يبدأ الكاتب بالإشارة إلى أن هذه الاتفاقات وضعت الفلسطينيين داخل "الخط الأخضر" خارج جدول الأعمال الدولي. ويتناول ممارسات إسرائيل العنصرية "الخفية" ضدهم. ويتحدث عن ثلاثة اتجاهات رئيسية في التفكير بينهم منذ عقد الاتفاقات: مؤيد ومتفائل؛ انتقادي ومتشائم؛ متشائل. ويتحدث عن تفكير "واقعي" فيما يتعلق بمستقبل الفلسطينيين في إسرائيل وعن فكرة الاستقلال الذاتي لهم.
إن الفلسطينيين الذين يعيشون داخل "الخط الأخضر" (في إسرائيل) هم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، فقد لوا خارج جدول أعمال المجتمع الدولي، وهم خارج جدول أعمال العملية السلمية؛ ولم يأت ذكر لهم في الاتفاقات المعقودة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية؛ والسبب، في رأيي، بشأن هذا الاستثناء المقصود، ليس فقد كونهم مواطنين إسرائيليين فنياً وقانونياً. وسأشير إلى سبب آخر مهم له: ففي هذه الاتفاقات رفضت إسرائيل التعامل مع الشعب الفلسطيني ككل. وكما رأينا فعلاً، فإن قيادة منظمة التحرير الحالية، المحاصرة والمنهكة، تصرفتن إلى حد كبير، بحسب الشروط الإسرائيلية.
والأسوأ من ذلك هو أن السبب الثالث لاستثناء الفلسطينيين الإسرائيليين (الذين يوصفون عادة بعرب إسرائيل) من اتفاقات أوسلو نابع من الحقيقة المحزنة المتمثلة في أن قيادة منظمة التحرير الحالية ليس لديها أي تصور لمستقبل يضم الفئات الفلسطينية المختلفة التي يتكون منها الشعب الفلسطيني ككل ويحقق تكاملاً بينها. إن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية كانت قادرة، في أحسن الأحوال، على رؤية مختلف أجزاء الشعب الفلسطيني. وطوال عقدين من الزمن تقريباً، كانت استراتيجيا منظمة التحرير الفلسطينية، في بحثها عن قاعدة جغرافية، معتمدة على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. لكن منذ أن عقدت اتفاقات أوسلو - واشنطن في العام الماضي، فإن هؤلاء اللاجئين في لبنان (400,000 فلسطيني، يعيش أغلبهم أوضاعاً مزرية، في مخيمات اللاجئين) قد تم التخلي عنهم عملياً. وتعتمد استراتيجيا منظمة التحرير الفلسطينية حالياً، وبصورة كاملة تقريباً، على جماهير الضفة الغربية وقطاع غزة، واستبعاد فلسطينيي الشتات. إلا إن سكان الضفة الغربية وغزة يشكلون أقل من 40% من الشعب الفلسطيني ككل.
أما فيما يتعلق بالفلسطينيين داخل "الخط الأخضر" (الذين يقترب عددهم من المليون شخص، ويشكلون أكثر من 15% من الشعب الفلسطيني ككل)، فإن منظمة التحرير الفلسطينية لا تملك جواباً بشأنهم: لا تفكيراً استراتيجياً ولا تصوراً لمستقبل يضمهم ويدمجهم في بقية الشعب الفلسطيني.
