كلمة وزير الخارجية الأردني رئيس الوفد الأردني - الفلسطيني المشترك كامل أبو جابر، مدريد، 31/10/1991
النص الكامل: 

[.......]

أيها السيدات والسادة

إن الأردن يشارك في هذا المؤتمر بكل نية حسنة إن رؤيتنا التي نحملها لا تتوقف عند حد وضع نهاية لحالة الحرب أو التوصل إلى هدنة أخرى بل تتعدى ذلك إلى سلام دائم وعادل وشامل فمنذ بداية القرن لم تعرف منطقتنا هذه سوى العنف وعدم الاستقرار وقد حان الوقت لكي تنعم بالسلام.

إن المطلوب ليس النظر بالبصر فقط بل والتمعن بالبصيرة كي نمكن أنفسنا من أن نرى المستقبل جيداً ونقيم النتائج المترتبة على غياب السلام فقد عاشت شعوب هذه المنطقة لأطول مما يجب أسيرة أحقادها التاريخية وشكوكها وتنافرها.

ومن هنا فإننا نسجل للرئيس بوش تقديرنا لمساعيه الحميدة ولما لقيته هذه المساعي من دعم من لدن الرئيس غورباتشوف آملين استمرار اهتمامهما ودعمهما الشخصي بل إننا نأمل أن ترتفع وتيرة هذا الاهتمام وهذا الدعم خلال عملية المفاوضات.

إننا نحضر هذا المؤتمر مستندين إلى موقف معنوي قوي مدعوم بسجل حافل بالاعتدال والرؤية الحكيمة منذ نشوء دولتنا في العصر الحديث ويمثل النزاع المأساوي الذي نحن بصدده أقدم موضوع تضمنه جدول أعمال هيئة الأمم المتحدة والذي بالرغم مما يبدو عليه وكأنه ذو طابع إقليمي فإن أبعاده الدولية كثيرة وجلية وعلى خلفية أزمة الخليج بشكل خاص يقف هذا النزاع ليضع على المحك وبشكل صارم لا مصداقية هيئة الأمم المتحدة فحسب بل مصداقية الأعضاء الخمسة الدائمين لمجلس الأمن وفي أعقاب حرب الخليج بالذات أخذ الرئيس بوش على عاتقه مهمة العمل الجاد من أجل حل المشكلة ونود في الحين ذاته التعبير عن تقديرنا لمشاركة الاتحاد السوفياتي في هذا الجهد وتقديرنا لدعم المجموعة الأوروبية وإنه لمن دواعي سرورنا أن يجد جهدنا في هذا المؤتمر قواعده في الشرعية الدولية الممثلة بقراري مجلس الأمن 242 و338 واللذين ينصان على مبدأ الأرض مقابل السلام.

صحيح أن معظم العرب رفضوا عام 1947 التفكير بالتسوية من منطلق غضبهم وشعورهم بالظلم والعقوق لكن صحيح أيضاً أنه كان في المنطقة عرب آخرون كانوا راغبين في التوصل إلى سلام.

ومنذ الثلاثينات والأربعينات بل وحتى يومنا هذا تركت الساحة للمتطرفين.

وفي خضم صراعات الأفكار والرؤى والجيوش التي تعاقبت منذ ذلك الوقت لم يعد للمنطق بل لم يعد للإنسانية ذاتها في الأغلب مكان داخل حدود الخيارات.

وتدهورت الحال ليصل الجميع إلى درك المجتمعات البدائية حيث حل استخدام القوة الغاشمة محل النهج المتحضر لقد حلت القوة محل الحق إن المملكة الأردنية الهاشمية التي لي الشرف في تمثيلها كانت ومنذ بداية النزاع إلى جانب كل مسعى استهدف حله بالطرق السلمية وقد ساهم جلالة الملك الحسين في صياغة قرار الأمم المتحدة الرقم 242 الأساس لهذا المؤتمر.

[.......]

أيها السيدات والسادة..

