كلمة وزير الخارجية اللبناني فارس بويز، مدريد،31/10/1991
النص الكامل: 

السيد جيمس بيكر وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية،

السيد بوريس بانكين وزير خارجية الاتحاد السوفياتي،

السادة رؤساء الوفود،

أيها السيدات والسادة،

يسعدني، باسم فخامة رئيس الجمهورية الأستاذ الياس الهراوي، وباسم الحكومة اللبنانية، أن أتوجه بشكري العميق إلى إسبانيا، ملكاً وحكومة وشعباً، لاستضافتها هذا المؤتمر على أرضها العريقة.

أود أيضاً أن أشكر السلطات والإدارات الإسبانية كافة، للتنظيم الدقيق والترتيبات الفاعلة التي اتخذتها، وطبقتها بنجاح، خلال مهلة قصيرة جداً، مستجيبة لإجماع المعنيين بعقد هذا المؤتمر كافة في هذه العاصمة الجميلة مدريد. إن هذا الإجماع والترحيب يدلان على ثقة العالم وثقتنا بهذا البلد العظيم، موطن حضارة ثرية نرى معالمها الباهرة في كل أرجاء هذه البلاد.

إن هذا الإجماع يجسد رغبة الجميع في أن تكون إسبانيا ملتقى آمال شعوب العالم المؤمنة، في أن السيطرة على الغرائز وتحكيم الحق والعقل والعدل والسعي إلى السلام هي أرفع وأرقى مستويات الحضارة.

إن هذا المؤتمر، الذي ينعقد تحت عنوان السلام، يتصف ولا شك بأهمية بالغة وقد يكون، ربما، الأهم منذ الحرب العالمية الثانية.

فالسلام مطمح البشرية جمعاء، والغاية التي تصبو إليها الشعوب، على اختلافها، والهدف الذي تعمل من أجله الأديان والفلسفات والأيديولوجيات. إنه، على قدر إدراكنا لأهمية هذا المؤتمر، نشعر بواجب الإعراب عن تقديرنا العميق للجهود الجبارة والمساعي الدؤوبة التي بذلتها الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي لتحقيق هذا المؤتمر، كما نقدر للدول والأطراف الذين دعموا انعقاده ويساهمون في إنجاحه، جهودهم المخلصة.

أود أيضاً أن أنوه بجهود الرئيسين جورج بوش وميخائيل غورباتشوف، للمساعي التي بذلاها لعقد هذا المؤتمر، باذلين الكثير من الوقت على رغم تعدد مشكلات العالم الأخرى.

كما أود أن أخص بالذكر الوزير بوريس بانكين الذي واكب الجهود الآيلة إلى عقد هذا المؤتمر ودعمها، والوزير جيمس بيكر الذي كرّس طاقاته وقدراته المميزة لتحقيق هذا الإنجاز الكبير مظهراً براعة وإصراراً نادرين.

أود أيضاً أن أشكر السيد رئيس الوزراء فيليب غونزاليس لكلمته القيمة، والمجموعة الأوروبية لحضورها معنا والمواقف الرصينة التي عبر عنها رئيسها الحالي الوزير فان دن بروك.

إن لبنان الذي آمن برسالة السلام والتعايش والتسامح ومارس الانفتاح والتفهم واحتضن تبادل الأفكار والمعارف، يرحب اليوم بهذه الفرصة التاريخية لإحلال السلام في منطقة انبعثت منها الأديان والشرائع والحضارات وانطلق منها الفكر ومنها ولدت الفلسفات.

شهدت إبراهيم والمسيح ومحمد والرسل والرفاق والأنبياء، فكانت الأهرام والمعابد والهياكل والكنائس والمساجد. وكانت القدس وبيت لحم ومكة والنجف. أرض تفاعل الحضارات السومرية والفينيقية والفرعونية والبابلية والإغريقية والبيزنطية والعثمانية والعربية، حيث امتزجت خطوط الهياكل وأعمدة المساجد ونقوش الكنائس، إنها أرض الدنيا وتاريخها وضميرها.

كل إنسان، أينما كان في العالم، له فيها جزء من هويته، إنها تراث الإنسانية، ولسنا نحن إلا حراس معابدها وحماة إرثها ومنها أتى مجدنا وعليه نحن على مر الأجيال مؤتمنون.

