على الرغم من المحاولات التي بذلها بعض المؤلفين الملهمين بمواقفهم السياسية، أمثال جون بيترز، لتعكير المياه، فقد كان من المعترف به منذ زمن بعيد أن مفتاح الفهم الصحيح لديموغرافية فلسطين، في القرن التاسع عشر، يكمن في الوثائق العثمانية. لكن المشكلة كانت أن القليلين فقط ممن حاولوا الكتابة في هذا الموضوع كانت لديهم المعرفة الكافية باللغة التركية العثمانية، أو بأنماط الإحصاءات العثمانية لتفسير المعلومات المنشورة. والآن، وبعد وقت طويل، يوفّر لنا جستن مكارثي كل المعلومات من المصادر العثمانية، إضافة إلى تعليقات مفيدة بشأن إحصاءات فترة الانتداب.
ومع أن العثمانيين لم يقدّموا قط إحصاء بالمعنى الحديث، أي تعداداً لجميع أفراد السكان في الوقت ذاته من الزمن، فقد كانوا يملكون الوسائل الإدارية اللازمة لتعداد أكثر سكان امبراطوريتهم، منذ أواسط القرن التاسع عشر فصاعداً. وما برح هذا الأمر يواجه الباحثين بعدد من المشكلات المتعلقة بغياب الأصناف المنتظَمة، وغياب التماثل مع الحدود السياسية الحاضرة، وفوق كل هذا وذاك، الإنقاص المستمر في تعداد الأولاد الصغار، وخصوصاً الإناث منهم. لكن، وكما يرد في حجة مكارثي – وبحق – إذا أُجري بعض التعديلات لسدّ هذه النواقص كلها، فإننا نصل إلى أرقام أفضل بما لا يقاس من الأرقام الواردة من أي مصدر آخر.
ما هي هذه الأرقام؟ استناداً إلى التعديلات التي أجراها مكارثي على الأرقام العثمانية، كانت مساحة الأرض التي أصبحت فيما بعد فلسطين تضم نحو 340,000 نسمة سنة 1295 للهجرة (1877/1878م)، و 722,143 نسمة سنة 1333 للهجرة (1914/1915م). وليس في مثل هذه الأرقام ما يدهش أولئك الذيت تابعوا عن كثب أبحاث مكارثي السابقة المتعلقة بهذا الموضوع. لكنه لديه بعض التعليقات المثيرة للاهتمام في شأن التفاوت الكبير بين الأرقام العثمانية لعد رعاياها من اليهود – 38,754 خلال 1914/1915 – وبين الرقم المقبول عامة حتى الآن، وهو 85,000 الذي كان يشكل إجمالي عدد السكان اليهود في فلسطين للفترة ذاتها. واستناداً إلى مكارثي، من الممكن أن هذا التقرير الأخير قد ضخّم عدد اليهود في السجلات العثمانية المعاصرة، وأن العدد الحقيقي لليهود العثمانيين ولغيرهم من ذوي الجنسيات الأجنبية أقرب إلى 60,000، وهو رقم يدعمه الإحصاء الذي أجراه الصهاينة أنفسهم خلال الحرب العالمية الأولى. ولهذا الاكتشاف مزية أخرى تتعلق بالتعامل بطريقة مرضية مع مصدر تقليدي آخر للخلاف الذي يستند إلى الأرقام التقليدية، وهو الزعم أن سكان فلسطين اليهود تضاءلوا بنسبة الربع بين سنتي 1914 و1918، بسبب الطرد أو الموت، كما يقال. ففي حجة مكارثي الجديدة، كان هذا التضاؤل أقل كثيراً، ولربما جرى التعويض منه في الغالب من خلال عودة الكثيرين من اليهود الذين فرّوا إلى الإسكندرية، وذلك بعد نهاية الحرب.
