يركز الكاتب على ردات الفعل في الأردن، بشقيها الرسمي والشعبي، على المعاهدة الأردنية ـ الإسرائيلية، التي جرى توقيعها في وادي عربة في 26/10/1994. ويتناول المناخ المعارض للمعاهدة، خصوصاً من جماعة الإخوان المسلمين وحبهة العمل الإسلامي وأحزاب أخرى، والمواجهة بين المعارضة والسلطة.
المكان: وادي عربه،
الزمان: يوم الأربعاء 26 تشرين الأول/أكتوبر 1994.
الفضاء، زمناً ومكاناً، يعبق بلقاء تفوق حرارته حرارة الطقس التي تعدت الثلاثين درجة فوق الصفر. الملك الحسين والأمير الحسن والحكومة الأردنية ينتظرون وصول طائرة الرئيس الأميركي وِلْيم جيفرسون كلنتون، الشاهد الذي سيتضح أنه الأب الروحي لكل ما جرى ويجري في هذه المنطقة.
وإذ وصلت طائرة الرئيس، بعد إجراءات أمن مشددة لم يسمح لقوات الأمن الأردنية المشاركة فيها مباشرة، كانت تلك لحظة إعلان أهمية استثنائية للأردن لم يسبق أن حظيت به من قبل بلاد لها حجم الأردن ووزنه ودوره في المعادلة الدولية ولإقليمية. وكان هذا مؤشراً على أن ما يجري ليس مجرد توقيع معاهدة سلام.
وفي حضور ما يزيد عن الخمسة آلاف من الأردنيين والعرب والصهاينة والضيوف والأجانب، بدىء حفل التوقيع بتلاوة آيات من سور مختلفة من القرآن الكريم، بدأها المقرىء بتلك الآية التي تحضُّ على الدخول } في السلم كافة...{، أتبعها بآية: }ربنا لا تؤاخذنا ‘ن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا{، وغيرهما من الآيات. ثم تلا كبير حاخامي الكيان ما لا ندري (لأن أحداً لم يترجم لنا).
وكانت موسيقى القوات الأردنية عزفت "السلام الوطني الإسرائيلي"، كما عزفت موسيقى "جيش الدفاع" السلام الملكي الأردني، واشتركت الفرقتان الأردنية و "الإسرائيلية" في عزف السلام الوطني الأميركي. ثم أُلقيت كلمات بدأها الملك حسين بالترحيب بالضيوف الذين جلسوا على منصة التوقيع (الرئيس وايزمن، رئيس الحكومة رابين، وزير الخارجية بيرس، وزير خارجية روسيا كوزيريف، وزير خارجية أميركا كريستفور، ولي العهد الأمير حسن، رئيس الوزراء الأردني المجالي...). أكد الملك في كلمته أن المعاهدة بكل ما فيها تحظى بدعمه وتأييده، وأنها "تحظى بدعم السواد الأعظم من شعبنا.. (مثلما) حظيت بموافقة الغالبية العظمى من أعضاء الكنيست الإسرائيلي." وعن وادي عربة، قال الملك حسين: "سيصبح هذا الوادي العظيم الذي نقف فيه وادي السلام عندما نلتقي لنبنيه ونجعله يزدهر كما لم يحصل من قبل، وعندما سنعيش سوية كما لم نعش سابقاً، وسنفعل ذلك معاً دون الحاجة لأي كان ليراقب أعمالنا أو يشرف على محاولاتنا." وتمنى، في ختام كلمته، أن تكون هذه المعاهدة حافزاً لتقدم مشابه "ليس فقط على المسارات الأُخرى في المنطقة، لأننا جميعاً ملتزمون بالسلام الشامل، وإنما في هذا العالم الصغير الذي هو وطننا جميعاً، ويحتاج إلى اهتمامنا ورعايتنا لأجل الإنسانية والمستقبل."
