يتناول المقال نتائج الانتخابات الإسرائيلية التي جرت في أيار/ مايو 1996، وشملت انتخاب رئيس جديد للحكومة هو بنيامين نتنياهو من الليكود وهزيمة منافسه عن حزب العمل شمعون بيرس. كما شملت انتخاب أعضاء الكنيست الرابع عشر. ويناقش أسباب نتائج هذه الانتخابات. ويخلص إلى أن مغزى هذه النتائج يتلخص في عناوين ثلاثة عريضة: انزلاق باتجاه التطرف السياسي؛ ضمور في قوة الحزبين الكبيرين؛ تعاظم في قوة الأحزاب الإثنية / القومية والدينية.
على صعيد انتخابات رئاسة الحكومة، أسفرت نتائج الانتخابات الإسرائيليةعن هزيمة مرشح حزب العمل، رئيس الحكومة السابق شمعون بيرس، وفوز مرشح الليكود، بنيامين نتنياهو، برئاسة الحكومة. وكانت هذه أول مرة ينتخب الشعب فيها رئيس الحكومة بصورة مباشرة، تطبيقاً لتعديل في القانون الأساسي الخاص بالحكومة، أقره الكنيست في آذار/مارس 1992، مع إرجاء تطبيقه إلى انتخابات سنة 1996.
وعلى صعيد انتخابات الكنيست، أسفرت النتائج عن هزيمة ما يسمى "معسكر اليسار" (أو "معسكر السلام") في إسرائيل وفوز معسكر اليمين القومي والديني، وعن إعادة تشكيل الخريطة الحزبية على نحو أبرزَ بوضوح أكثر مما في أي وقت مضى عُمقّ الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي وتَطَوُّر التعبير عنها سياسياً.
وعلى الرغم من أنه لم يكن من المفروض أن تكون هناك عقبات من شأنها عرقلة تأليف الحكومة الجديدة، فقد واجه رئيس الحكومة المنتخب صعوبات شديدة في تأليفها، وكانت محصلة جهوده حكومة شديدة التطرف وصعبة المراس لن يسهل عليه قيادها.
وما يلي تلخيص مكثف لأبرز نتائج الانتخابات، مع تفسير لمسبباتها وإشارات إلى دلالاتها الاحتماعية – السياسية، وعرض لملابسات تأليف الحكومة، مع بعض الاستنتاجات بشأنها.
انتخابات رئاسة الحكومة
إن أبرز ما نحتاج إليه في شأن انتخابات رئاسة الحكومة هو نتائج التصويت عامة، وفي الوسطين اليهودي والعربي، وفي تجمعات سكانية واضحة من حيث الأصل الإثني أو الانتماء الفئوي الديني.
بلغ عدد المقترعين في انتخابات رئاسة الحكومة 3,121,270 ناخباً، اعتبرت أصوات 2,972,589 منهم صالحة، وأصوات 148,681 ملغاة ("بطاقات بيض"). وقد صوت لنتنياهو 1,501,023 ناخباً (50,4% من مجموع المقترعين)، وصوت لبيرس 1,471,566 ناخباً (49,5%)، وكان الفارق بينهما 29,457 صوتاً (0,9%). وأمّا في الوسط اليهودي، فكانت نسبة التصويت لنتنياهو 55,5% في مقابل 44,4% لبيرس، أي أن نسبة الفارق بينهما كانت نحو 11,1%، وكان عدد الأصوات الاحتجاجية الملغاة نحو 70,000 صوت. وأمّا في الوسط العربي، فكانت نسبة التصويت لبيرس 94,7%، ولنتنياهو 5,2%، وكان عدد الأصوات الاحتجاجية الملغاة نحو 10,000 صوت.[1]
وقد صدرت في تفسير أسباب هزيمة بيرس وفوز نتنياهو تصريحات وتحليلات عن ساسة ومحللين يهود وعرب، حمّلت الناخبين العرب المسؤولية عنها استناداً إلى حسابات مفادها أنه لو صوتت نسبة أعلى من الناخبين العرب (الذين بلغت نسبة مشاركتهم نحو 80%)، ولو لم يمنح 5,2% منهم أصواتهم لنتنياهو، ولو لم يحجب الـ 10,000 ناخب عربي أصواتهم عن بيرس احتجاجاً على إغلاق المناطق الفلسطينية المحتلة وتجويعها وعلى العدوان على لبنان ومجزرة قانا، لفاز بيرس في الانتخابات. أمّا الناخبون اليهود، وبينهم الـ 70,000 الذين قاموا هم أيضاً بوضع "بطاقات بيض" في صناديق الاقتراع احتجاجاً على هذا الأمر أو ذاك في سياسات بيرس، فقد أُعفوا من الـ "لو" واللوم، واعتبر تصويتهم تعبيراً عن ممارسة مشروعة لحقوقهم الديمقراطية. وقد علّق عوزي برعام، الوزير السابق وأحد أقطاب حزب العمل، على مثل هذه التحليلات بقوله إن أخطر ما يمكن لحزب العمل ان يفعله "هو أن نقول لأنفسنا إننا خسرنا بـ [فارق] 0,9% ، وإننا في الحقيقة نمثل معسكراً يعادل في حجمه المعسكر الآخر." وأضاف قائلاً إنه حتى لو كان حزب العمل جلب إلى صناديق الاقتراع 30 ألف صوت آخر، وفاز بيرس برئاسة الحكومة، فإن "ثمة مشكلة لحزب يرسي انتصاره على أصوات العرب".[2]
