يتناول المقال العمل العسكري في الاستراتيجية الفلسطينية وجدوى استخدام العنف المسلح وسيلة لتحقيق الأهداف الفلسطينية. ويحاول الإجابة عن عدد من الأسئلة منها: هل لا يزال العمل العسكري شكلاً رئيسياً من أشكال النضال أم أنه لم يعد كذلك بعد خمس سنوات من المفاوضات والاتفاقات؟ وهل هناك إمكان واقعي لممارسة عمل عسكري نظامي واسع (دول عربية) أو غير نظامي (مقاومة) في ظل الأوضاع العربية والدولية الراهنة؟ ويرى كاتب المقال أن قبول العرب بالذهاب إلى مؤتمر السلام في مدريد بوفود مستقلة، ووفقاً للشروط والأسس التي تضمنتها رسائل الدعوة أفقد الحديث عن خيار عسكري فلسطيني أو عربي مقوماته النظرية والعملية، وأن الأمر ينطبق أيضاً على إسرائيل عندما يدور الحديث عن حرب شاملة، لأن جميع الأطراف تدرك أنها فقدت حتى إشعار آخر خيار الحرب وسيلة رئيسية لحل خلافاتها.
أثارت هبّة أيلول/سبتمبر 1996، وما تخللها من اشتباكات محدودة بين قوات الشرطة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلية، مجدداً، النقاش بشأن إمكان وجدوى استخدام العنف المسلح وسيلةً لتحقيق الأهداف الفلسطينية، سواء كعنصر رئيسي أو كعنصر مساعد في الاستراتيجيا الفلسطينية العامة. وقد ارتأت "مجلة الدراسات الفلسطينية" المساهمة في هذا النقاش من خلال استكتاب أشخاص ذوي وجهات نظر متباينة أو ينتمون إلى تيارات متعددة، ومن خلال الاستعداد لنشر أية مساهمات جديدة تردها في هذا الشأن. وننشر فيما يلي أول مساهمتين وردتا إلى المجلة في هذا الشأن، أملاً بنشر مزيد من المساهمات في الأعداد المقبلة، من شأنه توسيع النقاش وإغناؤه.
العمل العسكري في الاستراتيجيا الفلسطينية
منذ قررت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف.) وحكومات دول الطوق العربية (سورية ولبنان والأردن) المشاركة في عملية السلام التي انطلقت من مدريد سنة 1991، طُرح على المفكرين الفلسطينيين والعرب سؤال كبير عن موقع الكفاح المسلح الفلسطيني والعمل العسكري العربي في الاستراتيجيا الفلسطينية والعربية العامة، التي اعتمدت منذ نكبة سنة 1948، وعن دورهما كوسيلة لحل الصراع العربي - الصهيوني وتحرير فلسطين وجميع الأراضي العربية التي احتُلت لاحقاً. والواضح أن الجدل بشأن هذا الموضوع خضع، على امتداد الفترة الماضية، لهبّات حوارية ساخنة وأُخرى باردة، تبعاً لمجريات عملية السلام ذاتها. فكلما كانت العملية السلمية نشيطة وسائرة قدماً كانت درجة حرارة الجدل تنخفض ووتيرته تخبو وتضعف، والعكس بالعكس. وعلى الرغم من التطورات النوعية التي شهدتها، في الأعوام الثلاثة الأخيرة، العلاقةُ بين قيادة م.ت.ف. وعدد من حكومات الدول العربية من جهة وبين الحكومة الإسرائيلية من جهة أُخرى، فإن مناقشة الموضوع ما زالت قائمة، وأسئلة كثيرة ما زالت مطروحة على الجميع، منها: هل لا يزال العمل العسكري وارداً بوصفه شكلاً رئيسياً (أو الشكل الرئيسي) من أشكال النضال الفلسطيني، أم أنه لم يعد لا هذا ولا ذاك بعد أعوام خمسة من المفاوضات، وبعد الاتفاقات المتنوعة والمتعددة التي تم التوصل إليها على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي؟ وهل هناك إمكان واقعي لممارسة عمل عسكري نظامي واسع (دول عربية) أو غير نظامي (مقاومة فلسطينية ومقاومة لبنانية مثلاً) في ظل الأوضاع العربية والدولية الراهنة؟ وبما أن المفاوضات العربية - الإسرائيلية مرشحة للاستمرار أعواماً، وعرضة للنكسات بين فترة وأُخرى، وأنها لن تسير في خط مستقيم، فإن هذه الأسئلة المهمة ستبقى مطروحة للبحث. ومن غير المستبعد أن تتبدل مواقف المفكرين واستنتاجات الباحثين.
الاستراتيجيا العربية: عمل عسكري أم مفاوضات؟
في سياق المساهمة في البحث عن إجابات موضوعية وصحيحة بشأن الموضوع وبشأن الأسئلة الأُخرى المطروحة، لا بد في البداية من الإقرار بأن حرب الخليج ونتائجها المدمرة هزت أسس التضامن العربي، وتراجع بعدها مستوى التنسيق بين الدول العربية. ولم يعد العرب منذ ذلك التاريخ يملكون استراتيجيا سياسية ولا عسكرية موحدة. وصار هناك استراتيجيات عربية متعددة، كل واحدة منها تخص دولة من الدول العربية، ولم تكن أية واحدة منها تعتمد الخيار العسكري، وأظنها لا تزال كذلك حتى الآن.