الرئيس كلنتون خاطب الملك حسين بقوله: "إنكم تقومون اليوم في هذه الأرض العربية بتحقيق حلم ذكرى الرجل الذي علمك أن تسعى إلى السلام، جدكم الملك عبد الله. لقد ترك لكم عبئاً ثقيلاً وحلماً عظيماً عند استشهاده قبل أربعة عقود، لقد آمن بأنه في يوم من الأيام سيعيش العرب واليهود على ضفتي نهر الأردن بسلام..." ثم خاطب رابين قائلاً: لقد أمضيت حياتك كجندي تحارب في بادئ الأمر لإقامة دولتك، وبعد ذلك للدفاع عنها. لقد حاربت طوال عمرك ببراعة وشجاعة لتحقيق سلام دائم وآمن لشعبك، ولقد أعطيتهم الآن الأمل والحياة... لقد وضعتهم أمام التحدي لتأمين بيت إسرائيل وجعله وطناً. لقد انتصرت في العديد من المعارك عندما كنت جنرالاً في الجيش... ولكنك الآن بنفس الشجاعة والقوة تقود جيش السلام وحققت أعظم الانتصارات..." ثم أكد في مخاطبته "الشعبين الأردني والإسرائيلي" ضرورة تحويل "الأرض الجرداء إلى وطن للجميع". ولم ينس الرئيس كلينتون أن يشير إلى ما سماه "قوى الإرهاب" التي ستحاول "أن تعيق تقدمكم وسيعملون على قتل الآمال بمستقبل السلام، والعمل على إبقاء الكراهية، وسيمنعون كل ما يمكن أن يجلبه السلام من الوصول إلى أطفالكم. ويجب علينا، وهو ما سنفعله، عدم السماح لهم بالنجاح." وختم كلمته بما يبدو شعاراً للمرحلة: "بارك الله صانعي السلام الذين سيرثون الأرض."
وجاءت كلمة كل من رابين وبيرس حاشدة بالوعود والآمال الخضر، ولنلاحظ تركيز الاثنين على الأرض الجرداء التي ستتحول إلى جنات عدْن. يقول رابين: "أتطلع من على هذا المنبر وأرى وادي عربه، وعبر الأفق من جهتي الأردن وإسرائيل، وأستطيع أن أرى - فقط - صحراء جرداء. فلا تكاد توجد حياة حنا.. لا ماء، لا بئر، لا ينبوع. فقد حقول ألغام. وهكذا كانت العلاقات بين إسرائيل والأردن خلال السنوات السبع والأربعين السابقة. لا غصن أخضر، ولا شجر، ولا حتى زهرة واحدة. وجاء الوقت لنتحلى بالقوة ونتخذ قراراً شجاعاً ونتغلب على حقول الألغام والجفاف والحواجز بين شعبينا (...) وعلينا أن نبحث عن ينابيع مصادرنا الروحية العظيمة، ونتناسى الألم الذي سببناه لبعضنا، ولننظف حقول الألغام التي فرقت بيننا لسنوات عديدة، ولنزرعها بحقول الرخاء (...) سنكون نحن من يحوّل هذا المكان المقفر إلى واحة خصبة، هذه الأراضي المقفرة والشاحبة ستصبح أراضي خضراء مليئة بالحيوية." وفي إشارة واضحة إلى العاصمة الأبدية لدولة الكيان، قرن رابين القدس بعمّان في قوله: "مع بزوغ فجر اليوم، وبدء يوم جديد، تبدأ حياة جديدة في العالم حيث ولد أطفال في عمان."
أما شمعون بيرس الذي أكد أن هذا السلام "ليس مجرد سلام الشجعان، ولكن... سلام الأمهات لأولاد ولدوا أم لم يولدوا بعد"، فقد أعلن: "إنني أرى الصحراء هنا وقد جعلتها الطبيعة بنية اللون، ولكن العلم سيجعلها خضراء، ولقد قتلتها الحروب وسيحييها السلام." كما أعلن أن ما يجري ليس مجرد انتهاء الحروب، بل "بداية علاقة تعاون جديد..."