كما صدرت تصريحات وتحليلات اعتبرت أن السبب الرئيسي في هزيمة بيرس هو تحالف حزب العمل مع ميرتس، وهو ما أفقد زعيمه – بحسب رأي أصحاب تلك التصريحات والتحليلات – كثيراً من أصوات ناخبي الوسط والناخبين المتدينين المعتدلين. واستخلصت من ذلك أن المفتاح الرئيسي لتحسين فرص مرشحه في الفوز برئاسة الحكومة في الانتخابات المقبلة هو في التخلي عن المواقف الحالية لحزب العمل تجاه "العملية السلمية" والاقتراب من مواقف ناخبي "الوسط"، وفي تبني مواقف أكثر تعاطفاً مع مشاعر المتدينين فيما يختص بقضايا العلاقة بين الدين والدولة[3]
لكن هذا النمط من التفسيرات يتسم بالسطحية، ويبقى أصح منه التحليلات التي أرجعت هزيمة بيرس إلى عوامل متعددة، منها انحسار التأييد لاتفاقات أوسلو وسياسية بيرس "السلمية" في إثر العمليات الاستشهادية في القدس وعسقلان وتل أبيب في شباط/فبراير وآذار/مارس الماضيين، ومنها الصورة السلبية المرتسمة لبيرس في أذهان كثير من الناخبين، ومنها أخطاء تتصل بالحملة الانتخابية لبيرس، ومنها – وهي الأهم بين جميع العوامل – أنماط التصويت شبه المستقرة لدى المجموعات الإثنية والدينية (باستثناء المهاجرين السوفيات) التي يتكون المجتمع الإسرائيلي منها. وهذه تتطلب شيئاً من التفصيل والشرح.
من المعروف جيداً أن أغلبية الناخبين من أبناء الطوائف الشرقية (السفارديم) وأغلبية المتدينين والمستوطنين تصوتان في الانتخابات الإسرائيلية عادة لأحزاب معسكر اليمين القومي والديني، وأن أغلبية الناخبين من أبناء الطوائف الغربية (الأشكنازيم) وأغلبية الناخبين في القطاع العربي تصوتان عادة لأحزاب معسكر "اليسار". وقد برز هذا النمط من التصويت أول مرة في انتخابات سنة 1977 التي رفعت اليمين إلى سدة الحكم، وتكرر في جميع الانتخابات التالية، وكانت محصلته، في ضوء الموازين الديموغرافية بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين وموازين القوى بين اليهود العلمانيين والمتدينين، تفوُّق معسكر اليمين القومي والديني دائماً تقريباً على معسكر "اليسار" بأغلبية مقعد واحد في الكنيست (61 مقعداً من مجموع 120). وما حدث بالنسبة إلى انتخابات سنة 1992 هو أن وصول نحو نصف مليون من اليهود الروس إلى إسرائيل في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وأغلبيتهم الساحقة علمانية في ذهنيتها وطرائق تفكيرها وأنماط معيشتها، غيّر موازين القوى الديموغرافية بين اليهود الشرقيين والغربيين، وبين اليهود المتدينين والعلمانيين. وما حدث أيضاً هو أن أغلبية بينهم (تقدر بالثلثين تقريباً) صوتت لحزبي معسكر "اليسار" (العمل وميرتس)، فساهمت بذلك مساهمة فعالة في إيصال معسكر "اليسار" إلى الحكم.لكن ولاء هذه الفئة من الناخبين لمعسكر "اليسار" لم يدم طويلاً؛ إذ تدل انتخابات رئاسة الحكومة على أن أغلبيتهم صوتت هذه المرة لمرشح معسكر اليمين، بنيامين نتنياهو، بينما حافظت بقية الفئات والقطاعات على أنماط تصويتها السابقة. وتقدر عضو الكنيست عن حزب المهاجرين السوفيات، مارينا سولودكين، أن ثلثي ناخبي الحزب تقريباً صوّتا لنتنياهو، ونحو الثلث صوَّت لبيرس.[4]
وفيما يلي نتائج التصويت في انتخابات رئاسة الحكومة في مدن وقطاعات مختارة، بقصد إيضاح أنماط التصويت في الوسط اليهودي المشار إليها أعلاه[5]
- في القدس، حيث تقطن أعداد كبيرة من المتدينين، حصل نتنياهو على 69,9% من الأصوات في مقابل 30,0% لبيرس.
