إيميت. "ما وراء الكاتدرائية: المسيحيون والمسلمون في الناصرة" (بالإنكليزية)
الكتاب المراجع
النص الكامل: 

 على الرغم من أن مدينة الناصرة في الجليل مدينة مشهورة في معظم أنحاء العالم منذ نحو ألفي عام، فإن عدداً قليلاً من الناس خارج التلال التي تحيط بها يعرف كل شيء عن الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاصرة لهذه المدينة المقدسة. وفي هذا الإطار، فإن دراسة تشاد إيميت لأنماط سكن المسلمين والمسيحيين في الناصرة وللعلاقات داخل كل طائفة وعلاقات الطوائف في ما بينها في المدينة (والتي ترتكز على أطروحته للدكتوراه سنة 1991) تسد نقصاً كبيراً في الأدبيات الأكاديمية التي تعالج موضوعات العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين، والمسيحية العربية، والأنماط المدينية الشرق الأوسطية، والأهمية السياسية والثقافية للناصرة بالنسبة إلى 850.000 من مواطني إسرائيل الفلسطينيين، بمن فيهم ما يزيد عن 60.000 من سكان الناصرة نفسها. لقد جمع إيميت عن مدينة الناصرة، "العاصمة العربية لإسرائيل"، معلومات تاريخية واجتماعية تفصيلية تزيد عما قدمه أي كتاب آخر، سواء عن الجليل والأراضي المقدسة أو عن وضع المواطنين العرب في إسرائيل.

ولئن كان الكتاب يثير الإعجاب بما احتواه من وصف للناصرة وللتغيرات الدرامية التي خبرتها في القرن الحالي، فإن نقطة ضعفه تتمثل في غياب التحليل الملائم والمفصَّل لمدى تأثر جغرافيا الناصرة، واستخدامات الأرض، وأنماط السكن والسياسات البلدية والعلاقات بين الطوائف تأثراً مباشراً أو غير مباشر بالسياسات والاستراتيجيات الحكومية الإسرائيلية حيال المواطنين العرب وأملاكهم. فإيميت يركز بصورة ضيقة على الظاهرة الداخلية السياسية والثقافية والاجتماعية المتمثلة في العلاقات داخل كل طائفة من طوائف الناصرة وعلاقات هذه الطوائف في ما بينها بحيث تغيب عن ذهنه في معظم الأحيان الأطر السياسية والاقتصادية والإدارية الأوسع التي يجد الناصريون فيها أنفسهم، سواء أكانوا مسلمين أم مورمونيين، أقباطاً أم كاثوليك، سبتيين أم ملحدين، أعضاء في أقلية فلسطينية غير مدمجة في الدولة اليهودية.

وعلى الرغم من أن إيميت يستخدم على نحو بارع منهجيات تاريخية وأنثروبولوجية، استناداً إلى البحث الميداني الذي قام به في الناصرة خلال فترة 1988 - 1989، فإنه يرتكز أساساً على علم الجغرافيا السياسية. فهو بتتبعه وتحليله للتفاعلات المتبادلة والمتغيرة على مدى قرون عدة بين الأحياء الطائفية، والجغرافيا المحلية، واستخدامات الأرض، والعلاقة بين الكنيسة والدولة، والتفاعلات داخل كل طائفة وفي ما بين الطوائف ومع القوى الإقليمية السياسية والاقتصادية، إنما يُظهر كيف ولماذا نمت الناصرة الحالية من بلدة شرق أوسطية صغيرة وتقليدية ومؤلفة من أحياء طائفية متجانسة إلى مدينة ضيقة تفرخ ضواحي غير متجانسة طائفياً. ويرفق إيميت سرده المفصَّل بخرائط عدة ترسم التحولات التي شهدتها الناصرة مادياً واجتماعياً خلال القرنين الأخيرين، بدءاً بخريطة تيتوس توبار سنة 1868، وكانت المدينة آنذاك قرية صغيرة، وانتهاء بخريطة للمدينة الحديثة الحالية تظهر التركيز الجغرافي للناخبين الذين ساندوا الحركة الإسلامية في الانتخابات البلدية سنة 1989 (الأحياء النائية المسكونة أساساً من لاجئي حرب سنة 1948) وأولئك الذين ساندوا الائتلاف التقدمي الذي يسيطر الشيوعيون عليه (النصف الشرقي من السوق، أو القلب التاريخي للمدينة، والمسكون في معظمه من الأرثوذكس). إن مسح إيميت للمدينة شارعاً شارعاً وفر له معلومات وضعية مهمة تتعلق بأنظمة الصرف الصحي وحالة الطرق وأنماط العمارة ومستويات البطالة، وهي جميعاً توفر قاعدة مهمة لفهم النزاعات الانتخابية البلدية في الناصرة.