حتى الآن، تتعلق اتفاقات أوسلو - واشنطن - القاهرة بالسلطة الإدارية الجغرافية الذاتية أو بالحكومة الذاتية (ولا تتعلق بالسيادة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي) لسكان قطاع غزة والضفة الغربية، باستثناء القدس الشرقية العربية. وتم عملياً، في هذه المرحلة، استثناء معظم القضايا الأساسية والحاسمة من هذه الاتفاقات: القدس الشرقية المحتلة؛ الأرض، والسيطرة النهائية على المناطق الجغرافية، والسيادة في الضفة الغربية وغزة. ومع ذلك، من المؤكد أن بعض هذه القضايا على الأقل سيتم الخوض فيه بجدية خلال الأعوام الثلاثة - الأعوام الخمسة المقبلة. كما أنه من المؤكد أن مستقبل الفلسطينيين داخل "الخط الأخضر" لن تتم مناقشته خلال محادثات السلام الحالية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ممارسات إسرائيل العنصرية الخفية داخل "الخط الأخضر"
خلافاً لإفريقيا الجنوبية، مارست إسرائيل دائماً تمييز عنصري خفياً وماكراً داخل "الخط الأخضر". هناك جوانب في القوانين العنصرية لجنوب إفريقيا (قبل تفكيك النظام العنصري مؤخراً)، مثل حظر الاختلاط بين البيض والسود وتحريم إقامة علاقات جنسية بينهم، لم تجر محاولة تطبيقها في إسرائيل. لكن، على الرغم من الاختلافات الواضحة في التاريخ والبنية القانونية، فإن الدولتين كانتا تتسمان بمظاهر مشتركة، أهمها استبعاد السكان الأصليين من السلطة الاقتصادية والسياسية، بحصرهم في مناطق فقيرة. وقد أدارت إسرائيل بصورة تقليدية نظاماً قائماً على الفصل وعدم المساواة في المناطق العربية: الجليل والمثلث الصغير والنقب، يقوم على التبعية الإدارية والتحكم من خلال التجزئة الاجتماعية؛ لا يُعامل الفلسطينيون داخل "الخط الأخضر" بوصفهم أقلية وطنية فلسطينية، بل بوصفهم "أقليات دينية" فحسب. وتهدف السياسات الرسمية إلى التجزئة الجغرافية، والاحتواء الديموغرافي، والهيمنة السياسية، والتبعية الاقتصادية. وتهدف سياسات "تهويد الجليل" الجارية الآن إلى تحقيق هذه الأهداف كافة.
منذ أن عقدت الاتفاقات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، برزت بين الفلسطينيين داخل "الخط الأخضر" ثلاث مدارس، أو ثلاثة اتجاهات رئيسية في التفكير:
أ - مؤيد ومتفائل؛
ب - انتقادي ومتشائم؛
ج - متشائل.*
الاتجاه المؤيد والمتفائل: (يضم الحزب العربي الديمقراطي بزعامة عبد الوهاب دراوشة، والحزب الشيوعي، ورؤساء البلديات العرب، إلخ.) يمنح المؤيدون لهذا الاتجاه المتفائل تأييدهم الكامل أو المتحفظ للاتفاقات المعقودة. ويفكر أنصار هذا الاتجاه على النحو التالي:
1 - لقد أيد الفلسطينيون داخل "الخط الأخضر" طوال أعوام كثيرة "حل الدولتين". وتعد الموافقة على هذا الحل اعترافاً بوضعهم الحالي والمستقبلي كمواطنين في إسرائيل؛
2 - بما أن ارتباط هؤلاء الفلسطينيين بوطنهم في الجليل والمثلث الصغير والنقب، إلخ، قوي جداً، فإنه يُستبعد أي رحيل طوعي بأعداد كبيرة بين هؤلاء الفلسطينيين إلى الكيان الفلسطيني الجديد الناشىء في الضفة الغربية وغزة.
3 - الانتهاء المتوقع للحكم الإسرائيلي في المناطق المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية هناك يمثلان - إلى حد بعيد وإنْ لم يكن كلياً - تحقيقاً للتطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني. كما يمثل ذلك تحقيق بعض تطلعات الفلسطينيين داخل "الخط الأخضر".
4 - ستكون النتيجة بالنسبة إلى الفلسطينيين في إسرائيل، تخفيضاً كبيراً لمستوى حالة الضيق والتناقض الناجمة عن كونهم مواطنين في دولة تحتل الضفة الغربية وغزة وتضطهد شعبهم فيهما.
5 - سيكون لإقامة دولة فلسطينية في المناطق المحتلة تأثير إيجابي في الوضع النفسي والاعتزاز الوطني والهوية الشاذة للفلسطينيين داخل "الخط الأخضر"، كما أنها ستعزز نضالهم من أجل الديمقراطية والحقوق المدنية في إسرائيل، بل ستساعد في اندماجهم في إسرائيل على أساس المواطنة المتساوية. كما ستساهم شروط السلام الجديدة في تخفيف التوتر بين المواطنين اليهود والعرب في إسرائيل. إذ لْن يُنظر إلى الفلسطينيين داخل "الخط الأخضر" من خلال عدسة إسرائيل الأمنية فقط، وستتعزز قوة قوى الديمقراطية وحقوق الإنسان والتقدم في المجتمع الإسرائيلي - اليهودي المدني. وستصبح بؤرة الصراع المواطنة المتساوية والديمقراطية. وسيصبح المجتمع الإسرائيلي ديمقراطياً. وعندها سيُعامل الفلسطينيون داخل "الخط الأخضر" كمواطنين متساويين سياسياً وقانونياً.