إن الأردن يدخل هذه العملية من موقع الاقتدار المعنوي ومن منطلق ثقته التامة بأن في وسع العقلاء الوصول إلى حلول معقولة وبأن العدل لا بد أن يسود بالنتيجة.. وبأن الصلح هو حقاً سيد الأحكام وأن منطق السلام يفرض تسوية الخلافات لا النزوع إلى الحرب. وخلاف ذلك فإننا قد نصبح في الحقيقة أصحاب بعد واحد مجردين من الجوهر والروح تدفعنا الغرائز البدائية لشريعة الغاب التي تقودنا بدورها إلى الهلاك.

علينا أن ننبذ حالة الخوف وأن نبتعد عن شبحه وندرك أن الدول شأنها شأن أبناء البشر يمكن أن تقدم على الانتحار نتيجة خوفها من الحياة إن المزيد من الأرض لا يعني مزيداً من الأمن فالاحتلال يتعارض مع كل مبدأ قانوني والشكل الذي أخذه الاحتلال في الأراضي العربية يتنافى مع أحكام ميثاق الأمم المتحدة واتفاقية جنيف الرابعة وعليه فإننا نقول إن مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات يخالفان أحكام القانون الدولي مخالفة صريحة.

إن العدالة التي يسعى الأردن إلى تحقيقها تتطلب اللجوء إلى القانون.. القانون الذي ينظم تصرفات البشر ويمنحهم الحرية كي يعيشوا أحراراً في عالم مستقر منظم يقوم على المؤسسات ويمكن أن يكفل عملية توزيع الأعمال والموارد وبذلك أيضاً يمكن أن تؤمن القدرة على البقاء والاستمرار في ظل من الحرية والأمن. إن تكنولوجيا الحرب قد تجاوزت إمكاناتنا لتقدير ما تحمله في ثناياها من أخطار ودمار وإلا كيف لنا أن نفسر مواصلتنا التفكير في أمننا بلغة القذائف الصاروخية والأسلحة النووية والبيولوجية والكيمياوية.. لا بد لمهمتنا أن تتجاوز القضايا التي تتعلق بمجرد البقاء فتتجه نحو البحث عن مستقبل جديد.

لهذا السبب بالذات ناشد جلالة الملك الحسين من خلال خطابه أمام المؤتمر الوطني بتاريخ الثاني عشر من تشرين الأول ـ أكتوبر من عام 1991.. ناشد المجتمع الدولي طالباً مساعدته ودعمه لعملية السلام حيث قال: "إن قضيتنا ليست بيننا وبين إسرائيل فقط، بل بين العالم وإسرائيل أيضاً. إنها بين سيادة القانون الدولي وبين التمرد عليه فالعالم كله لا يوافق على ما تقوله القيادة الإسرائيلية لأنه مخالف للشرعية الدولية.. بل إن نسبة متزايدة من الشعب الإسرائيلي تقترب من الموقف العالمي". وبعد أن أشار جلالته للتوجه العالمي نحو متطلبات السلام قال: "إن العرب وبقية شعوب العالم يلتقون في رغباتهم ومصالحهم المتبادلة من أجل الوصول إلى حل سلمي".

هذه هي القاعدة الأولى للموقف الأردني.. البحث عن سلام يؤيده العالم العربي بأكمله بل المجتمع الدولي بأسره والفلسطينيون بصورة خاصة. إن لدى الفلسطينيين ولدينا قضية عادلة لا بد من حلها بعدالة وإنصاف.

أما القاعدة الثانية التي انطلقنا منها نحو مشاركتنا في عملية السلام فتقوم على توقعنا بأننا لن نواجه حالة من عدم التناسق والمقاييس المزدوجة.

وتتمثل القاعدة الثالثة في أن قضيتنا وقضية إخواننا الفلسطينيين قضيتان مترابطتان بحكم أواصر التاريخ والتراث والدين واللغة والديموغرافيا والجغرافيا.. مثلما هما متشابكتان بالمعاناة الإنسانية والأماني القومية فقد قال جلالة الحسين كلمته المشار إليها آنفاً: "إننا نفضل أن يكون هناك وفد فلسطيني مستقل برغم عدم اعتراضنا على توفير مظلة لإخواننا الفلسطينيين انطلاقاً من إدراكنا أن الأردنيين والفلسطينيين محاصران وهما الفريقان المتأثران مباشرة وبشكل سلبي من استمرار الأمر الواقع الناجم عن استمرار النزاع العربي ـ الإسرائيلي".