وفي سياق البحث، لا يمكن أيضاً لأي باحث موضوعي القفز عن التطورات الدولية والإقليمية الكبيرة التي وقعت منذ بداية هذا العقد (التسعينات)؛ إذ لا يمكنه، أولاً، تجاهل نتائج انتهاء الحرب الباردة وانعكاساته على الصراع العربي - الصهيوني، ورغبة القطب الأوحد (الولايات المتحدة)، المدعوم دولياً، في صنع السلام والاستقرار في المنطقة، وحل الخلافات العميقة والمستعصية لهذه المنطقة بالوسائل السلمية. ولا يمكنه ثانياً أن يكون موضوعياً إذا تجاهل تفاعلات عملية السلام وأثرها في المنطقة وفي طرق وأساليب معالجة هذا الصراع، ولا سيما أن هذه العملية كرست ذاتها وتجاوز عمرها أعواماً خمسة، وما زالت قادرة، كما هو واضح، على الاستمرار فترة طويلة. ولا يمكن أيضاً لأي بحث أن يكون صحيحاً إذا تجاهل كاتبه الكثير من الاتفاقات الأساسية والفرعية التي أفرزتها المفاوضات الفلسطينية/العربية - الإسرائيلية، وتجاهل دور هذين العاملين (انتهاء الحرب الباردة وإفرازات عملية السلام) في مواقف جميع أطراف الصراع من دون استثناء، وفي استراتيجياتهم السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية.
ويفترض ألا يكون خلاف بين المفكرين والباحثين في أن الحرب الباردة ساهمت بفعالية، خلال فترات احتدامها ومسارها الطويل، في تأجيج الصراع العربي - الإسرائيلي، وفي توسّع رقعة دولة إسرائيل واحتلالها لبقية الأراضي الفلسطينية والجولان سنة 1967 وأجزاء واسعة من الجنوب اللبناني سنة 1978، والتسبب بتشريد مئات الألوف من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، إضافةإلى الذين رُحلوا أو هُجروا في فترة 1947 - 1948. ويفترض أيضاً ألا يكون خلاف في شأن أن الحرب الباردة قامت بدور كبير في توريط العرب والإسرائيليين في ثلاث حروب كبيرة دامية ومدمرة (في سنوات 1967 و1973 و1982)، وعقّدت أزمة الشرق الأوسط، وعطلت جميع المحاولات الدولية، التي ظهرت قبل مبادرة بوش - بيكر في آذار/مارس 1991، لحلها، وأوقفت تقدم وتطور شعوب المنطقة بضعة عقود، وساهمت في تعميق العداوات فيما بينها، وأخّرت تقدم الفكر السياسي الواقعي عندها. وأعتقد أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق ومهندس مؤتمر السلام في مدريد، جيمس بيكر، كان دقيقاً ومصيباً ومظهراً للحقيقة عندما قال: إن اعتراف الأطراف بعضها ببعض، والتوصل إلى اتفاق إعلان المبادئ (اتفاق أوسلو) بين إسرائيل ومنظمة التحرير، والتوصل إلى اتفاق أردني - إسرائيلي، كل ذلك تم بفضل انتهاء الحرب الباردة، وفتح الآفاق لتقدم الحلول السلمية.
وهكذا، فإن عملية السلام التي انطلقت من مدريد سنة 1991 ما كان لها أن تنطلق، أو أن تستمر أكثر من خمسة أعوام، لو لم تنته الحرب الباردة. فبانطلاقتها واستمراريتها أدخلت شعوب الشرق الأوسط في منعطف مصيري. وبصرف النظر عن الموقف من عملية السلام ومن أسسها ونتائجها المحدودة في هذا المسار، أو جمودها في مسارات أُخرى، فإن هذه العملية وضعت الدول العربية وإسرائيل على أبواب مرحلة جديدة من العلاقات، تختلف نوعياً عن جميع المراحل التي مرت بها خلال النصف الثاني من هذا القرن. فقبول العرب بالذهاب إلى مؤتمر السلام بوفود مستقلة، ووفقاً للأسس والشروط التي تضمنتها رسائل الدعوة، أفقد الحديث عن خيار عسكري فلسطيني أو عربي مقوماته النظرية والعملية. وينطبق الأمر ذاته على إسرائيل عندما يدور الحديث عن حرب شاملة. فالأطراف كافة ذهبت إلى مدريد بعد أن قررت إغلاق ملفات الحرب، ووضعت السلاح جانباً. ولعل جميع الأطراف المعنية بالصراع باتت تدرك بعد نصف قرن من الحروب، وبعد انتهاء الحرب الباردة، وبعد تورطها في المشاركة في عملية السلام الجارية، أنها فقدت الآن، وحتى إشعار آخر، خيار الحرب وسيلة رئيسية لحل خلافاتها، وفقدت خيار اللاحرب واللاسلم كواحد من الخيارات لتجميد صراعاتها وتأجيل حلها. ولم يعد في استطاعتها، بعد خمسة أعوام من المفاوضات، العودة إلى الوراء والتمترس في خنادق الأحلام التاريخية القديمة، وخصوصاً الأحلام التي تحولت إلى أوهام. وأظن أن العلاقات التي نشأت بين بعض أطراف الصراع، وتخلي حزب الليكود في اتفاق الخليل عن اعتبار "يهودا والسامرة" جزءاً لا يتجزأ من أرض إسرائيل التاريخية الكبرى، برهان ودليل ملموس على ذلك. وتستمر المفاوضات الفلسطينية/العربية - الإسرائيلية منذ أكثر من خمسة أعوام، وقد توصل الأردن وم.ت.ف.، وقبلهما مصر، إلى اتفاقات رسمية مع حكومة إسرائيل جعلت الحدث عن استراتيجيا عسكرية عربية موحدة حديثاً غير واقعي وأقرب إلى الحديث النظري المجرد، ويندرج تحت خانة الأمنيات الذاتية بالنسبة إلى الذين لا يزالون متمسكين بالماضي ولا يرون المتغيرات. فالأطراف العربية ذهبت إلى مدريد بناءً على قرار دولي هدفه حل الصراع العربي - الصهيوني، وصنع السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. وفي وقت لاحق، وافق طرفان، هما الأردن و م.ت.ف.، على إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل وعلى محاربة الإرهاب، ودخلت الأطراف الثلاثة علاقات سلام حلت عملياً مكان حالة الصراع والعداء التي كانت قائمة بينها.
