أفكار حول تأسيس الدولة اليهودية
Penser-Evenement
Par: Hanna Arendt.
Paris: Belin, 1989.
اكتشف الفرنسيون حنّه آرندت، في نهاية السبعينات، عبر ترجمة عملها الرئيسي "أصول التوتاليتارية". كان الكتاب مكرساً، من الأساس، لدراسة النازية. غير أن عدداً من الكُتّاب، بعضهم من اليسار (كلود ليفور)، وبعضهم من اليمين الليبرالي (آرون وتلامذته)، سيستخدمون وسائلها وأدوات تفكيرها في نقد الستالينية السوفياتية.
ويعدد أوليفيه مونجان، رئيس تحرير مجلة "اسبري"، في مقدمة الكتاب الذي صدر مؤخراً عن أعمال آرندت ("آرندت: أونطولوجيا وسياسة")، عدة أسباب حملت الفرنسيين على اكتشاف الفيلسوفة السياسية الألمانية اليهودية، والإقبال عليها. فهناك أولاً طرحها لمسألة السياسي، وهناك مقابلتها الثورة الأميركية بالثورة الفرنسية، وهناك كون فكرها ظل فكراً ناطقاً حين أدى نقد الأيديولوجيات إلى الصمت المطبق، وهناك أخيراً عدم توقفها عن القيام بمداخلات كلما طرأ حدث أو جدّ جديد. وفي الإجمال، فإن السنتين الأخيرتين شهدتا ترجمة أعمال آرندت الكبرى، وكذلك مقالاتها ودراساتها، بحيث أ،نه لم يبق منها شيء كبير لم ينشر بالفرنسية. وبين جملة ما صدر مؤخراً، كتاب يشتمل على عدة دراسات نشرتها الفيلسوفة السياسية في فترات متقطعة (بين سنة 1942 وسنة 1975)، يتناول مشكلة الدولة اليهودية وألمانيا ما بعد الحرب وأميركا الماكارثية، والتوترات الاجتماعية والسياسات الديمقراطية – تحت عنوان "تفكُّر الحدث".
ومع أن الدراسات التي كتبتها الفيلسوفة عن الصهيونية تعود إلى ما قبل قيام الدولة اليهودية، وتهدف إلى "إنقاذ الوطن اليهودي"، غير أن عرضها وإعادة قراءتها لا يخلوان من فائدة لأنها تسلط ضوءاً حقيقياً على الدولة العبرية يفسر كثيراً من سلوكاتها القديمة، وحتى من سياساتها الحالية.
ففي دراسة أولى، كتبت بمناسبة الذكرى الخمسين لصدور كتاب مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هيرتسل، تلقي الفيلسوفة نظرة ثاقبة على هيرتسل، فتجد أنه كان موزعاً لدى كتابة مؤلّفه ذاك "بين القناعة العميقة بتمتعه بضرب من الإلهام السامي، وبين الخوف من أن يجعل نفسه هزأة للهازئين"، وأن "الإفراط في تقدير النفس الممزوج بالريبة ليس أمراً نادراً، بل هو السمة المميزة للمعتوهين"، أي للفاشيين.
ومرد نفور آرندت الشديد من هيرتسل هو اعتقادها الراسخ أنه يستلهم الأصول ذاتها التي ينطلق منها بقية المعتوهين الذين كانون بدأوا لتوهم صنع سِيَرهم السياسية العتيدة داخل حركات عديدة، كانت لا تزال تعمل خارج البرلمانات والأحزاب التقليدية، والذين كانوا "أكثر احتكاكاً بالتيارات الجوفية الباطنية للتاريخ، وأكثر صلة بالرغائب العميقة للجمهور، من السياسيين القياديين ذوي النظرات المتوازنة والرؤية البليدة المحدودة"؛ إنهم أولئك الذين أعلنوا عداءهم للسامية، مثل: ستوكر (Stoecker) وآهلواردت (Ahlwardt) في ألمانيا، وشونرير (Shonerer) ولوغر (Lueger) في النمسا، ودرومونت (Drumont) وديروليد (Durolede) في فرنسا.
غير أن "المعتوه" لم يكتب عمله الرئيسي تحت التأثير "المباشر العنيف" لهؤلاء فحسب، بل أنه توقع نجاحهم توقعاً صحيحاً. وأكثر من هذا، فإنه كان يشعر بتعاطف حقيقي معهم. فهو حين يقول: إني أفهم معادي السامية"، فإنه لم يكن يعني أنه يفهم الأسباب التاريخية والوجوه السياسية لهؤلاء ولحركاتهم، بل كونه يفهم فهماً كاملاً ذلك الإنسان الذي يحتقر اليهود. من هنا دعوته "المعادين الشرفاء للسامية" إلى المساهمة في الصندوق القومي اليهودي، واعتقاده أن معادي السامية هم خير أصدقاء اليهود، وأن الحكومات المعادية لليهود هي خير حليف لهم.
