نقاشات سياسية وحوارات في شأن مستقبل الانتفاضة
كلمات مفتاحية: 
منظمة التحرير الفلسطينية
حرب الخليج 1991
الانتفاضة 1987
الضفة الغربية
قطاع غزة
نبذة مختصرة: 

مع انتهاء الحرب في الخليج دخلت منطقة الشرق الأوسط مرحلة جديدة من تاريخها، ومعها القضية الفلسطينية والوجود الفلسطيني ككل. ففي الأراضي المحتلة، ما أن انتهت الحرب وبدأ الفلسطينيون يستفيقون من صدمة نتائجها حتى بدأ نقاش في شأن إعادة تقويم المرحلة والاستفادة من الأخطاء وتصحيح عدد من الأمور، لمنع تكرار مأساة أخرى كمأساة حرب الخليج. وكان من الطبيعي أن يبدأ النقاش في شأن منظمة التحرير الفلسطينية بعد الضربة التي تلقتها، وكيفية المحافظة على المنظمة أمام محاولات الالتفاف عليها وشطبها من القاموس السياسي للمنطقة. وتفجر أيضاً نقاش آخر أهم من سابقه وأكثر إلحاحاً منه في شأن مصير الانتفاضة ومستقبلها، وفي شأن حاضرها وما آلت اليه بعد ثلاثة أعوام ونصف العام.

النص الكامل: 

             مع انتهاء الحرب في الخليج دخلت منطقة الشرق الأوسط مرحلة جديدة من تاريخها، ومعها القضية الفلسطينية والوجود الفلسطيني ككل. وكان على الفلسطينيين، في فترة ما بعد الحرب، أن يواجهوا واقعاً جديداً، سواء من كان منهم داخل الأراضي المحتلة أو في دول المنطقة العربية. واختلفت ردة الفعل على هذا الواقع الجديد بين الداخل والخارج، بحكم التحديات والأوضاع المحيطة بالوجود الفلسطيني أينما كان.

              ففي الأراضي المحتلة، ما إن انتهت الحرب وبدأ الفلسطينيون يستفيقون من صدمة نتائجها، التي جاءت مخالفة تماماً لآمالهم وتوقعاتهم، حتى بدأ نقاش لمنع تكرار مأساة أخرى كمأساة حرب الخليج؛ والأهم من ذلك، لمواجهة نظام عربي ودولي جديد أصبح يشكل خطراً على القضية الفلسطينية بمختلف جوانبها، مع محاولة تصدير هذا النقاش إلى الخارج.

وكان من الطبيعي أن يبدأ النقاش في شأن منظمة التحرير الفلسطينية بعد الضربة التي تلقتها، وكيفية المحافظة على المنظمة أمام محاولات لا للالتفاف عليها فحسب، بل ايضاً لشطبها من القاموس السياسي للمنطقة. فاقترح البعض من الداخل أن تأخذ المنظمة زمام المبادرة، استعداداً للمرحلة التي كان من المؤكد في حينه أنها ستشهد تحركاً ما لتسوية القضية الفلسطينية، وذلك عن طريق طرح تصوراتها الخاصة للحل الذي تراه بصورة تختلف عن طرح سنة 1988، وكي لا تكون الطرف المتلقّي لتصورات الآخرين فتتصرف من منطلق ردة الفعل فقط. ووسط هذا النقاش خرجت دعوة إلى حل المجلس الوطني الفلسطيني وإجراء انتخابات جديدة تشمل الأراضي المحتلة وتفرز عناصر جديدة ممثلة لها في المجلس. ورأى البعض في اقتراح الانتخابات هذا، محاولة لفرز ممثلين فلسطينيين من داخل الأراضي المحتلة من أجل إعادة فرض منظمة التحرير بقوة على الساحتين العربية والدولية، وأكثر من ذلك لإدخالها في الوعي الإسرائيلي.

ووجدت الدعوة إلى إجراء تلك الانتخابات مؤيدين ومعارضين دخلوا في نقاش جدي تكمن أهميته في أنه الأول من نوعه في الأراضي المحتلة. وكان من الطبيعي أن يخرج البعض بمبادرات شخصية وطرح تصورات لحل القضية الفلسطينية نالت نصيبها من النقاش. لكن المقترحات الأميركية التي جاءت نتيجة حرب الخليج طغت على الصعيدين الدولي والعربي، وبالتالي الفلسطيني. وجاءت جولات بيكر المكوكية في المنطقة وتفاعلات الدول العربية مع اقتراحه عقد مؤتمر إقليمي للسلام، وبدء مسيرة تقوم أساساً على مسارين لحل الصراع الشرق الأوسطي، أحدهما عربي والآخر فلسطيني، لتجعل التسوية الأميركية التسوية الوحيدة المطروحة. ولم يجد الفلسطينيون خياراً سوى التفاعل بدورهم مع مقترحات بيكر ومحاورته خشية استبعادهم من الصورة، مع محاولة انتزاع مواقف لمصلحة الحقوق الفلسطينية في الحل المطروح.

وبينما كانت الاجتماعات الاستكشافية مستمرة مع وزير الخارجية الأميركي، جيمس بيكر، تفجر نقاش آخر في الأراضي المحتلة أهم من سابقه وأكثر إلحاحاً منه في شأن مصير الانتفاضة ومستقبلها، وأكثر  في شأن حاضرها وما آلت إليه بعد ثلاثة أعوام ونصف العام. وكانت الانتفاضة دخلت مرحلة حرجة وعصيبة، وباتت مهددة من الداخل عندما تعالت أصوات وعقدت ندوات للحديث عن وقف سلبياتها، لأول مرة بصورة علنيه وعلى الملأ "لإنقاذها من نفسها" – كما قال البعض. وهذا، في وقت كانت سلطات الاحتلال تستغل كل ظاهرة سلبية فيها، وإنْ كانت طبيعية، من أجل توجيه ضربة إليها على أمل أن تكون تلك الضربة هي القاضية في كل مرة.