وبغض النظر عن النتائج الضئيلة التي حققتها المفاوضات في مساراتها المتعددة حتى الآن، فإنها بالتأكيد أغلقت، حتى إشعار آخر (سنوات طويلة)، ملفات الحروب. وقد أرغم استمرار العملية السلمية، أو أنه سيرغم، جميع الأطراف على الخضوع وإحداث تغييرات جذرية في استراتيجياتها الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، وعلى طي صفحة الماضي وفتح ملفات جديدة لعلاقات جديدة. ووضعت هذه العملية هذا الجيل من الطرفين أمام خيار واحد هو اعتماد الطرق والوسائل السلمية لحل الخلافات، والتخلي عن العمل العسكري خياراً استراتيجياً لحلها. ومن يدقق في مجريات عملية السلام بين العرب والإسرائيليين يلمس بوضوح أيضاً غياب الاستراتيجيا التفاوضية العربية الموحدة، وانعدام التنسيق الحقيقي بين تلك الأطراف العربية المشاركة في المفاوضات. ولعل انتهاء صيغة الاجتماع شبه الدوري التي كانت تجمع الدول العربية المشاركة في المفاوضات (مصر وسورية والأردن ولبنان و م.ت.ف.) خير شاهد على ذلك. وأظن أن عجز القمة العربية "اليتيمة" التي عُقدت في القاهرة في العام الماضي عن إيجاد صيغة جديدة للحد الأدنى من التنسيق العربي في المفاوضات، أو إحياء الصيغة القديمة، يؤكد أن حال العرب لم تتغير، وأن غياب الاستراتيجيا العربية السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية الموحدة سيستمر فترة طويلة.
الموقف السوري والخيارات المتاحة
بعد اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل سنة 1978، قال الكثير من الخبراء الاستراتيجيين العرب والأجانب إن حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 هي آخر الحروب العربية - الإسرائيلية. وجاءت الأحداث في وقت لاحق لتؤكد خطأ تلك المقولة. فبعد كامب ديفيد، وقعت حرب سنة 1982 على الأراضي اللبنانية، وفي أواخر سنة 1987 انفجرت الانتفاضة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، واستمرت أعواماً عدة. وبصرف النظر عن رأي بعض الخبراء في حرب 1982 وفي الانتفاضة وعدم إدراجهما في خانة الحروب، فإني أعتقد أنهما بتفاعلاتهما الإقليمية والدولية وبنتائجهما على أطرافهما وعلى قضايا الصراع، يمكن إدراجهما في قائمة الحروب العربية - الإسرائيلية. وشمولية البحث الذي نحن في صدده تفرض التعامل معهما ومعالجتهما باعتبارهما كذلك، وتفرض أيضاً الإجابة عن سؤال: هل يمكن لهذا المشهد أن يتكرر، وخصوصاً أننا نلحظ الآن ارتفاعاً في وتيرة الحديث عن حرب سورية - إسرائيلية مباشرة واسعة، أو عن حرب محدودة غير مباشرة تخاض على الأراضي اللبنانية؟ نسمع أيضاً أحاديث فلسطينية عن إمكان عودة السلطة الفلسطينية إلى تكرار أحداث أيلول/سبتمبر 1996 (هبّة النفق)، واستخدام العنف بأشكاله المتنوعة لتحقيق أهداف سياسية في إطار عملية السلام الجارية. وهناك من يدعو إلى تفجير انتفاضة جديدة. ولا شك في أن موضوعية البحث ودقته تفرضان درس البدائل والخيارات المتاحة في حال استمرار جمود المفاوضات في المسار السوري - اللبناني، أو تعثرها لاحقاً في المسار الفلسطيني مع تمييز العمل العسكري الفلسطيني والعربي الشامل كخيار استراتيجي لتحقيق الأهداف. منه كخيار تكتب هدفه تحريك المفاوضات، أو اعتماده وسيلة لدعم المفاوض الفلسطيني والنضال السياسي - الدبلوماسي الفلسطيني ككل، وكذلك تمييز موقع العمل العسكري في الاستراتيجيا الفلسطينية، والأردنية أيضاً، في هذه المرحلة، من موقعه في الاستراتيجيا السورية، ومعها الاستراتيجيا اللبنانية المرتبطة بها لأسباب متعددة ومتنوعة.
