كلمة الرئيس زين العابدين بن علي إلى الشعب التونسي في شأن حرب الخليج، تونس، 26/1/1991
النص الكامل: 

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها المواطنون

أيتها المواطنات

          ان ما يتعرض اليه العراق الشقيق من دمار وتخريب بلغ حدا لا يطاق ومهما يكن رأينا في أصل القضية وقد عبّرنا عنه بوضوح يوم 11 أوت [آب] الماضي لا يمكن ان نقبل بحال ما آلت اليه الأمور لقد اصبح العراق بلدا وشعبا مستهدفا في وجوده وكيانه.

          لقد بيّنا في خطاب 11 أوت [آب] أننا ضد استعمال القوة من أي جانب كان لفرض الحلول وعبّرنا عن اعتقادنا وما نزال بأن كل القضايا مهما تعقدت يمكن حلها بالوسائل السلمية وآمنا ان التعقل إنْ غاب عن جهة فلا يجب ان يغيب عن المجموعة الأممية وأن قضايا المنطقة وإنْ كانت منفصلة في تواريخها وأسبابها القريبة فهي مترابطة في المكان وفي دوافعها البعيدة وأن الحلول الصحيحة الدائمة هي الحلول العادلة الشاملة ولو كان ذلك وفق جدول زمني محدد ولذلك بذلنا حتى آخر لحظة ما في وسعنا من جهد لتلافي المحظور وتجنب الحرب وطالبنا العراق بالانسحاب من الكويت ودعونا مجلس الأمن وناشدنا الضمير العالمي الإِعلان عن عقد المؤتمر الدولي للسلام خلال هذا العام ولم يمانع العراق في ذلك وكان من الواجب فسح المجال لمثل هذه المبادرة حتى تأخذ حظها من الدرس كما كان من الواجب توفير المهلة الكافية لها ولغيرها من المبادرات.

          واننا إذ نأسف لما لاحظناه من إصرار على تفويت فرص السلام نعتبر انه بات من الواجب اليوم أمام ما يتعرض له العراق من تدمير ان نعبّر عن استنكارنا الشديد لهذه التطورات الفظيعة التي تتنافى مع كل مبادئ السلام وقيم الإِنسانية ومع الأهداف الأصلية التي من أجلها بعثت الأمم المتحدة وقام عليها مجلس الأمن الذي يفترض فيه ان ينشر الأمن والسلام واننا نعتقد كذلك انه من الخطأ السياسي وسوء التقدير معاقبة الشعب العراقي.

          ان الدول المتحالفة ضد العراق قد استعجلت تنفيذ قرارات مجلس الأمن قبل استنفاد كل المساعي.

          وقد قرر مجلس الأمن ان يكون أجل (15) جانفي [كانون الثاني] بداية إمكانية اللجوء إلى استعمال القوة لحمل العراق على الانسحاب فأصبح هذا التاريخ نهاية الأجل.

          وقد نصت القرارات على تحرير الكويت ولم تنص على تدمير العراق وهذا يعني بكل وضوح ان ميدان القتال إذا كان لا بد من قتال ما كان يجب ان يتجاوز حدود الكويت ولكن جل القوات المتحالفة تصب حديدها ونارها على كامل العراق في البصرة وبغداد والموصل مستهدفة كل بنيته الأساسية المدنية وجميع موارده المادية والبشرية.

          لقد تبين بجلاء من خلال ما يتعرض اليه العراق الشقيق من تدمير متواصل منذ فجر 17 جانفي [كانون الثاني] ما هي الغايات الحقيقية التي وظفت لها قرارات مجلس الأمن مثلما اتضح منذ 2 أوت [آب] الماضي ان الشرعية الدولية لا تطبق على الجميع بنفس المقياس والميزان.

          لقد اجتمعت أكثر من عشرين دولة على ضرب العراق فهل هذه هي الشرعية الدولية هذه الشرعية التي لم يسارع احد إلى العمل على احترامها إلا عندما ارتبطت بالمصالح الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية.

          ان الغايات الحقيقية التي تبينت بجلاء هي انه لا يراد ان تقوم لهذه الأمة قائمة وأنه ممنوع عليها ان تكتسب قوة او مناعة او ان تأخذ نصيبها من التقدم والعلم والتكنولوجيا لتبقى محكومة بالتبعية إلى الأبد في ظل نظام عالمي جديد قديم ليس لها فيه مكان.

