يحاول كاتب المقالة الدفاع عن إجراءات السلطة الفلسطينية فيما يتعلق بتطبيق القوانين وحقوق الإنسان، فيعتبر أن السلطة الفلسطينية أفسحت المجال لعمل منظمات حقوق الإنسان المحلية والأجنبية في مناطقها، وقدمت مرتكبي المخالفات بحق المواطنين إلى المحاكمات. ويشرح من ناحية ثانية الظروف التي أدّت إلى حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان وأهمها المرحلة الانتقالية ومحاولة إسرائيل عرقلة التجربة الفلسطينية.
أولاً: لقد رفضت السلطة الوطنية الفلسطينية، وما زالت ترفض، فعلاً لا قولاً فحسب، أن تكون سلطة الحزب الواحد، بدليل أنها سعت جاهدة لتمكين جميع ألوان الطيف السياسي الفلسطيني من المشاركة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي جرت العام الماضي، إضافة إلى إجراء هذه الانتخابات في حد ذاته وما اتسمت الانتخابات به من نزاهة، كما أكد ذلك مراقبون من دول محايدة. كما أن الفصائل التي شاركت في الانتخابات والفصائل التي عارضت الانتخابات ولم تشارك فيها لم تعلن أي طعن بنزاهتها، الأمر الذي يشكل برهاناً كافياً عن حقيقة التوجه الديمقراطي للسلطة، وعما يتمتع هذا التوجه به من جدية لا حدود لها.
ثانياً: إن مجرد وجود العشرات من منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية في مناطق السلطة، وما تحظى هذه المنظمات به من تسهيلات وحرية في العمل لا يُحظى بمثلها في أي من البلاد العربية المجاورة وفي كثير من دول العالم، يشكلان بدورهما برهاناً كافياً لدحض الكثير مما يرد في تقارير هذه المنظمات نفسها من تحميل القيادة السياسية الفلسطينية مسؤولية ما يحدث هنا أو هناك من خروقات فردية لمبادئ حقوق الإنسان.
ثالثاً: لم يحدث حتى الآن أن تغاضت السلطة الوطنية عن أي انتهاك لحقوق الإنسان ارتكبه أي فرد أو جهاز أمني. وقد بات معروفاً أن جميع المسؤولين عن أعمال تعذيب أو عن موت محتجز في سجون السلطة قد تم تقديمهم إلى المحاكم، وأُنزل بهم القصاص الذي يستحقون. كما أن هناك عشرات الإجراءات غير المعلنة التي تُتخذ باستمرار كلما حدث خرق لحقوق الإنسان، سواء كشفت المنظمات المعنية عن هذا الخرق أو لم تكشف عنه. كما أن القيادة السياسية امتلكت جرأة تكفي الاعتراف أمام وسائل الإعلام بجميع الأخطاء المرتكبة. وقد بادر المسؤولون في السلطتين التشريعية والتنفيذية على حد سواء إلى إدانة هذه الأخطاء والتنديد بها، والدعوة إلى معاقبة المسؤولين عنها أحياناً كثيرة، قبل أن تفعل ذلك المنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان، وهو ما يعني في الواقع، وببساطة، أن فعل التعدي على الحريات ليس فعلاً أصيلاً في البنية الفكرية السياسية لمؤسسة الحكم الناشئة، وإلا لدفَن أركان هذه المؤسسة رؤوسهم في الرمال، مثلما تفعل أكثرية أنظمة العالم الثالث، وأوصدوا أبوابهم في وجه بعثات التحقيق الدولية، وأداروا أذناً صماء تجاه أية تقارير تتحدث عما يجري في هذا الصدد في بلدهم.
صحيح أن الاعتراف بالخطأ لا يلغي الخطأ، وإنْ رأى البعض في هذا الاعتراف فضيلة، كما يقولون، لكن الصحيح أيضاً أن تقدير حجم الخطأ وتحديد موقعه في الصورة الإجمالية للوضع يتطلبان بالضرورة رؤية الاعتراف بوصفه إدانة ذاتية، مثلما يتطلب في الوقت نفسه رؤية الظروف المحيطة باعتبارها ظروفاً مخففة.
