مقابلة أجريت مع وزير العدل الفلسطيني فريح أبو مدين تحدث فيها عن انتهاكات حقوق الإنسان بحق المعتقلين في السجون الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والتي وصل بعضها إلى حد القتل تحت التعذيب. وتناول أبو مدين مسألة عدم تطبيق القوانين بحق مرتكبي الانتهاكات، والمخالفات التي ترتكبها الأجهزة الأمنية فيما يتعلق بالاعتقالات العشوائية التي تطال المواطنين في الضفة الغربية.
- آثار مقتل يوسف البابا تحت التعذيب في أحد سجون نابلس الكثير من ردات الفعل. ويوسف البابا هو الفلسطيني الحادي عشر الذي لقي حتفه بسبب التعذيب منذ دخول السلطة الفلسطينية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة؛ فلماذا تتكرر حوادث القتل داخل السجون؟
- أعتقد أن قضية يوسف البابا نموذج لا لانتهاك حقوق الإنسان، كما أُثيرت على مستوى الصحافة ومؤسسات حقوق الإنسان، بل لما هو أخطر من ذلك. القضية قضية خرق واغتصاب للقانون؛ إذ لا يمكن الحديث عن حقوق الإنسان، سواء أكانت مدنية أم فردية، من دون الحديث عن سيادة القانون. فإذا طبقنا القانون والتزمناه، فمعنى ذلك أنه يمكننا التحدث عن حقوق الإنسان بكل حرية. وفيما يتعلق بقضية يوسف البابا، كان هناك أكثر من خرق واحد؛ فمن اعتقله لم يكن يملك حق الاعتقال، ومن أبقاه في الاعتقال لم يكن يملك حق إبقائه في الاعتقال لديه. والأمر الثالث هو أن القضية كانت مدنية، ولا علاقة لها لا بمحافظة نابلس (إذ اعتُقل نائب المحافظ ومساعده)، ولا بجهاز المخابرات (إذ اعتُقل رئيس الجهاز ونائبه). ثم إن أياً من هؤلاء لم يحصل على التغطية القانونية الصحيحة لمدة 24 ساعة من النائب العام أو من الشرطة، ولم يعرض المتهم على قاض. وبما أن هذه الإجراءات لم تتم، فكان لا بد من أن يؤدي هذا إلى وضع يكون المعتقل فيه مغيباً عن القانون، وبالتالي معرضاً للتعذيب بالطريقة التي أدت إلى وفاته.
وكان هذا أيضاً انتهاكاً لحرمة المستشفى الذي نقل السجين إليه، وقد اعتُقل طبيب وممرضان للاشتباه في تواطئهم أو على الأقل لإحجامهم عن تقديم معلومات عندما وصلت يد القانون إلى الفاعلين. فحين يعطي طبيب تقريراً عن معتقل لم يره ولم يفحصه، فمعنى ذلك أن هناك جريمة كبرى ارتُكبت في حق القانون وفي حق هذا المواطن، الذي كان ضحية انتهاك القانون نفسه. لهذا السبب، أخذت قضية يوسف البابا هذا البُعد. وعندما ينتهي التحقيق سيقدم جميع المتورطين إلى المحاكمة لينالوا جزاءهم.