وفي سياق قراءة الموقف السوري من عملية السلام والبحث في الخيارات المتاحة، لعل من المفيد إعادة التذكير بأن القيادة السورية دخلت المفاوضات لاعتبارات كثيرة، أولها إدراكها طبيعة العلاقات الدولية التي بدأت تشق طريقها في مطلع التسعينات، وأثر انتهاء الحرب الباردة في الصراعات الدولية والإقليمية، ومن ضمنها الصراع العربي - الإسرائيلي، ومعرفتها أن إرادة "الوفاق الدولي" بقيادة القطب الأوحد (الولايات المتحدة) تدفع في اتجاه حل هذا الصراع بالطرق السلمية. ويمكن القول إن تجاوب القيادة السورية مع التطورات الدولية، وتفاعلها مع التوجهات الشرق الأوسطية للإدارة الأميركية في مرحلة "الوفاق الدولي"، ومن ضمنها مبادرة بوش - بيكر (6 آذار/مارس 1991) تقررا نظرياً منذ إعلانها موافقتها على المشاركة في التحالف الدولي الذي أنشأته الإدارة الأميركية ضد الغزو العراقي للكويت. وقد كان واضحاً منذ بداية عملية السلام أن هدف سورية من المشاركة في هذه العملية هو تحرير الأراضي السورية المحتلة بالطرق السلمية، والحفاظ على دورها الإقليمي، وتحسين وضعها الاقتصادي، والحفاظ على استقرار نظامها السياسي، وتجنب الضغوط والحصار والعقوبات الأميركية والدولية المحتملة، ولا سيما أنها كانت تدرك أنها إحدى الدول المتهمة بدعم الإرهاب. وأعتقد أن هذا الاعتبار ما زال قائماً، ولا تستطيع القيادة السورية القفز عنه عند اتخاذها أي قرار بشأن الحرب والسلام مع إسرائيل. وثاني الاعتبارات هو إدراكها الكامل أن الأوضاع العربية بعد حرب الخليج تغيرت، وأن التضامن العربي دُفن في الصحراء، وهو أيضاً معرفتها الأكيدة أن الدول العربية غير راغبة في، وغير قادرة على مقاومة قوة الدفع التي تولدها الرياح الدولية، وأن التفكير في تحرير الجولان والجنوب اللبناني وفلسطين بالسلاح شُطب من حساباتها حتى إشعار آخر. وبعد خمسة أعوام من المفاوضات، تدرك القيادة السورية أن هذا الاعتبار ما زال قائماً بصيغة أو بأُخرى. وقد عززه توصل الأردن و م.ت.ف. إلى اتفاقات مع إسرائيل، بالإضافة إلى اتفاق كامب ديفيد ذي التأثير في القرار السوري بشأن الحرب والسلام مع إسرائيل. أمّا الاعتبار الثالث فهو معرفة القيادة السورية أن طاقاتها الذاتية العسكرية أضعف كثيراً من الطاقات العسكرية الإسرائيلية، وأنها لا تستطيع بقواها الذاتية تحرير الجولان، أو الصمود فيه فترة طويلة في حال تمكنت من تحريره بحرب خاطفة ومفاجئة.
إن مراجعة تجربة المفاوضات في المسار السوري - الإسرائيلي على مدى خمسة أعوام تؤكد مسؤولية إسرائيل عن تعثرها. وقد تبين أن مصالح الطرفين، السوري والإسرائيلي، الإقليمية والدولية، وأوضاعهما الداخلية والخارجية المحيطة بهما لم تكن ضاغطة على قيادتيهما إلى درجة فرض الاستعجال في التوصل إلى اتفاق، خلافاً للحالة التي مر الفلسطينيون والأردنيون بها. ولقد حاول رابين في أكثر من مرحلة من مراحل المفاوضات التوصل إلى اتفاق جزئي مريح له ولحزبه، وحاول إغراء السورييين باتفاق مرحلي هو أقرب إلى صيغة فك اشتباك، كالتي تمت بعد حرب 1973، وعرض عليهم انسحاباً جزئياً في مقابل سلام جزئي، إلا إن مصالح سورية الوطنية والإقليمية حالت دون ذلك. فما عرضه رابين كان أقل كثيراً مما حققه السادات في كامب ديفيد. وتجربة مرحلة الحلول في المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، التي فرضت على م.ت.ف. منذ بداية عملية السلام، لم تغر السوريين بقبول هذا المنهج من المفاوضات والاتفاقات. ويمكن القول إن عودة الطرفين السوري والإسرائيلي إلى التفاوض تعني أنهما عادا ليبحثا في اتفاق شامل بشأن القضايا كلها. ويفترض أن يتمسك السوريون بتحقيق ما لا يقل عما حققه المصريون في كامب ديفيد. وهذا يعني قبول إسرائيل بالانسحاب الكامل من الجولان ومن الأراضي الفلسطينية المحتلة المتاخمة للجولان، التي كانت خاضعة للسيادة السورية، وتفكيك المستوطنات، على غرار ما تم في مستوطنة ياميت وغيرها من المستوطنات التي كانت مقامة على أرض سيناء. وكذلك الاتفاق بشأن مستقبل الوضع في لبنان. بما في ذلك مستقبل قوات لحد وقوات حزب الله، وجميع القوى العسكرية الأُخرى غير النظامية، والاتفاق أيضاً بشأن تقسيم المياه وتحديد طرق استغلالها، وتطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية، بما في ذلك تبادل العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين الطرفين.