ويعتز لبنان بهويته العربية التي تجمعه بدول يشترك معها في التاريخ واللغة والثقافة والمصير.

أيها السادة،

أتيناكم اليوم من وطن صغير بمساحته، متواضع بعدد سكانه، غير مميز بموارده الطبيعية، إلا إنه كبير بطموح أبنائه، غني بحضارته، عظيم بما أعطاه للعالم من أبجدية وعلم وثقافة ومعرفة.

أتيناكم اليوم من وطن كان ولا يزال منارة للعلم في كل محيطه، من مدرسة بيروت الرومانية للحقوق، ومن جوستنيانوس وبابينيانوس حتى جامعاتنا وشعرائنا ورجالات الفكر والعلم في بلادنا.

أتيناكم اليوم من وطن انتشر أبناؤه عبر البحار والصحارى نحو القارات الخمس وسائر الأوطان، فاندمجوا مع أمثالهم من البشر وتآخوا وبنوا وازدهروا. أتيناكم من وطن صُوّبت نحو أرضه المطامع وتصارعت العقائد والسياسات، وتصادمت الحضارات والثقافات والفلسفات، حتى قيل إنه زال وانتهى.

مزقته الحروب، حروب الآخرين على أرضه، وبقي ينزف ست عشرة سنة، حتى قيل إنه مات، وكثر الناعون بوفاته، ونشأ مفهوم اللبننة وعني به احتضار الدول وتمزق الشعوب.

ها هو لبنان هذا كطائر الفينيق ينبعث متحرراً من رماده، واقفاً من كبوته، مكذباً من راهن على غيابه ومن اعتقد بزواله ومن لعب ورقة إلغائه، ها هو اليوم، ورغم بلاغة الجرح، وقساوة التجربة، عائد إلى الأسرة الدولية، مثبتاً أنه أقوى من أن يلغى، وأعمق من أن يمحى، وأعرق من أن ينسى، وأعظم من أن يفنى، وأثبت من أن يكون وطناً موقتاً أو عابراً.

إنه هنا خلافاً لكل التوقعات والحسابات والتحاليل المتشائمة كأنه وحده يعرف أن قدره أن يعيش ورسالته أن يستمر. وإذا أتت الحرب اللبنانية برسالة، فهي أن ميزة التركيبة اللبنانية لن تزول، لأنها مبنية على حتمية العيش المشترك.

أيها السادة،

سمعتم الكثير عن لبنان، ولا شك في أنكم تعلمون أن هذا البلد الصغير، مارس التجربة الإنسانية الكبرى التي يصبو المجتمع الدولي الآن إلى الدخول في حقبتها، وعايشها.

تعرفون أن لبنان يضم كل الأديان السماوية بكل تفرعاتها وطوائفها، وكان الفرصة المثلى لالتقاء كل الأفكار والمذاهب السياسية والفلسفية والاجتماعية وتفاعلها.

وكان جو الديمقراطية والحرية الفردية والاجتماعية، هو الضمان الحقيقي لممارسة كل تلك التجارب ومعايشتها واختبارها. فنحن في لبنان مؤهلون لإغناء فكرة النظام العالمي الجديد وترسيخ أسسه، نقول ذلك بعد تجربتنا المريرة التي أثبتت حتمية التعايش بين الأفكار والمذاهب والديانات.

إن تجربتنا هذه قد تغني مفهوم النظام العالمي المرتقب، وعلى رغم أن معالمه لم تتضح كلياً، إلا إن أسسه وقواعده ستتركز دون شك على الحقائق الثابتة للمجتمعات وعلى ضرورة التعايش معها.

بعدما دفعنا ثمن الصراعات الدولية والإقليمية التي انعكست على أرضنا، بدأنا مسيرة السلام الداخلي، حيث استطعنا تحقيق إنجازات مهمة وأساسية فاجأت الجميع فكانت التحدي والحلم في آن.

بدأنا بتشكيل حكومة وفاق وطني، فتولت إقرار وثيقة الطائف وتطبيقها، وبادرنا بالقيام بالإصلاحات الدستورية التي أوجدت مشاركة سياسية أشمل وأوسع بين مكونات التركيبة اللبنانية كافة، فتولت الدولة حل الميليشيات وجمع أسلحتها، وأسقطت الحواجز المصطنعة بين المناطق والطوائف والأحزاب، فعاد اللبنانيون إلى الاندماج معاً تعبيراً عن رفضهم للفرقة المصطنعة.