عوامل موضوعية
وهنا يمكن الحديث عن ثلاثة مستويات من الظروف التي ساهم كل واحد منها، بدوره، في حدوث ما حدث من "انتهاكات" لحقوق الإنسان، مع ضرورة الإشارة إلى أن قطع دابر هذه الانتهاكات بصورة نهائية سيظل رهناً بقدرة السلطة الوطنية الفلسطينية على تجاوز مرحلة التأسيس إلى مرحلة الاستقرار الخالي من المعوقات الموضوعية، سواء شئنا ذلك أو أبينا. والمستويات الثلاثة هي:
أولاً: البدايات وتحدي الولادة
من المعروف أن السلطة الوطنية الفلسطينية ولدت وسط تأييد شعبي كبير. وليس أدل على ذلك من الاستقبال الذي حظي به الرئيس ياسر عرفات وقادة م.ت.ف.، وكوادرها ومقاتلوها لدى عودتهم إلى أرض الوطن عقب توقيع اتفاق "إعلان المبادئ" مع إسرائيل سنة 1993. لكن من المعروف أيضاً أن هذا التأييد ترافق مع وجود معارضة متطرفة تحظى بدعم خارجي متعدد المنابع، وترفض لا الاتفاق فحسب، بل حتى مجرد وجود السلطة أيضاً. ولئن كان طبيعياً في ظل هذه المعادلة أن تسعى السلطة الوليدة للتمسك بالحياة، وأن ينتابها هاجس التحدي لإثبات قدرتها على الاستمرار، وأن تحسم في لحظة معينة ازدواجية السلطة التي حاول البعض ممارستها، وأن تعمل على تعزيز صدقيتها الدولية نواةً لدولة المستقبل، فقد كان طبيعياً أيضاً أن تصطدم هذه التوجهات بتوجهات بعض قوى المعارضة، التي لم تتوان عن رفع شعارات إسقاط السلطة؛ وهو ما أدى إلى وقوع أحداث اتسمت بالعنف داخل السجون، وفي الشارع أيضاً.
وبالعودة إلى البدايات غير البعيدة زمنياً، يستطيع المحلل السياسي الآن أن يلحظ تصرف القيادة السياسية الفلسطينية آنذاك بدافع الخوف من ازدواجية السلطة، وهو خوف يعود إلى مبالغة المعارضة في تضخيم حجمها ودورها، بل في طرح نفسها بديلاً سياسياً أولاً، وإعلانها تخوين السلطة ثانياً، وقيام أفراد منها بإطلاق النار على رجال الشرطة الفلسطينية ثالثاً. ويضاف إلى ذلك، طبعاً، ما نفذته المعارضة الأصولية تحديداً من عمليات انتحارية في وقت لاحق (شباط/فبراير 1996)، كان هدفها إجهاض المشروع السياسي الفلسطيني لا مقاومة الاحتلال.
وهكذا، يتضح أن في الأحداث ما قد يفسر، ولا نقول يبرر، بعض انتهاكات حقوق الإنسان من قِبل أفراد في بداية نشوء السلطة. كما أنه قد يفسر تراجع هذه الانتهاكات إلى حد كبير بتراجع قوى المعارضة الأصولية عن طرح شعارات تخوين السلطة وإسقاطها.
ثانياً: انتقال الكادر من مرحلة الثورة إلى مرحلة السلطة
في هذا المجال، يفرض التحليل الواقعي أن نلحظ صعوبة انتقال المقاتل، أو الفدائي المطارَد، من موقع التمرد على السلطة (سلطة الاحتلال أو غيرها من السلطات) إلى موقع تطبيق قوانين السلطة الناشئة بين ليلة وضحاها، من دون أن تتوفر له فرصة التدريب والتأهيل الضرورين للمهمة الجديدة.
وبتفصيل أدق، نقول إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية أُلفت من فئتين اجتماعيتين (إذا صح التعبير)، هما فئة المقاتلين والفدائيين الذين عاشوا فترة طويلة من حياتهم وسط شعوب غير شعبهم، ووفق نظام حياة تغلب عليه روح التمرد أو عدم الانضباط، وفئة أبناء الانتفاضة ومطارَدتها الذين عاشوا تحت الاحتلال أمداً طويلاً من حياتهم، وتعاظمت لديهم، نتيجة ذلك، "الروح العدائية" والرغبة في امتلاك السلاح واستخدامه، وحب الانتقام، فضلاً عن اعتقاد بعضهم، ممن كانوا أسرى وتعرضوا للتعذيب في السجون الإسرائيلية، أن هذه الطريقة هي "المثل" لانتزاع الاعترافات أو المعلومات الضرورية لعملهم.