بالتمعن في هذه القضايا وفي مواقف الليكود والأحزاب المؤتلفة معه، يمكن القول إن من المتعذر التوصل إلى اتفاق سوري - إسرائيلي خلال عهد الليكود، وإن حديث الجانب الإسرائيلي عن إحياء المفاوضات في المسار السوري لا يتعدى حدود الرغبة في "تقطيع" الوقت، وتجنب الضغوط الدولية، وامتصاص مواقف قوى السلام الإسرائيلية الضاغطة في اتجاه الحفاظ على عملية السلام.
وبالتمعن في المصالح السورية، وفي الأوضاع العربية والدولية المحيطة بموقف القيادة السورية، يتبين أن المصالح الوطنية السورية في هذه المرحلة من وجود الليكود في الحكم، وفي ظل الموقفين العربي والدولي، تكمن في عدم تحمل مسؤولية نسف المفاوضات، على الرغم من تعنت الليكود، وعدم المبادرة إلى الانسحاب رسمياً من عملية السلام، على الرغم من انحياز الراعي الأميركي إلى جانب إسرائيل. ويتبين أيضاً أن لجوء القيادة السورية إلى حرب مباشرة لتحرير الجولان، تكون الأراضي السورية أحد ميادينها الرئيسية، يعتبر مغامرة كبيرة غير مضمونة النتائج وتحمل في طياتها احتمالات مدمرة للاقتصاد السوري وللنظام ذاته. ومن المرجح أن القيادة السورية لا تفكر الآن في هذا الخيار، على الرغم من تعثر المفاوضات مع إسرائيل، وأنها تفضل، في حال تجدد المفاوضات وتعذر الوصول إلى اتفاقات مع إسرائيل (وهو الأمر المرجح في عهد الليكود)، الأخذ بأحد الخيارين التاليين: الأول هو اللجوء إلى حرب محدودة تخوضها القوى الوطنية والإسلامية اللبنانية، ومعها ما بقي من القوى الفلسطينية المعارضة لعملية السلام، ويكون ميدانها الجنوب اللبناني وشمال إسرائيل؛ والخيار الآخر هو الاستمرار في المفاوضات والإبقاء على حالة اللاحرب واللاسلم القائمة الآن، وانتظار انتهاء فترة حكم الليكود، والعمل قدر المستطاع، وبالسبل المتاحة، في اتجاه سقوط الليكود في الانتخابات المقبلة وعودة حزب العمل إلى السلطة لاستكمال ما كان تم التفاهم بشأنه في عهد رابين. وأعتقد أن مصالح القوى الوطنية والإسلامية المستقلة والمدعومة من إيران، ومعها المعارضة الفلسطينية، تتقاطع مع المصالح السورية في العمل بالخيار الأول (الحرب المحدودة في الجنوب اللبناني). وأعتقد أيضاً أن ما تملكه المقاومة الإسلامية من أسلحة ومعدات عسكرية (مدافع ميدان وقواذف وراجمات صواريخ)، أو ما يمكن أن يوفر لها وللفصائل الفلسطينية المعارضة من هذه الأنواع من الأسلحة، يؤمنان لها القدرة الفنية اللازمة لإشعال فتيل هذه الحرب واستدراج الجانب الإسرائيلي إليها. ومن غير المستبعد أن تدفع سياسة الليكود تجاه أمن الحدود الشمالية لإسرائيل، وتوجهاته لمعالجة الوضع في الجنوب (لبنان أولاً) بالجيش الإسرائيلي كي يكون البادئ في مثل هذه الحرب المحدودة. والحديث الجاري في إسرائيل الآن بشأن إمكان الانسحاب من جانب واحد هو الوجه الآخر للعملة نفسها (لبنان أولاً) وللتفكير الإسرائيلي في كيفية معالجة موضوع العمل العسكري الوطني اللبناني في الجنوب. ومن غير المتوقع أن يتم الانسحاب الإسرائيلي من دون معركة محدودة؛ فالانسحاب من جانب واحد يتطلب اتفاقاً سورياً - لبنانياً - إسرائيلياً على وجود قوى تملأ الفراغ وعلى مصير قوات لحد.. إلخ. ومثل هذا الاتفاق لم ينضج بعد، وهو يحتاج إلى نار لإنضاجه، حتى لو كانت ناراً خفيفة. وأظن أن الإدارة الأميركية لن تعارض معالجة الموضوع في ظل نيران المدافع والطائرات، وذلك وفقاً للنظرية القائلة إن تطويع الحديد وتغيير أشكاله وأوضاعه يتطلبان وجود نار. ويمكن القول سلفاً إن تجربة العمليات العسكرية المحدودة، والحروب الواسعة أو الحروب المحدودة التي وقعت على الأراضي اللبنانية، بينت أن وقوعها لا يعني قدرة أي من الطرفين على فرض مواقفه، أو الوصول إلى الحلول التي يتصورها. والنتيجة الوحيدة هي العودة إلى طاولة المفاوضات.
