شحادة وميلز (تحرير). "لبنان في أوكسفورد: شقاقاً ووفاقاً" (بالإنكليزية)
الكتاب المراجع
النص الكامل: 

لبنان في أوكسفورد: شقاقًا ووفاقًا

Lebanon: A History of Conflict and Consensus

Edited by Nadim Shehadi and Dana Haffar Mills,

with an introduction by Kamal Salibi. London: Centre

for Lebanese Studies and I. B. Tauris and Co. Ltd., 1988.

 

( أ )

كثرت في العامين الأخيرين كتب موضوعها الحرب اللبنانية، هي مجاميع أوراق مقدمة إلى ندوات. عقد معظم هذه الندوات خارج لبنان، وكان تكاثرها هو السبب، بطبيعة الحال، في كثرة الكتب الصادرة عن بعضها. ذلك بأنَّ بعضها الآخر لا تصدر عنه كتب، وقد لا يعدّ المشاركون فيه أوراقًا أصلًا بل يكتفي بصوغ خلاصة للمناقشات توزع توزيعًا محدودًا.

والكتب الجديدة موزَّعة بين اللغات الثلاث: العربية والفرنسيّة والإنكليزية. وأماكن صدورها متفرقة أيضًا، ما بين لبنان وبريطانيا والأردن. أما العلّة المرجحة لإقبال المنتدين على البحث في المشكل اللبناني – سواء جُمعت أبحاثهم في كتب أو لم تجمع – فهي أنَّ العامين المنصرمين كانا شهدا سعيًا حثيثًا لجعل انتخاب ١٩٨٨ الرئاسي محطة ينطلق منها "قطار الحل" الشهير. وهو سعي لم يوقفه امتناع إجراء الانتخاب المذكور مدّة عام أو يزيد، تخللته الحرب الجديدة التي أفضت إلى اتفاق الطائف... هذا السعي صحبته تعبئة لـ"المثقفين"، على اختلاف أصنافهم، اتخذت صورة الندوات الرامية إلى رسم صور إجمالية للمشكل تفضي عادة إلى آفاق للحل يتلمسها المنتدون. وعليه، دخلت كلمتا "السلام" و"إعادة البناء" في عناوين العديد من الندوات، تفاؤلًا. غير أنَّ هذه الفئة من اللقاءات (المتفائلة) لم يصدر عنها كتب إلى الآن، وإنْ كانت أوراق واحد أو اثنين منها قد تطبع، على ما علمنا.. أمَّا الكتب الصادرة فيغلب في عناوينها ذكر "أبعاد الأزمة" و"الذاكرة" و"التاريخ". ويتخذ أشدها رغبة في النضال عنوانًا له "الثقافة والتغيير".

هذا ولا بد من الإشارة إلى أنَّ توخي شيء من التنوع الطائفي والسياسي في معظم هذه الندوات، والميل إلى دعوة بعض الأجانب المهتمين من جهة أخرى، هما ما حمل منظمي الندوات على عقد أكثرها خارج لبنان؛ إذ يبدو الجمع بين هذين الأمرين مع حفظ حرية الكلام متعذرًا، في أغلب الحالات، على الأرض اللبنانية. فكان أنْ شهدت قبرص عدة من هذه اللقاءات لقربها. وعقدت لقاءات أخرى في فرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة والأردن. واشترك في التمويل والتنظيم هيئات متنوعة، من اليونسكو إلى منتدى الفكر العربي إلى مجلس كنائس الشرق الأوسط إلى بعض الجامعات الأميركية. على أنَّ لبنانيي المهاجر أيضًا (وبعضهم ذو حضور في هذه المؤسسات على اختلافها) أنشأوا مراكز خاصة بدراسة الشؤون اللبنانية، وقفت جانبًا من جهدها، على الأقل، على التهيئة لمثل هذه اللقاءات وتوفير المال لنفقاتها وتنظيمها والسعي لنشر الأوراق المقدمة إليها.