- لماذا لا يطبَّق القانون بكل بساطة، وما هو القانون المطبَّق، وخصوصاً أن المجلس التشريعي لم يقر جميع القوانين بعد؟
- أنا أقول دائماً إنه لا توجد قوانين فلسطينية؛ إذ لم يصدر عن المجلس التشريعي حتى الآن سوى قانونين. لكن لا نستطيع القول إنه لا يوجد قوانين لإلقاء القبض والتفتيش والتحري، وهي قوانين شبه مثالية، وأقر بها أكثر من جهة. لكن المشكلة تأتي من القيّمين على تطبيق القانون. فبعد عامين ونصف عام على وجود السلطة في غزة، أصبح فيها وضع قانوني مقبول وسيطرة أكثر مما هما في الضفة الغربية، وخصوصاً أن سيطرتنا لا تشمل حتى هذه اللحظة إلا ست مدن. فالذين تبوأوا المناصب القيادية في أجهزة الأمن هم من كانوا مقاتلي الثورة في الخارج، ولا سيما في لبنان، وتشتتوا في تونس وغيرها، إلى أن عادوا إلى هنا، أو من جُندوا في الداخل، وهم شبان الانتفاضة. لكننا نجد أن بعضهم أُعجب، للأسف الشديد، بأعدائه (الإسرائيليين) من الناحية النفسية بطريقة أو بأُخرى، وراح يقلدهم. إلا إن هذا التقليد جاء في غير مكانه، ويجب أن تعالَج هذه القضية معالجة اجتماعية وأن يؤهل أفراد أجهزة الأمن تأهيلاً جديداً. ولذا، قمنا في قطاع غزة باختيار أكثر من مئة محام وألحقناهم بصفوف الأجهزة الأمنية في كل المواقع. ولذلك، نجد أن انتهاك حقوق الإنسان في غزة أصبح أقل كثيراً. ولاحظنا في الأشهر الثمانية الأخيرة نوعاً من الانضباط؛ إذ إن الشرطة هي التي تسيطر على الوضع، والنيابة العامة فقط هي التي تصدر الأوامر، وهذه الأوامر تُحترم. لقد نجحنا في مواجهة هذا التحدي في قطاع غزة، لكن يبقى أمامنا التحدي الأكبر في الضفة الغربية، ولا سيما أن الضفة متسعة الأرجاء، والتداخل مع الإسرائيليين يعوق الكثير من أنشطة السلطة. ومع ذلك، أرى أنه يجب أولاً أن يكون عندنا الإنسان الذي يؤمن بسيادة القانون وبتطبيقه حتى على نفسه. ولن نقول: لننظر إلى جيراننا، حيث يُقتل رئيس حكومة (رابين) ـ وإن كنتُ لست معجباً بالطريقة التي أُديرت بها قضية اغتيال رابين، إذ تم تجاهل الخلفية التي ولدتها، واختفى أشخاص عن الساحة على الرغم من أنه كان يجب أن يعاقَبوا، لكن هذا شأن إسرائيلي داخلي ـ بل نقول إن للشعب الفلسطيني خصوصية معينة، ويجب ألاّ يتقيد بقواعد العالم الثالث أو بقواعد العالم العربي بصورة خاصة، وعلى كل مسؤول أن يعترف صراحة وعلانية بأنه أخطأ.
- ماذا فعلت السلطة الوطنية الفلسطينية لوقف مسلسل القتل في السجون، بعد مقتل 11 مواطناً، أو على الأقل، أين هي من الطرح الذي تطرحه؟
- أولاً، لا توجد قضية واحدة لم يقدَّم فيها المسؤولون عن التعذيب إلى المحاكمة. وكانت القضية قبل الأخيرة، وهي المتعلقة بمقتل محمود إجميل في سجن نابلس، قد دقت ناقوس الخطر في حينه، وكانت حدثت في المنطقة ذاتها (شمال الضفة الغربية). لكن للأسف الشديد، لم يتحدث أحد عما جرى بعد قضية إجميل. فمن تورطوا في مقتله خلال التحقيق معه كانوا من أفضل المناضلين في الماضي. ومع ذلك، فقد حُكم عليهم (وهم ثلاثة) بالسجن خمسة عشر عاماً، وكانت هذه عقوبة مجزية ورادعة. وفي أغلب القضايا، قُدم الفاعلون إلى القضاء. وفي القضية الأخيرة أيضاً، أي قضية البابا، سيظهر واضحاً أننا سنتعامل من دون هوادة مع مرتكبي المخالفات التي تؤدي إلى الموت. وليس عيباً أن نخطئ، إذ لا يوجد مجتمع مثالي على الأرض، لكن العيب هو في ألاّ نعالج هذه الأخطاء. صحيح أن هناك تأخيراً في المعالجة، أو أن المعالجة ربما لم تكن أحياناً في حجم الحدث، لكن يجب أن تكون القضية الأخيرة علامة فارقة. وأعتقد أنها أخذت حجمها الصحيح؛ فالسلطة لم تخف شيئاً بشأن هذا الحادث، والرئيس ياسر عرفات أصدر قراراً مباشرة، وأمر باعتقال المخالفين في الوقت الذي كنا في صدد جمع الأدلة كي لا يؤثر المخالفون في سير التحقيق. وأعتقد أن هذا يعبر عن تصور وفهم جديدين، وأرجو أن يكون يوسف البابا آخر الضحايا.