- في مدينتي تل أبيب وحيفا، اللتين أغلبية السكان فيهما من يهود غربيين، حصل بيرس على 55,1% و 58,5% من الأصوات بالتتالي، في مقابل 44,8% و41,4% لنيتنياهو.
- في مدينتي بئر السبع وبات يام، حيث تتكون أغلبية السكان من يهود شرقيين وتوجد فيهما أعداد كبيرة من المهاجرين السوفيات، حصل نتنياهو على 62,1% و56,9% من الأصوات بالتتالي، في مقابل 37,8% و43,0% لبيرس.
- في المدن التي يقطنها المتدينون حصراً، حصل نتنياهو على 89,2 % من الأصوات في مقابل 10,7% لبيرس.
- في الكيبوتسات، حصل بيرس على 89,9% من الأصوات في مقابل 10,0% لنتنياهو.
- في المستوطنات في الضفة الغربية، حصل نتنياهو على 87,4% من الأصوات في مقابل 12,5% لبيرس. وفي مستوطنات الجولان حصل بيرس على 50,2% من الأصوات في مقابل 49,7% من الأصوات لنتنياهو (تُفسَّر الأغلبية التي حصل بيرس عليها في مستوطنات الجولان بكون المستوطنين هناك تابعين في أغلبيتهم للحركة الاستيطانية العمالية، إلاّ إن ذلك لا يغيّر حقيقة أن أغلبية المستوطنين تصوت لمعسكر اليمين، إذ إن مستوطني الجولان لا يتجاوز عددهم 13 ألف مستوطن من مجموع نحو 150 ألف مستوطن يقطنون في المناطق المحتلة، عدا عن مستوطني منطقة القدس).
ويبقى أخيراً السؤال: لماذا صوتت أغلبية المهاجرين في انتخابات سنة 1992 لحزبي معسكر "اليسار، ولماذا صوتت أغلبيتها في انتخابات سنة 1996 لمرشح أحزاب اليمين، وماذا سيحدث في الانتخابات المقبلة؟
إن المكان الطبيعي للمهاجرين السوفيات، بحكم الأصل الإثني والخصائص الاجتماعية، ونظراً إلى عدم وجود مواقف "جماعية" راسخة لديهم بعدُ تجاه السلام مع العرب والمناطق المحتلة، هو منطقياً معسكر "اليسار" العلماني. لكن أهم ما كان يعنيهم، في الواقع، منذ وصولهم إلى إسرائيل هو، أساساً، تحسين شروط استيعابهم وأوضاعهم الوظيفة والمعيشية. ولذلك عندما استاؤوا من حكم اليمين في عهد حكومة شمير لتقصيره تجاههم، أعطت أغلبيتهم في انتخابات سنة 1992 أصوات لحزبي معسكر "اليسار"، وعندما استاؤوا من حكم "اليسار" في عهدي حكومتي رابين وبيرس لاستمرار التقصير تجاههم، أعطت أغلبيتهم في انتخابات رئاسة الحكومة الحالية أصواتها لنتنياهو. وأسس المهاجرون السوفيات حزباً جديداً خاصاً بهم أعطوه أصواتهم في انتخابات الكنيست، ولم يجد هذا الحزب أية صعوبة أو غضاضة في الاشتراك في حكم معسكر اليمين والسير في ركابه. أمّا ما سيحدث في الانتخابات المقبلة وما بعدها، فمن الصعب التنبؤ به، وما هو مؤكد فقط هو أن وزن المهاجرين السوفيات وتأثيرهم في مختلف مناحي الحياة الإسرائيلية سيزدادان بقوة وأطراد بفضل نوعيتهم المتميزة من نوعية أفراد الهجرات الجماعية السابقة في الخمسينات، وأنهم سيكونون لاعباً رئيسياً في الحياة السياسية الإسرائيلية.
