دأب البارزون من علماء الاجتماع الإسرائيليين في تقديم دولة إسرائيل باعتبارها ديمقراطية ليبرالية، منحت مواطنيها العرب (الفلسطينيين الذين ظلوا فيها بعد سنة 1948) حقوقاً مساوية لحقوق اليهود، وسعت لتحديثهم اجتماعياً ولدمجهم اقتصادياً وسياسياً. ورد صبري جريس وإيليا زريق ومؤلفون فلسطينيون آخرون بأن هذا كلام تافه. بما أن إسرائيل هي دولة استعمارية واستيطانية، فقد أخضعت الشعب الفلسطيني لعمليات قاسية، لا رحمة فيها، من "الاستعمار الداخلي"، بتهميشه اجتماعياً واقتصادياً، وباستبعاده سياسياً. على أنه لا يزال أمام الباحثين عن "الوسط السعيد مجال واسع كي يَشْغلوه؛ وهذا ما تبناه، منذ أوائل الثمانينات، أكاديميون لا ينتمون إلى المؤسسة الرسمية أمثال إيان لوستِك وسامي سموحا، والأخير أستاذ علم الاجتماع في جامعة حيفا، ومرجع بارز بشأن العلاقات العربية - اليهوديةفي إسرائيل.
يناقش سموحا أن الفلسطينيين في إسرائيل يخضعون لعمليات ضخمة من التحديث والتسييس معاً، وللدمج المتدرج في نظام إسرائيل السياسي. حتى إنهم بدأوا ببطء يغيرون قواعد لعبة "الديمقراطية الإثنية" في إسرائيل(ديمقراطية تحت سيطرة اليهود، ومن الدرجة الثانية). ثم إن سياسات إسرائيل أخذت تتطور، بالتدريج، من "الترحيل" والسيطرة من خلال الاستبعاد في العقد الأول من قيام الدولة إلى سياسة دمج أكثر براغماتية في العقدين الأخيرين. ومن شأن هذه العمليات الدمجية أن تؤدي في النهاية، كما يتكهن سموحا، إلى إجبار الأكثرية اليهوديةالمسيطرة على القبول بالحقوق المتساوية، وعلى منح المواطنين الفلسطينيين "حكماً ذاتياً مؤسساتياً وثقافياً"، واسع النطاق. بل إن إيان لوستِك هو أكثر تفاؤلاً، إذ يوحي بأن إسرائيل تتحول بالتدريج إلى دولة ثنائية القومية. على أنه إذا كان هذان العالمان يتحدثن عن نشوء حقيقة جديدة رائعة، ويتنبآن بمستقبل أفضل، فلا بد هنا من التساؤل التالي: لماذا يشكو المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل، على العموم، أنهم أُنزلوا إلى هامش المجتمع الإسرائيلي؛ كما يشكون من حقيقة أن الدولة الإسرائيلية قد تعززت، في السنوات الأخيرة، من الناحيتين القانونية والبنيوية باعتبارها "دولة الشعب اليهودي"، لا "دولة كل مواطنيها"؟
أمّا عزيز حيدر، الأكاديمي الفلسطيني البارز من الجليل فيناقش في كتابه، الذي أعطاه عنواناً ملائماً On the Margins ("على الهامش")، أن وضع الشعب الفلسطيني في إسرائيل في الاقتصاد الوطني هو الدليل الأوضح على وضعه الإجمالي في المجتمع الإسرائيلي: إنه "محروم" في كل قطاع اقتصادي قياساً بكل شريحة اجتماعية في إسرائيل. وبصورة أساسية، يقوم عزيز حيدر بتوثيق واسع جداً لما هو، في الواقع، تمييز مؤسساتي ومنهجي إلى حد كبير ومدروس تمارسه الدولة الإسرائيليةفي حق المواطنين العرب. والدراسة، من حيث هي قائمة على التوثيق الموضوعي الواقعي، كتبها أستاذ علم الاجتماع في جامعة بير زيت في فلسطين، وزميل باحث في معهد هاري ترومان للبحث في الجامعة العبرية بالقدس - عميق المعرفة باللغتين العبرية والعربية - هي بحث اقتصادي سياسي في أحسن مستوياته، يتناول ميداناً كان حتى الآن مهملاً إلى حد كبير. وإلى جانب أشياء أُخرى، يشمل البحث مسحاً شاملاً لسياسة إسرائيل الاقتصادية تجاه مواطنيها العرب، والتغيرات في القطاع الزراعي العربي، والعقبات التي يواجهها رجال الأعمال العرب، ووضع اليد العاملة العربية وأوضاع العمل. وبسرد جدولٍ طويلٍ جداً من أعمال التمييز، يبين المؤلف كيف استُبعد القطاع العربي عن برنامج الخصخصة الأخير وعن برنامج التنمية الحكومي، وأن القرى والبلدات العربية لا تزال تتلقى من الحكومة ما لا يتجاوز جزءاً بسيطاً مما تتلقاه المناطق اليهودية.