كان المحرك الأساسي لعملية نقد ظواهر سلبية في الانتفاضة، هو الوضع المأساوي الذي وصل المجتمع الانتفاضي إليه بسبب تراكمات أعوام من الانتفاضة من جهة، وعدم التصدي بصورة جيدة وفعالة لعمليات تخريب هذا المجتمع المنتظمة على يد سلطات الاحتلال، فتراجع المستوى التعليمي أعواماً إلى الوراء، وانحصرت فعاليات الانتفاضة في فئة ضئيلة من الناس، وظهر تسيّب في الشارع الفلسطيني الذي أصبح يفتقر إلى سلطة تضبط تصرفات هذه الفئة في وقت دخلت الانتفاضة مرحلة الرتابة بالنسبة إلى كثرة من الناس، وألقت نتائج حرب الخليج بثقلها الاقتصادي على الضفة الغربية وقطاع غزة. وعلى الرغم من محاولة السلطات الإسرائيلية بإعلامها استغلال  النقاش نفسه في شأن الانتفاضة من أجل ضربها عن طريق شن حرب نفسية، فإن ذلك لم يمنع الفلسطينيين من مواصلته حتى نهايته، مع الأخذ بعين الاعتبار التوعية الداخلية للتفريق بين نقد ذاتي صحي وبين عملية تشويه النقد وتصوير ديمقراطية النقاش أنها خلاف هدّام.

*    *   *

قامت صحيفة "الفجر"، التي تصدر في القدس الشرقية المحتلة، بدور مهم في إطلاق الحوارات على صفحاتها؛ وهي الصحيفة المؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية ولرئيسها. وتميزت تلك الحوارات والنقاشات المكتوبة بأن كتّابها ليسوا من الوجوه الإعلامية البارزة التي اعتادت الصحافة، ولا سيما الغربية، تقديمها على أنها "قيادة" الانتفاضة أو محلّلوها والمنظّرون لها. فقد جاءت المقترحات المختلفة من قبل صحافيين شبان من الجيل الذي عرف سجون الاحتلال وزنزاناته في نهاية السبعينات وخلال الثمانينات، كما جاء معظم المؤيدين والمعارضين لتلك المقترحات من الجيل نفسه.

كان أول من طرح فكرة إجراء انتخابات جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني أحد المحررين في الصحيفة، ويدعى راضي الجراعي. وتميزت دعوته تلك بعرض واقعي لحقيقة الوضع الفلسطيني والعربي والدولي بعد حرب الخليج، في وقت لم يكن فلسطينيو الداخل قد استفاقوا كلياً من صدمة نتائج الحرب ولا اعترفوا بصورة موضوعية بالخاسر والرابح من تلك الحرب. فكتب الجراعي، في آذار/مارس 1991: "إن الهزيمة  العسكرية التي لحقت بالعراق أخلت بميزان القوى في المنطقة لصالح إسرائيل وبالتالي فقد تبدد خوفها من حرب مكلفة ولم يعد هناك أي عامل ضغط استراتيجي يحملها على التخلي عن الأراضي المحتلة (...) والولايات المتحدة ثبّتت أقدامها في المنطقة وأصبحت القوة الوحيدة المقررة على ساحة الشرق الأوسط (...) والموقف الأوروبي أصبح مرتبطاً بشكل أشد أكثر من أي وقت مضى بالموقف الأميركي بسبب سيطرة أميركا على منابع البترول في الخليج وأصبح وزن الاتحاد السوفياتي وحجم تأثيره في المنطقة معادلاً للصفر." وعن الوضع الفلسطيني ما بعد حرب الخليج، كتب: "بالنسبة لنا كفلسطينيين فقد تلقينا ضربة سياسية نتيجة هزيمة العراق أدت إلى ضعف موقف م ت ف على الصعيد الدولي ولم يبق في أيدينا سوى ورقة الانتفاضة."

وبرر الجراعي دعوته بأن "علينا كشعب فلسطيني في الأرض المحتلة وخارجها جماهير وقيادة أن نأخذ زمام المبادرة بأيدينا وأن نتخذ خطوات عملية من أجل دفع قضيتنا إلى الأمام وحتى نسحب البساط من تحت أي حل أو خطة تهدف إلى تكريس الاحتلال وتفريق الشعب الفلسطيني إلى داخل وخارج وإلى مؤيد لـ م ت ف وغير مؤيد." ثم فصّل اقتراحه في أربع خطوات، هي:

"ان يتم حل المجلس الوطني الفلسطيني الحالي وإعادة صياغته من جديد بحيث يتم التمثيل النسبي للجزء من الشعب الفلسطيني الذي يعيش في الضفة الغربية والقطاع تحت رعاية الأمم المتحدة من أجل إفراز العدد المقرر لعضوية البرلمان الفلسطيني ليصبح ممثلاً لكافة تجمعات الشعب الفلسطيني ويعبر عن وحدته في كافة أماكن تواجده. وفي حال حصول أية مفاوضات فإن أي مشارك فيها يمثل المجلس الوطني وبالتالي م ت ف أو الدولة الفلسطينية. وثانياً يتم تشكيل حكومة مؤقتة أو في المنفى بحيث تضم في عضويتها أعضاء من الضفة والقطاع المنتخبين في المجلس. وثالثاً يتم الإشراف على المؤسسات الوطنية في الضفة والقطاع سواء الصحية، الاجتماعية، التعليمية، الدينية من قبل تلك الحكومة. ورابعاً يتم إعلان الاستعداد للتفاوض مع إسرائيل على أساس قرارات الأمم المتحدة من أجل إحلال السلام في المنطقة (...) وإجراء حوار مع الأردن من أجل عقد اتحاد كونفدرالي معه بعد الحصول على الاستقلال."