المواجهة بين المعارضة والسلطة
بهذه الصورة الوردية قدم صانعو المعاهدة معاهدتهم للتوقيع في احتفال كرنفالي مثير وحافل بالمشاهد المرسومة بدقة. وربما كان مشهد لقاء قادة الأسلحة الأردنيين و "الإسرائيليين"، مصافحة وتبادل هدايا، من أكثر هذه المشاهد افتعالاً.
ولما كانت هذه الوعود والمشاهد كلها غير قادرة - كما بدا للكثيرين - على إقناع الشعب بأن ما يجري هو حقيقي، وبدا أن الشارع له وجهة نظر أُخرى، فقد سعت الحكومة وأجهزتها الأمنية لعمليات عرض قوة مترافقة مع مظاهر احتفالية زائفة بالحث، الهدف منها هز العصا في وجه كل من يفكر في التعبير عن معارضته لما يجري. فانتشرت قوى الأمن في شوارع وساحات العاصمة عمان ومدن أردنية أُخرى، كالزرقاء وإربد، تحوّطاً من أية مفاجآت يمكن أن تعكر أجواء الاحتفالات التي سبقت ورافقت وتلت توقيع المعاهدة، إذ بدا واضحاً أن السلطة لن تسمح لأي مظهر من مظاهر الرفض بالتعبير عن نفسه، لا في صورة سلمية ولا غيرها. وعليه، فقد رفضت وزارة الداخلية السماح لأية مسيرة سلمية، ولم ترضخ سوى لمطلب الأحزاب والنقابات المهنية بالاعتصام بعد أن حوّلته من أمام مجلس الأمة - كما طالبت الأحزاب - إلى مبنى رئاسة الوزراء الذي يقع في منطقة معزولة نسبياً. وقد جاء هذا الاعتصام قبل يوم واحد من توقيع المعاهدة، وكان رمزياً حضره ما يقارب ثلاثمئة شخصية وطنية يمثلون أحزاب المعارضة والنقابات المهنية ورابطة الكتاب ولجان مناهضة العدو الصهيوني ومقاومة التطبيع معه... إلخ.
أما التجمع الأكبر فهو المهرجان الذي أحيته جماعة "الإخوان المسلمون"، وجاء مفاجئاً، إذ لم يتم الإعلان عنه، ففوجئ الناس به، كما فوجئت قوات الأمن، وكان أكثر من خمسة آلاف قد تجمعوا، وأخذ الخطباء يتناوبون الحديث، رافضين طلب رجال الأمن بفض التجمع وإنهاء المهرجان. وركز المتحدثون (عبد المجيد الذنيبات، المراقب العام للجماعة، والدكتور النائب همام سعيد، وعريف المهرجان الدكتور النائب بسام العموش) على أن "ما تم هو تفريط في الحقوق والمقدسات الأردنية والفلسطينية" و"أن رفضنا لهذه الاتفاقية يعني رفض جميع استحقاقاتها وخصوصاً ما يراد به تطبيع العلاقات مع العدو."