وهذه الثقة بالأشخاص والحركات المعادية للسامية تظهر وبصورة بليغة، في رأي آرندت، كم أن عقلية هيرتسل كانت قريبة من الوسط المعادي له. وهو لا ينفرد في هذه القربى من هذا العالم "الغريب"، لأنه يجسد بشخصه المثقفين اليهود من حيث "أن كل ما كان يقوله أو يفعله كانوا سيقولونه هم ويفعلونه فيما لو أوتوا الشجاعة لكشف أفكارهم الدفينة." وثمة أمر آخر مشترك بين هيرتسل وقادة الحركات الجديدة المعادية للسامية، هو الرغبة المسعورة في العمل: عمل يتم القيام به تبعاً لقوانين يفترض معتنقوها أنها ثابتة محتومة، وتحظى بدعم وتأييد قوى طبيعية لا تقهر. ومعاداة السامية، في نظره، كانت قوة عظيمة أو قوة محركة، كما يقول، ينبغي لليهود استخدامها وإلا ابتلعتهم. صحيح أنها مسؤولة عن عذاب اليهود منذ خراب الهيكل، إلا أنها موجودة وهي ستظل تعذبهم – اللهم إلا إذا تعلموا استخدامها لمصلحتهم.
كان قادة الحركات العنصرية الجديدة قريبين، إذاً، من "التيارات الجوفية الباطنية للتاريخ." وهو أمر يفسر رواج هذه الحركات ونجاحها. فهل كان هذا أيضاً هو سبب نجاح الصهيونية؟ لا. ليس تماماً. فنجاح الصهيونية يعود، في رأي آرندت، إلى عاملين: الأول هو أفواج اليهود الشرقيين التي بدأت تفد إلى أوروبا الغربية في إثر مجازر سنة 1881 في روسيا – الأمر الذي أفضى إلى إيجاد أسس تضامن يهودي جديد، لأن هذه الهجرة وتلك المجازر أظهرت أن عصر التنوير لم يطفئ الحقد ضد اليهود؛ والثاني هو ظهور طبقة جديدة في المجتمع اليهودي هي أولئك المثقفون الذين أصبح هيرتسل الناطق باسمهم، والذين سيطلق عليهم هو نفسه "طبقة الذكاء المتوسط". هؤلاء كانوا غربيين بالكامل، ولا صلة لهم بالثقافة اليهودية أو الديانة اليهودية. لكنهم كانوا غربيين من دون أن يقبل المجتمع الغربي بهم (لأنهم يهود)، ويهوداً من دون أن يكون في وسعهم الاندماج في المجتمع اليهودي التقليدي وقيمه (التجارة والحياة العائلية التقليدية). ولهذا، فإنهم أصبحوا حساسين جداً إزاء المواقف السياسية التي كانت معاداة السامية أحد تعابيرها. كانوا يفهمون هذه الأخيرة على قواعدها هي، أي بالتالي كردة فعل طبيعية وشاملة لدى الشعوب كافة. وهذا هو معنى كونها قوة طبيعية، أي من الطبيعة، أو قوة محركة. وإذا كان عداء السامية طبيعياً، فإن حل المسألة اليهودية يكون باقتلاع المسؤول عنها – أي اليهود – وتحويلهم إلى أمة – دولة شأن بقية شعوب القرن التاسع عشر الأوروبي، وبالتالي إيجاد إقليم لهم. فالعالم، في تصور هيرتسل، مكون من دول – أمم أزلية ومعادية لليهود من ناحية، ومن اليهود المشتتين المضطهدين في كل مكان من ناحية أخرى. إنهما كتلتان متماثلتان صمديتان، لا فوارق في واحدتها ولا تمايزات. فلا طبقات، ولا أحزاب، ولا حركات سياسية، ولا تتخللها حقبات تاريخية. إنها رؤية مستمدة من الينابيع الفكرية للمصادر القومية الألمانية (وليس من المصادر الفرنسية التي لم تقطع صلتها بالثورة الفرنسية) التي ترى في الشعوب أجساماً عضوية ثابتة أبدية. وهذه الأجسام تفرز كراهية اليهود بصورة طبيعية كما تقدم، بحيث "أن ما ليس معادياً لليهود فليس بسياسي ولا يمكن حمله على محمل الجد." ولهذا، فإن معادي السامية هم في نظر هيرتسل أناس شرفاء، ولهذا أيضاً وجب إيجاد إقليم لليهود. وشرط هذا الإقليم أن يكون بلا شعب حتى يتم تلافي إفراز عداء السامية من جديد. يكفي أن يوجد الإقليم، وأن يصبح لليهود دولة، ويتحولوا هم إلى دولة – أمة، حتى يصبح الآخرون حلفاء وأصدقاء.