ولعل من المنطقي أن نعتقد هنا، مع الكثيرين، أن جهل القطاع الأوسع من عناصر أجهزة الأمن بمبادئ حقوق الإنسان، ولا سيما في بدايات نشوء السلطة، كان سبباً أساسياً لعدد كبير من الانتهاكات التي وقعت، بينما كان التحاق أشخاص غير موثوق بهم بهذه الأجهزة عند تأسيسها سبباً لانتهاكات أُخرى.
خلاصة القول، لقد تولت السلطة الفلسطينية زمام الحكم في غزة وأريحا أولاً، ثم في ست مدن فلسطينية أُخرى، وكادرها يفتقر إلى الحد الأدنى من الخبرات اللازمة لتسيير عمل الكثير من المؤسسات المدنية والعسكرية. ويكفي أن نشير في هذا السياق إلى أن الشرطي الفلسطيني لم يسبق أن كان سجاناً في يوم من الأيام. ولهذا السبب كان، ولا يزال، بحاجة إلى تدريب لا على احترام حقوق الإنسان فحسب، بل أيضاً على كيفية فتح باب السجن ونقل المحتجزين من مكان إلى آخر، وكيفية تقديم الطعام لهم، وما إلى ذلك من أولويات وظيفته الجديدة والحد الأدنى من مهماته اليومية المطلوبة منه.
ثالثاً: مساعي إسرائيل لإجهاض التجربة التاريخية
على الرغم من أن عودة القيادة الفلسطينية إلى أرض الوطن، ومن ثم تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، كانا يمثلان بشكليهما الرسميين المعلنين محصلة للاتفاقات الموقعة مع الحكومة الإسرائيلية، فإن هذا الأمر لم يمنع إسرائيل من ممارسة شتى أنواع الضغط على السلطة بهدف الوصول إلى وأدها وهي في بداية الطريق، كي تقول للعالم إن الفلسطينيين فشلوا في حكم أنفسهم، وإن من الخطأ، في نهاية المطاف، الاستجابة لتطلعاتهم بإقامة الدولة المستقلة. ولتحقيق هذا الهدف، استخدمت السلطات الإسرائيلية كل ما لديها من إمكانات ووسائل، ففرضت الإغلاقات المتكررة والطويلة الأمد على الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، وقامت طوال الأعوام الثلاثة الماضية باعتقالات عشوائية في صفوف المواطنين، وبمطاردة بعض نشطاء المعارضة واغتيالهم (مثل هاني عابد ويحيى عياش) في المناطق الخاضعة للسلطة الوطنية، كما مارست على السلطة الفلسطينية شتى أنواع الضغط السياسي والأمني لتفرض عليها تسليم آخرين.
من جهة أُخرى، واجهت السلطة الوطنية الفلسطينية، ولا تزال تواجه حشداً من المتعاونين مع الاحتلال. وقد شكل هؤلاء إرباكاً لمؤسسات السلطة الأمنية، التي تضع في رأس أولوياتها مهمة حماية الوطن، وتأمين الاستقرار، ومواجهة مخلفات الاحتلال من عملاء، وما إلى هنالك.
كما أن تهرّب إسرائيل من تنفيذ التزاماتها تجاه السلطة، بموجب اتفاقات السلام، زاد إلى حد بعيد في صعوبة الأوضاع في المناطق الفلسطينية، وساهم مع أعمال الحصار والمطاردة في إحداث توتر عام، كان من نتائجه وقوع بعض التجاوزات الفردية.
حقيقة الانتهاكات وحجمها
تلك هي الخلفية التي لا بد من رؤيتها كاملة عند محاولة تشخيص قضية حقوق الإنسان في ظل السلطة الفلسطينية، وذلك كي لا تأخذ الخروقات المعترف بها رسمياً على هذا الصعيد حجماً أكبر من حجمها، أو أبعاداً غير أبعادها الحقيقية، وكي يسهل التعاون بين السلطة وجميع الجهات المعنية من أجل وضع حد نهائي لهذه الخروقات.
نقول ذلك وفي أذهاننا قيام بعض المنظمات التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان باللجوء إلى تضخيم أخطاء السلطة، وانتهاج أسلوب دعائي تحريضي يضر أكثر مما ينفع. ونقول ذلك وفي أذهاننا أيضاً السلطة التي لم يمض على قيامها سوى عامين تقريباً، ولم تتحول بعد إلى دولة مستقلة، وما زالت تحتاج إلى كل جهد مخلص لمساعدتها في تصحيح أخطائها، لا إلى تضخيم هذه الأخطاء بما يتيح للعدو فرصة الانقضاض على إنجازات الشعب الفلسطيني.