أمّا الخيار السوري الثاني، أي الانتظار في موقف اللاحرب واللاسلم، فالواضح أن في إمكان القيادة السورية الانتظار أعواماً من دون عقد اتفاق مع إسرائيل. وأعتقد أنها لن تخسر شيئاً إذا انتظرت إلى حين انتهاء عهد نتنياهو؛ فأوضاع سورية الداخلية وموقع الجولان في الاقتصاد السوري، وعلاقاتها الإقليمية والدولية، كل ذلك لا يشكل عوامل ضاغطة في اتجاه التوصل إلى اتفاق ناقص ومسلوق، على النحو الذي كانت م.ت.ف. عليه. والإدارة الأميركية لا تستطيع ممارسة ابتزازها وضغوطها على السوريين كي يقبلوا بمثل هذا الحل مثلما مارست الابتزاز والضغوط على قيادة م.ت.ف. في اتفاقات وبروتوكولات القاهرة وطابا، واتفاق إيرز الأخير. إذ إن قرارات الشرعية الدولية، وأسس مؤتمر مدريد، وخصوصاً تنفيذ القرارين 242 و338، ومواقف التفاهم التي تم التوصل إليها في المفاوضات في عهد حزب العمل، تمكّن سورية من الهروب من الضغط الأميركي طوال عهد الليكود وفرض العكس، أي الضغط على إسرائيل. هذا فضلاً عن أن سورية دخلت عملية السلام، وخاضت مفاوضات طوال خمسة أعوام قبل أن تقبض من الأميركيين ثمن دعمها ومؤازرتها العملية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط منذ أن شاركت في حرب الخليج.
وبصرف النظر عن الخيارات التي ستختارها سورية أو إسرائيل في الأسابيع والشهور القليلة المقبلة لمعالجة الوضع على الحدود الإسرائيلية - اللبنانية وتحريك مفاوضاتها، فالواضح أن مواقف الإدارة الأميركية، ومعها الدول المساندة للعملية السلمية والمستفيدة منها ومما أُنجز حتى الآن على المسارين الفلسطيني والأردني، جعلت طريق المفاوضات ممراً إجبارياً أمام السوريين واللبنانيين والإسرائيليين لحل خلافاتهم العميقة والمعقدة، وجعلت أمر توصلهم إلى اتفاقات مسألة وقت لا أكثر. فعدم التوصل إلى اتفاقات محددة في عهد الليكود لا يعني أن أحداً منهم يفكر في الخروج من عملية السلام نهائياً والعودة إلى خيار الحرب الشاملة كخيار وحيد. واختيار أي منهم تحريك المفاوضات من خلال عمليات عسكرية محدودة أو واسعة يخدم هذا الاستخلاص ولا يتعارض معه. وهذا الإدراك بالذات هو ما يفسر استمرار السوريين في المفاوضات منذ مؤتمر مدريد (تشرين الأول/أكتوبر 1991) حتى الآن من دون أن يفكروا لحظة واحدة في إعلان تعليقها أو الانسحاب منها. وأظن أنهم راهنوا في أكثر من محطة من محطات المفاوضات على إمكان تحقيق هدفهم الرئيسي (تحرير الجولان) عبر المفاوضات.
العنف وتحريك المفاوضات في المسار الفلسطيني
منذ أن قبلت قيادة م.ت.ف. بالمشاركة في عملية السلام، والجدل يدور في أوساط القوى الفلسطينية والمثقفين الفلسطينيين بشأن موقع الكفاح المسلح الفلسطيني في تحقيق الأهداف الفلسطينية، وفيما يتعلق بإمكان القيام بانتفاضة جديدة. وارتفعت وتيرة مناقشة الموضوع بعد تولي الليكود الحكم في إسرائيل، وتعثر المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، ووقوع مصادمات عنيفة بين الجماهير الفلسطينية والأجهزة الأمنية الفلسطينية استُخدمت فيها الأسلحة. وراح البعض يدعو إلى تكرار "هبّة أيلول 1996"، مستنداً إلى إقرار جميع الأطراف الفلسطينية بأن تلك الأحداث أدت دوراً مباشراً ومهماً في تحريك المفاوضات والراعي الأميركي، وفي إرغام نتنياهو على الاجتماع إلى عرفات، وإجبار الليكود على وقف مماطلته وتهربه من تنفيذ الاتفاقات الموقعة بين الطرفين. فهل ثمة أمام م.ت.ف. والسلطة الفلسطينية إمكان واقعي لمزج العمل السياسي والدبلوماسي، الذي تخوضه في إطار عملية السلام وخارجها، بالعمل العسكري والعنف في شتى أنواعه، على غرار ما حدث خلال المفاوضات الفرنسية - الجزائرية في إيفيان خلال حرب التحرير الجزائرية التي خاضتها الجماهير الجزائرية بقيادة جبهة التحرير، وكما حدث مع الفييتناميين خلال نضالهم من أجل تحرير بلدهم من الوجود الأميركي؟ وهل يمكن التوفيق بين توجهات السلطة الفلسطينية والتزاماتها بنبذ العنف، ومقاومة الإرهاب بكل صنوفه وأشكاله؟
إن تجربة خمسة أعوام من المفاوضات الفلسطينية والأردنية - الإسرائيلية بينت بالملموس أن طريق العمل السياسي والدبلوماسي مثمر ومنتج. وبصرف النظر عن رأي المعارضين لعملية السلام، الذين ما زالوا يعتقدون أن الكفاح المسلح هو الشكل الرئيسي والأجدى للنضال، فإن نتائج المفاوضات أكدت أن الفلسطينيين يستطيعون، في الظرف الدولي والإقليمي الراهن، انتزاع الكثير من الحقوق الفلسطينية بالطرق السلمية، بما فيها تحرير قطاعات كبيرة من الشعب من نير الاحتلال وظلمه، وتحرير أجزاء واسعة من الأرض، والتقدم خطوات كبيرة في اتجاه بلورة الكيان الفلسطيني وبناء الدولة المستقلة.
