرض الكتاب، في نصفه الأول، التدريب الذي تلقاه المؤلف، وهو بمثابة مقدمة مشوِّقة جداً للحيل (والحيل القذرة) المستخدمة في هذه الصناعة. وتشمل هذه كيفية مراقبة شخص ما، وكيفية التخلص من المراقبة، وكيفية التصوير الفوتوغرافي ليلاً، وكيفية تجنيد العملاء، وطريقة تنظيم الموساد ومراكزها الخارجية. والكثير من هذه الأشياء أمور رتيبة في هذه الصناعة، لكن فيها أيضاً الكثير مما سيهزّ الموساد هزاً إذا رأته منشوراً في كتاب، كما يبدو واضحاً من محاولة الموساد طمس هذا الكتاب.

              أما النصف الثاني من الكتاب، فهو لا يقل عن الأول إثارة للاهتمام، على الرغم من أنه مشكوك فيه إلى حد ما، لأنه مبني على شهادات الغير؛ ففيه وصف لعدة عمليات يزعم أوستروفسكي أنه سمع بها خلال فترة تدريبه، أو أنه شارك فيها أو استخلصها من ملفّات الموساد. ومع أن الخطوط العريضة لهذه العمليات قد رُسمت بدقة على الأرجح، فثمة كمية من الأغلاط الواقعية تكفي لإلقاء ظلال الشك على التفاصيل. وعلى سبيل المثال، يوصَف أبو نضال بأنه رئيس الجبهة الشعبية – القيادة العامة، ويُنسب إلى أحمد جبريل خطف السفينة أكيلي لاورو سنة 1985، وكلا الأمرين خطأ مدهش، إلى حد ما، عندما يصدر عن ضابط في الاستخبارات الإسرائيلية...

              ويصف المؤلف نفسَه بنبرة فيها مبالغة على امتداد الكتاب. فهو يبدو للقارىء – من وجهة نظر الحاضر على الأقل، إذ إنه الآن خارج الموساد مؤلفاً – إنه ذو ضمير حي للغاية حيال انعدام الخُلُق لدى الموساد؛ فهو على الدوام الشخص الذي ينبّه الآخرين للأخطار، وهو الشوكة في خاصرة الأشرار. ويبدو أن في وصفه لإنجازاته، خلال فترتي التدريب والعمل، مبالغة أيضاً. فهو ذكي إلى درجة مدهشة – يتسلل دوماً، وبسهولة، من المواقف الصعبة التي يضعه مدرِّبوه فيها، وينجز دوماً العمليات بمهارة تفوق مهارة زملائه.

              فالأخطاء في الوقائع، والمبالغة الشخصية، والاستياء من الموساد الذي ينسبه أوستروفسكي إلى نفسه، كلها أمور قد تكفي لإلقاء ظلال من الشك على الكتاب بأسره، لولا أن الكثير من الأمور التي يصفها مؤكد من قِبَل ميلمان ورافيف في شكله العام، إنْ لم يكن في التفاصيل. فعمليات الاستخبارات نادراً ما تكون نظيفة وخلقية؛ وعندما لا تكون منضبطة من جانب أي نوع من أنواع الإشراف أو التحكم الخارجي، فمن المحتم تقريباً أن تصبح فاسدة.

   كاثلين كريستيسن

(نقلاً عن: JPS, No. 79)