ونقول ذلك أيضاً وأيضاً، كي ندعو بعض منظمات حقوق الإنسان (المنظمات المحلية تحديداً) إلى تغليب المصلحة الوطنية على مصالح فئة متنفذة في هذه المنظمات بات واضحاً أنها معنية بتلقي دعم الجهات الدولية المانحة أكثر مما هي معنية بحقوق الإنسان، حتى لو اضطرها الأمر أحياناً إلى التزوير والتشهير، وتحميل الأمر أكثر مما يحتمل.
فقد كثرت في الآونة الأخيرة التقارير التي تتحدث عن انتهاكات فلسطينية لحقوق الإنسان. وكان لافتاً للانتباه أن هذه التقارير تزايدت في الوقت الذي تراجعت الانتهاكات واقعياً إلى حد بعيد.
وقد توقف المجلس التشريعي الفلسطيني، كما توقفت القيادة السياسية بقيادة الرئيس ياسر عرفات، أمام ما تحدثت تقارير المنظمات المختصة عنه، وتم تقديم المسؤولين عن المخالفات إلى المحاكم لينالوا جزاءهم، فكان أن انتقدت إحدى منظمات حقوق الإنسان الدولية هذه المعالجة على اعتبار أن المحاكمات جرت ليلاً، ولم تأخذ الوقت الكافي. وقد تجاهل هذا الانتقاد اعترافات المتهمين بمسؤوليتهم عن الانتهاكات (والاعتراف سيد الأدلة)، ولم يوضح أيضاً العلاقة بين حقوق الإنسان والوقت الذي أجريت فيه المحاكمات.
ويبدو من مراجعة تقارير المنظمات المعنية خلال عام مضى أن بعضها يرمي في أحيان كثيرة إلى إثارة الصخب الإعلامي عمداً، أكثر مما يرمي إلى معالجة الانتهاكات وحماية حقوق الإنسان. والدليل على ذلك أن معظم التقارير، إن لم نقل كلها، لم يقدم حتى إشارة صغيرة إلى أن عامين من عمر السلطة الوطنية الفلسطينية ليسا كافيين لإطلاق أحكام على طبيعتها. كما أنه لم يقدم أية إشارة إلى ما تعانيه السلطة من ضغوط أميركية وإسرائيلية وداخلية تؤدي إلى حدوث بعض التجاوزات.
ليس هناك في السلطة الوطنية الفلسطينية من ينكر أن بعض أفراد أجهزتها الأمنية اقترف "انتهاكات" لحقوق الإنسان، وصلت في بعض الأحيان إلى حد التسبب بموت محتجزين، لكن لا أحد يستطيع في الوقت نفسه الاقتناع بأن دور منظمة إنسانية كبرى، مثل منظمة العفو الدولية "أمنستي"، يقتصر على الصخب الإعلامي. والواقع أن إرساء ثقافة أصيلة من احترام حقوق الإنسان يحتاج إلى جهد محلي ودولي، ولا سيما في مجتمع كمجتمعنا الفلسطيني، الذي عانى ظلم الاحتلال الإسرائيلي عقوداً طويلة. ولا شك في أن الجهد المطلوب لا يقتصر على عقد دورة هنا أو ندوة هناك، بل يتعدى ذلك كثيراً إلى إعانة السلطة في بحثها الدؤوب عن حل جذري ناجع لهذه المشكلة، وعدم الاكتفاء بإثارة الضجيج الإعلامي حول بعض مظاهرها أو إفرازاتها، التي تظهر من حين إلى آخر، ووصفها بأنها تشكل دليل اتهام ضد السلطة، بل ضد القيادة السياسية الفلسطينية.
وإذا كانت الموضوعية تقتضي التنويه هنا بأهمية اعتماد منظمة العفو الدولية لاستراتيجيا تعليم حقوق الإنسان، باعتبار أن السلطة الفلسطينية تحتاج فعلاً إلى مثل هذه المبادرة، فإن من المفترض ألاّ تقع هذه المنظمة، وغيرها من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان، في فخ تعميم التجاوزات الفردية كما لو أنها تشكل سياسة رسمية، وخصوصاً بعد أن أعطى جهاز المخابرات العامة الفلسطينية ممثلي هذه المنظمات ووفودها حقهم في زيارة السجون والاطلاع على واقعها، وبعد أن سبق أن طلب منها تنظيم دورات تأهيلية لضباط المخابرات من أجل رفع مستوى ثقافتهم في مجال حقوق الإنسان، لكنها لم تستجب لهذا الطلب حتى الآن. والواضح، في ضوء كل ما سبق، أن منظمات حقوق الإنسان المحلية واصلت العمل في المناطق الفلسطينية، بعد تأسيس السلطة، بالطريقة ذاتها التي كانت تتّبعها زمن الاحتلال، من دون أي اعتبار لاختلاف الظروف الموضوعية. ويمكن القول إن تقارير بعض هذه المنظمات قد غلب عليها الانحياز السياسي إلى مواقف جهات ترتبط بها، وانزلقت أحياناً كثيرة إلى رفض تبنّي حالات معينة سبق أن تبنت حالات مماثلة لها لأسباب سياسية.