انتخابات الكنيست
أدناه جدول يبين عدد المقاعد التي حصلت الأحزاب عليها في الانتخابات الحالية:
نتائج انتخابات سنتي 1996 و 1992
(عدد المقاعد)
الحزب |
1996 |
1992 |
الحزب |
1996 |
1992 |
العمل |
34 |
44 |
حداش |
5 |
3 |
الليكود |
32 |
32 |
يهدوت هتوراه |
4 |
4 |
شاس |
10 |
6 |
الطريق الثالث |
4 |
- |
المفدال |
9 |
6 |
القائمة العريبة الموحدة |
4 |
2 |
ميرتس |
9 |
12 |
موليدت |
2 |
3 |
يسرائيل بعلياه |
7 |
- |
تسومت (حالياً جزء من الليكود) |
- |
8 |
ويمكن تلخيص أبرز هذه النتائج بعناوين ثلاثة عريضة: انزلاق باتجاه اليمين والتطرف السياسي؛ ضمور في قوة الحزبين الكبيرين في مقابل الأحزاب الصغيرة؛ تعاظم في قوة الأحزاب الإثنية/القومية والدينية. ويعبر عن ذلك:
- عودة معسكر اليمين القومي والديني إلى التفوق على ما يسمى معسكر "اليسار" في إسرائيل. فقد حصلت أحزاب اليمين القومي والديني المألوفة (الليكود + موليدت + شاس + المفدال + يهدوت هتوراه) في هذه الانتخابات على 57 معقداً في مقابل 52 مقعداً حصلت عليها أحزاب معسكر "اليسار" (حزب العمل + ميرتس + الحزبان العربيان: حداش/ التجمع الوطني الديمقراطي، والقائمة العربية الموحدة). وإذا أضفنا حزبي "الطريق الثالث" و "يسرائيل بعلياه" المؤسَّسين حديثاً، إلى معسكر اليمين القومي والديني، آخذين في الاعتبار مواقف "الطريق الثالث" واستعدادهما كليهما للتحالف بسهولة مع هذا المعسكر والسير في ركابه تحت قيادة الليكود، تكون القوة البرلمانية لهذا المعسكر 68 مقعداً.
- انخفاض تمثيل الحزبين الكبيرين (العمل والليكود) في مقابل الأحزاب الصغيرة. فقد انخفض تمثيل حزب العمل من 44 مقعداً في الكنيست السابق إلى 34 مقعداً في الكنيست الحالي، وانخفض تمثيل الليكود من 40 مقعداً إلى 32 مقعداً، وانخفض تمثيلاها معاً إلى مستوى متدن لا سابق له – 22 مقعداً مقارنةً بـ 76 مقعداً في الكنيست السابق، و 95 مقعداً في انتخابات سنة 1981.
- حصول المعسكر الديني (شاس + المفدال + يهدوت هتوراه)، أول مرة في تاريخ الانتخابات الإسرائيلية، على 23 مقعداً، بعد أن كانت أعلى ذروة بلغها في السابق 18 مقعداً.
- حصول الأحزاب العربية (حداش/التجمع الوطني الديمقراطي + القائمة العربية الموحدة)، أول مرة أيضاً في تاريخ الانتخابات الإسرائيلية، على 9 مقاعد، بعد أن كانت أعلى ذروة بلغتها في السابق 6 مقاعد.
- نجاح حزب المهاجرين السوفيات "يسرائيل بعلياه" في الحصول على 7 مقاعد، على الرغم من أنه تأسس قبل الانتخابات بفترة قصيرة، وعلى الرغم من افتقاره إلى الآلة الحزبية والخبرة التنظيمية والأموال المتاحة للأحزاب الأُخرى.