بين منظمي الندوات التي صدرت أعمالها في كتب مؤخرًا هيئات ثقافية مقيمة: من متخرجي المقاصد الإسلامية إلى راهبات القلبين الأقدسين، ومن الحركة الثقافية – أنطلياس إلى الجمعية اللبنانية للسلم الأهلي الدائم. لكن الحركة الثقافية نفسها نشأ لها فرع في باريس. وفي واشنطن نشأ "مركز السلام وإعادة البناء في لبنان". وقبلهما أنشأ لبنانيون، في المملكة المتحدة، "مركز الدراسات اللبنانية في أوكسفورد". وهذا الأخير يسوغ اعتباره أوفر المراكز المذكورة نشاطًا. فهو ممثل، عادة، في اللقاءات التي تعقدها الهيئات الأخرى، وقد يشارك في تنظيمها وتمويلها. وهو قد أصدر إلى الآن، بالإنكليزية، جملة صالحة من الكراسات يتحصل منها مجتمعة ملف متنوع لمجتمع لبنان ولأزمته، هو سلسلة خلاصات لما وصل إليه فكر مختصين بارزين بالشؤون اللبنانية، من عرب وأجانب. وهو رعى أيضًا  تأليف كتاب كمال الصليبي "بيت بمنازل كثيرة"، الذي كان له وقع في ميدانه أصدى له كثيرون. وهو أخيرًا، نظم سنة ١٩٨٧، في أوكسفورد، ندوة غلب فيها حضور المؤرخين وإنْ لم تقتصر عليهم، وضمّ أوراقها، بعد ذلك، كتاب هو الذي نعرض له في هذه العجالة.

 (ب)

ينمّ العنوان المختار للندوة وللكتاب: "لبنان، تاريخ شقاق ووفاق"، على هذه الرغبة في جمع خلاصات الماضي. والماضي المعتبر هنا يرقى في ورقتين من أوراق الندوة إلى أوائل القرن الثامن عشر أو أواسطه. أما سائر الأوراق فتنتشر على المدة المترامية بين الثلث الثاني من القرن التاسع عشر ويومنا الحاضر. وليس هناك من تتابع للأوراق يقربها من التغطية التامة، أو المنظمة على الأقل، لماجريات هذه المدة. بل الكتاب (شأنه شأن كتب الندوات، عادة) حصيلة مفاوضة ما بين موضوع الندوة العام وكفايات المشاركين وأمزجتهم المنهجيَّة والحقليَّة، على اختلافها. مثال ذلك أنَّ ورقة تدخل في باب التاريخ السياسي بأعم معانيه، موضوعها "تطور النظام السياسي اللبناني في إطار النزاعات الإقليمية والمحليَّة من ١٨٤٠ إلى ١٨٦٠"، تليها في الكتاب ورقة تنتمي إلى التاريخ الاجتماعي وتختار لنفسها فيه مدارًا ضيقًا نسبيًا هو "زحلة ودير القمر: بلدتان – سوقان... في حرب ١٨٦٠ الأهلية". ومن أمثلة التباين نفسه، أيضًا، أنَّ ورقة موضوعها "مجلس إدارة جبل لبنان" في عهد المتصرفية، تليها أخرى مكرَّسة لـ"التنافس الفرنسي البريطاني في الشرق الأوسط وأثره في المشكلة اللبنانية"، بين عهد الاحتلال المصري واستقلال ١٩٤٣.

على أنَّ ترتيب فصول الكتاب لا يعدّ، على الرغم من ذلك، عشوائيًا. فالمراحل حاضرة كلها، في تواليها الزمني، من حركات القرن الثامن عشر الفلاحية إلى الحرب الراهنة. والزوايا متكاملة أيضًا، من الصراعات بين الدول إلى الإصلاح العثماني إلى العلاقات الطائفية إلى الاقتصاد السياسي وتشكيلات المجتمع المديني، ومن الوصف التاريخي إلى اقتراح الصيغ لإعادة البلاد إلى سويّة السلام الأهلي. هذه الزاوية الأخيرة – أي اقتراح الصيغ – استدعت الخروج من دائرة المؤرخين وإشراك نفر من "مهندسي" النظم السياسية في الندوة، جُعلت أوراقهم بمثابة خاتمة وأفق لمحتويات الكتاب.

لا نرانا قادرين، هنا، على الخروج بملخَّص تام لأوراق هي على هذا القدر من تنوع الزوايا والمدارات. وإنَّما نقصر همنا على الجديد اللَّافت الذي يمنح الكتاب قيمة نراها استثنائية، وعلى مظاهر الضعف التي جعلت بعض أوراق الكتاب تبدو أوراقًا ميتة.