- واضح من القضايا السابقة، وخصوصاً قضية محمود إجميل، أن العقوبة التي أُنزلت بالذين حققوا معه لم تكن رادعاً كافياً لغيرهم، ولذلك تكرر التعذيب حتى الموت في قضية يوسف البابا. إن هذا الأمر يثير تساؤلات بشأن ما إذا كان الثلاثة الذين حُكم عليهم بالسجن هم من أصحاب القرار، أم أنهم مجرد منفذين لقرارات تصدر عن جهات أعلى؟
- أنا أتفق معكِ في أن العقوبة لم تكن رادعة، لكني أعتقد أن الأشخاص الذين عوقبوا خم الذين ارتكبوا المخالفات. غير أن هناك أمراً آخر؛ فقد أُلّفت في حينه لجنة وزارية كنت أنا أحد أعضائها، وتقدمت هذه اللجنة بتقرير شامل احتوى على تسع توصيات. ولو أُخذ بهذه التوصيات لما خُرق القانون. وقد اشتملت تلك التوصيات على بنود، منها أنه لا يجوز للأجهزة الأمنية أن تتدخل في القضايا المدنية، ويجب ألا ينتصر أي جهاز لأي مواطن ضد مواطن آخر أو يتدخل بينهما، ويحظَّر على أي جهاز اعتقال أي إنسان من دون إذن خطي من النيابة العامة، ويجب أن يعرض أي معتقل لديه على قاضٍ خلال فترة 24ـ 48 ساعة. ويجب ألاّ يكون هناك تداخل في عمل الأجهزة، ويجب أن يكون هناك نمط تقويمي في عملية الاعتقال، حتى لو كان الأمر يتعلق بالقضايا الأمنية. وفي البند الأخير، لنأخذ إسرائيل مثلاً: عندما يُدرج اسم أي شخص في جهاز الكمبيوتر في أحد أجهزة الأمن الإسرائيلية، يكون هذا الشخص مطلوباً للأجهزة كلها بالدرجة ذاتها والمعطيات ذاتها. وهذا يعني في وضعنا نحن أنه يحظَّر على الأمن الوقائي، على سبيل المثال، أن يعتقل شخصاً ثم يخلي سبيله ليعتقله من بعده جهاز الاستخبارات العسكرية، ثم يخلي هذا الجهاز سبيله لتعتقله الشرطة بعد ذلك. كان يجب أن تُحسم هذه الأمور، وخصوصاً أن المجلس التشريعي وافق على توصيات اللجنة وأصدر تقريراً خاصاً به. لذا، أعتقد أن الردع يأتي عن طريق احترام القانون لا عن طريق الحكم على ثلاثة محققين بالسجن المؤبد، أو حتى بالإعدام، بل الحل هو أن يطبَّق القانون بحذافيره، بحيث يُعطى المواطن والمحامي والجهات القانونية دوراً في هذه العملية.