أمّا مزج الكفاح المسلح بالنضال السياسي والدبلوماسي، فالواضح أنه غير ممكن. والتجربة أكدت أنه غير مفيد؛ فـ م.ت.ف. ذهبت إلى مدريد وأوسلو بهدف الوصول عبر المفاوضات إلى حلول مقبولة للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وكانت تدرك أن هذا الدرب الجديد يختلف جذرياً ونوعياً عن درب الكفاح المسلح الذي مشت عليه ربع قرن من الزمن، وعن درب الانتفاضة التي دامت عدة أعوام. وكانت تدرك أيضاً أن شروط المشاركة في عملية البحث عن حل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي بالطرق السلمية تتعارض وتتناقض مع استمرارها في تبني الكفاح المسلح والعنف بأشكاله المتنوعة. وقد وافقت في حينه على تلك الشروط، وقدمت تعهدات خطية كثيرة بذلك، بدءاً بالرسائل المتبادلة بين عرفات ورابين بعد أوسلو، ومروراً بالاتفاقات كافة التي تم التوصل إليها والتي تتضمن كلها التزامات واضحة بنبذ العنف ومحاربة الإرهاب. وقامت لاحقاً بإلغاء بنود الميثاق الفلسطيني التي تشير إلى الكفاح المسلح شكلاً رئيسياً لنضال الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق أهدافه الوطنية. ومن البديهي القول إن صدقية م.ت.ف. الدولية واستمرار مشاركتها في عملية السلام يتطلبان الوفاء بالالتزامات التي قطعتها على نفسها. وقد بينت مسيرة المفاوضات أن ما تصبو م.ت.ف. إلى تحقيقه رهن لا بامتناع قواها المشاركة في السلطة من ممارسة العمل العسكري فحسب، بل أيضاً بمدى قدرتها على منع وتعطيل قدرة المعارضة الفلسطينية على القيام بهذا العمل من مناطق سيطرة المنظمة، ومن خارج هذه المناطق أيضاً. ولهذا يمكن القول إن لا مجال إطلاقاً أمام السلطة للمزج بين هذين الشكلين من النضال، ولا مجال للمزج بين نضال سياسي دبلوماسي تخوضه المنظمة والسلطة الفلسطينية وبين نضال عسكري تخوضه المعارضة الفلسطينية، لا بسبب الالتزامات مع الطرف الآخر ومع رعاة عملية السلام ومسانديها فحسب، بل أيضاً لأن المصلحة الوطنية تتطلب ذلك؛ فالمشاركة الفلسطينية في عملية السلام حققت للشعب الفلسطيني بعض أهدافه الوطنية، وهذا ما لم يتمكن الكفاح المسلح الفلسطيني من تحقيقه. والعمليات العسكرية التي نفذتها المعارضة منذ اتفاق أوسلو ألحقت أضراراً واسعة بالمصالح الوطنية الفلسطينية؛ إذ إنها أضعفت الموقف التفاوضي الفلسطيني، ووترت العلاقات الوطنية الداخلية، وقدمت للطرف الآخر ذريعة لتأخير وتعطيل تنفيذ كثير من بنود الاتفاقات التي تعطي الفلسطينيين بعضاً من حقوقهم الكثيرة المغتصبة، والتي كان من ضمنها تحرير أجزاء من الأرض، وتحرير قطاعات من الشعب. كما أنها قامت بدور مباشر في إبطاء التحولات، البطيئة أصلاً، في الفكر السياسي الإسرائيلي في اتجاه الأخذ بخيار السلام والتخلي عن احتلال أراضي الغير واستعمار الشعب الفلسطيني واستغلاله، ومدت المجتمع الإسرائيلي بشحنات جديدة من الخوف من السلام مع الفلسطينيين، وأضعفت تيار السلام في إسرائيل، وأنعشت القوى اليمينية وأحيت أفكارها المتطرفة، وعززت مواقعها في المجتمع الإسرائيلي، ومكنتها من تسلم السلطة مرة أُخرى. وقد أكدت التجربة العملية في عهود رابين وبيرس ونتنياهو أن في إمكان النشاط العسكري للمعارضة الفلسطينية أو الإسرائيلية التأثير في مسيرة قطار السلام، وإبطاء حركته، وحتى تخريب عجلاته ووقف حركته فترة ما، وتعكير علاقات ركابه بعضهم ببعض، إلا إنه لا يستطيع نسف عملية السلام وإخراج قطارها عن سكته كلياً؛ فنسف عملية السلام شيء والتأثير في مسيرتها شيء آخر. والتجربة ذاتها أكدت أن الفلسطينيين هم المتضررون الوحيدون، سواء داخل الوطن أو خارجه. وأكدت وقائع الحياة أن مقولة "ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، والكفاح المسلح هو أقصر الطرق لتحرير فلسطين" كانت مفيدة وصحيحة تماماً