في تاريخ "العامة"، أهل الجبل اللبناني، بين وسط القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين، يأتي إدموند بورك الثالث بجديد هو التوسيع الأقصى لزاوية النظر. فإنَّ دراسة الحركات العامية، هنا، يعوّل فيها على المقارنة، فتخرج من الإِطار اللبناني (ومن الإِطار السوري – اللبناني الذي أدرجها فيه عبد الله حنا) لتقرن "الحركات" اللبنانية بنظائرها المتناثرة بين أقطار المشرق العربي كلها، وفيها مصر، وأقطار الغرب، ذهابًا إلى صقلية ثم إلى إيرلندا. ولا تعدو المقارنة إشارات، بعضها واضح وبعضها الآخر يبدو محتاجًا إلى فضل تمحيص لم يكن ليتيحه ضيق مجال النص. وإذا كانت المقارنة توحي بالشبه بين بعض الحركات على بعد الشقة، فإنَّها توحي أيضًا بتباين الأسباب والصور من مرحلة إلى مرحلة. في باب الشبه، مثلًا، يدخل التذكير بانتفاضات المرحلة الممتدة بين سنة ١٨٢٠ وسنة ١٨٧٠ في صقلية وإفضائها إلى نشأة المافيا التي كانت، في أول أمرها، قريبة – من حيث التكوين – إلى الرابطة التي كانت تجمع ما بين الزعماء الجبليين والقبضايات من  أزلامهم في مواجهة التمرد الفلاحي. وفي باب التباين، يجد بورك أنَّ انتفاضات المرحلة الأولى ينتظمها (في أقطار مختلفة) الاحتجاج على تفاقم العبء الضريبي. أما المرحلة الثانية (بعد سنة ١٨٤٠) فتظهر حركاتها، قبل كل شيء، ردًّا على زجِّ الزراعة في الدورة الرأسمالية، وعلى محاولات النهوض العثماني. أخيرًا، تتسم انتفاضات المرحلة الثالثة في مصر بخاصة (بعد سنة ١٨٨٠) بظهور علاقات السوق مدارًا مباشرًا للنضال الفلاحي (من الإضراب عن أداء الريع إلى إضراب العمال الزراعيين... إلخ)، وبدخول الدولة مباشرة، أي بقواها المنتظمة، إلى الريف ومعها ظل السيطرة الغربية.

مقارنة أخرى أضيق نطاقًا بكثير هي تلك التي تعقدها ليلى فواز (التي نعرف لها كتابًا عن بيروت القرن التاسع عشر) ما بين مسلك زحلة ومسلك دير القمر في مواجهة ١٨٦٠ الأهلية. تلاحظ الكاتبة اختلاف السلوك على الرغم من التشابه في الدور والموقع. وتخلص إلى إشارة نحن محتاجون إليها، على بساطتها، بسبب استغراقنا في الطوائف، هذه الأيام، وتناسينا مكونات أخرى للمجتمع اللبناني ذات أهمية. إشارة ليلى فواز هي إلى الانتماء المحلِّي الذي قد يعدل الانتماء الطائفي أو يفوقه قدرة على رسم حدود الهويات المتقابلة...

بعد هذا تميل بنا ورقة يوسف الشويري، شيئًا ما، نحو التاريخ السياسي، من غير أنْ نغادر فعلًا زاوية الدراسة الاجتماعية. تتَّبع الورقة نشأة "الوطنية" اللبنانية في "لبنان الجديد" الذي ولد منذ نظام شكيب أفندي بتأثير مشترك من الإصلاح العثماني والتوسع الأوروبي. لم تنشأ "الوطنية" في لبنان وحده، إذ إنَّ الكلمة شاعت تحت أقلام مثقفي العرب والموظفين منهم بصورة عامة، بعد سنة ١٨٥٦. لكن الوطنية اللبنانية التصقت بالطائفة المارونية وجسدتها الكنيسة. في هذا النطاق، يرى الشويري دور الكنيسة التحريري، وعلى رأسها البطريرك يوسف مسعد. فالكاتب لا يأنس من البطريرك (الذي شدّد مؤرخون كثيرون على أصوله العامية) عداء لصورة العلاقات الإقطاعية. إذ الكنيسة كانت قد غدت مالك الأرض الأول في الجبل، ولم تغادر هذا النسق في علاقاتها بفلاحيها، وإذ البطريرك ذو منشأ مؤسِّسي محافظ، تحصّل من تربيته في مجمع الإيمان الفاتيكاني ودلّ عليه أنَّ المطارنة الذين انتخبوه هم أنفسهم الذين انتخبوا سلفيه، وأنَّ الكنيسة كانت، في أربعينات القرن، تلح في المطالبة بعودة بشير الثاني، ركن النظام القديم، إلى السلطة. أما حقيقة موقف الكنيسة فيراها الشويري في العداء لحركة الإصلاح العثمانية المهددة لسلطانها، وفي هذا التوجّه "الوطني" الآيل إلى مقاومة كل صيغة تقوي نفوذ الدولة المباشر في حكم الجبل.