رابعاً ـ إن السلام الذي ننشد لا بد أن يتحقق على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338 والهدف من ذلك هو الوصول إلى سلام حقيقي ولا بد لنا من التأكيد على أن فهمنا للقرار 242 أنه ينبثق عن مبدأ عدم جواز احتلال أراضي الغير بالحرب فالمداولات التي سبقت اتخاذ القرار والتي ساهم الأردن في وضعها كانت مبنية على هذا الأساس وموقفنا هذا يستند بشكل حازم على قرارات هيئة الأمم المتحدة والقانون الدولي وبطبيعة الحال فإننا على بينة تامة من أن قيام دولة إسرائيل نفسها إنما جاء نتيجة لقرار الأمم المتحدة رقم 181 في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني ـ نوفمبر عام 1947 وعلى أساس هذه القرارات وطبقاً للمبادئ العامة للقانون الدولي يطالب الأردن بانسحاب القوات الإسرائيلية الكامل من كافة الأراضي الأردنية والفلسطينية والسورية واللبنانية المحتلة.

إن الأبعاد الثلاثة للموقف الأردني وهي البعد الأردني والبعد الفلسطيني والبعد الإقليمي تستند جميعها إلى القانون الدولي فالقرار 242 هو وثيقة دولية نافذة تم الاتفاق عليها بالإجماع من قبل المجتمع الدولي وهي بذلك ملزمة لجميع أعضاء الأمم المتحدة بموجب أحكام المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة والسيادة العربية يجب أن تعود إلى القدس العربية وفي إطار الحديث عن السلام لا بد وأن تمثل القدس بالنسبة لمن يدينون بالأديان التوحيدية الكبيرة الثلاثة جوهر السلام ومعناه فإرادة الله تعالى هي التي شاءت أن تكون لهذه المدينة التاريخية تلك الأهمية الكبيرة لدى أتباع هذه الديانات.

أما المستوطنات غير شرعية فينبغي إزالتها لا توسيعها والإضافة لها مثلما ينبغي حل قضية اللاجئين الفلسطينيين المشردين بموجب قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة ويجب أن يسمح للفلسطينيين بممارسة حقهم في تقرير المصير في وطن أجدادهم ويمثل تحقيق هذه المطالب اختباراً لمصداقية قرارات الأمم المتحدة ودعوني أتحدث بوضوح أن الأردن لم يكن أبداً فلسطين وهو ليس كذلك الآن إن الانسحاب من لبنان وتطبيق قرار مجلس الأمن 425 هو أيضاً مطلب ضروري لتحقيق سلام إقليمي.

خامساً ـ السلام الذي ننشده نتيجة المفاوضات هو سلام دائم وعادل وشامل إنه السلام الذي ينبغي أن يركز على عدد من القضايا الإقليمية مثل الحد من التسلح والأمن الإقليمي والمستوطنات والمياه والبيئة ومصير اللاجئين والمشردين الفلسطينيين وتحقيق التوازن الاقتصادي بين شعوب المنطقة من خلال برامج تنمية مشتركة لا بد أن يستهدف السلام تحقيق الأمن للجميع كي يشعروا في أعماق قلوبهم ونفوسهم بأنهم في منأى عن التهديد والأخطار طالما أن السلام الذي يوفر ذلك يرتكز على العدالة والشرف.

