يشير العنوان، وهو تنويع على عبارة "العام المقبل في القدس"، إلى اختلاف الشهادة التي يعلنها في عدة أمور عن غيرها من الشهادات. ذلك بأن مؤلِّفة الكتاب - الشهادة، رشا صلاح، لاجئة من الجيل الثالث؛ وهي من لبنان، حيث المجتمع الفلسطيني، الذي كان وطنياً على الدوام، فأصبح الآن مهمَّشاً وفقيراً؛ وهي من أصل بدوي، وبالتالي من مجموعة اضطهدها الفلسطينيون والبريطانيون سواء بسواء؛ وهي أيضاً امرأة، امرأة ذات صوت مستقل، ومختلف، ومقاتل، ومتعاطف ومتضامن، وكثير التأمل والتفكير. ومن الاختلافات الأُخرى أن رشا سافرت إلى فرنسا لتلقّي دراستها الجامعية وليس إلى أميركا أو كندا، أو أوروبا، أو أي من البلاد الأُخرى التي يدرس فيها معظم الشبان الفلسطينيين. ويتخذ هذا الكتاب شكل سلسلة من عشر رسائل إلى صديق فرنسي، نيكولا، كان طلب منها معلومات عنها وعن عائلتها وعن القضية الفلسطينية، وذلك في إثر زيارة له إلى عين الحلوة.
إن لأدب الرسالة في أوروبا تقليداً طويلاً من الاستخدام في النقد السياسي اللاذع والهجاء والتعليق الاجتماعي (فهناك على سبيل المثال كل من مونتسكيو وفولتير وسويفت). وفي الوقت نفسه، فإن الرسائل تنشئ، بفضل عفويتها وصراحتها وشخصانيتها، ارتباطاً حميماً خاصاً بين الكاتب والقراء. ويمكن أن نجد هذا الدمج بين الحديث عن موضوعات جدية وبين الأسلوب الشخصي في الكتابة في رسائل رشا صلاح، التي تنتقل بحرية من ذكرياتها عن نشأتها في لبنان إلى رسم صورة لأعضاء أسرتها، إلى تجربتها كطالبة عربية في أوروبا، إلى الوضع القاسي الذي يعانيه الفلسطينيون حالياً في لبنان، إلى جهل الأوروبيين ومعاداتهم للعرب، وإلى اتفاق أوسلو و"الحركة الإسلامية". والموضوعات الرئيسية، التي هي بمثابة الخيوط التي تمنح الرسائل تماسكها الداخلي وتأثيرها، هي: حالة فقدان الوطن؛ المخيمات بصفتها البيئات التي تتكون فيها الهوية؛ العنف في لبنان كبلد "مضيف"؛ ماضي الفلسطينيين غير المكتوب ومستقبلهم غير المؤكد؛ ازدواجية فرنسا/أوروبا الجذابة كحضارة، والمعادية كمجتمع؛ المعضلات الوجودية الناشئة عن العيش في أمكنة كثيرة من دون أن يكون بينها مكان يمكن أن "ينتمي" المرء إليه.