هذا في الأساس اتجاه براغماتي جداً، لا ترافقه أية رؤية أشمل. ومحركه الأساسي هو عقلنة الهوية المعقدة الشاذة (الفلسطينية - الإسرائيلية) والوضع المتناقض للعرب في إسرائيل. وعلاوة على ذلك، فإن في هذا الاتجاه كثيراً من خداع الذات، بالإضافة إلى بلبلة مقصودة فيما يتعلق بجوهر إسرائيل كدولة صهيونية يهودية وبمجمل مشكلة التعايش مع أقلية عرقية غير يهودية كبيرة جداً في دولة كهذه على أساس المساواة. أضف إلى ذلك، وفي المدى البعيد، أن هذا الاتجاه يحمل معه خطر "أسرلة"** العرب في إسرائيل، لكن من دون اندماجهم في المجتمع الإسرائيلي اندماجاً كاملاً.
الاتجاه الانتقادي المتشائم: (تعبر عنه في الأساس الأوساط القومية الراديكالية، وقسم كبير من أبناء البلد، وبعض المسلمين المتطرفين، إلخ.).
هذا الاتجاه ينتقد جذرياً الاتفاقات المعقودة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وينحو واحدٌ من خطوط التفكير الرئيسية لهذا الاتجاه المنحى التالي: من المستبعد جداً أن تحاول إسرائيل تفادي صراع عرقي متنام داخل "الخط الأخضر" بعرضها مناطق حكم ذاتي فلسطيني في الجليل والمثلث الصغير، إلخ. فإسرائيل لا تعترف أصلاً بالفلسطينيين داخل إسرائيل كأقلية قومية، وتهدف سياساتها الحالية إلى تفتيت مناطق الفلسطينيين مادياً وجغرافياً، ومنع القرى العربية الكبيرة المتجاورة من الارتباط بعضها ببعض، وبالتالي من تشكيل مناطق حضرية كبيرة مكتفية ذاتياً. ومن المرجح أكثر أن تكون نتيجة هذه الاتفاقات سياسة تهميش وعزل سياسيين للفلسطينيين داخل "الخط الأخضر". ويتعرض هؤلاء الفلسطينيون من الآن، بحسب تفكير أصحاب هذا الاتجاه، إلى "مؤامرة أسرلة" يساهم فلسطينيون إسرائيليون فيها أيضاً.
وفي أسوأ الأحوال، بحسب مؤيدي هذا الاتجاه، ستأتي الشاحنات في النهاية لترحيل المشاغبين وفئات كثيرة من المواطنين العرب عبر الحدود إلى الكيان الفلسطيني الجديد الناشئ في الضفة الغربية وغزة. وسيكون هذا الكيان بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي تم تحييدها، والتي لها مصلحة في المحافظة على الوضع القائم الجديد، كياناً ضعيفاً جداً ومقيَّداً بحيث لا يتمكن من مقاومة السياسات القمعية ضد الأقلية الفلسطينية التي ستمارسها الحكومات الإسرائيلية المصرة على اتباع السياسة نفسها. وهكذا سيُترك الفلسطينيون داخل "الخط الأخضر" لمصيرهم، ليواجهوا وحدهم دولة إسرائيلية متجددة بالغة القوة.
إن أحزاب أقصى اليمين وأنصارها في إسرائيل (تسومت، موليدت، هتحيا، إلخ.)، بالإضافة إلى قطاع من المؤسسة الإسرائيلية ستؤيد في النهاية، بحسب اعتقاد أنصار هذا الاتجاه، حل ترحيل الأقلية الفلسطينية كلياً أو جزئياً. ومن اللافت أن أحد الحمائم الإسرائيليين البارزين، أ. ب. يهوشع، الذي يؤيد إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، قال مؤخراً لأنطون شماس، وهو روائي عربي من الجليل يكتب بالعبرية، إنه إذا كانت شخصية إسرائيل الصهيونية اليهودية لا تعجبه فما عليه إلا أن يذهب للعيش في الكيان الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة.
الاتجاه المتشائل: إن مستقبل الفلسطينيين داخل "الخط الأخضر" يعتمد، إلى حد بعيد، على النتيجة النهائية للصراع بين الشعب الفلسطيني ككل والصهيونية/إسرائيل وما زال من المبكر الحكم على النتيجة النهائية.