كيف تفسر هذه النتائج، وما هي مدلولاتها الاجتماعية – السياسة؟
ترجع أسباب ضمور قوة الحزبين الكبيرين في مقابل تعاظم قوة الأحزاب الصغيرة إلى عدة عوامل، سنتطرق إليها لاحقاً في سياق تفسيرنا لأسباب التغير في قوة الأحزاب المفردة، ونتوقف هنا عند عامل مفرد قد يكون هو المفتاح الأهم في تفسير هذه المظاهرة، وهو قانون انتخاب رئيس الحكومة مباشرة من قبل الشعب، والفصل بين التصويت لرئيس الحكومة، والتصويت للحزب المفضَّل. فبعد أن كان الناخب مضطراً في السابق إلى الأخذ في الاعتبار أيضاً، لدى التصويت لهذا الحزب أو ذاك، المرشح المفضَّل لدية لرئاسة الحكومة، أصبح يمتلك بموجب القانون الجديد حرية اختيار المرشح الذي يرغب فيه لرئاسة الحكومة على حدة، وفي الوقت نفسه اختيار الحزب الذي يرغب في أن يمثله في الكنيست ، من دون خشية أن يؤدي اختياره لحزب معين إلى إمكان تناقص فرص المرشح المرغوب فيه لرئاسة الحكومة (حتى الآن كان زعيم الليكود أو زعيم حزب العمل) في الوصول إلى المنصب. وإذا كان من المبكر الجزم بأن هذا العامل هو المفتاح في تفسير الظاهرة مدار الحديث، فإن افتراض ذلك على الأقل ليس من الخفّة في شيء.
أمّا أسباب التغير في قوة الأحزاب المفردة، بالإضافة إلى ما ورد أعلاه، فنوجزها بما يلي:
ترجع أسباب ضمور قوة حزب العمل إلى العوامل التي ذكرناها أعلاه في حديثنا عن أسباب هزيمة بيرس في انتخابات رئاسة الحكومة، ونصيف إليها ازدياد شدة تأثير عامل التصويت الإثني/ القومي في انتخابات الكنيست الحالية عما كانت عليه في الانتخابات السابقة، وهو الأمر الذي أفقده كثيراً من أصوات المهاجرين السوفيات والناخبين العرب الذين صوتوا له في الانتخابات الماضية ونجاح حزب "الطريق الثالث"، الذي أسسته مجموعة منشقة عن الحزب، في جذب أصوات الناخبين من ذوي الميول "الصقرية" بمعايير حزب العمل، والذي كان من المحتمل أن يصوتوا له لم يحدث الانشقاق.
وترجع أسباب ضمور قوة ميرتس، على الأرجح، إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
- انحسار التأييد لاتفاق أوسلو و"العملية السلمية" المقترنين في أذهان الناخبين بميرتس أكثر من اقترانهما بحزب العمل؛ (2) إزاحة زعيمة الحزب، شولاميت ألوني، التي تتمتع بشخصية كاريزمية وبشعبية كبيرة في أوساط علمانية واليبرالية معينة، عن رئاسة الحزب وإحلال يوسي سريد محلها؛ خيبة أمل جزء من ناخبيه من أدائه في الحكم ومما اعتبره تراخياً في السعي لترسيخ القيم الليبرالية ومقاومة الإكراه الديني.
أمّا الليكود، فيبدو أن العامل الأهم في ضمور قوته هو نمط التصويت الإثني / القومي والديني، الذي من الأرجح أن يكون أفقده أعداداً كبيرة من أصوات اليهود الشرقيين ذهبت إلى شاس، ومن أصوات المهاجرين السوفيات ذهبت إلى "يسرائيل بعلياه"، ومن أصوات المتدينين ذهبت إلى المفدال. ومن المرجح أن يكون للنزاع الذي استمر فترة طويلة بين دافيد ليفي وقيادة الحزب، واتهام ليفي للقيادة بالتمييز ضد اليهود الشرقيين في الحزب، والذي تمخص عن انشقاق ليفي وتأسيسه حزب "غيشر" تأثير في خسارة الحزب لعدد من ناخبيه الشرقيين.