- من المسؤول عن تطبيق القانون؟ هل هو وزارة العدل؟
- وزارة العدل ليست وزارة الداخلية؛ إذ ليس لها أية هيمنة على أي جهاز أمني، ولا تستطيع حتى استجواب شرطي. فالأجهزة الأمنية جميعها تتبع وزارة الداخلية، بحسب القانون. وحين تصل الملفات إلى وزارة العدل، نعالجها بالطريقة القانونية. لكن ما يحدث هو أن جثة تصل إلينا بدلاً من الملف، ونبدأ التحقيق، أو لا يصل إلينا ملف إطلاقاً، ولا نعلم بما يجري في السجون. فوزارة العدل ليست ضابط مباحث، وإنما هي تتولى حل المشكلات التي ترد إليها. أمّا أجهزة الأمن، فهي تتبع وزير الداخلية، أي الرئيس عرفات، مباشرة.
- هل يعني ذلك أن الرئيس عرفات يتحمل مسؤولية عدم تطبيق الأجهزة الأمنية للقانون؟
- لا، بل يعني أن هناك حاجة إلى إيجاد آلية جديدة لتوحيد هذه الأجهزة ودمجها. إذ من المقبول أن يكون هناك 3 أو 4 أجهزة، لكن لا يجوز أن يكون هناك أكثر من هذا العدد. ولذا، هناك أجهزة أمنية يجب أن تُدمج في أجهزة أكبر، وأن يكون لها قيادة مركزية. فالرئيس لا يملك الوقت الكافي لمتابعة عمل كل جهاز. وعندما تصله قضية يعالجها. فنحن في حالة أشبه بحالة الطوارئ. وأنا أعتقد أن القانون الموجود حالياً يكفي ردع أي إنسان، بمن فيهم يوسف البابا الذي قيل إنه كان يتلاعب في متاجرات الأراضي، وكان من الممكن تقديمه إلى المحاكمة. ولكن للأسف لم نجد حتى سطرين من اعترافاته، على الرغم من أن التحقيق معه استمر شهراً. ولم نجد لدى المحققين إثباتاً واحداً للاتهامات التي وُجِّهت إليه. ولذا، فإذا مُنعت هذه الأجهزة من القيام بعملية الاعتقال، وجُردت من إمكان الاعتقال بمزاج شخصي أو بمعلومة شخصية لجهاز واحد، وأُلفت لجنة من ثلاثة رؤساء أجهزة أمنية كي تقوِّم أية معلومات تتلقاها الأجهزة عن أي شخص، عندئذ تصبح عملية الاعتقال صادرة عن مركزية ما، لا منوطة بشخص ما، مهما يعلُ قدره أو مهما يكن فهمه للقضايا الأمنية.
- إذا كانت الأجهزة الأمنية التي ترتكب المخالفات تتبع الرئيس مباشرةً، فماذا فعل الرئيس لوقف انتهاكاتها لحقوق الناس؟
- لقد أصدر الرئيس إلى المحافظين أخيراً تعليمات خطية تشمل جميع الإجراءات القانونية التي يجب اتّباعها. وقد أشاعت هذه التعليمات، التي تتناول التوصيات التي تحدثتُ عنها سابقاً، والتي وردت في تقرير سابق، ارتياحاً لدينا في وزارة العدل؛ إذ أصبح في وسعنا تحدي كل مخالف، ومطالبته باحترام القانون والتقيد بالتعليمات التي صدرت إليه وكانت واضحة وموقعة من الرئيس. وبمعنى آخر، أصبح لدينا أدوات عمل لمراقبة تطبيق القانون.
- ذُكر أحياناً أن سياسيين وشخصيات في مراكز مسؤولة كانوا وراء اعتقال أفراد والتحقيق معهم بأساليب عنيفة، في الوقت الذي لا يمكن المس بهؤلاء السياسيين بسبب موقعهم وعلاقاتهم.
- أتفق معك، وقد حدث هذا في قضية نابلس، إذ كانت القضية شخصية، لا علاقة لها بالأمن. وما جرى هو أن مسؤولاً في موقع متنفذ طلب من جهاز ما أن يسدي إليه خدمة. صحيح أن هذا يحدث، لكن ليس بصورة دائمة. هذه هي آفة الفساد.