يبدأ الاتجاه الثالث بتوجيه السؤال التالي: حتى متى سيكون في وسع إسرائيل تجاهل فلسطينييها أو معاملتهم مواطنين من الدرجة الثانية؟
تنطوي سياسات إسرائيل "التهويدية" في الجليل والنقب على فكرة أن تنامي عدد السكان الفلسطينيين في إسرائيل سيمس الشخصية اليهودية الصهيونية وهوية الدولة، أو حتى يقوضهما. ففي سنة 1992، وحتى بعد موجة هجرة اليهود السوفيات الضخمة، كان الفلسطينيون داخل "الخط الأخضر" يشكلون أكثر من 18% من مجمل عدد السكان في الدولة. وفي سنة 2000، قد يصل عددهم إلى 1,2 مليون. وفي سنة 2005 قد يشكلون ما نسبته 21% إلى 22% وبحلول سنة 2020، سيشكلون على الأقل ربع عدد السكان في إسرائيل. وما لم ينخفض معدل الولادات السنوي (الذي يبلغ حالياً 3,2% بين الأغلبية المسلمة) انخفاضاً حاداً، فقد يتراوح عددهم بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين بين 30% و 35%. إن هذا الاستشراف البعيد المدى يكشف ثورة ديموغرافية حقيقية، لكن حتى في المدى القريب أو المدى المتوسط، فمن المرجح أن يتغير الوضع الديموغرافي لمصلحة أقلية فلسطينية كبيرة العدد في إسرائيل، أقلية قومية كبيرة من المستبعد أن تُدمج على أساس المساواة في دولة صهيونية يهودية؛ أقلية ستظل محصورة في هامش المجتمع الإسرائيلي. ومهما يحدث على جبهة الضفة الغربية، فإن ما يطلق عليه اسم "المشكلة الديموغرافية" في إسرائيل، وهذا مفهوم عنصري صريح، والسياسات المرسومة لاحتواء "التهديد الديموغرافي" المُدْرَك، من المرجح أن تستمر وأن تتصاعد في المستقبل.
لقد أُقصي الفلسطينيون في إسرائيل عن السلطة حتى الآن، ولم يتقلد فلسطيني واحد قط حقيبة وزارية. وهناك نائبا وزير في الائتلاف الحالي، لكن لا شيء جديداً في ذلك؛ فقد كان هناك، حتى في الخمسينات، نائبا وزير عربيان. وحتى لو تقلد عربي منصب وزير في المستقبل القريب، فإنه لن يتسلم حقيبة وزارة من الوزارات المهمة. لقد طرأ تحول على الفلسطينيين الإسرائيليين نتيجة مسارات العصرنة والتسييس. وكانت إحدى النتائج الحتمية لهذه المسارات بروز الوعي الوطني الفلسطيني داخل "الخط الأخضر"، بالإضافة إلى الحس المتنامي بالانتماء إلى كفاح الشعب الفلسطيني ككل. وقد تأثر هذا التحول القومي أيضاً بمجمل الصراع بين الصهيونية وإسرائيل وبين الشعب الفلسطيني ككل. ومن المستبعد جداً أن يتلاشى الحس الوطني الفلسطيني داخل "الخط الأخضر" في المستقبل المنظور، نظراً إلى أنه كان نتاج التحديث والتجانس الحضاري والتسيّس بمقدار ما كان حصيلة نهوض الحس الوطني الفلسطيني العام بعد سنة 1967. وفي الوقت نفسه، بدأ الفلسطينيون الإسرائيليون إدراك أهمية قوتهم الانتخابية وقوة المفاهيم العالمية، مثل المواطنة المتكافئة والديمقراطية، إلا إن قوتهم الانتخابية بقيت محدودة، وظلوا مُبعَدين ومهمشين سياسياً إلى حد كبير.