          ان ما يحز في القلب والنفس ان تفاخر هذه الجهات بتسليط عشرات الآلاف من أطنان الحديد والنار كل يوم وبأعتى الوسائل وأفتكها على شعب العراق من غير ان تتحرك لها عاطفة او يهتز لها شعور وتثور ثائرتها وتملأ الدنيا استنكارا كلما استهدفت إسرائيل لعمل فدائي أما دمار مقدرات شعب بأكمله وضربه حتى في مواطن تعبده فلا يقابل إلا بالصمت والتعتيم.

          أيها المواطنون

          أيتها المواطنات

          من حقنا إزاء ما يتعرض اليه الشعب العراقي ومن خلاله كل مواطن عربي ان نتساءل وأن نسأل اين حقوق الانسان والقانون الانساني وأين حرمة الانسان وكرامة الشعوب وأمام المغالطات الصحفية والتعتيم الإِعلامي وتوظيفه اين حرية الصحافة ومصداقيتها اين هذه القيم النبيلة والشعارات الخلابة ام ان لها حدودا وأنها تنطبق هلى جهة دون اخرى وشعب دون شعب وإنسان دون إنسان هل هذا هو النظام العالمي الجديد.

          أيها المواطنون

          أيتها المواطنات

          إذا كان ثمة ما يبرر انقلاب المفاهيم وتطويعها للمصالح الأنانية عند بعض الدول فان ما يثير السخط والعجب هو هذا الصمت العربي والاسلامي كل من منطقه وحسب غاياته ومصالحه القريبة دون اهتمام بدواعي بقاء الأمة وعزتها وكرامتها.

          ان الشعوب لا تموت مهما ابتليت وهذا الشعب الفلسطيني المجاهد اقوى من ذي قبل رغم ما يتعرض له من محنة التشريد والتنكيل والابادة منذ نصف قرن.

          اننا نتوجه بنداء إلى كل القادة العرب والمسلمين وكل دعاة السلم ومحبيه في العالم المؤمنين بحق الشعوب في الأمن والسلامة حتى يتوجهوا إلى مجلس الأمن للمطالبة بوقف القتال وتطبيق الشرعية الدولية بدون ميز او تقصير من خلال عقد المؤتمر الدولي للسلام في بحر هذه السنة لوضع حد لأزمة الخليج وكل قضايا الشرق الأوسط وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني المجاهد هذه القضية التي ستظل مصدرا دائما لعدم استقرار كامل المنطقة طالما لم تظفر بحل عادل دائم يضمن للفلسطينيين حقهم في إقامة دولتهم على ارضهم.

          أيها المواطنون

          أيتها المواطنات

          اننا نعبّر عن تضامننا مع الشعب العراقي الشقيق في محنته العصيبة واننا نتابع باستمرار تطور هذه الأوضاع ونسعى جاهدين مع أشقائنا في اتحاد المغرب العربي وسائر القوى المحبة للعدل والسلام من أجل وضع حد لهذه الحرب المدمرة في أقرب الآجال وانني إذ اتوجه بالشكر والتقدير إلى جميع التونسيين والتونسيات لما ابدوه من وعي ونضح وسلوك حضاري في تعبيرهم عن التضامن مع الشعب العراقي الشقيق ادعوهم إلى مساعدتنا على التفرغ لهذه القضية بملازمة اليقظة والتحلي بالمسؤولية والهدوء وبرعاية امن ومصالح المقيمين بيننا من الأجانب وكل من يساعدنا على تحقيق تنمية بلادنا وفق تقاليدنا العريقة في حسن الضيافة وتوفير الأمان التي عرفنا بها على مر الأزمان.

          وإزاء ما عليه وضعنا الانمائي والمضاعفات السلبية التي ستترتب عن هذه التطورات فانني ادعو من جديد جميع التونسيين والتونسيات إلى الانصراف إلى العمل الجدي ومضاعفة الجهد بعدما تبين ان سبيل النجاة والكرامة الوحيدة هي الاعتماد على الذات وأن المناعة والاستقلال يقومان على بناء القدرة الذاتية.

          قال تعالى: "إنما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون".

          صدق الله العظيم

          والسلام عليكم ورحمة الله.

 

المصدر:

"الحرية" (تونس)، 27/1/1991