- هذا كان وارداً أيضاً في قضية إجميل، ومع ذلك، فإن العقوبات لم تطَل أية شخصية سياسية؟
- أعتقد أن قضية إجميل أخذت بعداً كبيراً، ونوقشت في أعلى المستويات. وكان هناك تقرير يتعلق بهذه القضية، لكن، للأسف، لم أقرأه. ومع ذلك، فإني أعترف بأن الأمور لم توضَّح خلالها كما وُضِّحت في قضية البابا.
- لماذا؟
- لأن التحقيقات أُجريت في ذلك الوقت بصورة سريعة بسبب ما كان المحققون يتعرضون له من ضغوط من الرأي العام والصحافة، إلخ. أمّا القضية الأخيرة، فقد توليناها منذ اللحظة الأُولى، وأجرينا التحقيقات كافة، وصرحت أنا بأنه كان هناك تعذيب، لكن بعد أن كان التحقيق قد قطع شوطاً، وكان الجزء الأكبر من النيابة العامة يعمل على القضية. ووصل الطب الشرعي إلى نتائج سريعة، وخصوصاً بعد أن علمنا بفقدان الملف الطبي من المستشفى، الذي نقل المعتقل إليه. ولذلك، أخذت النيابة العامة حقها في التحقيق. وهناك فارق آخر هو أنه كان هناك في المرة السابقة لجنة للتحقيق، أمّا هذه المرة، فإن النيابة العامة هي التي تولت التحقيق، وهذا أصح، لأن النيابة هي التي تقدم الأشخاص إلى القضاء، وهي التي تعرف ما هو قانوني أو غير قانوني.
- إلى من يتوجه المواطن العادي عندما تتعرض حقوقه للانتهاك، كما يحدث يومياً في بعض المناطق، أو عندما يتعرض للتهديد أو الابتزاز من قِبل مسؤول أمني؟
- هذه أمور تحدث لأن هناك استغلالاً للنفوذ والسلطة، وهذا أمقت شيء يؤدي إلى تدمير الدول القائمة. الصومال، على سبيل المثال، انهار بسبب مثل هذه التجاوزات، بالإضافة إلى أمور أُخرى. أنا أعتقد أنه ليس هناك جندي سيىء، بل هناك ضابط أو قائد سيىء. ولذا، يجب أن نبدأ من الأعلى في اتجاه الأسفل. وأعود إلى قضية يوسف البابا واعتقال رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية في نابلس، هاني عياد، الذي سيقدم إلى المحاكمة ويعاقب على الرغم من أن له ماضياً نضالياً مشرفاً. فهذا الماضي لا يعطي صاحبه حصانة أمام القانون. نحن نحاول أن نبني مؤسساتنا. وأرى أنه لم يحن الأوان كي ننزل عن "جبل أُحُد"؛ ما زال المشروع الفلسطيني في بدايات الطريق، ولا يجوز لأحد أن ينزل عن "جبل أُحُد" ليقول هذا لي وهذا لك. قد يكون مثال الممرضَيْن في القضية الأخيرة هذه لافتاً؛ إذ في الوقت الذي حنث طبيب في قَسَمه ووضع تقريراً مزوَّراً بشأن معتقل مريض أُدخل المستشفى من دون أن يكون رآه، فإنه كان على الممرضَيْن الدفاع عن المستشفى، إلا إنهما ربما شعرا بالخوف. أنا أقدّر خوفهما هذا، لكن حين تصل الأمور إلى النيابة، وحين يصل سيف القانون الذي هو أقوى من الخوف، فعندها يجب أن يكون الخوف من القانون أقوى من الخوف من أي جهاز أو مسؤول أمني، لأن إخفاء الأدلة يعني الشراكة في الجرم. ولهذا، فإن لهذه القضية شقين، وستقدَّم إلى المحاكمة بشقيها. أعتقد أننا مررنا بمراحل أصعب من هذه المرحلة، ولا يجوز أن يملي أحد علينا مواقفنا.