إن أطروحة الكتاب (وهي لم تحدَّد بالوضوح والدقة اللذين كان من الممكن أن تصاغ بهما) تكمن في أن العلاقات بين الطوائف في الناصرة مرتبطة جدلياً بأنماط السكن. فالكاتب يُظهر، باستخدامه المعطيات التاريخية ومقابلاته مع زعماء مختلف المذاهب، أن الانسجام والوفاق بين مختلف الطوائف كانا حتى وقت قريب يؤمَّنان عبر المؤسسة الشرق الأوسطية التقليدية القائمة على الأحياء والحارات الطائفية المنفصلة. بيد أن أنماط الإقامة في الناصرة عرفت منذ قيام دولة إسرائيل سنة 1948 تغيرات هائلة. ذلك بأن المدينة، التي كان معظم سكانها في النصف الأول من القرن العشرين من المسيحيين، شهدت وفود زهاء 5000 لاجئ (معظمهم من المسلمين) استقروا في الناصرة بعدما صادرت الهاغاناه أراضيهم ودمرت قراهم. ولقد ترافق هذا الازدياد المفاجئ في عدد السكان مع انخفاض في حجم أراضي المدينة، بعدما صودرت عبر الأعوام آلاف الدونمات وأعيد تصنيفها أراضي تملكها الدولة، أو أنها استخدمت لبناء بلدة نتسيريت عيليت (الناصرة العليا) اليهودية المجاورة. وهكذا، فإن الأحياء الطائفية التقليدية المحددة سرعان ما تفككت، وأخذت الأحياء المشتركة طائفياً تنتشر بالتدريج.

ويشير إيميت إلى أن هذا الاندماج الجديد غير المخطط له وغير الطوعي (عادة) لسكان الناصرة المتنوعين طائفياً لم يؤد إلى نزاع طائفي كما كان يمكن للمرء أن يفترض (ويجري الكاتب في هذا المجال مقابلة مشؤومة بحالة لبنان المتعدد الطوائف). ويعود ذلك إلى أن الخلافات الطائفية بين الفلسطينيين في إسرائيل فقدت بعد سنة 1948 قدرتها على الاستفزاز السياسي بعدما وثّق المسلمون والمسيحيون عرى روابطهم الاجتماعية والسياسية كإخوة في مواجهة عدو مشترك. ويشدد إيميت أيضاً على أن التعاليم الدينية التقليدية والقيم الثقافية للطوائف الناصرية كافة تشدد على السلام والانسجام والأخوّة، وعلى أهمية حل النزاعات بالوسائل اللاعنفية. وهو يذكر أكثر من مرة أن يسوع ومريم، وهما الأكثر شهرة بين سكان الناصرة عبر التاريخ، يحظيان باحترام وإجلال وتقدير المسيحيين والمسلمين على حد سواء. وبالتالي، فإن تراث المدينة نفسه يوفر قوة توحيدية للسكان في مواجهة أي نزاع محتمل. وتشير المعطيات الإحصائية المأخوذة من استقصاءات إيميت الشاملة إلى أن للأغلبية الساحقة من الناصريين أصدقاء حميمين من مختلف الطوائف، وأن الناصريين في معظمهم لا يمانعون في السكن كجيران ملاصقين لعائلات من الطوائف الأُخرى.

ويُظهر إيميت كيف أدى التزايد الملحوظ للتزاوج بين أبناء مختلف المذاهب المسيحية (والأمر المثير للاهتمام أن رجال الدين سمحوا بذلك، لأول مرة، بعد عشرة أعوام من قيام دولة إسرائيل) إلى تحسن كبير في العلاقات بين الروم الكاثوليك واللاتين الكاثوليك والموارنة والروم الأرثوذكس في الناصرة إلى حد جعل المسيحيين يشعرون الآن، وكما يقول أحد مخبري الكاتب من الروم الأرثوذكس، بـ "أنهم أتباع أبرشية كبيرة واحدة." إن عرض المؤلف لتواريخ الطوائف المسيحية الناصرية عرض رائع وغني بالمعلومات. كما أن مناقشته قرار إقامة مقبرة جديدة لأبناء جميع الطوائف المسيحية، وتحليله المضاعفات التي نجمت عن هذا القرار، يزخران بالرؤى الثاقبة لسوسيولوجيا المسيحية العربية المعاصرة وسياساتها. وعلى الرغم من أن الذين استطلع إيميت آراءهم اعتبروا، في معظمهم، أن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين علاقات "ممتازة" أو "جيدة"، فإن التزاوج بين المسلمين والمسيحيين لا يزال أمراً خلافياً جداً، ونادراً.