ما من شك في أن اقتراح الجراعي عبّر عن شجاعة في طرح موضوع انتخابات المجلس الوطني، في وقت لم يكن في الإمكان التعدّي على صلاحيات منظمة التحرير على اعتبار أن أي نقد كان يُعتبر أنه تعد عليها. وعلى الرغم من أن المطالبة بممارسة حق ديمقراطي هي أمر مشروع، فإن المشكلة التي اصطدمت دعوة الجراعي بها هي التوقيت الزمني؛ إذ جاءت وسط الحديث عن الحكم الذاتي، وسعي إسرائيل لفرضه، وفهم منها أنها دعوة إلى تولي مؤسسات الحكم الذاتي من خلال دعوة إلى الإشراف على المؤسسات الوطنية من قبل أن تفرزهم الانتخابات في وقت يصرّ الجميع، وبينهم الجراعي، على أن منظمة التحرير هي ممثل الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، وهي أعلى سلطة مسؤولة عن الفلسطينيين. لكن دعوته كانت، في نظره، جزءاً من الإعداد للدولة، وبالتالي لم يرها خطراً على المنظمة باعتبار أن المنظمة نظرياً ستختفي عند تحقيق الدولة الفلسطينية. كما رأي في اقتراحه حلاً للانتقادات التي يوجّهها الشارع الفلسطيني إلى ما عُرف بـ"الشخصيات" وإلى صفتهم التمثيلية التي منحتهم إياها منظمة التحرير لا الجمهور. هذا، إضافة إلى تخوف من أن من يعيَّن ممثلاً لا يتحمل، كَمَنْ يُنتخب، مسؤولية تجاه الشارع وتجاه من انتخبه.

وكان بين الذين انتقدوا اقتراح الجراعي من اعتبر أن الخلاف في شأن إجراء انتخابات أو عدم إجرائها مثل "الخلاف على الرسن أي شكل الحبل وطوله وسمكه قبل أن نشتري فرساً ونحدد لون وطول وشكل الفرس الذي نريد"، وأن "الاختلاف الآن حول طول الرسن هو الدخول في متاهات جديدة وليست اجتهادات جديدة."

وكتب ناقد آخر أن "إجراء انتخابات تشريعية في ظل ظروف دولية وإقليمية معقدة جداً قد يؤدي فقط إلى الطعن بشرعية المجلس الوطني، أعلى سلطة قانونية ودستورية في م ت ف.." واعتبر الكاتب ذاته "أننا بحاجة أكثر من أي وقت مضى لإجراء عملية ديمقراطية واسعة في مؤسساتنا التي تعتمد نظام الاقتراع المباشر، إذ إن العديد من المؤسسات البلدية والغرف التجارية والنقابات العمالية والمهنية واتحادات الطلبة لا زالت العملية الديمقراطية فيها معطلة لأسباب موضوعية وذاتية." وانتقد أيضاً الدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة للمجلس الوطني رئيس بلدية طولكرم، حلمي حنون، وهو عضو في المجلس الوطني منذ سنة 1964. يقول حنون: "إن الدعوة لانتخابات في الضفة الغربية وقطاع غزة فيها إضعاف لمنظمة التحرير خصوصاً بعد حرب الخليج وما حصل فيها وفي وقت تحاول أميركا وإسرائيل أن تشكك بالمنظمة وتقومها على أنها مهلهلة ومنهارة." ويضيف حنون قائلاً أنه "لو "كانت الانتخابات ممكنة في الداخل والخارج لرحبنا فيها جميعنا ولكن ذلك صعب للغاية. فهل تسمح مثلاً الكويت وسوريا والأردن أن ينتخب الفلسطينيون في بلادهم أعضاء للمجلس الوطني؟"

يقول الجراعي: "كنت أتوقع جدلاً حول اقتراحي ولكن ما كان يهمني أكثر هو أن يقدم الناس على التفكير ومناقشة الفكرة الجديدة في الشارع حتى تتبلور نتيجة معينة لهذا النقاش إذ يجب أن يشارك الناس في الحوار حول إفراز هيئات تمثيلية. وقد أثارت تلك القضية الحديث عن الديمقراطية وحركت الناس في اتجاه التفكير في أهمية الديمقراطية وفي تطبيق الممارسات المتعلقة بها مثل الانتخابات حتى لو كانت لغرف تجارية أو نقابات."

ولم يجد الجراعي في دعوته أي خطر على الانتفاضة، باعتبار أن مسألة الانتخابات طُرحت "لمواجهة مرحلة سياسية الانتفاضة ليست معزولة عنها ولم تطرح أبداً كبديل عنها. ولكن عندما يجري الحديث عن مصيرنا السياسي نجد أنفسنا أمام خيارين: فإما أن نخوض المعركة السياسية وإما أن نتفرج عليها. وإذا اخترنا الأول فيمكن أن يصب في خانة الانتفاضة ويمكن للانتفاضة بدورها عن طريق تصعيدها أن تساعد في فرض هذا الخيار. أما إذا اخترنا موقع المتفرج فإن ذلك يؤدي بدون شك إلى إحباط لدى الجماهير."

وعلى الرغم من ذلك فإن الجراعي لم يكن واهماً في شأن رد إسرائيل، وكان رفضها متوقعاً في حال قبل الفلسطينيون بهذا الاقتراح. لكنه، كما يقول، جاء "لمواجهة طرح سياسي معاد بحيث يضع إسرائيل في الزاوية ويضع رفضها في موقع الاتهام."

يقول حنا سنيورة، الذي ساند دعوة الجراعي وفتح صفحات جريدته "الفجر"، التي يرئس تحريرها، للمؤيد والمعارض معاً: "كان من الضروري أن تأتي هذه الدعوة في المرحلة الصعبة أساساً فالصعوبة من المنطلق السياسي تعني ضرورة المواجهة ودراسة الصعاب المطروحة والعمل الجدي على تذليلها بالوسائل والأساليب التي تتيحها الديمقراطية الفلسطينية. ومع الوعي الذي رافق المتغيرات السياسية الإقليمية والدولية ومع الإدراك العميق للواقع الذي تفرضه الانتفاضة في وطننا المحتل وخصوصاً في سنتها الرابعة تعززت لدينا الدوافع والمبررات لهذه الدعوة ففتحنا صفحات 'الفجر' لدعم فكرة الانتخابات أو ضدها على حد سواء مسترشدين بالوعي الوطني العام الذي نضج في غمار الانتفاضة على أساس من الوحدة الوطنية التي لا يجوز لها أن تكتم الصوت المعارض في الوقت الذي نؤسس أنفسنا فيه على حماية وترسيخ هذه الوحدة في إطار منظمة التحرير."