وأمّا الأحزاب الإثنية/ الدينية/ القومية الصغيرة (شاس، المفدال، "يسرائيل بعلياه"، الحزبان العربيان: حداش والقائمة العربية الموحدة)، فيرجع تعاظم قوتها إلى تضافر العامل المتمثل في المتمثل في قانون انتخاب رئيس الحكومة المشار إليه أعلاه، مع تحولات اجتماعية – سياسية بعيدة المدى في المجتمع الإسرائيلي لا يتسع المجال للحديث عنها، أدت في محصلتها الراهنة إلى تعميق الانقسامات الإثنية والدينية والثقافية، وإلى بروز وتعاظم القوى السياسية المعبرة عنها. ويرى عالم الاجتماع الإسرائيلي، باروخ كيمرلينغ (راجع مقالته المنشورة في الملف / 1، ص 103)، أن أهم الدلالات الاجتماعية – السياسية للانتخابات، أنها كشفت بوضوح عن وجود ست ثقافات فرعية واضحة المعالم والحدود الاجتماعية، تمثلها الأحزاب الصغيرة التي نجحت في تعزيز أو تثبيت قوتها في الانتخابات، في مقابل الثقافة الإسرائيلية الصهيونية العامة، التي يمثلها حزبا العمل والليكود، والتي يدل ضمور قوتيهما في الكنيست الجديد على انحسارها. كما يرى كيمرلينغ أن نتائج الانتخابات الحالية تؤذن بنهاية مرحلة في الحياة السياسية الإسرائيلية وبدء مرحلة جديدة عنوانها "حرب ثقافات".
الحكومة الجديدة [6]
كان القصد من التعديل في نظام الحكم في إسرائيل (انتخاب رئيس الحكومة مباشرة من قٍبل الشعب، وتوسيع صلاحياته، ومنحه صلاحية حلّ الكنيست) تعزيز مكانة رئيس الحكومة تجاه الكنيست وأعضاء الحكومة، وإطلاق يده في تأليف الحكومة وإدارتها، وتحريره من ضغوطات وابتزاز أقطاب حزبه والأحزاب الصغيرة اللازمة لتأليف الحكومة. وكان من المأمول ان يؤدي التعديل إلى إضعاف قوة الأحزاب الصغيرة وإتاحة الفرصة للحزب الكبير الفائز في الانتخابات لإدارة الدولة ورسم السياسات وفقاً لرؤيته الخاصة. وليس ذلك نظاماً رئاسياً على النمط الأميركي، لكن فيه شيئاً منه، كما أنه ليس نظاماً حزبياً /برلمانياً كالنظام السابق، لكن فيه شيئاً منه. فما زال على رئيس الحكومة نيل موافقة الكنيست على حكومته، كما في استطاعة الكنيست حجب الثقة عن الحكومة وإسقاطها والدعوة إلى انتخابات جديدة.
وقد وضع نتنياهو نصب عينيه، عندما انبرى إلى تأليف الحكومة، نموذج الإدارة الأميركية وصلاحيات الرئيس الأميركي. وسعى، من أجل الاقتراب من نموذج الإدارة الأميركية، لإعادة هيكلة إدارة الحكم على نحو يتيح إضعاف مراكز القوى المؤسساتية فيه. كما أنه سعى، من أجل الاقتراب من صلاحيات الرئيس الأميركي، لتحييد وإضعاف نفوذ الزعماء الأقوياء في حزبه ونفوذ الأحزاب الائتلافية في التركيبة الوزارية.
على صعيد إعادة هيكلة إدارة الحكم، أعلن نتنياهو عزمه على تأليف مجلس للأمن القومي (برئاسة دافيد عفري، قائد سلاح الجو ومدير وزارة الدفاع سابقاً)، ومجلس أعلى للتخطيط الاقتصادي (برئاسة محافظ بنك إسرائيل، يعقوب فرينكل) لتقديم المشورة إليه في الشؤون الأمنية والاقتصادية، من دون أن يوضح مسؤوليات هذين المجلسين وصلاحياتهما وعلاقتهما بالوزارات المعنية، وخصوصاً وزارئي الدفاع والمال اللتين تعتبران مركزين مهمين من مراكز القوة في الدولة. كما أعلن نيته نقل الإشراف على عملية خصخصة الاقتصاد (ولا سيما أمر بيع المشاريع الاقتصادية والشركات الحكومية) وعلى سلطتي الإذاعة والتلفزة من الوزارات المعنية إلى ديوان رئيس الحكومة. وهذه خطوات تصب كلها في اتجاه تركيز صلاحيات إضافية في يد رئيس الحكومة ومأسستها، وفي اتجاه إضعاف مراكز القوة المنافسة لرئيس الحكومة في مستوى السلطة التنفيذية.