ولئن كان حيدر يسير المسار المألوف في محاولاته لعرض الخطوط العامة لسياسات إسرائيل في الرقابة والتحكم في الأقلية الفلسطينيةفيها، فإن بحثه تجاوز، في الواقع، أعمالاً كثيرة عن الفلسطينيين في إسرائيل، بما يعتمده من مصادر أولية، أصيلة إلى حد كبير، ومن معطيات جديدة ومهمة يحللها المؤلف ببراعة. وتكمن القوة الأساسية في عمله، فعلاً، في مساهمته التوثيقية الواقعية بالدرجة الأولى. مع ذلك، فإن الأكثر إشكالاً هو سعي المؤلف لتجربة مقاربة أكثر تماسكاً وانضباطاً. فيقتبس حيدر، في الوقت نفسه، من مقاربتين نظريتين متمايزتين: أ) مقاربة اقتصادية سياسية بما فيها من تشديد أساسي على سوق العمل والسياسة الإسرائيلية - اليهوديةالداخلية كآلية لقياس استبعاد/دمج الفلسطينيين في إسرائيل؛ ب) مقاربة "أيديولوجيا الدولة" بتركيزها الرئيسي على الأصول الأساسية للأيديولوجيا الصهيونية - اليهوديةفي دولة إسرائيل، باعتبارها المقرر الأساسي لاستبعاد غير اليهود وتهميشهم في الاقتصاد الإسرائيلي. ومنذ فترة وجيزة، ناقش الاقتصادي السياسي الإسرائيلي، ميخائيل شاليف، أن مقاربة "أيديولوجيا الدولة" قد أصبحت هامشية إذا اعتمد المرء مقاربة اقتصادية سياسية يكون تشديدها على سوق العمل والسياسة اليهوديةالمحلية، لقياس آليات الاستبعاد/الدمج في حالة الفلسطينيين الإسرائيليين.
وبالمقارنة، يناقش حيدر أن الوضع المهمش للسكان الفلسطينيين في الاقتصاد الإسرائيلي لا تحدده قواعد السوق الحرة، وإنما السياسة التمييزية العامة لحكومة إسرائيل. "إن السكان العرب يشكلون أقلية قومية إثنية لا قوة لها، تتعرض للتمييز في المعاملة من قبل النظام السياسي الذي تتحكم فيه الأكثرية السياسية. إن سياسة التمييز مستمدة، بالدرجة الأولى، من طبيعة إسرائيل كمجتمع استعماري، ومن تعريفها بأنها دولة يهودية - صهيونيةغايتها تأمين الحقوق الحصري للأكثرية اليهوديةوتعمل كدولة للشعب اليهودي... إن الحكومة المركزية تصوغ سياستها على أساس أن مجموع الناتج هو صفر؛ إن أي شيء جيد للأكثرية يُرى أنه سيئ للأقلية" (ص 180). أنا لا أُعارض هذا الاستنتاج من حيث المبدأ. لكن المؤلف الذي يتبنى، خلال النص، مقاربتين متباينتين من حيث المفهوم، بحيث يمكن استبدال الواحدة منهما بالأُخرى، يبذل جهداً قليلاً في التوفيق بينهما. في الواقع، إن المقاربتين اللتين كانتا، في الأعوام الأخيرة، محور أحد أمتع الحوارات بشأن المقاربات الجديدة لدراسة المجتمع الإسرائيلي - ليستا منفصلتين بالضرورة. وإذا ما تم إيضاحهما، يمكن استخدامهما معاً، وفي وقت واحد، لقياس عمليات وآليات الاستبعاد/الدمج في حالة الفلسطينيين في إسرائيل.
إن النتائج التي توصل إليها حيدر أقرب إلى أن تكون خليطاً من التشاؤل، أي التشاؤم والتفاؤل: فمن الناحية الإيجابية يشير المؤلف بحق إلى الحضور السياسي المتنامي الذي يغير دور الفلسطينيين ووزنهم في إسرائيل. وكذلك يناقش بصورة مقنعة، أولاً، الفائدة المحدودة لسياسة إسرائيل القائمة على الرقابة والتحكم في الأقلية الفلسطينية - بسبب التناقضات في السياسة وبسبب عجز إسرائيل عن السيطرة على نتائج التطورات المحلية والاقتصادية، ولا سيما منذ سنة 1967. ثانياً، الثورة الحقيقية في تصدي المواطنين الفلسطينيين للضغط الممارس عليهم، بما في ذلك في الميدان الاقتصادي. وفي الأعوام العشرين الأولى من قيام الدولة، اشتهرت الأقلية الفلسطينيةبالخضوع كلياً، لكنها الآن تحولت إلى الهجوم، باذلة ضغوطاً مضادة لتحسين الوضع بتغيير "قواعد اللعبة" (ص 180). غير أن حيدر يعود في الصفحة نفسها إلى تعديل ذلك مجادلاً في أن "محاولات الأقلية لتغيير السياسة القائمة لم تكن ذات جدوى"، وأن "السكان العرب يشعرون، بصورة متزايدة، بأنهم وصلوا إلى درب مسدود." لعل هذه الفوارق الظاهرة في النتائج نجمت عن عملية ترجمة الكتاب من نصه العبري الأصلي؛ لكن كان يمكن للمحرر البارع أن يتنبه لها بسهولة، وأن يحذفها. غير أن هذا العمل يبقى، على الرغم من هذه الانتقادات، عملاً يعتمد البحث الجيد والتوثيق الدقيق، ويُعد إضافة قيّمة إلى المكتبة المتنامية عن الفلسطينيين في إسرائيل.