هاس. "صراعات بلا نهاية: الولايات المتحدة والخلافات الإقليمية" (بالإنكليزية)
الكتاب المراجع
النص الكامل: 

صراعات بلا نهاية: الولايات المتحدة والخلافات الإقليمية

Conflicts Unending: The United States and Regional Disputes

By Richard N. Haass. New Haven & London: Yale University Press, 1990. 

 

لدى عرض التارخ الحديث لعملية صنع القرار في السياسة الخارجية الأميركية، نجد أنه نادراً ما اتضح المصدر الذي انبثقت منه سياسة إدارة الرئيس بوش حيال الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. فقبل الانتخابات الرئاسية سنة 1988، أصدرت مجموعة من الدارسين، نظّمتها مؤسسة واشنطن للسياسة في الشرق الأدنى، والتي يُنظر إليها في الغالب على أنها مؤسسة فكرية تساند إسرائيل، ورقة عملٍ سياسية أصبحت فيما بعد بمثابة المخطط الذي استندت إليه سياسة الإدارة الأميركية الجديدة. وانتقل ثلاثة من أفراد هذه المجموعة ليتسلموا وظائف رئيسية ذات علاقة بصنع القرار في تلك الإدارة.وكان أحد هؤلاء الثلاثة ريتشارد هاس، وهو مدير شؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي، والذي نشر كتاباً يتضمن نظرية تتطابق تطابقاً عجيباً مع تلك التي صاغتها مؤسسة واشنطن. فقد كان رأي مجموعة الدارسين هذه أنه، وبسبب استحالة حدوث تطورات جذرية في الصراع العربي – الإسرائيلي، يجب أن تمارس الإدارة الجديدة "عملية إنضاج" أكثر بطأً من شأنها، ومن خلال تشجيع مبادرات ترمي إلى "بناء الثقة"، أن تؤدي في نهاية المطاف إلى خلق الأجواء الصالحة للمفاوضات.[1]   ويطبّق كتاب هاس هذه النظرية على مجموعة من الصراعات الدولية، ومنها الصراع العربي – الإسرائيلي. ويرى أن بعض النزاعات، كما هي قائمة الآن، ليست وبكل بساطة قابلة للحل، وأن على الولايات المتحدة أن تمارس حيالها سياسة "التدبير الدبلوماسي" (ص 1)، لا أن تحاول حلها أو أن تتجاهلها تجاهلاً كلّياً. ويفحص الكاتب خمسة نزاعات ببعض الشمولية، وهي: الشرق الأوسط، اليونان – تركيا – قبرص، الهند – باكستان، جنوب أفريقيا، إيرلندا الشمالية.

ويقول هاس أنه انتهى من الكتاب عشية تسلمه منصبه الجديد في مجلس الأمن القومي في كانون الثاني/يناير 1989. كما أن الكتاب يتضمن الفقرة المعهودة، وهي أن الكتاب لا يعكس بالضرورة السياسة الأميركية الرسمية. لكن الكتاب لم ينشر في الواقع إلاّ أواسط سنة 1990، وقد مضى على تسلم المؤلف لمنصبه أكثر من عام. ولا ريب أن الطروحات الواردة فيه بشأن الصراع العربي – الإسرائيلي تتشابه، تشابهاً لافتاً، مع السياسة الأميركية التي تم انتهاجها حتى اليوم.

يضع هاس الصراع العربي – الإسرائيلي في موضع الصدارة، فيفحصه في صدر الكتاب ويعطيه المجال الأكبر. ولا يختلف تحليله عن تحليل مؤسسة واشنطن إلا يسيراً. لذا، فإن فائدته الكبرى تكمن فيما يكشف الكتاب عنه بالنسبة إلى عقلية صانعي القرار فيما يختص بهذه المشكلة. ويعالج هاس هذه المشكلة من وجهة نظر إسرائيلية. ومن المفترض أن هذا النهج هو، أيضاً، نهج زملائه من صانعي القرار. لذا فهو يجد من الضروري أن يوازن بين انتقاد التصلب الإسرائيلي وانتقاد الفلسطينيين لتصلّبهم المتشابه. وعلى سبيل المثال، فهو يشير إلى أن الإسرائيليين، في معظمهم، غير راضين عن الوضع القائم، لكنهم عاجزون عن الاتفاق حيال البديل؛ فيزعم، من أجل التوازن، أن الفلسطينيين أيضاً عاجزون عن الاتفاق بشأن المستقبل (ص 42). هذا، على الرغم من أن المجلس الوطني الفلسطيني قد صوّت، وبنسبة 82%، في مصلحة العيش المشترك مع إسرائيل، في إطار دولتين كالبديل الأمثل من الوضع القائم. لذا، فإن محاولته إيجاد توازن مصطنع في معالجته للآراء الإسرائيلية والفلسطينية، تبدو أنها أعمت بصيرته حيال الفارق بين الاستقطاب العميق في إسرائيل والخلافات المحدودة بين الفلسطينيين حيال السياسة المتبعة.