وعلى صعيد تأليف الحكومة، توهم نتنياهو، استناداً إلى كونه منتخباً من قبل الشعب مباشرة وإلى الصلاحيات التي منحه القانون الجديد إياها، أنه سيكون في وسعه تعيين الوزراء وتوزيع الحقائب الوزارية، متحرراً من مطالب الأحزاب الصغيرة وابتزازها ومن مطالب أقطاب حزبه – ليس بقدر تحرر الرئيس الأميركي، لكن بالتأكيد أكثر كثيراً من تحرر أسلافه. إلاّ إن واقع النظام الحزبي في إسرائيل، المختلف عن واقع النظام الحزبي الأميركي، وتركبية الكنيست التي ضعف فيها تمثيل الليكود وازداد تمثيل الأحزاب الصغيرة، وجّها إليه صفعة قوية.واكتشف مبكراً أنه مضطر إلى الخضوع لمطالب الأحزاب الصغيرة، وخصوصاً الأحزاب الدينية، بالقدر نفسه الذي اضطر أسلافه إلى الخضوع لها. وعرف متأخراً أنه مضطر أيضاً إلى الخضوع لمشيئة الزعماء الأقوياء في حزبه لا أقل من ذلك.
لقد تجاهل نتنياهو في مسعاه لتأليف الحكومة حزبه تجاهلاً شبه كلي في البداية، وأدار المفاوضات الائتلافية من خلال مستشاره الشخصي المقرب جداً منه، أفيغدور (إيفيت) ليبرمان، بادئاً بالأحزاب الأُخرى. وقد طالبت هذه الأحزاب بأن تعكس المناصب الوزارية من حيث العدد والأهمية حجم التمثيل في الكنيست، ونجحت، بعد مساومات وتهديدات لا تختلف في شيء عما كان يحدث في السابق، في الحصول على معظم الوزارات المعنية بها، والتي تتيح للأحزاب التي تتولاها تعزيز قوتها ونفوذها، نظراً إلى ميزانياتها الضخمة وإلى تأثيرها المباشر في كثير من مناحي حياة الدولة والمجتمع والأفراد. وهكذا، حصل شاس على وزارات الداخلية، والعمل والشؤون الاجتماعية، والأديان (بالتناوب مع المفدال)، وحصل المفدال على وزارات التعليم، والطاقة والمواصلات، والأديان (بالتناوب مع شاس)؛ وحصل حزب "يسرائيل بعلياه" على وزارتي الهجرة والاستيعاب، والصناعة والتجارة.
عندما فرغ نيتياهو من أمر الشركاء الائتلافيين، والتفت إلى الليكود، اتضح أمران: الأول أنه ينوي تحجيم أقطاب الحكومة، والثاني أنه لم يبق هناك عدد كاف من الوزارات المهمة لإرضائهم حتى لو رغب في ذلك. فقد عيّن دافيد ليفي، زعيم "غيشر" وزيراً للخارجية تنفيذاً للاتفاق بين حزبي الليكود و "غيشر" الموقع قبل الانتخابات؛ وعين يتسحاق ليفي وزيراً للدفاع، مع أنه كان وعد دان ميريدور بالمنصب، نظراً إلى أن ليفي مستجد في الليكود وفي الحياة السياسية وليس مركز قوة يُخشى منه؛ وأعلن أنه ينوي تعيين محافظ بنك إسرائيل، يعقوب فرينكل (مستقل)، وزيراً للمال، ويعقوب نئمان (مستقل، قريب من المفدال) وزيراً للعدل. وبذلك وضع أقطاب الليكود دان ميريدور وبنيامين بيغن وأريئيل شارون وموشيه كتساف أمام خيارين: إمّا القبول بواحدة من الوزارات الثانوية الباقية، وإمّا البقاء خارج الحكومة. وقد أحدث ذلك غلياناً في صفوف الليكود هدأ نسبياً بعد أن تراجع نتيناهو رغم أنفه عن تعيين فرينكل وزيراً للمال وقبل بتعيين ميريدور في المنصب، وبعد أن قبل بيغن وكتساف بتولي وزارتين ثانويتين في الأهمية: العلوم لبيغن والسياحة لكتساف. لكن بقيت مشكلة شارون، الذي أصر على تولي وزارة مهمة أو البقاء خارج الحكومة. وقد دعمه دافيد ليفي وهدد بالاستقالة من الحكومة إذا لم تُعط لشارون وزارة ترضيه. وتحت ضغط هذا التهديد، تفتق ذهن نتنياهو عن "تركيب" وزارة جديدة لشارون، سميت "وزارة البنى التحتية الوطنية"، انتزعت قطعها (المهمات والصلاحيات والميزانيات) من وزارات تحويلها إلى "إمبراطورية صغيرة" ذات ميزانيات ضخمة وصلة وثيقة بمشاريع الاستيطان في المناطق المحتلة. ولم يقبل نتنياهو بالإضافات المشتركة، وقدم حكومته للكنيست في 18 حزيران/يونيو من دون شارون، وبقيت المشكلة معلقة ولم تحل إلاً عندما قدم ليفي، حليف شارون الجديد، إنذاراً إلى نتنياهو عشية سفره إلى الولايات المتحدة في تموز/ يوليو بالاستجابة لشروط شارون وتعيينه وزيراً قبل سفره، وإلا استقال هو من الحكومة. ورضخ نتنياهو للإنذار، وتم التعيين، واكتملت الحكومة.