في ورقة انجن دنيز أكرلي تتراءى مسيرة "الوطنية اللبنانية" الطويلة نحو تكوين مؤسسة مختلطة (طائفيًا) لها، عبر كسب نوع من حرية الحركة، في مواجهة المتصرّف والآستانة معًا، لمجلس إدارة المتصرفية. يبدو الهمّ الماليّ طاغيًا، هنا أيضًا، طغيانه على جملة العلاقة في العهود العثمانية، ما بين كرسي السلطنة وولاتها وجماعاتها وأقاليمها... والمتصرّف يتواطأ أحيانًا مع المجلس على تضخيم بند "المهملات" الذي لا رقابة لاستانبول عليه في الميزانية، بحيث يصبح هذا البند ميزانية قائمة برأسها. لكن المجلس، في نهاية الأمر، يصلب عوده في مواجهة الحاكم. وكان الشويري رأى في هذا المجلس، وفي مسلكه بين سنة ١٩١٨ وسنة ١٩٢٠، امتدادًا لخط الإصلاح العثماني في مواجهة التيار الموالي لفرنسا، والآخر المحبّذ لدولة مارونية خالصة. أما أكرلي فيرى في هذه المرحلة الأخيرة (منذ أيام أوهانس) مرحلة نضج مؤسّسي هو الذي كان اللبنانيون مفتقرين إليه ليحكم في خصوماتهم وليشتد به أزرهم في الصراع بينهم وبين الحاكم. وهو يشدد على أنَّ تجربة هذه المؤسسة كانت، لاحقًا، مصدر خبرة للبنانيين في الحكم وفي السعي للاستقلال.

تتخلل هذه الأوراق ورقة لجوزف أبو نهرا تتناول تاريخ النظام السياسي في لبنان، بين الفتح العثماني وعهد المتصرفية. لكن البحث مركَّز فيها على العقود الثلاثة الممتدة بين الاحتلال المصري ونظام المتصرفية الأساسي. هذه الصفحات تستعيد جملة الأوصاف التي وضعها للبنان صف من المؤرخين كانت صناعتهم، في حقيقة أمرها، تبرير الحاضر وتثبيت موازينه. و"الملجأ"، و"استقلال" الجبل، و"التعايش الدرزي – الماروني"، ونشوء وعي "ذي طابع قومي" منذ بداية القرن الثامن عشر (!)، هي أبرز أركان التاريخ اللبناني في صورته هذه – وكأنما لم يجدّ جديد في رواية التاريخ اللبناني منذ فيليب حتي بله بولس نجيم...

أما الورقة التي تمدّ جسرًا بين هذا القسم من الكتاب وتاليه، فهي بحث جون سبانيولو في الصراع الفرنسي – البريطاني بين ظهرانينا. وهي طويلة نسبيًا، وتغطي ما يزيد على قرن من تاريخ هذا الصراع. وأظهر ما تخلص إليه أنَّ هاتين الدولتين فعلتا (بعد خروج ابراهيم باشا) كل ما كان من شأنه فصل مجرى التاريخ اللبناني عن تاريخ الجوار. على أنَّها تعود لتخط حدًّا للدور الخارجي فتصرح، مثلًا، أنَّ النظام اللبناني نجح، خلال العشرينات والثلاثينات، مع وجود الانتداب، في جذب الجماعات الطائفيَّة إليه أكثر مما نجح الفرنسيون في فرض أنفسهم على هذه الجماعات نفسها. ولا يقاوم الكاتب رغبته في تسجيل ما يراه سخرية من سخريات التاريخ، وهو أنَّ أوروبا ترتد اليوم إلى "تعدديَّة" لا تخلو من قرابة بالصيغة العثمانية، فيما يجد لبنان نفسه مخيرًا بين الاضمحلال فيما هو أوسع منه والتحول إلى "دولة قومية"...

(ج)

ما يسجّل لندوة أوكسفورد، بعد هذا، إيلاؤها عناية استثنائية نسبيًا لمرحلة الانتداب. وهي مرحلة لا تزال تهمل كثيرًا، على الرغم مما لها من صفة تأسيسية، على صعد مختلفة، للبنان الحاضر. فلا يقاس الانتباه الذي يخص به ربع القرن الممتد من سنة ١٩١٨ إلى سنة ١٩٤٣ بذاك الذي يحظى به مثلًا ربع القرن الممتد من سنة ١٨٤٠ إلى سنة ١٨٦٤...