كذلك، فإن هاس يقلل من أهمية التنازلات الفلسطينية؛ فهو يقول إن ابتداء الحوار بين أميركا ومنظمة التحرير الفلسطينية يشكل "منعطفاً مهماً، لكن يجب عدم الخلط بينه وبين التغيير الجذري" (ص 41)، متجاهلاً بذلك أهميةالتنازل الفلسطيني الكبير الذي أدى إلى بدء الحوار. وهو لا يمنح المنظمة إطلاقاً ما تستحقه من تقدير، لاعترافها الرسمي بالعيش المشترك مع دولة إسرائيلية؛ إذ إنه لا يعترف، إلا بصعوبة، بأهمية قبول المنظمة بالشروط الأميركية لبدء الحوار، ويشير فقط عرضاً إلى أن "التصريحات الأخيرة للمنظمة... توحي بأن ثمة رغبة جديدة في صنع السلام" (ص 50).

ويرى هاس أن المطالب الفلسطينية، في معظمها، أصعب من أن تقبلها إسرائيل، أما العكس فليس صحيحاً إلا فيما ندر. وعلى سبيل المثال، فهو يرى أن قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع ليس بالموضوع الذي يجب التصدي له الآن؛ "فليس ثمة من حكومة إسرائيلية تقبل بمثل هذه النتيجة" (ص 53). ومن جهة أخرى، يرى أن على الفلسطينيين أن يرضوا بالحكم الذاتي من دون أية ضمانات تضمن عدم الوصول به إلى حل دائم، على الرغم من أن من السهل القول إنه "ليس ثمة من قيادة فلسطينية ترضى بمثل هذه النتيجة." فالأمور، في نظر هاس، تبدو على درجة كبيرة من البساطة؛ إذ على الفلسطينيين القبول بالحكم الذاتي "لأن مثل هذا الإجراء أفضل من الوضع القائم حالياً" (ص 53). لكن، وبسبب عجز الكاتب عن النظر إلى الصراع من وجهة النظر الفلسطينية، فهو لا يفهم السبب الذي من أجله يشكك الفلسطينيون في طبيعة الحلول المرحلية التي تطرحها إسرائيل والولايات المتحدة، وأن الحكم الذاتي الدائم ليس أفضل من الوضع القائم حالياً في نظر الفلسطينيين.

وما هو أهم من هذا كله، أن الكاتب لا يعي تماماً كيف بدأ النزاع؛ فهو يعرض التاريخ منذ سنة 1948 بنبرة توحي بأن الصراعات في تلك المنطقة مستشرية، وكأن كل حرب من تلك الحروب اندلعت بشكل ما ومن دون أية علاقة بما جرى من قبل، سوى ما يشبه النزاع المستديم بين الشعوب. وعلى الرغم من أنه لا يصرح بذلك، فإن القارىء يفترض أن رأيه هذا يستند إلى الحكمة السائدة، وهي أن الصراع ينبع من عداوة كامنة لا سبب لها من جانب العرب حيال إسرائيل و/أو اليهود. ويخلص هاس إلى القول إن "من غير الواضح" أن الوفاق ممكن أبداً لأن الصراع مستعر منذ نصف قرن تقريباً، ولم يتقدم أحد بأي حل له (ص 31). ولا يخطر في باله، على ما يبدو، أنه لم يسبق أن طرح أي وسيط إمكان وجود جذور الصراع في اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، وأنه لا يمكن الوصول إلى أي وفاق ما لم يتم التعامل مع هذه الحقيقة. 

أما قوله إن "إسرائيل والعرب والولايات المتحدة والعالم كله قد جاهد مع النتائج السياسية لستة أيام من النزاع العسكري" (ص 32)، وذلك على امتداد عشرين عاماً أو يزيد منذ سنة 1967، فهو قول يخطىء المرمى. وفي واقع الحال، فإن الفلسطينيين ما زالوا يعانون النتائج السياسية لسنة 1948. أما النظر إلى هذا النزاع على أنه بدأ فقط منذ سنة 1967، فهذا لا ينزع منهم إمكان الوصول إلى حل ملائم لهذه المشكلات فقط، بل يطالبهم أيضاً بالمزيد من التنازلات. ولأن الكاتب لم يدرك أن الفلسطينيين قد تنازلوا رسمياً عن مطالبهم فيما يختص بالأراضي التي فقدوها سنة 1948 من خلال قبولهم بالحل الذي يتضمن قيام دولتين، فإنه لا يدرك أيضاً أن ثمة ظلماً جذرياً في مطالبة الفلسطينيين بالتخلي عن الأراضي التي فقدوها سنة 1967. أما عزوفه حتى عن التفكير في الدولة كمطلب شرعي، فهو الدليل على عجزه ولو فقط عن إدراك ما قدمه الفلسطينيون من تنازلات حتى الآن (ناهيك بالتعاطف)، وأن تنازلهم عما هو في نظرهم المطالب الدنيا أمر صعب أو مستحيل.

