التماثل والاستلاب في المجتمع الإسرائيلي اليهودي: العلائق الطائفية والدمج (بالعبرية)
بقلم زئيف بن – سيرا. القدس: الجامعة العبرية، 1988.
يفترض المجتمع تماثلاً أساسياً ودرجة معينة من التضامن بين أفراده للحؤول دون تفجّر صراعات بين جماعاته الاجتماعية تقوده، في غياب آليات للدمج الاجتماعي، إلى مسار من الانشقاقات العميقة تصل إلى حد تهديد وحدته بالذات. والمجتمع الإسرائيلي اليهودي مجتمع غير متجانس، مؤلف من جماعات غريبة المنشأ ذات ثقافات مختلفة، حلّت فيه في موجات هجرة قادمة من مجتمعات تقليدية، عائلية وعشائرية، ومن مجتمعات "عصرية". وهذه الجماعات لم تنصهر في بوتقة مجتمع جديد وفق الوعد الصهيوني بعد مرور أربعة عقود من عمر هذا المجتمع. وهذه الدراسة تسعى للإجابة عن السؤال عما إذا كان هذا المجتمع سيبقى "فسيفساء من الجماعات المنعزلة" معرضاً، بانشقاقاته الطائفية العميقة، لنشوب صراعات غير قابلة للّجم.
إن التعددية الإثنية تساهم، في أوضاع معينة، في وجود المجتمع وتطوره. والتسامح الإثني إزاءها أمر جدير بالتشجيع، لكن ما هي الحدود التي من شأنها أن تحول دون تحوّل هذه التعددية إلى عنصر مدمّر؟ وهذه الدراسة تظهر أن المسات الخاصة بالمجتمع الإسرائيلي اليهودي يمكنها أن تجعل من عدم التجانس الثقافي عامل تسريع للصراع الطائفي. فالمهمة الصهيونية الأساسية للكيان الإسرائيلي تنطوي على طاقة لإذكاء الصراع. ففكرة دمج جماعات "الشتات اليهودي" التي هي من صلب هذه المهمة، تعني تخلي المهاجرين عن الشتات – أنماط التفكير والسلوك – للتكيف إزاء أطر ثقافية غريبة عن الثقافات التي تشرّبها هؤلاء طوال أجيال شتاتهم، وتصبح ضرورة التكيف إكراهاً لهم، وخصوصاً في حالة اليهود الشرقيين الذين يشعرون بالحرمان من فرصة ولوج مركز المجتمع، ومن منطلقات تمييزية في المجتمع الذي يسيطر اليهود الأشكناز عليه – هذا في الوقت الذي كانت فيه هجرة أولئك الذين قدموا، في معظمهم، من البلاد الإسلامية مشبعة بالإيمان الخلاصي إلى حد اعتبار الهجرة مؤشراً على اقتراب يوم قدوم المسيح المخلص، ومشبعة بتطلعات الوجود الواحد المتساوي في المجتمع اليهودي الجديد. وكما أن مثل هذه التطلعات ينطوي على شحنة عاطفية قوية، فإن سلسلة الإحباطات التي مرت بهم تنطوي على شحنة عاطفية قوية أيضاً.
وهذه الدراسة التي تعتمد التجريبية، وتستند إلى الاستقصاءات والملاحظات والاختبارات في وسط يهود إسرائيل تبين فيما تبينه، العلاقة بين المنشأ والمكانة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الإسرائيلي في الثمانينات، وتؤكد مصداقية اتهام المجتمع بالحرمان المقصود لطائفة الشرقيين. والهدف من هذه الدراسة تحديد العوامل الكامنة في أساس تماثل جماعات السكان مع المجتمع العام في إسرائيل من جهة، وفي حالة الاستلاب الطائفي من جهة أخرى. ويتوخى الكاتب استخلاص العوامل التي يمكن أن تمد جسراً فوق الانشقاق والاستقطاب في هذا المجتمع.