نجد لفادية كيوان، في أول هذا القسم من الكتاب، بحثًا شيِّقًا في "صورة لبنان الكبير عند الموارنة". وأول ما يشعرنا به البحث هذه الحيوية السياسية عند لبنانيي ما بعد الحرب الأولى، ونحن نتلمسها في كثرة التيارات التي كانت تتنازعهم في تلك الأيام. وترد الكاتبة الاعتبار إلى نقطة قلَّما يبرزها المؤرخون، على أهمية دلالتها وأثرها اللاحق، وهي وجود معارضة مارونية لتكبير لبنان إلى جانب معارضة الوحدويين السوريين لاستقلاله. ثم تتوالى إشارات لا تقل عن هذه أهمية: إلى اطراد الانقسام في صفوف الموارنة والبحث عن أحلاف خارج الطائفة كلَّما انتقل مزيد من السلطة إلى أيدي اللبنانيين، وإلى ضيق المروحة الاجتماعية للطواقم السياسية، وإلى الاضطراب الكثير في العلاقات المارونية – الفرنسية، وخشية الموارنة أنْ "يبيعهم" الفرنسيون لمفاوضيهم السوريين أو أنْ يقووا عليهم طوائف أخرى، وإلى إيمان الساسة الموارنة الوطيد بحقهم في زعامة لبنان لأنَّهم منشئوه، وإلى تنازع الموارنة (في مواجهة إمكان الإلحاق بسوريا) بين التعويل على الضمانات الفرنسية وبين كسب الطوائف الأخرى إلى صف الصيغة اللبنانية... إلخ.

هذا، ولا يضير ورقة فادية كيوان أنْ يكون بعض النقاط فيها مثارًا لريبتنا. من ذلك مثلًا قراءتها "الإديّة" لخطَّة إميل إدّه الإصلاحية التي لقيت معارضة انتهت إلى إفشالها سنة ١٩٢٩. نخص من هذه القراءة عثورها في الخطة المذكورة على سعي لـ"دمج الأطراف في الكيان" نرى أنَّ الكاتبة تتوهَّم وجوده في "مركزية" إدّه الإدارية وفي "عقلانيته" المالية، وهما واقعتان. غير أنَّنا لا نملك إلَّا الموافقة على أنَّ الاستغناء عن حماية الدولة الكبرى كان يجب أنْ يحلَّ محله وفاق طائفي واسع وتقليص للفوارق الاقتصادية الاجتماعية وثقافة سياسية توحيدية. ولا نملك إلَّا الموافقة أيضًا على أنَّ سياسة الموارنة لم تكن في مستوى مشروع "الدولة الديمقراطية الحديثة"، وإنْ كان يجب ألَّا تعزل هذه السياسة عن حركة النظام كله ومواقف أطرافه الطائفية الأخرى. ذلك بأنَّ قادة الطوائف – على حد قول الباحثة – لم يكن لهم من مصلحة في تأسيس الأمة...

لا يتوصل رغيدالصلح إلى إكمال الصورة من الجهة المقابلة، جهة المعارضة الإسلامية (والانضواء الإسلامي في المشروع اللبناني أيضًا). فهو يقصر همّه على رصد "فوقي" لسلوك المعارضة المنظمة في عصب وأحزاب. وأهم ما يشدّد عليه وجود حزب لم يكن وجوده معروفًا لسنوات خلت، هو "الحزب القومي العربي" الذي كان له بعض الانتشار في أقطار المشرق المختلفة. وإذا كانت ورقة دومينيك شوفالييه قد أُدرجت في الكتاب مفصولة عن نصَّي الصلح وكيوان، فهي تبدو في بحثها في موقف اللبنانيين من الدولة متوَّجة لهما، ولو أنَّ كاتبها يستغني، في الغالب، بالإِشارة عن التمحيص.

هو يبدأ بالأسف لافتقاده الدولة واقعًا يعتدُّ به في رسائل كرَّسها جامعيون لبنانيون في ثلاثيناتهم لتاريخ بلدهم المعاصر. هذه الدولة نشأ بنشأتها، في أول أيلول / سبتمبر ١٩٢٠، شيءجديد كليًا، لا تبيح جدته، في نظر شوفالييه، المضي في الترويج لخرافة لبنان الأزلي وما شاكلها. وهو يرى، مستندًا إلى النصوص التأسيسيَّة، أنَّ ما أنشأه غورو في ذلك التاريخ كان دولة لا أكثر من هذا ولا أقل.