وكان الإخوان المسلمون ونواب جبهة العمل الإسلامي قد قاطعوا حفل توقيع المعاهدة، كما قاطعوا - في اليوم نفسه - الخطاب الذي ألقاه الرئيس كلنتون أمام مجلس الأمة، الأمر الذي أثار السلطة وجعل الكثيرين يتوقعون مواجهة حادة بين السلطة والإسلاميين الذين - على الرغم من تمسكهم برفضهم - أظهروا ليناً ورغبة في عدم الوصول إلى الصدام. إلا إن ما جرى للنائب الإسلامي عبد المنعم أبو زنط يعتبر تصعيداً من جهة السلطة، التي تبدو مستعدة لتصعيد المواجهة؛ فقد بدأت بعزل النائب عن خطبة الجمعة وتعيين خطيب آخر في المسجد الذي يخطب فيه، وحشدت أمام المسجد قوات بعضها بالزي المدني وبعضها الآخر بالزي العسكري. وإذ رفض أبو زنط التنازل عن حقه في إلقاء خطبة الجمعة، وشجعه على ذلك المصلون الذين يأتون لسماع خطبته من مناطق مختلفة، وعلى الرغم من تهدئته للمصلين الذين استفزتهم ممارسات رجال الأمن، فإن عدداً من رجال الأمن قد هاجمه بالهراوات فشج رأسه وألقاه أرضاً وداس عليه ثم نقله إلى مستشفى المدينة الطبية ومنع أي زائر من مقابلته في اليوم الأول. وأصدر وزير الداخلية بياناً اتسم بالغموض يبرئ رجال الأمن، ولا يدين أحداً.
وأصدرت جبهة العمل الإسلامي بياناً أوضحت فيه ملابسات الحادث. وهاجمت فيه الحكومة بلهجة حادة، ومما جاء فيه: "ما أن فرغت الحكومة الأردنية من توقيع معاهدة السلام مع الكيان الغاصب لأرض فلسطين والجولان ولبنان،...، حتى أوعزت لأجهزتها بالإطباق على الحرية والديمقراطية والحقوق الدستورية للأحزاب والمواطنين في التعبير عن آرائهم تجاه هذا الحدث الذي يشكل منعطفاً خطيراً في تاريخ شعبنا وأمتنا، حيث فتحت بوابة الغزو الرسمي والعلني للمشروع الصهيوني للهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية على شعبنا وأمتنا..." وختمت البيان بالقول: "إننا نحمّل الحكومة كامل المسؤولية عما حدث ونعتبرها قد بدأت إثارة فتنة لا تخدم إلا العدو الذي صالحته بالأمس وحالفته اليوم..."
ودانت الأحزاب والشخصيات الوطنية والبرلمانية الحادث واعتبرت نذير تراجع لمسيرة الانفراج السياسي والتعددية وحرية التعبير، وكتب في إحدى الصحف المعارضة بالخط العريض "سقوط الديمقراطية.. أولى نتائج معاهدة السلام المشؤومة"، في حين رأي البعض أن الحملة على المعارضة - متمثلة في الاتجاه الإسلامي - تأتي في سياق الهجمة التي شنّها الرئيس الأميركي كلنتون، من فوق منبر البرلمان الأردني، على القوى المعارضة التي سماها "الإرهابية". ورأى رئيس تحرير صحيفة "المجد" الأسبوعية المستقلة - فهد الريماوي - أن "المطلوب من الأردن ليس السلام، ولا حتى الاستسلام، وإنما الاستخدام.. استخدامه في ضرب شعبه، والخروج عن أمته..."
وذهب النائب الإسلامي الدكتور عبد الله العكايلة، في كلمته التي ألقاها أمام مجلس النواب باسم نواب جبهة العمل، إلى حد تجاوز مخاطبة الحكومة - كما هي العادة - ومخاطبة الملك مباشرة لاعتقاده أن الأمر فوق قدرتها على تقديم إجابة صحيحة عنه، فتساءل إن كان إنهاء الأردن حال العداء مع العدو الصهيوني "يعني تلقائياً أننا أصبحنا مصنفين كأعداء للنظام باعتبارنا أعداء للعدو الصهيوني الذي دخلت الدولة معه، من خلال إجراءات حكومتنا وإعلامنا، إلى واقع تحالف أو وحدة أكثر منه واقع معاهدة سلام؟ فإن كان الأمر كذلك، فإننا نعلن للآمة والشعب أن عداءنا لليهود الغاصبين أبدي حتى نلقى الله."