أما العمل التحرّي التاريخي الآخر والمهم في كتاب مكارثي، فيتعلق بنتائج إحصاء السكان الذي أجراه البريطانيون سنة 1922، والذي تم الاعتراف به حتى الآن في الأوساط العالمية كافة تقريباً. لكن، وعلى الرغم من أن هذا الإحصاء كان "حديثاً"، أي أنه أُجري في فترة زمنية واحدة، فإن وسائل التعداد لم تكن – في رأي المؤلف – أفضل كثيراً من الإحصاء العثماني السابق له؛ وهو أيضاً يكشف عن إنقاص كبير في تعداد الإناث والأطفال والبدو. وباستخدام الوسائل الحديثة لتقدير نسب الأصناف المختلفة في السكان التي يجب أن تنتمي إلى فئات مختلفة من الأعمار، يعيد مكارثي حساب أرقام إحصاء سنة 1922 ليصل إلى مجموع عام قدره 823,684 نسمة لسكان فلسطين (بما في ذلك الرقم العثماني لبدو منطقة بئر السبع، وهو 55,000)، وذلك بالتمييز من الرقم المسجل رسمياً، أي 739,284. وهذا يعطي توزيعاً جديداً هو: 638,407 من المسلمين، و81,361 من المسيحيين، و7830 من الدروز، و93,360 من اليهود. لكن، وكما يشير مكارثي نفسه، فإن تطبيقه للمعادلات الحديثة على جميع الأصناف يضخّم، على الأرجح، حجم السكان الذين هم في أغلبيتهم العظمى من المدينيين، كالمسيحيين واليهود الذين كانوا عادة يُسجَّلون بدرجة عالية من الدقة، وينقّص حجم الفئات التي هي ريفية في أغلبيتها العظمى، كالمسلمين والدروز، الذين لم يُسجَّلوا بدقّة.
ولحسن الحظ، يبدو أن إحصاء السكان لسنة 1931 لا يحتاج إلى أي تعديل ذي شأن، وقد سُمح له بأن يبقى كما هو تقريباً. لكن الأرقام البريطانية بحاجة إلى التعديل فيما يختص بالهجرة الإسلامية الصغيرة غير المدوّنة إلى فلسطين بعد سنة 1931 (ومكارثي سعيد بقبول التقديرات المُثبَّتة، وهي بمعدل نحو 900 عربي سنوياً)، وفيما يختص بالأعداد الحقيقية للهجرة اليهودية، حيث الإحصاءات الأكثر دقة الواردة في المصادر الصهيونية توفّر عدداً أكبر قليلاً في معظم السنوات، وأعداداً أكبر كثيراً بين سنتي 1939 و1941، حين دخل البلد، ومن دون تسجيل، نحو 16,000 يهودي.
إن الذين يتبعون الأهواء السياسية لن تقنعهم الأرقام المجردة. لكن بالنسبة إلى المؤرخين والمؤرخين الاقتصاديين من أمثالي، فقد وضع جستن مكارثي جداول إحصائية سنلجأ إلى استخدامها بسرور في أعمالنا المستقبلية كافة، ونعترف بأنها أفضل بما لا يقاس من جميع الأرقام المتعلقة بسائر أرجاء الشرق الأوسط، باستثناء مصر. وهذه الإحصاءات تومىء، وبعمق، إلى سبل كثيرة من البحث في المستقبل. ومن هذه السبل، التي أود أنا شخصياً أن أعرف عنها المزيد، التأثيرات السياسية لعمليات الإحصاء العثمانية والبريطانية ذاتها. فالأمر لا يتعلق فقط، كما يشير مكارثي نفسه، بأن إحصاءات السكان الصحيحة كانت تُعتبر بمثابة أدوات لا غنى عنها للحكومات العصرية، بل يتعلق أيضاً بأنها مهدّت السبيل لحشد كبير من العادات العصرية الأخرى، بدءاً بخلق أصناف جديدة من الأشخاص وانتهاء بتثبيت شروط لمباشرة أعمال جديدة. والمثال الأبرز لذلك، هو تقسيم المواطنين إلى أغلبيات وأقليّات، وهي فكرة كانت لها آثار بالغة الأهمية في فلسطين ذاتها.
(نقلاً عن: JPS, No. 79)