وينزع هاس إلى النظر إلى الصراع من وجهة النظر الإسرائيلية، الأمر الذي يؤدي إلى خطأ أساسي في تحليله لموضوع "الإنضاج". وليس ثمن من خلل فيما يطرحه من أن أي صراع كان لا يمكن حله قبل أن "ينضج"، وأن أهم شروط هذا النضوج وجود "إدراك مشترك حيال المنفعة في الوصول إلى اتفاق" بين الأطراف المختلفة، وأن الزعماء المشاركين فيه يجب أن يكونوا إما على درجة من القوة تسمح لهم بالتنازل، وإما على درجة من الضعف لا تسمح لهم بتفادي هذه التنازلات (ص 27). لكن، فيما يختص بالصراع العربي – الإسرائيلي، فإن المؤلف يخفق في الاعتراف بأن المعونة الأميركية الهائلة لإسرائيل تجعل الولايات المتحدة أحد أطراف النزاع. من هنا، فهو يفشل في فحص الدور الأساسي الذي تؤديه الولايات المتحدة، إما في حمل إسرائيل وإما في عدم حملها على الوصول إلى تلك النقطة الحاسمة التي عندها "تدرك المنفعة في الوصول إلى اتفاق." ومن دون فحص العامل الأميركي في هذه المعادلة، فإن الخلاصة التي يصل المؤلف إليها، ومفادها أن الوضع لم ينضج بعد للحل لأن إسرائيل لم تتمكن بعد من الوصول إلى إجماع حيال تغيير الوضع القائم، من شأنه أن يطمس الموضوع الأساسي – أي ما هو السبب الذي يسمح لإسرائيل بأن تمتنع من اتخاذ مثل هذا القرار، وما هو السبب الذي يشجع إسرائيل على الاعتقاد أنها ليست ملزمة باتخاذ قرارات صعبة...

وحين يطرح المؤلف جانباً أي إمكان حيال إقدام الولايات المتحدة، بأية طريقة، على استخدام دعمها لإسرائيل في مصلحة التنازل، وهذا على الرغم من أن الولايات المتحدة هي الآن وستبقى على الأرجح المصدر الوحيد للدعم الخارجي لإسرائيل، وعلى الرغم من أنه من المؤكد تقريباً أن إسرائيل تنهار اقتصادياً وعسكرياً إذا حُرمت هذا الدعم، فإن المؤلف ينقض بنفسه أطروحاته القائلة إن إسرائيل ليست "مستعدة" للتنازل. فالمؤلف مأخوذ بالشعار القديم فيما يتعلق بالدعم الأميركي لإسرائيل، إلى الحد الذي يجعله يعتقد أن أي تخاذل في هذا الدعم من شأنه أن يحمل العرب على الاعتقاد أن الولايات المتحدة قادرة على "تسليم" إسرائيل، وأنهم هم أنفسهم ليسوا بحاجة إلى تقديم تنازلات. وهذه المقولة تصل بالمؤلف إلى حدود السخف؛ إذ يقول "إن الجهود العلنية التي تبذلها الولايات المتحدة للوصول إلى سلام شامل في الشرق الأوسط، تساهم في إطالة أمد الأوهام في العالم العربي من أن مفتاح السلام في المنطقة يكمن لا في رغبتهم هم في تقديم التنازلات، بل في رغبة الولايات المتحدة في الضغط على إسرائيل" (ص 51). قد يكون هذا القول صائباً لو لم يقدم أي طرف عربي أية تنازلات إلى إسرائيل، ولو لم توافق القيادة الفلسطينية حرفياً على العيش بسلام إلى جانب إسرائيل. لكن هذا الموقف المتعالي من جانب المؤلف حيال الفلسطينيين، وخصوصاً عقب تنازلات رئيسية قدمتها منظمة التحرير، لدليل واضح على انحياز المؤلف.

لا يعالج هاس الصراع العربي – الإسرائيلي من جوانب كافة. إما لأنه يعالجه وبوعي تام من وجهة النظر الإسرائيلية، وإما لأنه قد استوعب الحكمة السائدة إلى الحد الذي قد لا يسمح له بإدراك مدى انحراف وجهة نظره. ومهما يكن، فإن نصيحته السياسية تثير القلق، وخصوصاً لأنها لا ريب تؤثر في آراء زملائه لدى صنع السياسة. فهو يقول لنا، في الحقيقة، إنه مهما يقدم الفسطينيون من تنازلات فإن الولايات المتحدة لن تعمل شيئاً يذكر للاعتراف بذلك، إلاّ إذا اعترفت إسرائيل به. فالتنازلات الفلسطينية ستبقى موضع شك، وستنال إسرائيل دوماً مزية الدعم لمواقفها، وسيستمر تدفق هذا الدعم على إسرائيل مهما تكن سياستها. أما التأنيب الذي يوجهه الرئيس بوش ووزير الخارجية بيكر، من حين إلى آخر، إلى إسرائيل فهو لا يعني شيئاً إذا كان هذا الكتاب يعكس حقاً النهج السياسي لإدارة بوش.

 

* نقلاً عن: JPS, No. 77.

 

[1]   أنظر:

The Washington Institute’s Presidential Study Group, Building for Peace: An American Strategy for the Middle East (Washington: The Washington Institute for Near East Policy, 1988), pp. 26-28.                                                                               

السيرة الشخصية: 

كاثلين كريستيان: كاتبة متخصصة بشؤون الشرق الأوسط.