يعتبر الكاتب أن اتفاق السلام مع الأردن ليس أول اتفاق توقعه إسرائيل مع دولة عربية، والأهمية السياسية والاستراتيجية للاتفاق مع مصر تفوق بما لا يقاس أهمية هذا الاتفاق. لكن إسرائيل ومصر كانتا على الدوام كيانين منفصلين، واتفاق السلام والعلاقة التي نشأت في إثره عكسا هذه الصلة غير الحميمة. أما إسرائيل والأردن، فتاريخهما لا يمكن فصله.
إن مشهد توقيع اتفاق السلام بين إسرائيل والأردن حدث تاريخي بالغ الدلالة، لا بسبب الجلبة الإعلامية، ولا حتى لكونه يرمز إلى نهاية نزاع دموي. فالمشهد في عين عفرونا كان أشبه بـ "عرض إضافي لمسرحية بناء على طلب الجمهور"، ومشاركة الرئيس كلينتون ومرافقيه غير المألوفين لم تُخفّف الإحساس بالرتابة: فكم مرة يمكن استعادة صخب الأحداث التاريخية؟ كذلك فإن الحديث عن نزاع الجبابرة بين إسرائيل والأردن ليس سوى ميلودراما: إذ لم يكن للشعب المقيم في صهيون جار وشريك مخلص كالمملكة الهاشمية، ولا حاجة إلى الخوض في تفصيلات العلاقات بزعماء الييشوف اليهودي، أو في تفصيلات التنسيق الاستراتيجي [بين إسرائيل والأردن] في إبان حرب سنة 1948، أو في تفصيلات النضال المشترك ضد فكرة تدويل القدس، وشبكة العلاقات الوثيقة منذ حرب الأيام الستة.
إن وصف الحدث بأنه ذو دلالة تاريخية عميقة يستند إلى كونه يحدد معلماً يثير إحساساً بأن ما كان لن يكون بعد. فاتفاق السلام مع الأردن ليس أول اتفاق توقعه إسرائيل مع دولة عربية، والأهمية السياسية والاستراتيجية للاتفاق مع مصر تفوق بما لا يقاس أهمية هذا الاتفاق. لكن من نواحٍ معينة - تاريخية وعاطفية - يُحدث الاتفاق مع الأردن تعاطفاً أعمق. فإسرائيل ومصر كانتا على الدوام كيانين منفصلين؛ ونقاط الالتقاء في ما بينهما كانت قصيرة الأجل، وإن كان لها انعكاسات تاريخية مهمة. وبقي البَلَدان غريبين أحدهما عن الآخر. واتفاق السلام والعلاقة التي نشأت في إثره عكسا هذه الصلة غير الحميمة: علاقات خالية من العواطف وقائمة على مستوى العلاقات الدولية العادية.
أما البلدان الواقعان على جانبي نهر الأردن، فكانت تربطهما منذ الأزل روابط وصلات حميمة؛ وتاريخهما لا يمكن فصله. كما أن المخلوقات الحية والنباتية فيهما وتضاريسهما ومناخهما لا يمكن الفصل بينها. لكن اعتبارات استعمارية لحكام بعيدين وأطماعاً لحكام محليين تسببت في أن تكون المنطقة أحياناً وحدة جغرافية - سياسية واحدة، وأحياناً أُخرى مجزأة إلى وحدات صغيرة. وقد قررت آخر سلطة استعمارية رَسْم خط الحدود على نهر الأردن، وأحدث هذا القرار عملية تاريخية أدى إلى الصراع خلالها إلى المواجهة والانفصال. وقد نبع الإحساس بالحصار الذي أحس الإسرائيليون به، إلى حد كبير، من أن حدودهم الشرقية، وهي أطول الحدود، كانت مغلقة أمامهم، والمناظر الطبيعية التي كانت تشاهد من نوافذ الكثيرين منهم - مناظر جبال أدوم ومؤاب وغلعاد - كانت بالنسبة إليهم مناطق محظور عليهم دخولها، الأمر الذي جسّد لهم العداء والمواجهة. واختراق هذا الحصار وإمكان زيارة تلك الأماكن والمواقع المثقلة بهذا القدر الكبير في حِمْلها التاريخي - البتراء، جوار مؤاب ومأدبا وأرنون ويابوك - وطبعاً أسواق عمان وإربد، سيزيلان من نفوس الإسرائيليين الإحساس بالحصار - أكثر مما تفعله زيارتهم إلى القاهرة والأُقصر. وهذه الزيارة ستتم عندما يتحرر الإسرائيليون من المفاهيم القديمة التي تقرن الارتباط التاريخي بالمكان بمطلب السيطرة عليه.
فحتى رجال اليمين تحرروا من شعار "هذه [الضفة] لنا. وهذه أيضاً"، ناهيك بمعظم الجمهور الذي أخذ يبدي استعداداً لـ "التنازل عن أجزاء من الوطن" من أجل تحقيق الفصل بينه وبين الفلسطينيين. ما كان لن يكون بعد، والسلام مع الأردن يرمز إلى اندماج إسرائيل في مجالها الطبيعي أكثر مما يرمز السلام مع مصر إليه. واتفاق السلام ليس مناسبة احتفالية فحسب، بل هو أيضاً يوم حساب للنفس وتأمل في الفرص التي ضاعت. فماذا كان يمكن أن يكون مسار التاريخ لو لم يقتل الملك عبد الله في أوج مفاوضات من أجل السلام؟ وما كان سيحدث لو لم يرتكب الملك حسين خطأ جسيماً بانضمامه إلى حرب الأيام الستة؟ وما الذي كان سيحدث لو أن حكومة إسرائيل طرحت على الأردنيين "خياراً أردنيا" شجاعاً؟ وكيف كانت ستسير الأمور لو وافق يتسحاق رابين على فكرة "أريحا أولاً" سنة 1974 ولو لم ينسف يتسحاق شمير "اتفاق لندن" سنة 1987؟ أو لعل هذه الأحداث كلها كانت حصرماً، والآن فقط وصل المسار إلى مرحلة النضج؟
وهذا المسار لا تقتصر خلاصته على إقامة علاقات جوار بين سكان حوض نهر الأردن من الإسرائيليين والأردنيين، بل له تأثير حاسم في الضلع الثالث للمثلث، في الشركاء الذين سيغيبون عن الاحتفال، لكن قدرتهم على المضايقة سبق أن برهنوا عنها على ضفتي النهر. فالملك الأردني الذي قُطعت جهوده الانتخابية لتوحيد الضفتين وهي في مهدها سنة 1967، كان مستعداً لأعوام طويلة لأن يعود ويلقي على عاتقه المسؤولية للسيطرة على الفلسطينيين ومصيرهم. لكن إسرائيل التي يمزقها خلاف بشأن المناطق [المحتلة]، لم تكن مؤهلة لاتخاذ قرار حاسم إلى أن تنازل الملك التعب، وقطع صلته وتخندق وراء النهر. وفي اتفاق السلام، هناك تجسيد أيضاً لهذا القول إلى الإسرائيليين: نحمد الله على أننا تخلصنا من الفلسطينيين وسنرى كيف ستنجحون أنتم، من خلال مناورات الإغلاق والإدارة الذاتية، في التخلص منه.
وهناك درس آخر يتجسد في الاتفاق: ففي التعاقب غير النهائي للأحداث التاريخية، هناك أيضاً نقاط تحول لا عودة هنا. فإنشاء إمارة شرق الأردن سنة 1921 كان كذلك. وهكذا أيضاً اتفاق السلام هذا.
المصدر: "هآرتس"، 27/10/1993.