ولِـ "فلسطينية الجيل الثالث" خصوصيتها؛ فوطنية رشا نقدية وتستوعب الألوان والظلال. وعلى سبيل المثال، نجد أن رشا، حتى وهي تصف جدتها أم صلاح وصفاً ينم عن إعجابها بها ويعبّر عن توقها إلى زيارة قريتها (قرية الجدة)، تعرب عن شكها في استطاعتها أن تعيش حياة شبيهة بالحياة التي عاشتها أم صلاح. وهي تعترف بأن الفلسطينيين لا يثيرون الإعجاب دائماً - ففي سورية "لا يفكر الكثيرون إلا في أن يصبحوا مواطنين سوريين وأن يصبحوا أغنياء." أمّا فلسطينيو "الأراضي المحتلة" فيتحدثون كما لو أنهم هم الوحيدون الذين حملوا لواء المقاومة. أي مكان يمكن أن يحس منفي فلسطيني اليوم بأنه ينتمي إليه؟ إن رشا صلاح تعبِّر عن تعلق عاطفي بعين الحلوة، المكان الذي لم تجعلها أربعة أعوام من الإقامة في فرنسا تنساه: "أحمل عين الحلوة في أحشائي كما تحمل الأم طفلها... ولسوف يكون دائماً بلدي وعالم طفولتي... فلسطيني الأُولى" (ص 61). إلا إنها تصف أيضاً بصورة مؤثرة شعورها بعدم الانتماء إلى أي مكان، وببداوة هي وليدة الاضطرار دوماً إلى تغيير مكان الإقامة من دون أن يكون هناك "مكان أشعر بأنه حقاً لي." وهي تحلم بالغُوَيْر، القرية المجاورة لطبرية والتي طردت منها عشيرة والدها، الستاتوة، سنة 1948. لكن على الرغم من استحالة نسيان قرية الغوير، فإن رشا تشك في أن تؤمن سلطة الحكم الذاتي الوطني في غزة وأريحا العودة إلى طبرية. ها نحن أمام تعبير حقيقي للشتات الفلسطيني بعد أوسلو؛ هوية ممزقة بين الارتباط بأماكن معينة وبين عدم الانتماء، وتشتت ناجم عن فقدان الرموز التوحيدية - الكفاح والعودة والتحرير - التي أكسبت حياة الأجيال السابقة معناها. فبالنسبة إلى الجيل الثالث، وخصوصاً في لبنان، فإن الارتباطات موقتة ومرتبطة بالظروف، والمستقبل فارغ وأجوف. وقد فقد "حلم العودة" يقينيته السابقة، وفقد بالتالي قدرته العلاجية.
إن كون رشا من الجيل الثالث، ومن مخيم أيضاً، يجعل صوتها مختلفاً عن أصوات الجيل السابق الشديد التسيس، وأكثر ميلاً إلى التأمل، فضلاً عن كونه أكثر تشكيكاً في المسلمات الوطنية. فهي لا تخفي انتقاداتها لمجتمعها؛ إذ حينما تتحدث مثلاً عن الراحة التي يجدها المرء عندما ينشأ داخل عشيرة كبيرة (ص 48) نجدها تدرك أيضاً أن الإبداع يتطلب حرية شخصية: "عندنا تخنق العشيرة الفرد، والأصالة ممنوعة" (ص 119 - 200). وحنينها إلى عين الحلوة لا يمنعها من تذكر مقدار ضجرها في نهاية صيف طويل (ص 189). إلا إن كونها من مخيم يعني أيضاً أن وطنيتها ليست وطنية مجردة، بل هي مصبوغة بالاهتمام بالآخرين، وخصوصاً الأطفال. فحب الأطفال يتخلل الرسائل كخيط ذهبي، وحرمانهم يشكل هدفاً - والأمر شبيه إلى حد ما بربط غسان كنفاني بين النضال والأطفال الحفاة - يجعل رشا تحلم بطرائق تعوضهم عن الحياة التي تغرق منذ بدايتها في البؤس والأوضاع غير الطبيعية. وربما يتحقق ذلك عبر مركز ثقافي يتعلمون فيه "من أين أتوا ومن هم" (ص 100). كما أن رؤيتها الواضحة للأمور لا تسمح لها بالإقلال من أهمية الصعوبات التي تواجه أي مشروع يُزمَع إقامته للفلسطينيين اليوم: "فمن السهل جداً شراء الفقراء"، وليس الزمن الحالي زمن إبداع بل هو زمن يأس وتعب شديد. والمخيمات التي شكلت منذ وقت طويل ضمانة لحقوق اللاجئين، مهما تكن بائسة، باتت مهددة بخطر الهدم.
