افتتح توقيع اتفاقي أوسلو - 1 وأوسلو - 2 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية مرحلة جديدة في تعامل العرب مع القضية الفلسطينية. فإذا كان الغرب لم يتخل عن معاداته للحقوق الوطنية الفلسطينية ولا عن تماهيه الشديد مع التطرف الصهيوني، فإنه قد غير موقفه من ياسر عرفات. فبعدما شُهِّر به طويلاً بوصفه تجسيداً للإرهاب والشر، رُفع حالياً إلى مرتبة رجل الدولة المحنّك. ولا يعود ذلك إلى تكريسه زعيماً من قِبل شعبه، فهو لم يُنتخب من قِبل الشعب إلاّ في كانون الثاني/يناير 1996، بل لأنه أصبح المنفذ الوفي والمثابر للسياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. أمّا إدوارد سعيد، الذي ربما كان الناطق الرئيسي غير الرسمي للقضية الفلسطينية في الغرب، فقد قطع صلته بقيادة منظمة التحرير، واختار أن يصبح الناقد الأمضى - وبالتأكيد الأبلغ - للصفقة التي تمت بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ولا يمكن الاستهانة بانتقادات إدوارد سعيد، حتى من قِبل الذين أمضوا سحابة حياتهم المهنية وهم يحاولون التقليل من شأن هذا المثقف البارز. فموقفه من القضية الفلسطينية رفيع الطراز، مركّب، ولا يمكن تبويبه وفقاً لنظام التصنيف السهل للجدل الفلسطيني - الإسرائيلي. ذلك بأن مساندته للحقوق الوطنية الفلسطينية لم تعْمِ بصره عن التجربة اليهودية. وهو، بخلاف عرفات وشركائه، يقول الشيء نفسه سواء بالعربية أو بالإنكليزية، ولا يفصِّل ملاحظاته على مقياس ما يفضله مستمعوه. وهو من المثقفين الفلسطينيين، القليلين للأسف، الذين فهموا معنى المعاناة اليهودية، وعبّروا عن نفورهم الشديد من مَيْل بعض العرب إلى تجاهل الماضي اليهودي، أو ما هو أسوأ حتى من ذلك: الاستهزاء به. وهو يدين العداء للسامية، ويعرب عن رفضه أي حل لا ينسجم مع الحرية والمساواة للعرب واليهود على حد سواء، ويشدد على معارضته الحل العسكري للمشكلة الفلسطينية، ويدعو إلى استعادة الحقوق السياسية (الحق في الدولة) الفلسطينية على قاعدة "العدالة الحقيقية". (ص 36)
إن موقفه لا ينبع من منظار شوفيني ضيق؛ فهو يقول في عبارة من المؤكد أنها ستقابَل بعدم الارتياح في الأوساط الشعبية العربية وفي أوساط المثقفين العرب في آن واحد: "القومية وحدها ليست ولن تكون أبداً ’الجواب‘ عن مشكلة المجتمعات العلمانية الجديدة" (ص 14). إن هذا المثقف، المُساء فهمه أكثر من غيره، يقارب القضية الفلسطينية من منظار إنساني. وينبغي للذين يتهمون إدوارد سعيد بمراعاة الرأي العام العربي ألاّ يغيب عن بالهم مدى شجاعته في حمل راية العلمانية، وهو يذكّر قراءه بأن "ثمة في الديانات التوحيدية الثلاث الكبرى آراء غير متسامحة في جوهرها، إن لم نقل عدائية، إزاء ما يسمى ’الآخرين‘ " (ص 55). ووحدهم الاعتذاريون الدينيون قد يختلفون معه في رأيه هذا. كما أنه حكيم في تحذيره لدى التعاطي مع حركة "حماس" من "عقد حلف شيطاني مع حركة دينية" (ص 109). وهي نصيحة مهمة في ضوء التحالف بين المنظمات الفلسطينية اليسارية والمجموعات الإسلامية الأصولية.