وفي غمار الحديث عن الانتخابات، تقدم عدد من تجار مدينة الخليل في الضفة الغربية بطلب إلى السلطات الإسرائيلية للسماح لهم بإجراء انتخابات للغرفة التجارية في المدينة، التي تحولت خلال 24 عاماً من الاحتلال إلى مؤسسة غير فعالة، بعد أن منعت السلطات إجراء انتخابات جديدة لهيئتها الإدارية طوال تلك الأعوام. وينطبق وضع غرفة تجارة الخليل على الغرف التجارية في الأراضي المحتلة كافة. ولأن إجراء انتخابات، أياً تكن، في الضفة الغربية وقطاع غزة يتمشى مع سياسة وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه آرنس، التي تهدف إلى تطبيع الحياة في الأراضي المحتلة، وكأن الانتفاضة انتهت، وافقت سلطات الحكم العسكري على السماح بإجراء تلك الانتخابات، ومنها انتقلت إلى المدن الفلسطينية كافة.

ولم تعارض الفصائل الفلسطينية، التي تشكل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، تلك الانتخابات، وأبدت تفهماً لحاجة التجار إلى جسم مهني يدافع عن حقوقهم ويعبّر عن حاجاتهم، سواء داخل المدن أو على الصعيد الخارجي، أو حتى مع السلطات الإسرائيلية. ودعت إحدى النشرات السرية للانتفاضة إلى "تحويل مخطط الاحتلال لإيجاد هيئات تمثيلية منتخبة ضده عن طريق تبني موقف خوض الانتخابات للغرف التجارية وفق تكتيك هجومي وتحويل الغرف التجارية إلى مراكز تجار وطنية بنفس المحتوى والأهداف والبرامج الموجهة لنضالات التجار في مواجهة السياسة القمعية وسياسة النهب الضرائبي ومحاولات ضرب الإنتاج الوطني والسوق المحلية."

وفي المدن التي جرت تلك الانتخابات فيها، لم تحاول السلطات التدخل في قوائم المرشحين أو المنتخبين، وبدأت الهيئات الإدارية المنتخبة مزاولة أعمالها عن طريق إجراء اتصالات بالسوق الأوروبية المشتركة وجهات خارجية أخرى من ناحية، وتقديم لوائح طلبات إلى سلطات الاحتلال لخفض الضرائب المفروضة على التجار والسماح لهم بتسويق سلعهم بحرية من ناحية أخرى.

 وعندما حاولت السلطات الإسرائيلية التدخل في سير عملية الترشيح والانتخاب في الغرفة الصناعية لمدينة بيت لحم، عن طريق تعديل القانون الأردني الذي يطبق في الأراضي المحتلة، بحيث تجيز لنفسها استبعاد ذوي السوابق الأمنية عن الترشيح، ودفع مرشحيها إلى تولي الهيئة الإدارية لها، بعد أن منحتهم تراخيص لمصانعهم تحت هذا الشرط، فشلت في محاولتها تلك وأعلن المرشحون الخمسة انسحابهم بعد أن رفضت سلطات الحكم العسكري طلبهم تأجيل الانتخابات مع الإبقاء على ترشيحهم.

يقول حلمي حنون: "نحن مع انتخابات الغرف التجارية طالما هي انتخابات حرة ولنا مصلحة في إجرائها. وطالما أن القانون الأردني يشترط فقط الحصول على شهادة لا حكم عليه من أجل عملية الترشيح فإنه ليس من حق السلطة الإسرائيلية الاعتراض على فلان أو فلان من الناس." ولا يخشى السيد حنون محاولات استغلال العملية الانتخابية لإفراز ممثلين بديلين [من م ت ف] للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ذلك بأن عدد فئة التجار الذين يمارسون تلك العملية محدود جداً، بحيث لا يعبّر عن مجمل سكان المدينة. ويطرح مثالاً لذلك عدد سكان مدينته طولكرم الـ 45 ألفاً، في حين لا يتجاوز عدد التجار 800 تاجر.

وبعد نجاح تجربة الغرف التجارية، لا يُستبعد إمكان إجراء انتخابات بلدية في الأراضي المحتلة في المستقبل، على أن ينطبق عليها شرط حرية الترشيح والانتخاب. وسيترتب على الفلسطينيين، في حال سمحت السلطات بها، تجييرها لمصلحتهم، وإلغاء الصفة التمثيلية السياسية التي تحاول السلطات الإسرائيلية إضفاءها، مع صمان قيامها بواجباتها البلدية.

*       *      *

شهدت الأراضي المحتلة، في أشهر ما بعد انتهاء الحرب في الخليج، حواراً ساخناً بشأن واقع الانتفاضة ومستقبلها، وظهرت أول مرة انتقادات علنية على صفحات الجرائد ثم في ندوات عامة، للظواهر السلبية التي سيطرت على الانتفاضة وباتت تهدد وجودها. ولم يكن ظهور السلبيات تلك إحدى نتائج حرب الخليج، بل كانت موجودة طوال العام الثالث للانتفاضة، وحتى قبل أن تبدأ أزمة الخليج. غير أن شعور الفلسطينيين بالحصار بسبب نتائج تلك الحرب جعل التمسك بالورقة الوحيدة الباقية (الانتفاضة) أمراً لا مفر منه، لكن شرط أن تكون تلك الورقة رابحة ونقية لا ضعيفة ومهددة.

وكان واقع الانتفاضة، بعد ثلاثة أعوام ونصف العام، يشير إلى رتابة في نهجها اليومي بالنسبة إلى معظم الناس الذين يعيشون حياتهم بصورة عادية، باستثناء الإضراب اليومي التجاري الذي يشلّ حركتهم ابتداء من الساعة الواحدة بعد الظهر، وأيام الإضراب الشامل التي يتقيدون بها فيبقون أسرى بيوتهم. واقتصرت مقاومة الاحتلال على جماعات من الشبان تنقسم إلى مجموعات بحسب فصائلها، وتركز نشاطها على عمليات رشق الحجارة والزجاجات الحارقة، وقتل المتعاونين مع أجهزة المخابرات الإسرائيلية، بينما تفتقر نداءات القيادة الموحدة للانتفاضة إلى عامل تفعيل الشارع، إما نتيجة بعدها عنه وإنما نتيجة افتقارها إلى أفكار ومقترحات جديدة.