أنا معك في أن المواطن بحاجة إلى حماية وإلى الشعور بأن للقانون سيادة، وفي أنه لا يرغب في أن يكون كبش فداء، أو أن يتعرض للانتقام. هذا الخوف مشروع، لكن يجب أن تعطي القضية الأخيرة الناسَ دافعاً للتحرك فوراً عندما يتعرض المواطن لمثل هذه الضغوط. ونحن باستفادتنا من هذه التجربة، أصدرنا أوامر قامت وزارة الصحة بتعميمها، ومفادها أن يُبَلَّغ النائب العام وصول أي إنسان إلى مستشفى عن طريق جهاز من الأجهزة الأمنية، وخصوصاً أنه كان هناك قضايا معتقلين يُنقلون إلى المستشفيات ويعالَجون ثم يعادون إلى التحقيق من دون أن ندري نحن بهم.
- في كل حالة من حالات الوفاة تحت التعذيب، كان يتم تأليف لجان تحقيق، لكن تلك اللجان لم تنشر تقاريرها في جميع الحالات، لماذا؟
- في بعض الحالات، كانت التوصيات تُنشر، وخصوصاً في الحالة قبل الأخيرة، حيث قرئ التقرير أمام المجلس التشريعي في جلسة مفتوحة للصحافة. ربما لم تكن الأمور موثقة إلى هذا الحد في الأشهر الأُولى، ولم يجر متابعتها. أمّا الآن، فالأمور تجري بمنهجية؛ إذ إن الخبير الأول هو الطبيب، والثاني هو الطبيب الشرعي في حالة الوفاة، والثالث هو النائب العام الذي يباشر الدعوى العمومية والجنائية. هناك صلاحيات لم تكن متاحة في السابق، وربما كانت ضائعة في دهاليزنا. أمّا اليوم، فالأمور باتت واضحة. ولا أقول إن سيطرتنا ستكون بعد الحادث الأخير مضمونة مئة في المئة. لكن في ضوء الإجراءات والتوصيات التي صدرت، أعتقد أننا قطعنا شوطاً لا بأس فيه.
- بشأن النظام القضائي بصورة عامة، هناك شكاوى تتعلق بقرارات تصدر عن محاكم ولا تُنفذ، لماذا؟
- قد يكون هناك قرارات معدودة، منها قرار المحكمة العليا بإخلاء سبيل طلبة جامعة بيرزيت، الذين كانوا معتقلين من دون محاكمة، لكن القرار نُفذ في النهاية. هناك مشكلات تواجهنا في نظامنا القضائي، وهي بارزة في الضفة الغربية أكثر من قطاع غزة، لأن القطاع حافظ على خصوصية معينة هي أن القضاة لم يغادروه بعد حرب 1967، ولم يُضرِب المحامون فيه كما جرى في الضفة الغربية، فبقي النهج مستمراً، وبقيت الآلية متّبعة. صحيح أن صلاحياته سُلبت منه، لكن كفاءاته بقيت. أمّا في الضفة الغربية، فقد كان الموقف السياسي مختلفاً؛ إذ إن نقابة المحامين أعلنت الإضراب، وكانت التعليمات تأتي من عمّان، فترك القضاة المؤهلون البلد، وعُيّن قضاة آخرون كيفما اتفق، فوقع خلل. لذلك، نحن ندعو إخوتنا الفلسطينيين في الخارج إلى المساهمة بخبراتهم، لأن القضاء قفز قفزة هائلة خلال الأعوام الثلاثين الماضية، سواء بالخبرة الفنية أو بالتشريعات التي نحن في صددها، ولا سيما بعد أن تحولت الكرة الأرضية إلى قرية بفضل وجود "الإنترنِت". هناك اثنان أو ثلاثة قبلوا الدعوة، وحضروا إلى قطاع غزة. وسأحاول إقناع البعض بالانضمام إلينا، وأن يعتبروا الأمر خدمة علم لمدة ستة أشهر. بالإضافة إلى ذلك، أمامنا مسألتان: الأُولى هي قانون استقلال القضاء، الذي