والانقسام المهم الوحيد الذي وجده إيميت بين مختلف طوائف الناصرة هو الانقسام بين مناصري الحركة الإسلامية (حزب سياسي جديد نسبياً فاز بستة من مقاعد البلدية التسعة عشر) ومؤيدي الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة التي يقودها الحزب الشيوعي والتي سيطرت على بلدية الناصرة منذ سنة 1975. وبما أن مناصري الحركة الإسلامية هم في معظمهم من اللاجئين الذين قدموا إلى الناصرة سنة 1948 والذين سكن معظمهم في الأحياء الأجد ذات الخدمات السيئة في أطراف الناصرة، في حين أن مؤيدي الجبهة، ويغلب عليهم أساساً الانتماء إلى طائفة الروم الأرثوذكس، هم في معظمهم من عائلات الناصرة القديمة التي تعيش في أحياء في وسط العاصمة وتستفيد من أفضل الخدمات البلدية، فإن هذا النزاع، الذي يبدو في الظاهر نزاعاً طائفياً، ليس "صداماً بين الحضارات" بقدر ما هو نداء من أجل توزيع الموارد توزيعاً أكثر عدالة. ويبدو، وفقاً لإيميت، أن الجبهة تلقت الرسالة؛ فبعد النتائج المقلقة للانتخابات البلدية سنة 1989، أدركت الجبهة أن عليها أن تهتم بأحياء الناصرة الأجد المحرومة والنائية. ولقد اكتشف إيميت خلال زيارة بحثية ثانية قام بها في نيسان/أبريل 1994 أن التأييد الذي تحظى الحركة الإسلامية به في الناصرة انحسر كثيراً؛ إذ فازت الجبهة في الانتخابات البلدية سنة 1993 بأحد عشر مقعداً، بينما لم تحرز الأحزاب الإسلامية (وكانت الحركة الإسلامية قد انقسمت إلى ثلاثة أجنحة متنافسة) سوى أربعة مقاعد. إن هذا التحول الأخير في التأييد الانتخابي باتجاه الابتعاد عن الإسلاميين نحو الجبهة التي يسيطر الحزب الشيوعي عليها (وفي حقبة ما بعد الشيوعية) يُظهر أن الميل إلى النزاع أو إلى التعاون بين مسلمي الناصرة ومسيحييها إنما هو ناتج من اعتبارات سياسية واقتصادية أكثر مما هو ناتج من عوامل دينية وثقافية.

مع أن كتاب "ما وراء الكاتدرائية" كتاب موثق بصورة جيدة، فإنه لا يخلو من بعض الأخطاء التي ينبغي أن تصحح على الرغم من كونها أخطاء بسيطة. فأحداث يوم الأرض وقعت سنة 1976 (بعد الانتصار الساحق للجبهة في الانتخابات البلدية في الناصرة سنة 1975) لا سنة 1975 (ص 55)؛ والحزب العربي الديمقراطي هو بزعامة عبد الوهاب دراوشة لا بزعامة ابن أخيه، محمد (ص 147)، وأسعد منصور، الكاهن الإنجيلي الذي كتب "تاريخ الناصرة" في الأيام الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية هو من أبناء شفاعمرو لا الناصرة (ص 172). أمّا حي شيكون العرب[1]، فقد أنشئ سنة 1958 لا سنة 1948 (ص 222). كما أن المسلمين الملتزمين يتبعون التعاليم الإسلامية (tenets) لا تعاليم المستأجرين (tenants)[2] (ص 266).

وعلى الرغم من أن مَراجع الكاتب غنية ومتنوعة، فإن هناك، وعلى نحو خاص، عملين غائبين بصورة يتعذر تفسيرها: الأول هو مقال غازي فلاح عن "تفتت الأراضي والسيطرة على الحيز المكاني في منطقة مدينة الناصرة" [Ghazi Falah, “Land Fragmentation and Spatial Control in the Nazareth Metropolitan Area,” Political Geography Quarterly, 44, No. 1, February 1992]، الذي يعرض صورة واضحة لمصالح إسرائيل السياسية وتحكّمها في الحيز المديني العربي؛ والعمل الآخر هو كتاب مايكل دمبر المهم عن الوضعية غير العادية لأملاك الوقف الإسلامي في إسرائيل [Michael Dumper, Islam and Israel: Muslim Religious Endowments and the Jewish State (Washington: Institute for Palestine Studies, 1994)].

بصورة عامة، سيكون كتاب "ما وراء الكاتدرائية" مفيداً جداً لأساتذة وطلاب شالجغرافيا والدراسات الشرق الأوسطية، والنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، والأنثروبولوجيا، والدراسات المدينية، والتاريخ. وهو يشكل مساهمة مهمة في الأدبيات التي تبحث في المسيحية العربية، وفي العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين عامة وفي الجليل خاصة؛ وهو بالتالي مكمل لعمل الأكاديمي الإسرائيلي دافني تسيمحوني، الذي ركز حتى الآن على الجماعات المسيحية في القدس وبيت لحم.

 

المصدر: Journal of Palestine Studies, Vol. XXV, No. 3 (Spring 1996), pp. 103-105.

[1] الحي السكني العربي في الناصرة العليا. (المترجم)

[2] الخطأ هنا هو، على الأرجح، خطأ طباعي؛ إذ استبدل حرف e الأخير في كلمة tenets بحرف a، ففقدت الجملة معناها. (المترجم)

السيرة الشخصية: 

لوري كينغ - إيراني: طالبة دكتوراه جامعة إنديانا (أميركا).