حتى متى سيقصُر الفلسطينيون في نضالهم ضد التمييز المدني والقومي على الوسائل السلمية (الإضرابات والتظاهرات، إلخ.)؟ هذا سؤال مفتوح. هل تندلع انتفاضة من نوع ما في الجليل والمثلث الصغير، لنقُل بعد خمسة إلى عشرة أعوام من الآن؟ هل تقود سياسات "تهويد الجليل" المستمرة والضغوط المتزايدة على الأرض وعلى الوضع الديموغرافي في الجليل إلى وضع متفجّر مشابه للوضع في أيرلندا الشمالية؟ ماذا ستفعل إسرائيل حينذاك؟ من الحماقة محاولة التنبؤ بالمستقبل، إلا إن العوامل الموصوفة أعلاه ستكون جزءاً من هذا المستقبل. ويجب أن نتذكر أيضاً أن الفلسطينيين سيصبحون على الأرجح في المستقبل المنظور، بسبب من الموقع الجغرافي - السياسي الموجودين فيه داخل حدود فلسطين التاريخية، وبسبب من نموهم الديموغرافي وتسيّسهم واكتسابهم تعليماً عصرياً، واحداً من أهم العناصر المكونة للشعب الفلسطيني.
وإذا كان من المرغوب فيه تشجيع وتعزيز مساريْ التسيّس والفلسطنة المذكورين أعلاه، فإنه يتوجب إذ ذاك وضع تصور يرتكز إلى تفكير استراتيجي ومبدع. وكمساهمة في نقاش نحن في أمس الحاجة إليه، يتمخّض عن تفكير واقعي فيما يتعلق بمستقبل الفلسطينيين في إسرائيل، يمكن طرح ما يلي:
أولاً: الاعتراف بالفلسطينيين داخل "الخط الأخضر" أقلية عرقية وقومية، لها حقوق مدنية وثقافية ووطنية.
ثانياً: الاعتراف بإمكان عدم اندماج مثل هذه الأقلية القومية المتنامية كلياً في دولة صهيونية يهودية على أساس المساواة، وخصوصاً إذا أخذنا في عين الاعتبار حقيقة أن الشخصية اليهودية للدولة يجري تعزيزها أكثر فأكثر. وهناك فكرة ناشئة حديثاً جديرة بدعم قوي، وهي استقلال ذاتي ثقافي - مؤسساتي - قومي للفلسطينيين داخل "الخط الأخضر". ويتعين أن يكون هذا الاستقلال الذاتي المؤسساتي واسع النطاق، بحيث يتيح للأقلية الفلسطينية الكبيرة السيطرة على مؤسساتها المحلية والوطنية. وتستطيع هذه الأقلية الفلسطينية عندئذ أن تقيم علاقات ثقافية قوية مع الكيان الفلسطيني الناشئ (ربما دولة) في غزة والضفة الغربية.
مؤخراً، أدعى أرنون سوفير، الأستاذ البارز في الجغرافيا السياسية في جامعة حيفا، والمعروف جيداً بعلاقاته الغامضة بالمؤسسة الإسرائيلية، أنه تجري حالياً عملية بناء استقلال ذاتي على أساس جغرافي في النظام الفرعي القائم في الجليل العربي. ويعتقد سوفير أن الفلسطينيين في الجليل يبنون في الجليل عن قصد بنية تحتية مستقلة ذاتياً، قد تؤدي في النهاية إلى الانفصال الجغرافي عن إسرائيل. كما يعتقد أن تكثيف سياسات "تهويد الجليل" ينبغي أن تكون أولوية صهيونية قصوى. ومن الواضح أنه ساهم شخصياً في وضع السياسات المنسجمة مع ذلك. إلا إن فكرة الانفصال الجغرافي التام بين الإسرائيليين اليهود والإسرائيليين الفلسطينيين داخل "الخط الأخضر" فكرة مغلوط فيها تماماً، نظراً إلى المزيج الديموغرافي المعتمد والمخاطر السياسية التي تنطوي الفكرة عليها. ومن الواضح أن فكرة الاستقلال الذاتي بالنسبة إلى الفلسطينيين الإسرائيليين هي أيضاً مسألة حساسة ومعقدة وغامضة، ويتفاداها معظم القادة في الاتجاه السائد بين الفلسطينيين في إسرائيل لأسباب مفهومة. وهم لا يناصرون قضية الاستقلال الذاتي خوفاً من أن يوصموا بأنهم مخربون أو انفصاليون. ولا تقل أهمية عن الأسباب المذكورة أيضاً حقيقة أن معظم هؤلاء القادة رؤساء بلديات ومجالس محلية تعتمد إلى حد بعيد على الحكومة المركزية من أجل الميزانيات المطلوبة للخدمات المحلية.