سادساً ـ ويقوم موقفنا كذلك على ما لدينا من رؤية تجاه مستقبل أفضل من شأنه أن يضع نهاية لما هو قائم حالياً من مرارة وإحباط وعلى حد تعبير جلالة الملك الحسين من أجل "أن يمكننا من تحويل هذه المعطيات إلى إيجابيات تنقلنا من حال المزاج المكتئب النابض بحس النكبات إلى حال المزاج المزدهي بالأمل والانفراج ومن حالة المجابهة وما رافقها لما يزيد عن أربعة عقود من معاناة وقلق وآلام وما طبع حياتنا الفردية والجماعية خلالها من مواقف وعواطف ونمط تفكير إلى حال السلام وما يعد به من أمن واستقرار وفرص نماء وازدهار على صعيد الفرد والمجتمع سواء بسواء ومن حالة اللاحرب واللاسلم وما يرافقها من استمرار الواقع وازدياد شروره الأكيدة إلى حال الاطمئنان وراحة البال التي تزدهر فيها مواهب وآمال الشباب" إننا ننشد سلاماً حقيقياً لا يضطر معه الرجال والنساء والأطفال إلى الانزواء خوفاً وراء الحصون إننا نسعى إلى تحقيق سلام مشرف من شأنه تمكين شعوبنا من هدم أسوار الخوف والكراهية مثلما فعل الناس بجدار برلين ونرغب في أن تحيا شعوبنا فجراً ندياً وأن تستمتع بدفء يوم جديد بدلاً من استمرار معاناتها تحت قسوة ظلمة الليل الطويل الذي شاءت الظروف أن يكون هو نصيبها حتى الآن.

أيها السيدات والسادة..

إن الأمل يحدونا بأن يقدر العالم موقفنا ويمنحه الدعم والتأييد وهو الموقف المستند إلى تجربتنا السلمية الليبرالية في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وإلى تجربة تستحق الدعم في مسيرتها التقليدية المتصلة نحو بناء الديمقراطية والمؤسسات وصولاً للتعددية السياسية.

إن الاختبار الذي نواجه ذو طبيعة محلية وعالمية في آن معاً حيث إن أزمتنا الاقتصادية الراهنة ما زالت تتفاقم وقد وجدنا أنفسنا مضطرين إلى استيعاب موجة المهجرين الثالثة الناجمة عن أزمة الخليج إن هذا الاختبار في الحقيقة هو تحد للسلام.

إن أملنا لكبير في أن يتجه مؤتمر السلام هذا نحو إيجاد حل لكل هذه المشكلات ذات الأهمية البالغة حل من شأنه أن يوصلنا ليس فقط إلى انسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك القدس العربية بل أيضاً إلى رسم الحدود الإسرائيلية بشكل دائم وأخيراً إلى سلام حقيقي.

لقد أقدمنا على هذه الخطوة الشجاعة التي تلزمنا بانتهاج أسلوب تفكير خلاق نأمل معه أن يحمل إلى منطقتنا الاستقرار والرخاء إن أطراف النزاع من كلا الجانبين تعاني من كثرة ذكرياتها حول ما مسّ تراثها الحضاري من جروح وعلينا أن نحاول بشكل ما تحقيق التغيير المطلوب.

لا يمكننا بعد الآن مواصلة العيش في شرنقتين متناقضتين في إطار رقعتنا الصغيرة من الأرض ذات الموارد المحدودة وهناك الكثير من التزمت العقائدي الذي يقف حجر عثرة أمام حياة راشدة ومعقولة ولا بد أن نوضح لأولئك الذين يواصلون التفكير بلغة المطلق بأن للتاريخ امتداداً زمنياً لا حدود له أما البشر فإنهم ليسوا خالدين وأن جراح حضاراتنا ليست هي الوحيدة التي تتطلب الشفاء فهناك أيضاً جراح الأرض التي نشأت عن زحف الجيوش وعن قرع طبول الحرب فالأرض هي الأخرى بحاجة إلى المعالجة والترميم هناك حدود لممارسة القوة ولعل الوقت قد حان ليس فقط لمعالجة الآلام الذهنية والنفسية بل أيضاً لردم الخنادق المحفورة عميقاً في الأرض وهذا بلا ريب يتطلب منا الصبر والمثابرة يتطلب حكمة أعمق بكثير من مجرد الذكاء.

ولعله من المناسب ـ أيها السيدات والسادة ـ أن أختتم كلمتي بقوله تعالى في القرآن الكريم "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" صدق الله العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

المصدر: "الرأي" (عمان)، 1/11/1991.