لكن كلمتي حلفاء وأصدقاء يجب أن تحملا هنا على سبيل المجاز؛ ذلك بأن فلسفة هيرتسل السياسية تستبعد كل تحالف. إذ حين يكون الآخر جسماً عضوياً أزلياً، ويكون عداء السامية صفة شاملة تعم البشر قاطبة والدول – الأمم كافة، فإنه لا يعود ثمة مجال للتمييز بين عدو فعلي وصديق ممكن. ولا يعود ثمة مجال للتحالفات. وهو أمر تنشأ عنه نتيجتان: الأولى إن مطالب اليهود هي مطالب مستقلة عن مطالب سواهم، والثاني هي أن تحرر الشعوب الأخرى لا يهم اليهود ولا يعنيهم. وهكذا، مثلاً، فإن هيرتسل سيعرض على السلطان العثماني المساعدة في قمع اضطرابات الأقليات العثمانية في مقابل الحصول على حق في فلسطين. وهو يسمي هذا واقعية. لكنها واقعية تصبح كلبية (cynic) من حيث النظر، وانتهازية من حيث الممارسة. وهذه الرؤية التي تركها هيرتسل لم تكن قد تغيرت جذرياً سنة 1948 – أي قبيل إعلان قيام دولة إسرائيل. صحيح أن الصهاينة لم يعودوا يعتبرون معادات السامية حليفاً، إلا إنهم ظلوا مقتنعين بأن لا أمل بمكافحتها لأن معنى ذلك محاربة الكون كله.
غير أن هذه الرؤية كانت تقصر عن رؤية الواقع بأكثر من نصف قرن، أو تقصر عن الرؤية بالكامل. فهيرتسل لا ينتبه إلى أنه "ليس ثمة إقليم بلا شعب، وأنه حتى لو وجد مثل هذا الإقليم وحتى لو لم تكن هناك مشكلات سياسية مطروحة في فلسطين، إلا أن نمط الفلسفة السياسية التي يستلهمها هيرتسل سيوجد – لا محالة – صعوبات بين الدولة اليهودية الجديدة والدول الأخرى."
وهو يتحدث عن "معادين شرفاء للسامية"، أي عن سياسيين يكرهون اليهود لكونهم عنصراً غير متجانس في الكيان القومي، في حين أن معاداة السامية كانت قد تحولت في عصره إلى سلام سياسي من نوع جديد، يستخدم اليهود فيه ككبش محرقة.
وهو أخيراً لا يتحدث عن الدولة في الحين الذي كان مطلب الدولة مقبولاً من الجميع، بل في الوقت الذي أصبح مفهوم السيادة القومية موضع سخرية واستهزاء. لكن هذه الرؤية التي تقول آرندت أنها تقصر عن رؤية الواقع هي التي انتصرت داخل جمهور اليهود! وتلاحظ الكاتبة أن جميع معارضي الصهيونية من اليهود قد صمتوا أو تحولوا إلى مواقعها. فلماذا؟
والجواب هو أن الأطراف اليهودية التي عارضت الحركة الصهيونية منذ وعد بلفور، قد توقفت عن المعارضة نتيجة تأييد الولايات المتحدة وهيئة الأمم المتحدة لمطاليب المتطرفين اليهود، والتي كان التيار اللا – صهيوني يعتبرها غير واقعية. فتأييد القوى العظمى لمطاليب الصهاينة جعل معارضيهم يعتبرون أن "الواقع كذبهم".
ومشكلة هؤلاء الأخيرين هي أنهم يعتبرون أن الواقع هو ما يحققه أهل السلطة وهم وحدهم. فهم آمنوا بوعد بلفور، لا برغائب الشعب اليهودي وآماله، وأخذوا بعين الاعتبار موقف حكومتي الولايات المتحدة وبريطانيا، لا مواقف الناس الذين يعيشون في الشرق الأوسط. إنهم غير واقعيين، إذاً، أصلاً. ولو كانوا واقعيين حقاً وأرادوا الفعل في السياسة اليهودية على أساس واقعي، لكان عليهم "التذكير وإعادة التذكير بأن الواقعة الحقيقية الدائمة في هذا الوضع كله هي حضور العرب في فلسطين."
وهناك سبب آخر تجده آرندت لانتصار الصهاينة هو استغراق العاملين في الكيبوتسات، وانهماكهم في المشاغل اليومية، وعدم اهتمامهم بالسياسة.