وباشرت الدولة إعادة بناء المؤسسات الإدارية والأمنية والوطنية، فتحققت وحدة الجيش اللبناني وأخذ ينتشر باسطاً سلطة الدولة اللبنانية على معظم أراضيها، ممهداً لتثبيت سيادة دولته.

كل ذلك قد تم خلال فترة زمنية قصيرة جداً، بإمكانات متواضعة، لم يعوضها إلا دعم بعض الأشقاء والأصدقاء، فكان أن أثبت لبنان، مرة أخرى، قدرته على تجاوز محنه ومفاجأة العالم.

فحين يتعلق الأمر بالمصير تهون على الشعوب المعجزات.

لقد أنجزت الدولة اللبنانية كل ما تستطيع إنجازه على الصعيد الداخلي وأسقطت ذرائع عدة كانت مبنية على عجزها عن التوحد وعلى اتخاذ القرار الوطني. لكن هذه المسيرة العظيمة لن تؤتى ثمارها الكاملة ما دامت هناك مشكلات عالقة تتعدى الوضع الداخلي إلى المعطيات الإقليمية والدولية.

أيها السادة،

أثبتت الأحداث أن لبنان كل لا يتجزأ بجنوبه وشماله وبقاعه وبيروته وجبله، فأي غياب لمنطقة من مناطقه هو غياب لعضو أساسي من جسمه يجعله ينزف دوماً ويتخبط وينشر غضبه نحو كل أنحاء العالم والدنيا. فتحول الغضب هذا في كثير من الأحيان إلى مقاومة الاحتلال، فتكاثرت أعمال العنف، وكان من ضحاياها لبنانيون وغير لبنانيين، لكن هذا العنف ما كان إلا تعبيراً، ولو موجعاً في بعض الأحيان، عن إصرار حماسي على إحقاق الحق.

أثبتت الأحداث أن جنوب لبنان بالذات فتيل يهدد بتفجير الوضع برمته، ناشراً غضب أبنائه ما دام يرزح تحت نير الاحتلال، وما دامت قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية الكفيلة بحل مشكلته متجاهلة لا تحترم. واليوم بالذات سقطت 160 قذيفة على مدينة النبطية في جنوب لبنان وخلفت عدداً من الجرحى والخسائر. وربما لا يزال القصف مستمراً وأنا أخاطبكم في هذه اللحظة بالذات.

هذا الاحتلال، وما رافقه من أحداث وتطورات، كلف لبنان غالياً، إلا إنه أيضاً كلف العالم أجمع، فما من دولة إلا ودفعت بشكل من الأشكال ضريبة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب.

أيها السادة،

كان لبنان ولا يزال بلداً محباً للسلام، شارك في تأسيس منظمة الأمم المتحدة، وترأس إحدى دورات جمعيتها العامة، وأسهم في تأسيس غير منظمة دولية أخرى وانطلاقها، ولا سيما منها محكمة العدل الدولية التي اشترك في عضويتها، كما شارك في وضع شرعة حقوق الإنسان.

لبنان بلد متمسك بالشرعية الدولية وبالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن وعن الجمعية العامة للأمم المتحدة وما إليها من أحكام القانون الدولي.

لبنان بلد يدعو إلى قيام نظام دولي جديد، تسوده مبادىء القانون ورفض العدوان وحل النزاعات بالوسائل السلمية.

إن لبنان يعلق أهمية أساسية على تنفيذ القرار 425، إذ إن اتفاق الهدنة لعام 1949 ما زال يحكم الوضع بينه وبين إسرائيل، وقد نصت المادة الثامنة منه على أن "يبقى هذا الاتفاق موضع التنفيذ حتى يتوصل الطرفان إلى حل سلمي".