وبعد أنْ يلاحظ الكاتب ميل اللبنانيين هذا إلى تجاهل موطن الوحدة في تجربتهم، يصل إلى موطن الفرقة. فتصدر عنه هنا أيضًا ملاحظات جديرة بمزيد من التأمل تؤول إلى التمييز بين "طبقات" عدة في تاريخ الطائفية. يقول شوفالييه أنَّ الانتداب الفرنسي لم يخترع النظام الطائفي. ويشير، إثباتًا لهذا، إلى طبقة ثانية من تكوين هذا النظام يجعل أصلها في سعي الدولة العثمانية للتسوية ما بين أوضاع الطوائف الحقوقية في القرن التاسع عشر. وأخيرًا يشير إلى أنَّ للتسوية المذكورة مستندًا شرعيًا أقدم منها كثيرًا؛ إذ هو يرقى إلى ترتيب أوضاع الذميين في العهود الإسلامية الأولى، إذ أمكن لسكان البلاد المفتوحة أنْ يحفظوا هوياتهم ومصالحهم، في تلك العهود، بفضل تضامنهم في إطار طوائفهم...

(د)

قبل ورقة شوفالييه هذه بنصين اثنين، يبدأ القسم الأخير من الكتاب (فيما نرى...) وهو المكرَّس لمجتمع الحرب وعشاياها ولصنع الحل. من ورقة سمير خلف وغيلان دونوي (وموضوعها "الشبكات المدينية والنزاع السياسي")، نكتفي بملاحظة وحيدة نقطفها هنا: وهي أنَّ الحملة على أجهزة المخابرات الشهابية (المكتب الثاني وشبكاته)، ثم تفكيكها رافقا تركيز المنظمات الفلسطينية في لبنان، مع نهاية الستينات ومطلع السبعينات. فكان أنْ وجدت هذه المنظمات "شبكات" أحياء وقرابة في المدن كانت قد غادرت أحضان المكتب الثاني توًّا وباتت "حرة" مستعدة لحمل "القضية" الجديدة. أما ورقة نبيل بيهم في "المجال المديني والمجالات السياسيَّة"، وهي مكرَّسة لـ"المدنية والدولة والطوائف في بيروت حول عام ١٩٧٥"، فاختار الناشران أنْ يدرجاها فصلًا سادس عشر من الكتاب، بعيدًا عن ورقة خلف ودونوي التي جعلاها فصلًا عاشرًا، على ما بين النصين من قرابة الموضوع. من ورقة بيهم هذه نرى أنْ نشير، بالإضافة إلى العناية بالوصف والدقة في التصنيف، إلى هذا التمييز ما بين "مبدأ الدولة" و"مبدأ المدنية" الذي يخمِّن القارىء ما ينطوي عليه من خصب، لكنه لا يزال، في هذا النص، غير مستوفٍ حقه من الوضوح.

ومن الأوراق التي تتوسط هذين النصين "المدينيين" ورقة جورج قرم، وهي أميل منهما إلى السياسة: وفيها يعود الكاتب إلى وجهة في النظر إلى الحرب كان قد اختطها في كتاب له صدر قبل الندوة بشهور. وهنا تُنزع عن الحرب صفة المواجهة بين الجماعات الطائفية ويُستغنى عن تفسيرها بإخفاق الدولة في مهمتها الاجتماعية. ثم يردّ الاعتبار إلى عوامل إقليمية يرى الكاتب أنَّ الدارسين لا يعطونها حقَّها في الغالب. أخيرًا، يدخل في الصورة ما يسمِّيه الكاتب "النظام الميليشيوي" وهو متصل عنده بالعوامل الإقليمية الآنفة الذكر. هذا النظام يقع عبؤه على "المدنيين الأبرياء" الذين ما فتئوا يواجهونه بمقاومة تبالغ وسائل الإعلام الخارجية في إهمالها...

أما صيغ الحل (مع ما نفترضه من تحليل "بنيوي" للمشكل) فنقع عليها في ثلاث أوراق هي الفصول الحادي عشر والثالث عشر والرابع عشر من الكتاب، ونقع على تكملة "جنوبية" لها هي ورقة الوزير علي الخليل المدرجة في آخر الكتاب. أشدُّ هذه الأوراق أسرًا وأكثرها إحكامًا ورقة مايكل هدسون "مشكلة السلطة الحاكمة في السياسة اللبنانية". ولا عجب من الأمر؛ إذ الكاتب هو نفسه صاحب "الجمهورية الهشَّة"، وهو كتاب بقي منذ صدوره في الستينات معلمًا صامدًا في مجال الدراسة السياسيَّة لنظام لبنان ومجتمعه السياسيين.