ستُرسَل مسودته إلى المجلس التشريعي قريباً. والمسألة الأُخرى هي الكادر القضائي الذي من شأنه أن يشجع من في الخارج على الانضمام إلى الجهاز القضائي هنا، في فلسطين، بعد أن يُمنح القاضي امتيازات معينة بسبب حساسية موقعه. وسيكون هناك تعيينات جديدة في النيابة العامة أو في مناصب القضاة، بالإضافة إلى محاكم جديدة ستقام في منطقة القدس (بير نبالا، أبو ديس، طولكرم، قلقيلية). لكن علينا أن نعترف بأن هناك إشكالاً يتعلق باختيار القضاة سببه أننا انغمسنا في مقاومة الاحتلال ثلاثين عاماً، وكانت مهنة المحاماة من المهن التي تعرضت للتدمير بحيث أصبح صراعنا موجهاً نحو إسرائيل، ولم نثْرِ الفقه القانوني ولا تفاعلنا القانوني اليومي. فنحن والإسرائيليون ورثنا القانون نفسه سنة 1947، لكن الإسرائيليين طوروه من خلال الكنيست ومؤسساتهم إلى مستوى راقٍ جداً، بينما نحن تعرضنا لانقسام فأُتبعت الضفة الغربية بالأردن من الناحية القانونية، ولم يقبل جمال عبدالناصر في حينه بأن يكون قطاع غزة تابعاً لمصر قانوناً. ومن أهدافنا اليوم توحيد القوانين بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
- تتحدث منظمات حقوق الإنسان عن اعتقالات عشوائية تتم، أو أنها تمت، واكتُشف بعد مرور عدة أشهر أن الاعتقال تم بطريق الخطأ. كيف تسوى هذه المسألة؟
- وقعت أخطاء من هذا النوع. لكن بعد أن أُثيرت قضية مقتل إجميل بالذات، تقرر إحالة الملفات كلها على النيابة للتدقيق فيها، وإخلاء سبيل من لا تثبت إدانته، أو تحويله إلى المحكمة. لكن الأمور في طريقها الآن إلى التصحيح؛ فباستثناء حق الشرطي في أن يلقي القبض على شخص ما في حالة تلبس، فإن النيابة العامة فقط هي المخولة إصدار قرار بالاعتقال. ويجب أن تعرض النيابة أي معتقل على القضاء خلال 48 ساعة. وما عدا ذلك، فإن النيابة، أو الأجهزة الأمنية عبر النيابة، تتقدم من قاض بطلب تمديد فترة التوقيف، إذا لزم التحقيق ذلك، مدة أقصاها 15 يوماً. وقد توقفت أيضاً مداهمة البيوت وتفتيشها من دون إبراز إذن في ذلك.
- هل ينطبق ذلك على المعتقلين الأمنيين؟
- الآن، نعم. صحيح أن ذلك لم يكن يطبَّق في بدايات وجود السلطة، لكن المرحلة وقتذاك كانت: إمّا أن تكون وإمّا لا تكون. فقد كان هناك من يطرح نفسه بديلاً من السلطة. ولو لم نتحرك بسرعة في ظل السيادة المنقوصة، ولو لم تجر اعتقالات سياسية بتلك الكثافة، لكنا غرقنا جميعاً. فالمصلحة العليا للشعب الفلسطيني كانت تتطلب ذلك، في ضوء اتفاقية توصلنا إليها ووقعناها ويجب أن تُحتَرم. لذا، أعلنا في حينه أن المعارضة السياسية مسموح بها؛ أمّا امتشاق السلاح، فهو محظور. يجب أن نلفت هنا إلى أن القضايا الأمنية أمر مختلف، لأنها تُعرَض على محكمة أمن الدولة، ولذا، فإن مدة التوقيف تكون أطول. ومع ذلك، فإن علينا أن نحيل أقل عدد ممكن من القضايا على محاكم أمن الدولة.
[1] أجرت المقابلة ربى الحصري في أواسط شباط/فبراير 1997.