لماذا هذه التفصيلات المتعبة كلها، وماذا يمكن استخلاصة منها؟ والجواب: إنها مفيدة في معرفة ما إذا كان قانون الانتخابات الجديد أحدث تغييراً في أسلوب الحكم في إسرائيل، وفي فهم ذهنية رئيس الحكومة الجديدة وسبر قدرته على اتخاذ القرارات وتنفيذها، وفي محاولة التنبؤ بما ستكون حال الحكومة عليه في المستقبل.
وما يمكن استخلاصه منها هو أن قانون الانتخابات الجديد لم يغير أسلوب الحكم في إسرائيل، وملابسات تأليف الحكومة ومحصلتها توحي بأن ما كان هو ما سيكون. والجديد المهم حتى الآن هو فقط نية تأليف مجلس الأمن القومي والمجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي. لكن قبل أن يتم تأليفهما وتتضح صلاحيتها وعلاقتهما بالمؤسسة الأمنية القوية النفوذ وبالوزارات المعنية، لا يمكن استخلاص أية استنتاجات بشأن تأثيرهما في أسلوب الحكم، وحكماً بشأن ما ستؤول قوة رئيس الحكومة ونفوذه إليه. ومن ناحية نتنياهو، يتضح أنه قادر على اتخاذ القرارات بسرعة، وميّال إلى الاستهانة بالصعوبات والعقبات التي تعترضه (أو أنه غير قادر على سبر غورها وتقويمها على نحو صحيح)، لكنه في الوقت نفسه سريع التراجع أيضاً عن قراراته تحت الضغط والتهديد. وبالنسبة إلى الحكومة، لا شك في أن هذه حكومة يصعب قيادها؛ ففيها وزراء يمثلون أحزاباً غيورة على مصالحها وخدمة أهدافها، وآخرون أقوياء من زعماء الليكود لا يكنون ودًّا لرئيسها، والأرجح أن يعمل كل وزير قوي على التصرف في وزارته كما لو أنها إقطاعية شبه مستقلة، وأن يصطدم هذا التصرف بطموح نتنياهو إلى تعزيز سلطة رئيس الحكومة ونزوعه إلى تجميع أكثر ما يمكن من الصلاحيات بين يديه، ومن شأن ذلك أن يجعل الحكومة عرضة لخضات كثيرة.
ويبقى أن نضيف أن هذه الخضات بالتأكيد لن يكون مصدرها خلافات بشأن قضايا الأمن وما يسمى "العملية السلمية"، فهذه يوجد اتفاق واسع بشأنها وإنما سيكون مصدرها خلافات ومنازعات تتعلق بالصلاحيات والميزانيات وقضايا العلاقات بين الدين والدولة.
[1] "هآرتس"، 2/6/1996؛ "معاريف"، 31/5/1996. بالنسبة إلى الفارق بين البطاقة الملغاة والبطاقة الاحتجاجية، اعتبر المراقبون البطاقة الملغاة احتجاجية في الحالات التي اختار فيها الناخب حزبه المفضل، ولم يختر أياً من المرشحين لرئاسة الحكومة.
[2] "هآرتس"، 12/6/1996.
[3]على سبيل المثال، شموئيل شنيتسر، "تشريح بعد الوفاة"، "معاريف"، 7/6/1996؛ عوزي برعام في مقابلة معه نُشرت في "هآرتس"، 12/6/1996.
[4] مارينا سولودكين في مقابلة نُشرت في "هآرتس" (الملحق الأسبوعي)، 7/6/1996. ص 23 24، 27.
[5] "معاريف"، 31/5/1996؛ "هآرتس" (الملحق الأسبوعي)، 7/6/1996.
[6] أنظر فيما يتعلق بتأليف الحكومة:
Barry Robin, “No, Prime Minister,” The Jerusalem Post (International Edition), June 29, 1996.