وذلك أنَّ ورقة غسان رعد تكتفي باقتراح إعمال الدبلوماسية المدعوة  "دبلوماسية الخط الثاني" (بعد تكييفها) في معالجة المشكل اللبناني. والدبلوماسية المذكورة تصوّر تفتّق عنه عقل جوزف مونتفيل،  الذي هو مدير للأبحاث في مركز تابع لوزارة الخارجيَّة الأميركية. أما ورقة أنطوان مسرّة، فتعود إلى عرض تصوّره لاقتسام السلطة في لبنان، على أساس التوافق ومبدأ النسبيَّة. ومع تمرّس مسرّة في عرض هذا التصور الذي يردّ، في صيغته العامة، إلى آرند ليبهارت، لا نزال نقع عنده على بعض اختلاط في التصنيف يذكّر بعض التذكير بموسوعة صينية باتت تدين لميشال فوكو بشيء من الشهرة في هذا الجانب من العالم. فإذا شاء مسرّة التمييز بين الخيارات التي تلوح في أفق النظام اللبناني، وضع "السقوف" في جهة و"المشبّك" في الجهة المقابلة، وأدخل بينهما، على نحو ما، "زهر الأقحوان"، فتحصل له من ذلك شيء يسميه تصنيفًا لصيغ اقتسام السلطة...

اقتسام السلطة هذا هو أيضًا مدار ورقة هدسون. وهي ورقة لا مجال لاستيفاء عرضها هنا. فمدارها عرض الحالة اللبنانية على عناصر الصيغ "التوافقية" إياها (ليبهارت) من خلال مناقشة لمطالعتي ر. هـ. دكمجيان وبول سالم في الصدد نفسه. والسبب في صعوبة التلخيص كثرة المتحولات التي تنطوي الصيغة عليها. لكن غياب "ائتلاف النخب" أو "الحلف الواسع" يبدو، في كل حال، مقتلًا للتوافقية اللبنانية. وتكفينا هنا الإشارة إلى أسباب ثلاثة يحصيها هدسون لصعوبة الحكم في لبنان. وهي، أوَّلًا، أنَّ "المجتمع مقسَّم وذو ثقافة سياسيَّة مفتتة"؛ ثانيها "غياب الإِنصاف الاجتماعي – الاقتصادي"، وهو "نتاج لإِخفاق الدولة الليبرالية في تصحيح الإِدراك الذاتي المتنامي للتمييز في المنجزات"؛ وثالثها أنَّ حكم لبنان "يعقده تاريخ من التدخُّل الخارجي". هذه هي المقدمات. أما المساق الواقعي للتجربة فهو أنَّها كانت قريبة، بعد سنة ١٩٤٣، على الرغم من جوانب الخلل، إلى الصيغة التوافقية، وذلك باستثناء المرحلة الشهابية. أما الخلاصة فهي حاجة لبنان، في آن معًا، إلى "توزيع" للسلطة وإلى "تركيز" لها. وهي حاجة لا يستبعد أنْ تكون مأزقًا مبرمًا. لكن لا يستبعد أيضًا أنْ يوجد "عبقري" "يخترع" منفذًا إلى تلبيتها.

 (هـ)

في كتاب أوكسفورد ورقة اقتصادية وحيدة (هي الفصل التاسع منه) لبطرس لبكي. وفيه ورقة وحيدة خارجة عن نطاق المركز (أي بيروت وجبل لبنان)، وهي ورقة علي الخليل المكرسة لـ"دور الجنوب في السياسة اللبنانية". هذه الورقة (وهي الأخيرة في الكتاب، وأقصد أوراقه مع ورقة رعد) تبدأ بمقدمة تاريخيَّة "عاملية"، الاحتلال ومقاومته وعلى ضرورة إصلاح النظام السياسي. أي أنَّها تترك جانبًا "الداخل" الجنوبي. وأما ورقة لبكي فغايتها أنْ تظهر ميل التفاوت الاقتصادي – الاجتماعي، بوجوهه الكميّة، إلى التقلص بين سنة ١٩٤٣ وسنة ١٩٧٥. هذا الميل، حين يعرض عاريًا، يوحي بأنَّ وجود عامل اقتصادي – اجتماعي بين العوامل التي أفضت إلى الحرب الأهلية ورسمت خريطتها، إنَّما هو أُحجية من الأحاجي. بل هو قد يوحي بأنَّ العامل المذكور وهم من الأوهام لا حقيقة له. على أنَّنا، في السطر الأخير من ورقة لبكي، نقع على إشارة (لا بد من ذكرها إنصافًا) إلى "أثر معروف حق المعرفة في العلوم الاجتماعية هو المسمَّى 'الانحطاط النسبي'." هذا الأثر هو نفسه ما يراه هدسون في أصل "الإِدراك الذاتي المتنامي للتمييز في المنجزات." وهو أثر كان حقه أنْ يستغرق في كتاب أوكسفورد أكثر من إشارة أو إشارتين. بل كان حقّه أنْ يكون هو محور الزاوية الاجتماعية في الأوراق المخصَّصة لحاضر لبنان ولماضيه القريب. عوض ذلك، نقع على ما يشبه التسفيه لهذا الأثر عند قرم، وعلى حبس لصورة التطور الاقتصادي للبنان المعاصر في اللغة الكميَّة عند لبكي، وعلى قطع تام لألعاب تقسيم السلطة عن كل واقع تغطيه أسماء الطوائف عند مسرة... إلخ، تلك ثغرة نراها موقفًا. والموقف هنا ليس، على وجه الضرورة، موقف منظمي الندوة (حين وزّعوا موضوعاتها)، ولا موقف المشاركين فيها؛ بل إنَّ غياب الدارسين عن تجربة النمو اللبنانيّ في تعدّدها النوعي قد يشي بخلل أصلي في الثقافة اللبنانية وفي همومها يحتاج هو نفسه إلى دراسة.