لهذه الأسباب جميعها، سعى لبنان وما زال لتطبيق القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن في 16/3/1976 والذي يدعو "إلى الاحترام الدقيق لسلامة أراضي لبنان وسيادته واستقلاله السياسي ضمن حدوده الدولية المعترف بها، ويدعو إسرائيل إلى أن توقف عملياتها العسكرية ضد سلامة أراضي لبنان، وأن تسحب فوراً قواتها من كل الأراضي اللبنانية". وأقام القرار قوة موقتة تابعة للأمم المتحدة لجنوب لبنان من أجل تأكيد انسحاب القوات الإسرائيلية وتثبيت السلام والأمن الدوليين، ومساعدة حكومة لبنان على تأمين عودة سلطتها الفورية في المنطقة. وعلى رغم أن تطبيق القرار 425 قد لاقى عقبات حالت دون تنفيذه الفوري والكامل وغير المشروط التزاماً لحرفية نص القرار، وهي عقبات ناتجة من تمنع إسرائيل المستمر من تنفيذ القرار 425، فإن تلك العقبات لا تزيد لبنان إلا إصراراً على تطبيقه الحرفي.

ويرى لبنان في تنفيذ هذا القرار تحدياً وامتحاناً لصدقية المجتمع الدولي، كي يثبت جديته في التمسك بقراراته وفي إيجاد العناصر الضرورية لتنفيذها في روحيتها وحرفيتها. وفي تنفيذ ذلك القرار برهان ساطع على أن المجتمع الدولي لا يكيل بمكيالين، وأن ما يصح عن تمسكه بالقانون الدولي وبسيادة الدولة المستقلة على أراضيها غير محصور بمنطقة دون سواها ولا بحالة دون غيرها في العالم.

ويهمني في هذا المجال، تذكيركم بأن لبنان كان أولى الدول العربية على الإطلاق في التنديد بالعدوان الذي وقع على الكويت، ولم يراوغ لبنان لحظة في موقفه خلال أزمة الخليج كلها، وبنى موقفه هذا استناداً إلى مبدأ سيادة الدول واستقلالها، وإنْ كان صعب عليه أن يطبق القانون الدولي قسراً على دولة عربية شقيقة ولو معتدية.

وتود الحكومة اللبنانية التأكيد أمامكم أنها، وهي تتمنى لهذا المؤتمر النجاح الكامل، لن تألو جهداً في السعي إلى تطبيق القرار 425 أياً كان مسار هذا المؤتمر، وأياً كانت نتائجه النهائية.

لقد أبلغنا إلى الدولتين الداعيتين لهذا المؤتمر، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أن قبولنا الدعوة إليه مبني على هذا الموقف. وأود الإشادة هنا بالدعم الذي لقيناه لموقفنا هذا لدى الكثير من الدول الصديقة، ولا سيما منها الولايات المتحدة الأميركية، التي أعلمتنا خطياً بموقفها الثابت من أن التطبيق الكامل للقرار 425 لا يتوقف على حل شامل في المنطقة ولا يرتبط بها، ولو أن حلاً كهذا من شأنه تعزيز السلام والاستقرار في لبنان.

إن القرار 425 هو قرار مستقل متكامل يتضمن آلية ذاتية مفصلة لتنفيذه، لا يرتبط بأي شكل من الأشكال بالمساعي القائمة لتطبيق القرارات الدولية المتعلقة بموضوع الأراضي العربية المحتلة سنة 1967 ولا سيما منها القرارين 242 و338.

وإننا إذ نتمنى لهذه المساعي النجاح السريع والكامل، نؤكد أن لبنان معني في الدرجة الأولى بتحرير أراضيه كاملة. ولبنان الذي لا يقبل من القرار 425 بديلاً، يتوقع أن تسهم مساعي السلام وبشائر النظام الدولي الجديد في إزالة العقبات من أمام تنفيذ هذا القرار، بل أن تحسم نهائياً أشكال التلكؤ في تنفيذه.

وعند تنفيذ هذا القرار سيلتزم لبنان التزاماً أكيداً ضبط الأمن على حدوده الدولية المعترف بها، فلا يفسح في المجال لأية خروقات أمنية وعندئذ ينتفي المبرر لأعمال مقاومة الاحتلال.

أما الحدود نفسها، فهي مرعية بالقرار 425 المستند إلى اتفاق الهدنة لسنة 1949، وهي حدود معترف بها دولياً وليست في أي شكل من الأشكال موضوع تفاوض.