ونشبت خلافات داخلية بين المجموعات التابعة للتنظيمات المختلفة، ووصل التنافس بينها، ولا سيما بين تلك التي تنتمي إلى القيادة الموحدة وبين تلك التي تنتمي إلى حركة حماس، إلى حد استخدام الأسلحة النارية ضد بعضها البعض لفرض سيطرتها على الشارع. وأصبح هاجس التحول إلى ميليشيات مسلحة يهدد القوات الضاربة، وهي الوحيدة الباقية على مقاومة الاحتلال بالأساليب العنيفة.

ومن الفئوية إلى العسكرة، ومنها إلى ممارسات مغلوط فيها وتراكماتها، وكل ذلك في ظل تدني المستوى التعليمي للمجتمع الفلسطيني الذي أصبح مهدداً بالتجهيل، وربما بدأ سيره في هذا الاتجاه. وفي ظل ضياع هيبة المدرسة والمدرّس وغياب سلطة قادرة على تنظيم المجتمع، وأعباء اقتصادية في تزايد مستمر، انطلقت أخيراً أصوات تعبر عما آل وضع الانتفاضة إليه، وتحذّر من ضياع طريق الخلاص الوحيد الذي بقي للشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال.

بدأ النقاش العلني في شأن واقع الانتفاضة، أيضاً، على صفحات "الفجر"، بمحاولة خجولة في البداية في مقالة حملت عنوان "حديث الليل وصمت النهار" الذي أصبح فيما بعد شعار النقاش المفتوح وعنوانه. كتب كاتب المقال عدنان ضميري، وهو أيضاً صحافي وكادر سياسي مثله مثل راضي الجراعي، عن كل ما "يقال في الليل من انتقادات قد تكون وجيهة ومنطقية عن أوضاعنا السياسية والاجتماعية والتعليمية ولا يسمع له صدى في النهار وكأن عقدة الخوف من الأنا قبل الـ هو أصبحت تطارد الجميع." وكتب بلغة غامضة عن "الغولة التي تأكل أبناءها أو الجاهلين الذين أكلوا ربّهم الذي صنعوه من التمر بعد أن عبدوه." وقال: "عندما ننسى ونمحو من ذاكرتنا تلك القصة عندها نستطيع أن نجهر في النهار بما نقوله في الليل."

وبعد تلك المحاولة الأولية، كتب ضميري ثانية بلغة أجرأ لتوضيح ما قصد، وشرح "أن رب التمر الذي صنعناه وعبدناه واليوم نأكله هو الانفاضة (...) والغولة التي تأكل أبناءها هي الثورة." وتطرق بصورة مباشرة إلى ظاهرة الملثمين والمقنعين وقتل المتعاونين وغير المتعاونين قائلاً: "كنا نحاول إيجاد مبررات أو نمنطق مسألة الإعدامات للمتعاونين مع السلطة ونهرب من بعض الأسئلة أمام الصحافة الأجنبية والإسرائيلية إلى أن تحولت الظاهرة إلى ظاهرة رعب ومسمار أخير في نعش كل من يطرق بابه ملثم ومقنع مجهول الهوية والعنوان." ولم يخشَ الصحافي الشاب الذي يسكن مدينة طولكرم، في شمال الضفة الغربية، انتقادات المعارضين "لنشر الغسيل القذر" على حبال الصحافة، وخاطبهم قائلاً: "إن الخروج من دائرة الخوف والرعب الذي بدأ يشلّ أدمغتنا قبل السنتنا لا يمكن إلا بتجمع الأصوات الجريئة (...) ولا أعتقد أننا نواقف على تكميم الأفواه تحت ذرائع الهروب من الواقع إلى شماعة الظروف والقدر."

فتح ضميري، في مقالتيه هاتين، باب النقد العلني، وتبعه آخرون. واحتلت مسألة قتل المتعاونين المقام الأول في الحوارات، وطرحت تساؤلات مشروعة أمام جميع الفلسطينيين في شأن من يملك حق إيقاع عقوبة الموت بشخص بريء من تهمة التعامل مع سلطات الاحتلال، ما لم تثبت إدانته؟ ومن الذي يحدد ما إذا كان الشخص وقع في شرك التعامل أم لا؟ وإلى أي مستوى وصل في التعامل؟ وهل هناك مجال لانتشاله أم لا؟ وطرح صحافيان آخران في "الفجر" المفارقة التي يتجنب الفلسطينيون، في العادة، خوضها في العلن، وتساءلا: "ماذا يعني أن ندفع لأحدهم 100 أو 200 أو 300 دينار في الصباح ليساعدنا في الحصول على تصريح أو معاملة ثم نقتله في المساء؟" وأقرا بأنه "آن الأوان فعلاً لأن نفكر في قضايانا بصوت مرتفع وأن لا نترك الآخرين يفكرون لنا ويكتبون عنا."