أمّا فيما يتعلق بالمنظمات الدولية، فإن السؤال بشأن موضوعية تقاريرها المتعلقة بالسلطة الوطنية الفلسطينية يجد إجابته الشافية بالمقابلة بين لغة وأسلوب هذه التقارير وبين لغة وأسلوب تقارير مماثلة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في دول أُخرى. وعلى سبيل المثال، نلاحظ في هذا المجال أن التقرير السنوي الصادر عن منظمة العفو الدولية يتحدث عن "مزاعم وادعاءات" بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في دول أوروبية، مثل ألمانيا وإيطاليا، مع أن القضاء الألماني أقر، كما يؤكد التقرير نفسه، بوجود حالات انتهاكات طاولت المهاجرين والأقليات وطالبي اللجوء السياسي، من الأتراك وغيرهم. ويضاف إلى هذا ما سجلته تقارير عن إساءة معاملة المحتجزين في السجون الألمانية، وتعرضهم للتعذيب والضرب والإهانة، وما أشارت إليه بشأن قرار القضاء الألماني بتقديم تعويضات إلى فرانك فنييك، بعد تعرضه للضرب المبرح على أيدي ضباط في وحدة الشرطة الخاصة 16.
وفي إيطاليا، تحدثت التقارير عن "التعذيب وسوء المعاملة على أيدي الموظفين المكلفين تنفيذ القانون. كما تحدثت عن صدور الأحكام في المحاكمات الخاصة بوفاة شخصين في الحجز سنة 1993، وتورط عدد من الضباط في القضايا الجنائية المتعلقة بتعذيب نزلاء السجون وسوء معاملتهم في الأعوام السابقة."
وبحسب ما جاء في التقرير أيضاً، فقد "كانت إجراءات نظر العديد من القضايا لا تزال جارية سنة 1995، فيما يتعلق بارتكاب ضباط السجن سوء المعاملة. وفي كانون الثاني/يناير، أكد وزير العدل أن التحقيقات التي بدأت في أوائل سنة 1993 أدت إلى إحالة ستة من ضباط السجن على المحاكمة بتهمة ارتكاب شتى الجرائم، بما في ذلك سوء معاملة نحو 30 من النزلاء في سجن سيكوندلياند، وأن إجراءات التقاضي قد بدأت ضد 65 ضابطاً آخر."
وفي الولايات المتحدة الأميركية، أُعدم 56 سجيناً في 16 ولاية، وهنالك أحكام بالإعدام لا تزال قائمة على أكثر من 3000 سجين في 38 ولاية. وفي أيار/مايو، وُجهت تهمة الإهمال الجنائي المفضي إلى القتل إلى رجل شرطة في مدينة نيويورك في حالة أنطوني بايز، الذي توفي بسبب اختناقه بعد مشاجرة مع ستة رجال شرطة في كانون الأول/ديسمبر 1994. وفي أيار/مايو، وُجهت إلى 16 من رجال الشرطة في منطقة برونكسن في نيويورك تهمة القيام باعتداءات خطرة على المشتبه فيهم. إضافة إلى قضايا تعرض السود لانتهاكات حقوق الإنسان والتعامل معهم بوحشية وعنصرية، وتعرض السجناء للربط بالسلاسل بعضهم إلى بعض، ومعاقبة من يرفضون العمل. كما أشارت الأنباء إلى أن 30 حارساً دأبوا على إساءة معاملة النزلاء في أربعة سجون في ولاية تكساس، وأن أحد السجناء قتله الحراس ضرباً في تشرين الثاني/نوفمبر 1994."