والنتيجة هي أن يهود الولايات المتحدة، شأن يهود فلسطين وشأن سواهم، باتوا يقفون وراء مطلب كل شيء أو لا شيء، النصر أو الموت، ولا مجال لحل وسط مع العرب. وهذا الموقف الذي يشي بتحول اليهود بعد أوشفيتز من النقيض إلى النقيض، هو النتيجة المنطقية لفكرة (هي الصهيونية) تقسم العالم إلى عنصرين: يهود من جهة، وغير يهود ميزتهم كراهية اليهود من جهة أخرى: "فكرة شوفينية عنصرية لا تختلف عن نظريات العرق السيد بشيء، إلا أن العنصر اليهودي ليس مهيأ للفتح بل بلانتحار." وهكذا، فإن القادة الصهاينة لا يترددون "في التلويح بالهلاك وسط تصفيق الجمهور."
مثل هذا العمى يوشك، في رأي الفيلسوفة التي كانت تكتب سنة 1948، أن يطيح بالمشروع اليهودي كله. وتعتقد أنه إذا حدث ذلك فإن نتائجه ستكون غير قابلة للتصور. إذ سيكون الحدث الرئيسي في التاريخ اليهودي وسيشكل بداية انحلال الشعب اليهودي. ولو هلك الييشوف لهلكت معه المستعمرات الجماعية (الكيبوتسيم) "التي هي إحدى أكثر التجارب الواعدة أهمية في هذا القرن." وأخيراً، لو هلك فسيهلك معه تجديد آخر هو التعاون بين شعبين: أحدهما يمثل ما هو حداثة في الحضارة؛ والآخر لمّا يخرج من القهر الاستعماري بعد. و"التعاون العربي – اليهودي ليس حلماً مثالياً وإنما هو الواقع الذي لا نجاح لأي مشروع يهودي من دونه في فلسطين."
والواقع، إن فرص تعاون عربي – يهودي كثيرة ضاعت حتى الآن. كما تبدو الضربات حالياً أنها تهدف إلى هذا التعاون بالذات. والحدث اللافت للنظر هو إخلاء العرب لحيفا وطبريا، وهو جلاء لم يكن ممكناً من دون إعداد، لكنه كان أيضاً غير ممكن من دون مجزرة دير ياسين وجريمة إلقاء القنبلة على طابور العمال العرب أمام مصفاة حيفا – أحد الأماكن القليلة التي كان يعمل فيها عرب ويهود معاً. وتهدف هذه الأعمال إلى استفزاز غضب العرب لمنع القادة اليهود من المفاوضة، وهي تخلق التواطؤ الضروري لوصول الإرهابيين إلى السلطة. والحال أن ليس ثمة قيادي يهودي واحد تجرأ على التقدم للحيلولة دون الإرغون ودون الاستيلاء على الشؤون السياسية، ودون إعلان الحرب على العرب كافة باسم الطائفة اليهودية كلها. والبديل من التعاون هو الحرب. لكن ليس ثمة مجال للوهم فيما عنى نتائج وقوع الحرب بين العرب واليهود. فقد تستطيع أن تربح معارك عدة من دون أن تربح الحرب. وحتى لو كسب اليهود الحرب، فإن نهاية النزاع ستشهد تدمير الإمكانات الوحيدة والنجاحات الوحيدة التي حققتها الصهيونية، لأن البلد الذي سيولد حينذاك سيكون مختلفاً عماً حلم به يهود العالم كله، صهاينة وغير صهاينة. فاليهود المنتصرون سيعيشون وسط عرب معادين، فيقفلون على أنفسهم داخل حدودهم، ويشغلون أنفسهم بالدفاع، ويتردى وضع يهود فلسطين ليصبحوا جزءاً من قبيلة محاربة، بينما ستتوتر العلاقات بيهود المنفى.
دُوّنت هذه الأفكار قبل إعلان قيام الدولة الإسرائيلية، ودُوّن بعضها قبيل ذلك الإعلان بأيام. وعلى الرغم من أن أحداثاً كثيرة وقعت منذ ذاك، فإنها تستحق أن تستعاد ويُذِكّر بها. فتحليلها لأصول الصهيونية وتوقعاتها فيما عنى استيلاء التيار الإرهابي على الشؤون السياسية في إسرائيل، وإعلان الحرب على العرب جميعاً باسم الجماعة اليهودية، وكذلك تأكيد أن الحقيقة الأساسية التي يجب التذكير بها في فلسطين هي وجود الشعب الفلسطيني، لم يمض عليه الزمن ولا خضع بعد للتقادم. وإذا كان تفكر الحدث ضرورة، في الإجمال، فإن تفكر حدث قيام الدولة الإسرائيلية أمر لن تمضي ضرورته في القريب.