وجاءت عملية النقد العلني مع وعي تام من قبل القائمين عليها، لمحاولة السلطات الإسرائيلية استغلالها ضد الفلسطينيين. ويقول عدنان ضميري: "كان واضحاً منذ البداية أن الموقف الإسرائيلي سيكون عدائياً وليس مع تطوير ودفع الانتفاضة ولن يكون مع تنقية أجواء عملنا السياسي والوطني من المشاكل والسلبيات وبعض الأخطار التي تواجهنا. ولكن لم يكن هناك أي شك بأن ما كتبته وكتبه غيري من نقد لبعض الظواهر السلبية كان هدفه الموقف الفلسطيني الإيجابي وهذا ما تم فعلاً." ويضيف أن ما دفعه إلى بدء عملية النقد العلني كان "ظواهر سلبية في كل أنحاء الأراضي المحتلة استغلتها السلطات منها ظاهرة اللثام التي هي ظاهرة طاهرة أصلاً تعامل بها شبان الانتفاضة واستغلتها السلطات لتلثيم عملائها وجنودها للقيام بأعمال ضد الفلسطينيين وكذلك ظاهرة قتل المتعاونين وإصدار أحكام بالإعدام وتنفيذها وظواهر السرقة والسطو تحت غطاء اللثام حتى جاءت حادثة اعتداءعلى امرأة عجوز في طولكرم بالسكاكين من قبل ملثمين مجهولين ودون إبداء أسباب. وتكررت تلك الحوادث ولكني بدأت الكتابة بعد صدور البيان رقم 71 للقيادة الوطنية الموحّدة والذي نظم عملية استخدام اللثام وحظرها في التعامل مع الجمهور وحللها فقط في المواجهات مع السلطة. كما شدد البيان على أن عمليات الإعدام بحق المتعاونين لا تنفذ إلا بقرار قيادي من أعلى سلطة تنظيمية وقيادية أي القيادة الموحدة والقيادة في الخارج."

وعن ردات الفعل يقول ضميري: "البعض فهم العملية النقدية والتقويمية بشكل خاطىء بسبب عملية التزوير والتحوير التي قام بها الإعلام الإسرائيلي ولكن جاءت ردود إيجابية جداً في الوقت ذاته لأن الفلسطينيين يدركون أن الانتفاضة هي عمل جماهيري وليست عملاً عسكرياً أو تنظيمياً بحتاً وأن من حق الجماهير أن تقف وقفات نقدية أمام أي ممارسات أو تصرفات بعد ثلاث سنوات ونصف من المسيرة وأن تشارك في عملية التقويم."

وانتقد ضميري أيضاً، في ندوات الحوار التي عقدت في القدس وفُتحت لمشاركة الجميع بعد نشر المقالات الأولى، التعددية في عمل الفصائل الفلسطينية. ورأى أنه "مطلوب منا أن نكون ديمقراطيين في الحوار وفي اتخاذ القرار وفي نقاش المسائل المهمة والمصيرية في حياة الانتفاضة وليس من الخطأ أن يكون لدينا تعددية وأكثر من وجهة نظر واحدة ولكن كان المطلوب أن تكون هناك دكتاتورية في تنفيذ القرار ليس من أجل الدكتاتورية ولكن بمعنى أن نتوحد حول القرار في موقف واحد بغض النظر عن مواقفنا قبل اتخاذه أي نحن مع ديمقراطية اتخاذ القرار ودكتاتورية التنفيذ."

وتتلاقى تلك النظرية مع الدعوات إلى إعادة بناء هيكلية الانتفاضة، بعد أن طغت الفئوية على أي عمل جماهيري أو انتفاضي، وظهر صراع على السلطة يُخشى أن يتحول إلى حرب أهلية. ويقول ضميري: "يجب أن تكون هناك سلطة موحدة هي سلطة تنفيذية تضم جميع الأطراف حتى المختلفة عقائدياً أو سياسياً أو في الطرح أو الفعل. يجب أن تكون جهة واحدة منفذة للقرار ولا يتحول كل تنظيم إلى ميليشيات خاصة به تعمل بمعزل عن التنظيم الآخر. وما يحصل الآن هو أن ميليشيا تقوم بعمل ما وتبقى مجهولة إلى أن تعلن عن مسؤوليتها باسم تنظيم سين أو صاد أو مجموعة نسر كذا ونمر كذا وفهد كذا."

وكان من الموضوعات التي طرحت في حوارات إعادة التقويم، الدعوات إلى الإضراب العام، التي انتقدها البعض كونها تزيد في الأعباء الاقتصادية على الفلسطينيين في وقت هُدمت البنية الاقتصادية التحتية للأراضي المحتلة، وتفاقم الوضع بعد حرب الخليج. ورأى البعض الآخر في أيام الإضراب، التي تشلّ فيها الحركة تماماً، سبباً من أسباب الرتابة التي يعيشها الفلسطينيون، وعاملاً مؤثراً سلباً في أوضاعهم النفسية.

وقال ضميري إن الإضراب العام هو إحدى الوسائل التي استُخدمت استخداماً جيداً في بداية الانتفاضة، والتي أصبحت الآن بحاجة إلى إعادة نظر، موضحاً أن "هدف الانتفاضة ليس الوسائل التي هي أدوات فقط من أجل الوصول إلى الأهداف. وهدف الانتفاضة هو الوصول إلى دولة واستقلال وطني بغض النظر عن الأدوات التي تستخدم." واعتبر، كما اعتبر غيره، أن الإضراب التجاري كان، في يوم من الأيام، عبارة عن صراع حاد بين القيادة الموحدة وسلطات الاحتلال من أجل إثبات من هو صاحب القرار في الشارع الفلسطيني. لكن، بعد أن فرضت القيادة الموحدة نفسها يجب البحث عن وسائل أخرى أكثر فعالية.

ويعلق الدكتور أنور دودين، وهو طبيب في مستشفى المقاصد الخيرية في القدس المحتلة، أهمية بالغة على آثار الإضراب النفسية، التي تابعها مع مرور الزمن فاكتشف أنه "في حين كان الإضراب اليومي يعبّر عن رغبة الجماهير في السيطرة على مدنها في بداية الانتفاضة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السيطرة على المدن تعني أيضاً السيطرة على الحياة الاجتماعية، إلا إنه مع مرور الوقت استخدم الإسرائيليون تكتيك الإضراب بحيث أصبح من السهل عليهم أن يفرضوا هم السيطرة على المدن بعد ساعات الإغلاق اليومي. وبالتالي شعر الناس الذين ناضلوا منذ البداية من أجل أن تصبح السيطرة ملكهم أن مدنهم باتت مسلوبة وهم غرباء فيها." ويضيف الدكتور دودين: "يجب العمل بحيث يصبح تكتيك الإضراب مرة أخرى معبراّ عن الرغبة في السيطرة على المدينة أكثر منه تعبيراً عن احتجاج، إضافة إلى أن الرتابة تعني عدم الإنتاجية، وهذه بدورها تترك آثاراً سلبية في نفسية الناس." ويؤكد أنه "يجب عدم اعتبار التكتيك نفسه هدفاً لأن الجماهير تعطيه معنى في البداية ويجب الحفاظ على هذا المعنى وتطويره."