وفيما يُجمع المراقبون على أن جماعة "الإخوان المسلمون" وجبهة العمل الإسلامي لن تلجآ إلى العنف في معارضة المعاهدة، بل إنهما تبديان ميلاً إلى مهادنة النظام، وهو ما يأخذه عليهما الكثير من القوى التي تعتبرهما القوة ذات التأثير الأكبر في الشارع وأنهما لا تستغلان هذا للتأثير في سير الأحداث - في هذا الوقت نشرت إحدى الصحف ما سمته البيان رقم (1) الذي أصدره - بحسب الصحيفة - الإخوان الرافضون لنهج القيادة الإخوانية في الأردن. البيان جاء هجوماً عنيفاً و "ينذر بزلزال قادم"، ومن أسباب معارضتهم للقيادة أنها لم ترد "بقوة على ما يسمى بالسلام من مدريد وحتى توقيع آخر معاهدة استسلامية." وطالب البيان القيادة بـ "التحرك الجاد لإسقاط الاتفاقيات الاستسلامية"، إضافة إلى مطالب أُخرى.
ولعل أعنف ما جاء من ردات فعل على المعاهدة، ردة فعل النائب السابق والشخصية الوطنية الإسلامية المستقلة ونقيب المهندسين الحالي، ليث شبيلات، الذي اختار أن يكون رفضه في صيغة رسالة وجهها إلى أخيه اللواء المتقاعد الطبيب غيث شبيلات، عضو مجلس الأعيان، يطالبه فيها بألاّ يستمر في المجلس واحداً من أولئك "الذين يطلب منهم أن يضفوا الشرعية على أمر منكر عند الله والعبد والوطن والتاريخ والمستقبل..."، ويسأله إن كان سيمضي على عهد أبيه "أحد أشراف هذه الأمة فرحات الشبيلات" أم "انك ستنسلخ كما انسلخ النهج الذي مات أبوك وهو يعارضه." ويذكّر ليث شقيقه كيف رفض هو تلويث اسم والده في "مستنقع الخيانة" عندما ركز احتجاجاته في البرلمان على فضح الديمقراطية الزائفة والارتزاق والمناصب والوجاهات... إلخ، وكيف اعتزل هو "العمل في المؤسسات السياسية الرسمية والحزبية حتى لا أكون شاهد زور على ‘مشاركة سياسية’ مزعومة، أو أداة تنفيذ لمراسم نقل حق التصرف بالوطن المحجوز إلى الأعداء..."
أحزاب ولجان.. وبيانات
من البيانات التي عارضت المعاهدة - حتى وهي مسودة، وقبيل توقيعها - وأشدها إثارة، كان البيان الذي أصدره "حزب الوطن" عشية التوقيع. ولم تكن أهمية البيان فقط فيما تنبه إليه من مخاطر تحملها المعاهدة، بل أيضاً في الحزب الذي أصدره، وهو حزب عاكف الفايز، أحد المقربين من السلطة. وقد أثار دهشة واستحسان الكثيرين من تيارات المعارضة ما جاء فيه من تنبيه إلى التنازلات التي تضمنتها المعاهدة، سواء على صعيد الأراضي وتأجيرها أو تبديلها أو السماح باستثمارها بما يتنافى "مع الثوابت التي نستقيها من خلال موروثنا الحضاري العربي والإسلامي... إلخ"، أو المياه وما اتسمت به البنود الخاصة بها من ضبابية وخضوع لشروط مستقبلية قد لا تتحقق، أو حتى فيما يتعلق بالنازحين واللاجئين، إذ اعتبر البيان أن المعاهدة أشارت إلى قضية النازحين "كقضية إنسانية وبشرية دونما التطرق لتثبيت حق العودة للنازحين الذي يعتبر حقاً ثابتاً ومقدساً لا يجوز التفريط به..." وكذلك بالنسبة إلى اللاجئين الذين أكدت المعاهدة أهمية البحث في قضيتهم "من خلال تطبيق برامج الأمم المتحدة بما في ذلك العمل على توطينهم بدلاً من التأكيد على حق العودة وفق قرارات الشرعية الدولية..."، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالأمن والحريات العامة، إذ إن بنود المعاهدة "تعمل على خنق تحالفات الأردن مع الأشقاء والأصدقاء... وتساعد على (إلغائها)، وتعطي الأولوية للمعاهدة الأردنية الإسرائيلية.. ما قد يشكل منعطفاً خطيراً على مستقبل الأردن وارتباطه بعروبته وإسلامه." كما أن "مجمل هذه البنود يشكل تدخلاً صارخاً في الشؤون الداخلية الأردنية وتعدياً على كرامة المواطن الأردني وحريته..."