الثغرة الثانية الكبرى، في الكتاب، هي المركزية الجبلية – البيروتية المطلقة لتاريخه ولاجتماعه. لا أحد يسأل – في كتاب التاريخ هذا – من أية تواريخ بعيدة وقريبة جاء أهل الأطراف إلى مجتمع بيروت وإلى تاريخ جبل لبنان، فأطاحوا توازن الأول وتعايش الثاني إلى الأرض. لا أحد يسأل من أية تواريخ جاؤوا إلى تاريخ بيروت وإلى "صيغة" الجبل فصنعوا بقدومهم المدنية بمعناها المعاصر وأسسوا الشعب والدولة بمعناهما المعاصر أيضًا. لا أحد يريد أنْ يعرف... وأكثر المتجاهلين تجاهلًا هم أهل الأطراف أنفسهم الذي يستعيدون من تواريخهم صورًا مبتسرة زائفة، في الأغلب، ومن اجتماعهم صورًا مستغرقة في السياسة وتنازع السلطة. لذا، لم يكن بدعًا أنْ لا يرد اسم عكار ولا مرة واحدة في مسرد الأعلام الملحق بالكتاب وأنْ لا يرد اسم البقاع فيه إلَّا سبع مرات. هذا بينما يقابل كلًّا من اسمي بيروت وجبل لبنان نصف عمود من أرقام الصفحات.. هذه الثغرة الثانية تفضي إلى ثالثة: فالحضور السوري (لولا مقالة رغيد الصلح المكرَّسة لحوادث الثلاثينات) رقيق الحاشية جدًّا في الكتاب. والشأن نفسه شأن الحضور الفلسطيني.. والمقارنة (في النطاق الإقليمي) غائبة إلَّا ما تناول به إدموند بورك الثالث حركات الفلاحين في عهود بائدة.

*    *    *

لم يفتنا، منذ بدء هذه المراجعة، أنَّ الإحاطة مطمح لا تكاد تدركه كتب الندوات أبدًا. ولا فاتتنا الإشادة بجودة العديد من هذه الأوراق المضمومة بين دفتي كتاب أوكسفورد. صحيح أنَّ كثيرين من كتَّاب الأوراق المذكورة يجملون فيها ما كانوا فصَّلوه في كتب أو مقالات لهم أخرى. وهو ما يفعله أيضًا مؤلفو الكراسات اللبنانية التي أصدرها – وما زال يفعل – مركز أوكسفورد. لكن تجاور الدارسين (ومعارفهم ووجهات نظرهم) في الكتاب وفي الكراسات أمر لا جدال في فائدته.

هذا الاهتمام – إبداءً وإعادةً – يدين لبنان بجانب منه للحرب. فلولا الحرب لانصرف عنا بعض الدارسين (الأجانب على الأقل) ولفّتنا العتمة التي تقيم فيها الشعوب السعيدة. ذاك ما يراه، في أية حال، كمال الصليبي في ختام مقدمته لكتاب أوكسفورد. إذ عنده أنَّ "الشقاق، والحق يقال، أوفق من الوفاق لازدهار القراءات التاريخية الشيقة. لكن الوفاق يفضل الشقاق، ولا ريب، من حيث هو أسلوب حياة." "... فانظر أيَّ نهجيك تنهج"!...