وتطرقت العملية النقدية إلى نقد غياب الممارسة الديمقراطية في المؤسسات الفلسطينية، وفي التنظيمات السياسية نفسها، التي يعود إليها أحد أسباب ضعف المشاركة الجماهيرية في فعاليات الانتفاضة. ومع الدعوة إلى ممارسة الديمقراطية، جاءت دعوات إلى المحاسبة والرقابة في تلك المؤسسات الوطنية، وفي التعامل السياسي داخل الحركة الوطنية.

ولعل غياب الديمقراطية هو الذي دفع إلى نشر "رسالة مفتوحة إلى الرئيس عرفات" مجهولة المصدر، إذ حملت توقيعاً باسم مستعار، وذلك في صحيفة "النهار" المقدسية، في وقت كانت عملية تقويم الانتفاضة ونقد سلبياتها في أوجها.

كتب كاتب الرسالة إلى ياسر عرفات يقول: "نشكو إليك ونعلم سلفاً أنك لن تضيق بالشكوى، فإن حفيفها قد لفح أذنيك في تونس. أما 'الأقربون' فقد وصلهم الصراخ. أما الذين بين ظهرانينا فقد وضعوا أصابعهم في آذانهم وآثروا العافية ولم يفعلوا شيئاً ما دامت رؤوسهم وكروشهم وقروشهم في الحفظ والصون: صون الإطار!" وفي ذلك نقد للتنظيمات الفلسطينية والأطر الوطنية. وتابع صاحب الرسالة شكواه من "قلة الأمن" في الداخل بسبب تهمة "التعامل"، ومن "الظلم" والأخطاء التي ارتُكبت ولا يريد "البعض" الاعتراف بها أو الاعتذار عنها لأن كرامة "الإطار" أقدس من شرف المواطن وكرامة الإنسان، وكل ذلك بحجة "الماضي النضالي لهؤلاء"، أي أولئك البعض. ككما اشتكى التشهير والتحقير في عملية التحقيق مع المشتبه فيهم، وتابع يقول "اني في 'دوحة الديمقراطية' التي تغنّيتم بها يوماً (...) اسمح لي أن أقول إنك تتحمل جانباً من هذه المسؤولية."

وما من شك في أن النقاشات التي شهدتها الأراضي المحتلة منذ آذار/مارس 1991 حتى تموز/يوليو من السنة نفسها، ساهمت في تطوير الممارسة الديمقراطية التي لخّصها أحد المشاركين في النقاشات بأنها "حرية الكلمة والتفكير والرأي والنسبية في التعامل مع الرأي الصواب والخطأ." لكن، هل أحدثت تلك النقاشات والحوارات نقلة نوعية في الممارسة الديمقراطية الفلسطينية، أم أنها توقفت عند حد الحديث عنها؟

يقول حنا سنيورة "إن كل حوار تنشره صحفنا ومجلاتنا ووسائل إعلامنا الواسعة يفيد في عملية تطوير الوعي الديمقراطي إلا إن العملية الديمقراطية ذاتها لا تستوعب ما يسمى بـ'النقلة' النوعية قد استلزامها للعمل الدؤوب والفكر الحيوي والصبر والحكمة مرحلة بعد أخرى."

وفي حين غابت زمرة الأكاديميين عن حوارات ونقاشات "الفجر" وقاعات القدس، وهم الذين يتهمهم الشارع بالجلوس في برجهم العاجي والتنظير من علٍ، تميزت مقالة كتبها سرّي نسيبة، المحاضر في جامعة بير زيت، عن "أهمية الحوار في تنمية الوعي" بمخاطبتها تلك الفئة من الصحافيين والسياسيين التي ينتمي إليها أولئك الذين فجّروا العملية النقدية للانتفاضة في فترة ما بعد حرب الخليج.

كتب نسيبة بخصوص "ردود الفعل على ما يصدر عن هذا الكاتب أو ذاك من الإخوة والزملاء من اجتهادات فكرية أو سياسية"، يقول: "لن يصلح المجتمع إلا إذا اجتهد أفراده والمسؤولون والمربون فيه في تنمية واحترام العقل لدى الجمهور. ولا يتم ذلك إلا إذ احترمنا الجمهور وصارحناه فسمّينا المسميات بأسمائها وصارحنا بعضنا بما يدور حولنا وتجرأنا على التفكير والحوار فلا ندع باباً في العقل إلا طرقناه ولا نحمل فكراً إلا وفحصناه. وما أحوجنا اليوم لهذه المصارحة وهذا الحوار ونحن نقف إزاء مشاهد وأحداث مقلقة أكانت تتعلق بالانتفاضة مسلكيتها ومسارها أو بمجريات السياسة العامة واقعها والمتوقع لها."

وفي مقولة نسيبة تلك تأكيد على أن النقاش الذي دار حتى الآن هو جزء من عملية مستمرة قد تزداد حدة أو تخف بحسب الأوضاع. وليس الحوار والنقاش هدفاً من أهداف الانتفاضة، ولا هما مرحلة من مراحلها، وإنما هما عملية مستمرة معها، أو هكذا يجب أن يكونا بعد أن بدآ.

*      *     *

وفي ظل عملية سلمية تلوح في الأفق، تبدو الحاجة أكبر إلى التمسك بالانتفاضة وتقويتها ودعمها، إذ أنها ستكون ورقة الرهان القوية في يد الفلسطينيين في أية مفاوضات مع إسرائيل، ولا سيما بعد إلغاء الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان، والثمن الذي دفعه الفلسطينيون في أقطار عربية مختلفة. ويتفق الجميع على أن الانتفاضة لا تُصعَّد بقرار، وإنما بتهيئة ظروف ذاتية وموضوعية لتصعيدها، وأنه أمام التراجع الأميركي عن الحقوق الوطنية الفلسطينية ومحاولة دفع الفلسطينيين إلى الزاوية بعدم إعطائهم حقوقهم أو الاعتراف بهم، ستتفجر الانتفاضة لا بقرار سياسي وإنما بمشاعر الناس وهمومهم.