وتعتبر البنود التي تناولها البيان من أبرز العناصر التي ارتكز عليها جل بيانات أحزاب المعارضة - باستثناء حزب جبهة العمل الإسلامي الذي يرفض، فضلاً عن المعاهدة، عملية التسوية كلها، وهو الوحيد في ذلك بين الأحزاب الثمانية المرتبطة في إطار تحالفي - مع وجود اختلافات في التفصيلات وحدة اللهجة وبعض مصطلحات الصراع العربي - الصهيوني!
ولعل أهم ما صدر عن إطار الأحزاب الثمانية (على رأسها حزب جبهة العمل الإسلامي، ثم حزب الشعب الديمقراطي، وحزب الوحدة الشعبية، والبعث العربي، والعمل القومي، والديمقراطي الاشتراكي، والشيوعي الأردني، والعربي الديمقراطي)، الرسالة التي وجهتها إلى أعضاء مجلس النواب تطالبهم باحترام مصالح الشعب ومشاعره والدفاع عن موقفه، ومنع كل ما من شأنه المس بالحقوق والسيادة القومية وبوجود الأمة وثوابتها. ويقول موقعو الرسالة: "ولما كنا نرى أن الاتفاق المطروح عليكم يمس وجود الأمة ومقدساتها وحقوقها الثابتة، ويعرّض وجود الأردن والأمة للخطر الأكيد، ويهدد مصالح أمتنا العربية وشعبنا العربي في الأردن، فقد قررت الأحزاب الموقعة على هذه الرسالة أن تبين لكم رأيها في الاتفاق وموقفها منه..." وأول ما تتوقف عنده الرسالة هو أن الاتفاق قد "صيغ حسب الشروط الصهيونية - الأميركية كاملة، باشتراط التنازل عن فلسطين كلها، وإجراء صلح منفرد، واعتبار العلاقة مع العدو الصهيوني علاقة الأردن الرئيسية التي تفوق أي علاقة مع أية دولة عربية، بل على حساب الدول العربية، وفتح أبواب السياحة والتجارة والتنسيق السياسي والأمني والثقافي مع العدو، ولم يخرج عن اشتراطات العدو المعروفة منذ نشأة الكيان الصهيوني - كما أعلنها قادة الصهيونية من بن - غوريون إلى رابين، وهي الشروط التي رفضتها الأمة جملة وتفصيلاً وما زالت ترفضها." ثم تنتقل الرسالة إلى المستوى الثاني من المخاطر المتمثل في كون الاتفاق "يتنازل عن الثوابت القومية والإسلامية، في اعتبار الاحتلال الصهيوني احتلالاً، واعتبار الصهيونية عنصرية وعدوانية، واعتبار المقاومة حقاً مشروعاً للعرب، واعتبار الأردن جزءاً من الأمة العربية ومصالحه جزءاً من مصالحها. وأمنه جزءاً من أمنها، ومستقبله جزءاً من مستقبلها، ويقرّ وجود الاحتلال الصهيوني إقراراً كاملاً نهائياً ملزماً."