ونوع آخر من الاختلاف: إن مسألة الهوية القومية لا تختصر قضية رشا كلها. فهي أيضاً امرأة تصر على حقها في اختيار الزوج، وتصف بمرارة العلاقات التقليدية بين الجنسين في المجتمع العربي ("الرجل يتوقع أن يحصل علينا ونحن صغيرات وعذراوات... ويتلخص همه الوحيد في أن يجعلنا حوامل في أسرع وقت ممكن كي يثبت فحولته..." (ص 165). وتصف رشا فسخها لخطوبتها من شاب لبناني توهم، لقصور في مخيلته، أن جنسيته تشكل هدية زواج لا تقدر بثمن، لأنها يمكن أن تنقذ رشا من "الغيتو الفلسطيني". وهي تتحدث عن صديقات لها خسرن بزواجهن مستقبلاً واعداً، وتتعهد بأن "زوجها يجب أن يعرف أنه سيصبح... نصف فلسطيني." ومن الخطأ أن نسمي ذلك "نِسْويَّة"، وأن نعزوه إلى تجربة العيش في أوروبا. فالأنثروبولوجي الفلسطيني توفيق كنعان يشهد بأن النساء البدويات أكثر حرية من غيرهن، كما أن رشا تعي بفخر أن عشيرة أبيها، الستاتوة، كانت مشهورة بحسن معاملتها للنساء. وأُمها توفر لها نموذجاً رائعاً للمرأة العربية التي لم تتذرع يوماً ببيتها لتنسى السياسة، ولم تدع نشاطها السياسي قط يجعلها تهمل بيتها وأولادها.
إذا كان جزء كبير من كتاب رشا يخبر الأوروبيين عما يعني أن يكون المرء امرأة فلسطينية شابة في لبنان، فإن فيه الكثير أيضاً عن حياة المرأة الفلسطينية الشابة في فرنسا. وفي هذا الإطار، هناك تجارب إيجابية وأُخرى سلبية، كما أن هناك عنصري الاكتشاف والوحدة. فهي تجد الحضارة الفرنسية مثيرة للإعجاب، لكنها تجد المجتمع الفرنسي بارداً. كما أنها لم تفقد يوماً شعورها بالذنب لكونها في فرنسا لا في عين الحلوة. والتجارب المؤلمة مسجلة، فهناك على سبيل المثال رفض إعطائها تأشيرة دخول لزيارة شقيقتها في ألمانيا، وهناك أيضاً عبارة "الجنسية غير محددة" الممهورة على إذن إقامتها في فرنسا. لكن على الرغم من أن الجهل والتحيز الأوروبيين يوفران هدفاً دائماً لنقد رشا، فإنها تحاجج من دون حقد أو ضغينة. ويوضح الكتاب أنها استطاعت العودة من دون أن تصاب بأذى من رحلة كان يمكن أن تؤدي بها إلى اغتراب مزدوج عن "الوطن" وعن "العالم". فحاجات الأطفال الفلسطينيين جذبتها، كما المغنطيس، إلى المنطقة المحيطة بفلسطين، راسمة الإطار الذي يمكن أن تعيش فيه عملها كمعلمة. وهذا المصدر للوطنية هو أيضاً أحد المصادر التي ينحو الإسرائيليون إلى تجاهلها.
آمل بأن يُترجَم هذا الكتاب إلى العربية والإنكليزية. وإذا تقرر ذلك، فإنه ينبغي تصحيح بعض الأخطاء البسيطة. فعلى الرغم من أن الفلسطينيين المسيحيين يستطيعون الحصول على الجنسية اللبنانية بسهولة أكثر من الفلسطينيين المسلمين، فإن هذه الجنسية لا تُعطى لهم بصورة آلية (ص 128)، كما أنه ليس من المستحيل حصول الفلسطينيين المسلمين على هذه الجنسية. أمّا مخيم النبطية، فقد دُمّر في غارة إسرائيلية سنة 1974 لا سنة 1982. ولم يُذكر مخيم جسر الباشا (الذي اجتيح سنة 1976) في إطار تعداد المخيمات الفلسطينية. كما أن "صبرا" يجب أن تكون "داعوق"، وبر الياس تجمُّع سكني فلسطيني (وهناك تجمعات عدة أُخرى) لا مخيم. وأخيراً، على الرغم من سوء الأحوال في مخيم نهر البارد، فإن الحديث عن وفاة طفل واحد من أصل كل طفلين خلال الأشهر الستة الأُولى للولادة لا يستند إلى أي مصدر فلسطيني رسمي.
إلا إن هذه تظل أخطاء بسيطة إذا ما قوبلت بالمزايا الفكرية والعاطفية للكتاب، وهي مزايا تجعل منه كتاباً مؤثراً وصادقاً لا غنى لكل المعنيين عن قراءته.