في الستينات والسبعينات، إلا إنها لا تصلح لمرحلة "الوفاق الدولي"، والأخذ بها في التسعينات وفي الظرف الفلسطيني - العربي الراهن ضار وغير منتج، مع تسجيلنا سلفاً أن هذا الاستخلاص لا يعني إدانة مرحلة الكفاح المسلح، أو المساس بأبطالها. وأعتقد في هذا السياق أن من الضروري تمييز اللجوء إلى العمل العسكري شكلاً رئيسياً للنضال الفلسطيني من اللجوء إليه من قِبل الشرطة الفلسطينية، وفي وجه أية اعتداءات بالسلاح تمارس ضدها، كما جرى في أواخر أيلول/سبتمبر 1996 في "هبّة النفق"؛ فاللجوء إلى السلاح في حالة الدفاع عن النفس وعن الشعب والأرض واجب وطني. ولعل من الضروري أن نؤكد أيضاً أن السلاح الوحيد المسموح بحمله واستخدامه في الظرف الفلسطيني الراهن هو سلاح السلطة الفلسطينية، والسلاح المرخص من قِبلها فقط، وأن على المعارضة الفلسطينية تفهُّم هذه الظروف، والتكيف إزاء هذا الواقع الجديد. وأظن أن المصلحة الوطنية العامة ومصلحة المعارضة الفلسطينية في بقائها فاعلة باتتا تتطلبان من المعارضة تجديد نفسها وتغيير أشكال نضالها. والتدقيق في نصوص اتفاق الخليل يبين أن ما قامت السلطة الفلسطينية به قبل "هبّة النفق" وخلالها لم يكن سوى حركة تكتية في إطار استراتيجيا عامة، تم فيها تحريك وتشغيل موقت لجزء من القوى الاستراتيجية في ظرف سياسي ونضالي محدد، ولخدمة أهداف مباشرة بأفق استراتيجي. وهي ليست استراتيجيا ثابتة، وليست منهجاً يصلح لك زمان ومكان.
أمّا موضوع تجديد الانتفاضة داخل الأراضي، كشكل من أشكال العمل العنفي ضد الاحتلال، فأظن أنه أمر غير علمي وغير واقعي؛ فالانتفاضة الفلسطينية انفجرت من دون قرار رسمي من القيادة الفلسطينية، بعد ربع قرن من القمع والإرهاب الإسرائيليين، وبعدما أُغلقت جميع سبل الخلاص من الاحتلال، وانعدمت الثقة بالتحركات السياسية والدبلوماسية كافة، ونفد الصبر بعد انتظار التحرير من الخارج على يد الجيوش العربية وأبناء فلسطين. وفي حينه لم يكن هناك سلطة فلسطينية على الأرض، ولا جيش من الفلسطينيين قوامه أكثر من 30 ألف رجل مسلح، ولا عملية سلام، ولا اتفاقات فلسطينية - إسرائيلية ملزمة للطرفين ومكفولة دولياً.
وأخيراً، يمكن القول إن اعتراف الأطراف بعضها ببعض، ووصولها إلى الإقرار بعدم قدرتها على إزالة بعضها من الصراع أو على بسط سيطرتها وهيمنتها الكاملة على الطرف الآخر، هما اللذان وضعا العمل العسكري وسيلةً لتحقيق الأهداف في موضع التساؤل. والموضوع الآخر الذي سيبقى يطرح نفسه هو حقوق الأطراف، والاعتراف المتبادل بهذه الحقوق. فبقدر ما تتقدم عملية السلام على مسار احترام الحقوق، يستطيع معسكر السلام لجم الفكرة القائلة بوجود فراغ ومكان لممارسة الكفاح المسلح للحصول على الحقوق.
ويؤكد مسار حركة التاريخ أن انتقال الشعوب والدول من حقبة تاريخية إلى حقبة نوعية جديدة أُخرى يستوجب المرور بمرحلة انتقالية، يتخللها جذب وصراع، قد يطولان وقد يقصران، بين الماضي القديم فكراً وأدوات، وبين الجديد القادم بفكره والقادر على خلق أدواته وكل المستلزمات الضرورية لفرض الذات. وإذا كانت صفات وعناوين الحقبة الجديدة من العلاقات الفلسطينية/العربية - الإسرائيلية ما زالت متحركة وغير متبلورة كلياً، وغير مستقرة، كونها تمر بطور التكون والتشكيل، فإن صفات وعناوين المرحلة الانتقالية، التي تمر بها الآن، باتت واضحة ومبلورة، ويمكن تعريفها بمرحلة تجميد أحلام الفلسطينيين بإزالة دولة إسرائيل، وتجميد أحلام الإسرائيليين بإقامة دولة إسرائيل الكبرى والقضاء على الفلسطينيين، وتجميد التفكير في حل الخلافات بالوسائل العسكرية لفترة طويلة، والقبول بالعيش المشترك ضمن حدود آمنة ومعترف بها، والتخلي عن الأحلام، وتطبيع العلاقات، وسيادة نظم ومفاهيم وأشكال جديدة من التفاهم والتعاون المتعدد المجالات.