إن انشقاق المجتمع الإسرائيلي اليهودي بين الطوائف المتحدرة من الشرق وبين الأشكناز، ليس جديداً بل هو من عمر إقامة الدولة. ومنذ سنة 1948 أطلق مسؤولون إنذاراً من خطر وجود مستويين للمعيشة: احدهما يميز يهود الييشوف القديم؛ والآخر، وهو الأكثر تدنياً، يميّز المهاجرين الجدد. لكن الكاتب لا يتوقف عند مسألة ما إذا كان الأمر متعمداً لتحويل مهاجري البلاد الإسلامية إلى قوة عاملة رخيصة، أم أنه كانت نتيجة نقص مواردهم الأساسية. بل أنه يتوجه فوراً إلى مسألة الخطر النابع من تداخل الصراعات الطائفية بين هاتين الطائفتين الأساسيتين بسبب الفوارق الثقافية والاقتصادية، والصراعات السياسية، التي يغذي بعضها بعضاً. فالمجتمع الذي لم يلب أحد التطلعات الرئيسية لمجموعة أساسية فيه بل حوّل التعويض الأساسي الذي توقعته من هجرتها إلى "عقوبة"، سيجد صعوبة في إيجاد تعويض بديل منها، وخصوصاً لهؤلاء القادرين منهم الذين يبحثون عن تحسين أوضاعهم في دول أخرى (ظاهرة النزوح). فإذا كانت في الإمكان اعتبار الأيديولوجيا والتزام مبادئها يشكلان تعويضاً للمؤمنين بها ترخص أمامه أية تنازلات، ففي الإمكان اعتبار الالتصاق بالفكرة الصهيونية التعويض الأساسي للمهاجر اليهودي الذي يرخص أمامه أي ثمن يتطلبه انتسابه إلى المجتمع الإسرائيلي. لكن يسأل الكاتب: هل في قدرة الصهيونية أن تشكل اليوم هذا التعويض الكبير الذي ترخص أمامه كل أثمان الانتساب إلى هذا المجتمع؟ إن استخلاصاته تظهر انتشار عد اليقين وعدم الإجماع اليوم بشأن مضمون الفكرة الصهيونية – وقد أظهرت أبحاثه في أوساط الشبيبة الإسرائيلية أن أقل من الثلث جزموا أنه يعتبرون أنفسهم صهيونيين. إنه يقول إن الفكرة الصهيونية، كي تظل تشكل تعويضاً، يجب أن يكون الإيمان بها إلى حد التعصب، ومثل هذا التعصب يجر إلى عدم تسامح إزاء أية تنويعات للفكرة - كمثل المطالبة بملاءمة مضمون الصهيونية مع حاجات المجتمع الإسرائيلي والعالم اليهودي اليوم. وهذه كلها، في رأيه، عوامل تعمق الصراعات في المجتمع.
إن الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية كانوا يعرفون صعوفة تكتيل المجتمع لفترة طويلة بواسطة الأيديولوجيا، ولذلك رأوا الاعتماد على الاقتصاد وسيلة لضمان ولاء الأفراد للحركة، وللحد بالتالي من الانشقاقات في المجتمع. لكن الكاتب يبين في دراسته أن هذا الاعتماد لم يعد كافياً اليوم لضمان هذا الولاء، بل أصبحت له انعكاسات سلبية على الحياة الاجتماعية، وفي وقت لا تستطيع فيه إسرائي أن تنافس المؤسسات الصناعية في العالم الرأسمالي بتقديم بدائل اقتصادية. وإذا كان النجاح الاقتصادي هو الذي يبني تماثل الفرد مع المجتمع، فإن طريق البحث عن نجاح كهذا في مجتمعات أخرى ليس بعيداً. أما إذا كان هذا التماثل لا يرتبط بالنجاح على الصعيد الفردي فقط، بل بنجاح المجتمع أيضاً في إيجاد حلول لمشكلاته، فإن الإسرائيلي كما تبيّن الدراسة يعتبر أن السلطة هي المسؤولة عن توفير حاجاته، وهي مسؤولة في النهاية عن تماثله مع المجتمع – أي أنه يربط تماثله بنجاح السلطة في غيجاد الفِكَر والسبل الجديدة القادرة على تعزيز تكتل المجتمع وإرادة التماثل معه. ويرى الكاتب أن المؤسسة السياسية، في أوضاع المجتمع الإسرائيلي اليوم، غير قادرة على النهوض بفعل هذه التوقعات التي تلقي عليها أعباء البحث عن السبل الجديدة.