ليست هذه سوى أمثلة من دول وديمقراطيات عريقة مضى على استقلالها مئات الأعوام، لكنها لم تستطع أن تمنع، أو أن تحول دون حدوث تجاوزات في سجونها. ومع ذلك يلفت الانتباه أن تقرير منظمة العفو الدولية تعامل معها بصورة موضوعية مغايرة لتعامله مع تجاوزات أفراد السلطة الفلسطينية، التي لم يمض على تأسيسها سوى عامين، ولم تصبح دولة مستقلة بعد، ولم تتسلم حتى الآن زمام الأمور في كل أرضها وحدودها ومعابرها الدولية.... إلخ.
إن عدداً من المحتجزين لا بأس فيه مقتنع بأسباب احتجازه، وهو مطلوب من قِبل الطرف الإسرائيلي. والسلطة الوطنية معنية بأن تشكل لهؤلاء حماية في ظل أوضاع داخلية لم تستقر. وفي لقاءات مع وكالات إعلامية عالمية، مثل محطة التلفزة الأميركية A.B.C، أكد المحتجزون بوضوح أنهم يعامَلون أفضل معاملة، من زيارة الأهالي لهم ومقابلتهم لمحامين إذا رغبوا، وأن أصدقاءهم يزورونهم أيضاً. أمّا بالنسبة إلى مستوى الطعام والمعاملة، فقد أشادوا جميعهم به وقالوا إنه ممتاز لا جيد فقط، علماً بأن لهؤلاء المحتجزين ملفات أمنية وعلاقة بالتنظيم السري لبعض الحركات الأصولية، وهم من الشخصيات القيادية في الجناح العسكري. وكانت تلك اللقاءات تمت في شهر رمضان المبارك، أي منذ ما لا يزيد على أسبوعين، وجرت وفقاً لرغبات المحتجزين، وجال المصورون خلالها في غرفهم.
على الرغم من ذلك، لم نلحظ في تقرير أية مؤسسة لحقوق الإنسان، محلية كانت أو دولية، ما يفيد بأن هناك تطوراً وتقدماً في أداء السلطة الوطنية الفلسطينية. وينبغي التأكيد هنا أن هذا التطور وهذا التقدم ليسا ناجمين عن العقوبات والإجراءات الرادعة فحسب، بل أيضاً عن خضوع عدد من الضباط المعنيين لدورات تأهيلية بشأن كيفية أداء مهماتهم الصعبة من دون انتهاك حقوق الإنسان، ومن منطلق أن هذا "الشخص" المحتجز فلسطيني أولاً وأخيراً، وأن له حقوقاً علينا، أقلها المحافظة على كرامته.
في أية حال، يبقى من المهم التأكيد أخيراً أن اتساع مساحة الوطن، وتوجه المؤسسة الأمنية نحو مزيد من البلورة، وتحديد صلاحية كل جهاز أمني بقرار من الرئيس عرفات، كل ذلك ساعد في أن تصبح سلطة القانون هي السمة العامة للوضع، على الرغم من جميع الانتهاكات التي جرت، أو التي قد تجري، في المدى القريب.
ولعل المراقب المحايد يستطيع الآن تلمس حقيقة التوجه الفلسطيني الجاد نحو بناء دولة القانون والمؤسسات، حين يرى ويعرف أن أية عملية اعتقال في مناطق السلطة اليوم تتطلب موافقة النائب العام ضمن 48 ساعة فقط من فترة الاعتقال، على ألاّ تمدَّد هذه الفترة إلا بموافقة النيابة، ومن دون استخدام العنف. ويذكر هنا أن ليس في سجون السلطة حالياً أي سجين رأي، وأن بعض المعتقلين يحصل على إجازة أسبوعية مدتها يوم واحد، يذهب خلالها إلى بيته ثم يعود بمحض إرادته.
ونحن نرحب، من خلال هذه المداخلة، بأية ملاحظات نقدية، سواء أكانت من أفراد أم من مؤسسات. وسنأخذ هذه الملاحظات في الاعتبار في أثناء تأدية عملنا. ونحن نعتقد أن لمنظمات حقوق الإنسان دوراً مهماً قامت به سابقاً، وهي مرحب بها في مناطق السلطة الوطنية. وقد سبق أن طالبناها بوضع برامج تدريبية لجميع العاملين في جهاز المخابرات في مجال التحقيق، وما زلنا ننتظر هذه البرامج، أو ما يمكن أن تقدمه لنا من مساعدات على هذا الصعيد. وستبقى أبوابنا مفتوحة أمامها؛ إذ إننا نعتز بالعلاقة التي نُسجت معها خلال العامين الماضيين، آملين بألا تحاكِم تجربتنا كما لو أنه مضى من عمر السلطة مئة عام.