تقول حنان عشراوي، الأستاذة في جامعة بير زيت: "يجب أن لا تكون الانتفاضة والعملية السياسية بشكل عسكي وإنما تكون الانتفاضة كتحرك شعبي خلقت آلية تفاعل وتطوير لنفسها بحيث لا تكون معتمدة على عامل واحد فقط هو العامل الخارجي وإلا سيكون هذا خطأ تاريخياً." وهي ترى أن الموقف الخارجي للفلسطينيين ضعيف، إذ "لا سلاح ولا أموال ولا مصادر ولا دعم ولا حتى حلفاء أو عمق عربي. ولكن في المقابل لدينا قضية عادلة ومشروعة وقوة إرادة وتصميم فلسطيني، واستعداد للنضال يجب أن نتعامل معه بشكل شمولي تميزه الحركة والمرونة لأن الجمود بحد ذاته هو ضد الحياة. وفي ظل واقع متحرك ومعطيات تتغير باستمرار لا نستطيع أن نغلق الأبواب أمام العمل السياسي ريثما نستجمع قوتنا ونرصّ صفوفنا. وكان دائماً للنضال الفلسطيني أكثر من وجه ونحن نختار التركيز على أحدها ضمن ظروف موضوعية معينة."

وترى الأكاديمية الفلسطينية التي تشارك في الحوارات مع وزير الخارجية الأميركي عن الجانب الفلسطيني، أن عدة أسباب فرضت على الجانب الفلسطيني أن يكون طرفاً في أي تحرك سياسي في الأوضاع التي وُجدت بعد حرب الخليج، منها أن "موازين القوى لا تسمح بالأعمال السلبية وإنما يجب أن يكون الطرف الفلسطيني مسؤولاً بحيث يكون عمله إيجابياً أي ترجمة القدرة السلبية إلى موقف إيجابي. كما أن هناك طوقاً حول رقبة الفلسطينيين... في الداخل حيث تصعيد ممارسات الاحتلال والاستيلاء على الأراضي والمصادر، وفي الخارج حيث الهجمة الشرسة على العنصر البشري الفلسطيني واستباحة الدم الفلسطيني والحقوق الفلسطينية، إضافة إلى أن لنا في كل دولة تقريباً رهائن فلسطينيين بدون حماية بما فيهم نصف مليون فلسطيني في لبنان مجردون من السلاح. وفوق ذلك كله ضغوط مكثفة على منظمة التحرير الفلسطينية لسحب شرعيتها منها وسحب شمولية القضية وشمولية التمثيل والبعد الوطني. وعليه كان قولنا لا للمسيرة سيكون معناه تجريد أنفسنا من آخر سلاح خارجي معنا أي السلاح السياسي. وفي غياب بدائل واضحة تبقى المسيرة هذه جزءاً من النضال السياسي من أجل الوجود السياسي والوطني الفلسطيني، أي نوعاً من إفساح المجال للمناورة والحركة السياسية. أما عزلنا أنفسنا بأنفسنا فيعني عزلنا عن آخر مخرج يمكن أن يكون لهذا الطوق الذي يتحكم بنا ويغلق على رقابنا."

وفي حين لم تنجح الانتفاضة خلال ما يقارب أربعة أعوام في إيجاد بُعد عربي لها، واستمر دعمها لفظياً وإعلامياً أساساً، فإن البعد العربي يبدو الآن أهم العوامل التي تحتاج الانتفاضة إليها. وإنْ كانت أزمة الخليج والمعاناة الاقتصادية التي ولدتها، إضافة إلى"ردود الفعل السلبية من الأنظمة العربية والابتزاز السياسي الذي يستخدم ضد الشعب الفلسطيني" – كما تقول عشراوي – ولدت نوعاً من التحدي ولم تضعف الانتفاضة، بل ربما كانت عاملاً في تقويتها، إلا إنه يُخشى أن تؤدي في المدى البعيد إلى موقف ضعيف يولد "فكراً انهزامياً".

تقول عشراوي: إن الموقف السياسي للدول العربية سيؤثر تأثيراً مباشراً في الانتفاضة، لأنه إذا لمس الفلسطينيون لدى هذه الدول استعداداً للدخول في مسيرة منفصلة من أجل عقد اتفاقيات منفردة مع إسرائيل وتطبيع علاقاتها بالعالم العربي، فإن هذا يعني نجاح مخطط شمير، وهو تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية إسرائيلية داخلية. فمن ناحية، سيتم تحييد الدول العربية عسكرياً عن طريق القضاء على أي خطر عسكري يهدد إسرائيل، ومن ناحية أخرى سيتم تحييد المقاطعة الاقتصادية للحصول على شرعية اقتصادية لإسرائيل كي تهمين على المنطقة، وأيضاً وقف حالة الحرب معها، الأمر الذي يعني فتح الباب لتحركات ديموغرافية وإعطاء إسرائيل مكاناً وشرعية في المنطقة. كل ذلك سيمنحها قوة رهيبة ستسمح لها بالضغط على الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، الذي هو رهينة لديها على الرغم من أنه برهن عبر التاريخ أنه ليس رهينة سهلة. وستكون الدول العربية حينها "منحت إسرائيل الشرعية لتحويلنا إلى أقلية داخل إسرائيل وليس شعباً له حق السيادة على أرضه."

وإذا تحقق كل ذلك، ولا سيما بعد أن استطاعت الولايات المتحدة أن تنفرد حتى الآن بالدول العربية وتحصل من العديد منها على إجابات على مقترحاتها بصورة منفردة ومن دون تنسيق، عندها سيتصاعد القمع بشكل رهيب، ويؤدي الإحباط إما إلى بداية فكر انهزامي رفضه الفلسطينيون عبر تاريخهم وحتى الآن بشدة، وإما إلى التوجه نحو الكفاح المسلح، ولو كان بشكل انتحاري.

وفي أي من الاتجاهين النقيضين سيكون العام العربي أحد العوامل الضاغطة لإنهاء الانتفاضة.