مع ذلك، ومنذ سنة 1989، فإن ثلاثة مثقفين فلسطينيين إسرائيليين يدرّسون في جامع بيرزيت في الضفة الغربية: سعيد زيداني وعزمي بشارة وعزيز حيدر، طرحوا بشجاعة فكرة الاستقلال الذاتي، وحجتهم في ذلك أن انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية قد يؤدي إلى تقوية شخصية إسرائيل اليهودية أكثر فأكثر، وبالتالي، فإنه يتوجب على الدولة الإسرائيلية أن تعوّض مواطنيها الفلسطينيين بأن تعرض استقلالاً ذاتياً عليهم. وقد أثارت أفكارهم جدلاً حامياً في الصحف العبرية والعربية المحلية، وأثارت مخاوف كثيرة بين اليهود الإسرائيليين.
من الواضح أن الاستقلال الذاتي مفهوم غامض يحتاج إلى نقاش موسع وتوضيح. والمفهوم المطروح هنا لا يتعلق باستقلال ذاتي جغرافي أو سيادة، بل يركز على فكرة استقلال ذاتي مؤسساتي موسّع، يتيح للمواطنين الفلسطينيين السيطرة على حياتهم ومؤسساتهم. ويتضمن هذا الطرح الجديد أيضاً فكرة أن إسرائيل التي يمكن أن ينتمي المواطن الفلسطيني إليها حقاً يجب أن تكون دولة ومجتمعاً ثنائيي العرق وثنائيي القومية: يجب أن يتم الاعتراف بالأقلية الفلسطينية الكبيرة أقلية قومية تتمتع بحقوق مدنية وثقافية ووطنية، ويجب إلغاء "قانون العودة" الذي يقوم على تمييز ضد العرب، بالإضافة إلى التشريعات الأُخرى التي تنطوي على تمييز. وهذا ما يمكن أن يحول إسرائيل إلى دولة ديمقراطية حقيقية: دولة لمواطنيها كافة. وعوضاً من "قانون العودة"، يمكن إصدار قانون يمنح حق اللجوء السياسي لأي شخص يتعرض للاضطهاد، بغض النظر عن الأصول الدينية والعرقية. وعلى الرغم من أن إسرائيل ستظل من الناحية الديموغرافية ذات أغلبية يهودية، فإن الدولة لن تكون قائمة على أساس الهيمنة العرقية. ففي بريطانيا، حيث يشكل السود، والآسيويون، واليهود، والمسلمون، ومجموعات أُخرى مهاجرة، أقل من 10% من السكان، بدأ الناس يتقبلون التعدد الحضاري والمجتمع المتعدد الأجناس. فلماذا في إسرائيل، حيث يشكل المواطنون العرب الفلسطينيون نحو 20%، يصعب تقبل حقيقة المجتمع الثنائي العرق والثنائي القومية؟
إن القيمة الأساسية لهذه الأفكار هي في توجهها إلى التصدي لسياسات تفتيت الشعب الفلسطيني و"تكريده"، وعزل العرب داخل "الخط الأخضر"، ونزع الصبغة الفلسطينية عنهم، وحصرهم في هامش المجتمع الإسرائيلي. والهدف هو تشجيع مناقشة أفكار تدعو إلى دمج الفلسطينيين الإسرائيليين في الشعب الفلسطيني ككل، وفي الوقت نفسه في إسرائيل مختلفة نوعياً. وإسرائيل المختلفة نوعياً هي: دولة ديمقراطية لمواطنيها كلهم، تستطيع أن تندمج وقتئذ في إطار شرق أوسطي أوسع.
لا أحد ضد تحسين الوضع الحالي في غزة والضفة الغربية والجليل من خلال مقاربة جزئية وعملية. لكن هذه المقاربة ينبغي أن تصاحبها رؤية أشمل وحس سليم بالوجهة الصحيحة للتحرك. وينبغي معارضة التفتت والتحزب الحاليين، باعتبارهما خطرين رئيسيين من أخطار الواقع الناشئ في إثر الاتفاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.
* استعرت تعبير "المتشائل" من عنوان رواية مشهورة للكاتب الفلسطيني الإسرائيلي إميل حبيبي. وهو تعبير ساخر أدخله حبيبي إلى اللغة العربية، ويجمع بين كلمتي "متشائم" و"متفائل". ومع ذلك فإن مضمون نقاشي لـ "الطرح المتشائل" لا علاقة له بطابع أو بمضمون رواية حبيبي.
** الأسرلة تعبير درج حديثاً في أوساط الفلسطينيين الإسرائيليين.