أيها السادة،

يقع لبنان في منطقة الشرق الأوسط، وقد احتضن أفكارها وعقائدها ودياناتها وفلسفاتها، كما تأذى من النزاعات التي عصفت بها، وقد يكون اللبنانيون بالتالي أكثر إدراكاً من أي كان، وبلدهم ملتقى الشرق والغرب، وعلى حافة البر والبحر، أن لا سلام حقيقياً في المنطقة إلا السلام الشامل لكل شعوبها ولكل بقاعها. فلن ينعم شعب من شعوب هذه المنطقة بالسلام وعلى تخومه براكين مشتعلة وشعوب مظلومة وحقوق منتهكة.

ولبنان العضو المؤسس والفاعل في جامعة الدول العربية، ملتزم القضية العربية، ولا سيما قضية الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير وعودته إلى أرضه وتحرير الأراضي العربية المحتلة بما فيها القدس وتحقيق السلام العادل في المنطقة.

ويهم لبنان أن يؤكد تضامنه مع الموقف العربي الرامي إلى تنفيذ قراري مجلس الأمن الرقم 242 و338، وهما القراران اللذان يشكلان القاعدة الأساسية لعقد هذا المؤتمر بالمعنى المتعارف عليه، أي الأرض في مقابل السلام.

إن الاستمرار في سياسة الاستيطان لا بد وأن ينعكس سلباً على كل الجهود الآيلة إلى تحقيق السلام في المنطقة.           

إن المشكلة الفلسطينية هي لب النزاع في الشرق الأوسط، فحلها حلاً عادلاً وشاملاً من شأنه أن يسمح لهذه المنطقة أن تنعم بما تستأهله من استقرار وأمن وطمأنينة، وهذا ينطبق بالذات على وطننا لبنان، وهو الذي تكبد أغلى الأثمان من جراء تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه.

وقد كان لبنان بالذات هدفاً لاجتياحين إسرائيليين كبيرين سنتي 1978 و1982، وقد خلفا أضراراً هائلة في الأرواح والممتلكات، ويؤسفني تذكيركم بأن الاعتداءات الإسرائيلية على وطني لبنان لم تتوقف بل إنها كانت تتواصل حتى الأمس وربما في هذه اللحظة وأنا أخاطبكم.

إن لبنان بمساحته الصغيرة، وهي لا تتجاوز الـ 10452 كيلومتراً مربعاً، وبتركيبته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبتواضع ثرواته الطبيعية، قد تمكن بصعوبة من استضافة المهجرين الفلسطينيين، وذلك في انتظار حل لقضيتهم، إلا إنه لن يتمكن من تأمين مقومات العيش الكريم وضروراته ولا الاحتواء النهائي لهؤلاء من غير أن ينعكس ذلك سلباً على وضعه الداخلي ويفجر النزاعات والصراعات حول مستلزمات الحياة على أرضه في ميادينها الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية وحتى السياسية.

لذلك، إن لبنان يحذر من محاولة حل مشكلة الشعب الفلسطيني عبر توطين أبناء هذا الشعب على أرض ضيقة ذات نسبة سكان عالية، وضمن تركيبة دقيقة وحساسة، قد تجعل التصارع على البقاء أمراً خطيراً، كما أنها لا تعيد فلسطين إلى أهلها، بل قد تؤول إلى فقدان لبنان.

إن مشاريع التوطين تتجاهل انتماء الشعوب وتعلقها بأرضها في هذه المنطقة حيث الأرض هي أصل الهوية، وحيث حب الأوطان من الإيمان، وحيث يرتبط الأصل بالأرض.

إن للأرض في معتقد كلا الشعبين اللبناني والفلسطيني وفلسفتهما أسوة بإخوتهما العرب، ارتباطاً وثيقاً بالهوية والتراث والأصالة والعراقة، وإن أي تنازل عن هذا الأصل سيبقى إلى الأبد في أذهان هذه الشعوب مبرر حقد وإحباط وثورة.

ويزيد الأمر تفاقماً اقتلاع مواطنين من أوطانهم الأصلية ومسقط رأسهم تحت شعارات مختلفة غير واقعية، وفصلهم عن مناخ أرضهم وثقافتهم والتراب الذي زرعوا والمنجزات التي شيدوا حيث ولدوا وترعرعوا، وحملهم على الهجرة من أراض شاسعة واسعة بمئات الألوف، ومن قارات بعيدة كل البعد من أجل توطينهم على أرض ضيقة موضع نزاع وقتال لم يتعرفوا إليها من قبل ولا تربطهم بها أي صلة واقعية، وعنيت دفع المواطنين السوفيات نحو الهجرة واقتلاعهم من مجتمعهم الطبيعي.