وبما هو عليه من المخاطر السالفة الذكر، فإن الاتفاق - بحسب الرسالة - يخضع الأردن لمزيد من الهيمنة الأميركية في الوقت الذي تقوم به حكومة الولايات المتحدة الأميركية بالمزيد من الدعم للعدو الصهيوني، ومن ممارسة التغلب والهيمنة في العالم، ومحاصرة العراق وليبيا والسودان، ووضع برامج لإثارة أوسع النزاعات في الوطن العربي والعالم الإسلامي والعالم الثالث، ولذلك كله - تواصل الرسالة - فإن الحديث عن استعادة الأرض والمياه، يصبح مجرد دعاوى لا قيمة لها أمام التنازلات الكبرى المشار إليها."
وكانت اللجنة الشعبية العربية الأردنية لمجابهة الإذعان، المنبثقة عن الأحزاب الثمانية، قد دعت إلى اجتماع هيئتها العامة، وصدر عن اجتماعها عدد من القرارات، على رأسها "رفض المعاهدة، والعمل الشعبي اليومي على مستوى الوطن لإسقاط هذه المعاهدة وتشديد النضال ضد الإذعان والتطبيع...، واستمرار الكفاح وبكافة الأشكال ضد الكيان الصهيوني..." ولتحقيق هذه الأهداف، دعت الهيئة العامة إلى "توسيع قاعدة اللجنة، إصدار نشرة ‘المجابهة’، العمل على إنجاح المؤتمر الوطني ضد التطبيع، والتفاعل مع اللجان المشابهة على الصعيد العربي."
ومن مظاهر الرفض الكثيرة، مثل المسيرات الطلابية والاعتصامات الجماهيرية، برزت فاعليات النقابات المهنية في الاجتماع الموسع الذي ضم مجالس النقابات، وحضره أكثر من مئتي مهني ونقابي، إضافة إلى بعض ممثلي الأحزاب والاتحادات. وقد شهد مبنى مجمّع النقابات ما شهدته المسيرات من تدخل أجهزة الأمن لفض الاعتصام وإزالة مظاهر الاحتجاج المتمثلة في اللافتات وفي الأعلام السود التي جلّلت المبنى يوم التوقيع.
الإعلام والمعاهدة
وعلى عادة أجهزة الإعلام في ظل ما يُدعى الديمقراطية، فقد أدى التلفاز [الأردني] دوره على أكمل وجه، فقدم لاحتفالات التوقيع بحملة منتقاة من اللقاءات مع المؤيدين تأييداً مطلقاً لا ينم عن وعي لما يجري، بل عن ولاء كامل لصانعيه. وإلى ذلك، زُينت شاشة التلفاز، وقبل توقيع المعاهدة، بلوحة تضم العلمين الأردني والصهيوني وحمامة بيضاء، هذه اللوحة اتخذها التلفاز شارة لنشرات الأخبار الرئيسية، كما كان يعرضها منذ صبيحة يوم توقيع الاتفاق في البث الحي الذي قام به من موقع التوقيع. وإلى الآن، وبعد مرور ما يقرب من أسبوعين على مهرجان التوقيع، لا تزال مراسيم الاحتفال جارية في التلفاز، ولم يعد مفاجئاً أن تشاهَد مقدمة برنامج "يسعد صباحك"، الذي يبدأ في الساعة العاشرة من صباح كل يوم جمعة، وهي تعلن فرحتها باستقبال مكالمة من تل أبيب أو القدس مثلاً. كما لم يعد مفاجئاً هذا الترويج الاحتفالي للتعايش مع العدو الذي "اكتشفنا" أنه ليس كذلك وأن في إمكاننا ليس فقط أن نتعايش معه، بل أن نعيش معه علاقة غرامية، كما يعلق الكثير من الظرفاء الذين تفجر لديهم فجأة حس السخرية المريرة. أما صحافتنا، فالواقع أن فيها هامشاً يتسع، ليس للمعارضة، بل لشيء قليل من الاختلاف الحذر والمهذب، بما في ذلك بعض الصحف الحزبية المعارضة.