وهناك بعض الأمور التي قد يختلف فيها المرء مع المؤلف. فقوله إن إسرائيل هي "الدولة الثيوقراطية الأُولى في الشرق الأوسط" لا ينطبق على الواقع. ذلك بأن قيام المملكة العربية السعودية سبق نشوء إسرائيل، إضافة إلى سلسلة من الدول الإسلامية التاريخية السابقة. زد على ذلك أنه، على الرغم من انتقاده المحق لعرفات على مضيّه بعيداً في تقديم التنازلات لمجرد الحصول على اعتراف من العدو (ص 36)، يقر بأنه عقد محادثات دبلوماسية مع وزارة الخارجية الأميركية في عهد جيمي كارتر للحصول على اعتراف أميركي بمنظمة التحرير. (ص 5)
إلا إن المسألة الرئيسية التي يمكن، بل ينبغي طرحها هي توقيت إدوارد سعيد. لقد كان عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني بين سنتي 1977 و 1991، وكان قريباً من عرفات وغيره من قياديي منظمة التحرير، ومع ذلك فإنه، وطوال أعوام كثيرة، ليس فقط أنه لم يوجه أي نقد إلى عرفات ومؤسساته الفاسدة، بل أيضاً امتدح الزعيم الذي يعتبره الآن عقبة في وجه تحرير فلسطين. ففي سنة 1983، كتب إدوارد سعيد مقالاً في الـ New York Times قال فيه: "ليس لعرفات بديل ذو صدقية." وأضاف أن الأخير جعل من "منظمة التحرير الفلسطينية هيئة تمثيلية حقيقية." (أُعيد نشر هذا المقال في كتابه الذي صدر في سنة 1994 بعنوان: The Politics of Dispossession: The Struggle for Palestinian Self-Determination, 1969-1994, pp. 78-79). وفي هذا المقال، نسب إدوارد سعيد إلى عرفات فضل بناء مؤسسات، غير موجودة اليوم، ولم تكن موجودة عندما كتب إدوارد سعيد كلماته وقتئذ. إن إدوارد سعيد يرفض الآن "الدمج بين شخص عرفات وبين القضية الفلسطينية" (ص 181)، مع أنه قال في طبعة سنة 1992 من كتابه: The Question of Palestine, p. 160 "إن مجرد وجوده المستمر يضمن وجود القضية الفلسطينية." بيد أن القضايا العادلة، خلافاً للبشر، هي قضايا خالدة ولا تعتمد في استمرارها على شخص واحد.
لقد امتدح إدوارد سعيد في الماضي عرفات على "نجاحه بصورة عامة في رعاية الموارد الفلسطينية وإدارتها" (The Question of Palestine, p. 165)، وعلى جعله الفلسطينيين "مجتمعاً قومياً" (The Question of Palestine, p. 78).
وفي الحقيقة، إن العكس هو الصحيح: المجتمع القومي الفلسطيني، الذي كان موجوداً قبل زمن طويل من ولادة عرفات، هو المسؤول عن خلق ياسر عرفات. إلى ذلك، يعترف إدوارد سعيد بأن انطباعه حيال عرفات في إثر لقائه الأول به سنة 1970 لم يكن إيجابياً بالضرورة، فهو يقول: "إن عرفات ممثل كبير وحيوان سياسي عظيم، وعلاقته بالصدق علاقة ظرفية فقط"
(ص 79). لقد كان عليه أن يثق بانطباعه الأول. ذلك بأن الدلائل على تفرد عرفات بالسلطة وقلة كفاءته، إضافة إلى فساد منظمة التحرير، كانت متوفرة منذ أوائل السبعينات، وتأكدت أكثر في سنتي 1975 و1976، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ولا ريب في أن إدوارد سعيد، وهو واحد من مراقبي الوضع الفلسطيني عن كثب، كان مطلعاً على ما كان يجري، لكنه لم يتحدث عن ذلك من قبل.
إن هذه الانتقادات لا تضعف الأسس الخُلُقية لهذا الكتاب. والنقد الذي يوجهه إدوارد سعيد إلى ما يسمى "العملية السلمية" وما نجم عنها من تهميش سياسي للفلسطينيين ينبغي أن ينشر على أوسع نطاق في بلد نادراً ما يتقبل الخلاف في الرأي فيما يختص بالمسألة العربية - الإسرائيلية. وغداً، عندما تُكتب كتب التاريخ، وعندما يعود الظلم الذي ينطوي عليه اتفاقا أوسلو - 1 وأوسلو - 2 ليلاحق كالشبح أولئك الذين هللوا للمصافحة الشهيرة [بين عرفات ورابين]، سيشار إلى أن إدوارد سعيد وحيدر عبد الشافي (أنظر المقابلة في: Journal of Palestine Studies, Vol. xxv, No. 1, Autumn 1995) هما اللذان قالا الحقيقة ومثّلا صوت الضمير. إن مرور هذين الاتفاقين غير العادلين إنما نجم عن اختلال ميزان القوى. وكما لاحظت حنّا أرندت قبل 45 عاماً، فإنه: "كما يبدو، وبغض النظر عن جميع الآمال المعقودة وخلافاً لها، فإن الحجة الوحيدة التي لا يستطيع العرب فهمها هي القوة."[1]
[1] Hannah Arendt, “Peace or Armistice in the Near East?,” Review of Politics, January 1950, p. 56.ش