أيها السادة،

آن الأوان لتدخل منطقة الشرق الأوسط في صلب النظام الدولي الجديد.     

آن الأوان لتلمس شعوب هذه المنطقة معنى السلام والعيش الهنيء.

آن الأوان لكي تعود هذه المنطقة إلى أصالتها، حيث تعايشت فيها الأديان والحضارات والثقافات والشعوب بسلام.

آن الأوان لتفجير طاقات الأفراد والجماعات في سبيل التنمية والازدهار.

آن الأوان لكي تصبح شعوب المنطقة عناصر فاعلة في النظام الدولي، بدل أن تكون عالة عليه ومصدر قلق لأعضائه.

آن الأوان لكي تكون هذه المنطقة قاعدة القانون الدولي وليس استثناء له.

آن الأوان لهذه المنطقة أن تعود معبراً للقارات، بدل أن تكون حاجزاً أمام تقاربها.

آن الأوان أن تعود شعوب هذه المنطقة ذات العراقة والتراث وتحتل موقعها التاريخي في تلمس آفاق البشرية ورسم توجهاتها.

آن الأوان لأن تتحرر شعوب هذه المنطقة من حال التعبئة القاسية الدائمة التي فرضت عليها والتي أجهضت نموها الطبيعي وجعلتها تفرط في قدراتها في سبيل الحروب والجيوش.

آن الأوان لكي يرتبط كل شعب من شعوب هذه المنطقة بمستلزمات نموها بدل الاتكال على مصادر البقاء الخارجية الظرفية وغير الثابتة.

آن الأوان لأن يعي الجميع أن ميزان القوى ليس إلا ظرفياً، وأنه قابل للتبدل.

آن الأوان لأن تُقتنص الفرص التاريخية وأن يحل التقويم الصحيح مكان التنظير العقيم.

إن أمام شعوب المنطقة، ونؤكد ذلك، فرصة تاريخية لن تتكرر دوماً. إن أمامها مناسبة حقيقية للخروج من التقوقع قد تطلبت الكثير من الظروف الاستثنائية والفريدة الملائمة، ومن الجهود الجبارة، لا بل من القدر ربما.

لقد أدى طول النزاع وحدته إلى تطبّع الناس بمنطق الشقاق والقتال، فتقوقعت الشعوب فيه. من هنا إن رهان أي قائد على السلام جدير بأن يقدر ويثمن ويدعم في مواجهة رفض الرافضين ومزايدات المزايدين.

فإذا أضعنا هذه الفرصة النادرة، وإذا فرطنا في شجاعة من قرر اقتناصها وقاوم إغراءات التطرف السهلة ونزعات العدوان والغرائز، لتحملنا مسؤولية التاريخ وستحاسبنا عليها أجيالنا المقبلة.

إن بديل النجاح في التوصل إلى السلام من خلال هذا المؤتمر، هذا البديل يدق أبوابنا جميعاً.

إنه يتجسد في الاقتناع الذي سيعم المنطقة بأن السلام مستحيل والانفتاح عقيم.

إنه يتجسد في الاقتناع الذي سيعم المنطقة بأن فشل هذا المسعى التاريخي سيقفل الباب أمام أي مسعى جديد في المدى المنظور.

إنه يتجسد في الاقتناع الذي سيعم المنطقة بأن التطرف السياسي أو الديني أو الطائفي هو السبيل الوحيد لمقاومة الظلم والإجحاف.

أيها السادة،

فلندعم رهان الحكماء والعقلاء، ولنسقط رهان اليأس والحقد والضغينة. ولبنان الخارج من جحيم الحروب المتداخلة على أرضه والعائد إلى سيادته وإلى عافيته وإلى دوره التاريخي، لبنان الحريص على إنجاح هذا المؤتمر وعلى إحقاق الحق، يقول لكم بكلمات بسيطة:

لا لتوازن قوى الرعب، نعم لتضافر قوى السلام.

لا للظلم والإخلال، نعم لاقتحام السلام.

أنار الله خطانا وألهمنا رؤياه والسلام عليكم.

 

المصدر: "النهار " (بيروت)، 1/11/1991.