يعرض المقال الوضع الداخلي في حزب العمل عشية الانتخابات الوشيكة سنة 1996، وأجواء الانتخابات التمهيدية التي جرت في 25/3/1996. كما يعرض موقف الحزب من قضايا الحل الدائم (القدس، الحدود، المستعمرات، اللاجئون الفلسطينيون... إلخ). والتمايزات الموجودة داخله إزاء هذه القضايا.
يبدو حزب العمل عشية انتخابات سنة 1996 أكثر انسجاماً وأقوى تآلفاً مما كان عليه عشية الانتخابات الماضية، التي جرت قبل أربعة أعوام. فقد جرت الاستعدادات للانتخابات الماضية في ظل انقسام الحزب إلى معسكرين كبيرين(معسكر يتسحاق رابين ومعسكر شمعون بيرس) تنافسا بشراسة في شأن زعامة الحزب والأمكنة الحقيقية في قائمة مرشحي الحزب للكنيست، وفي ظل صراع صاخب تواصل شهوراً بين "الحمائم" و"الصقور" داخله على مضمون البرنامج السياسي وصيغته.
أمّا هذه المرة، فلم يكن هناك معسكرات، ولم يضع أحد زعامة بيرس للحزب موضع التساؤل، وجرت الانتخابات الحزبية التمهيدية لاختيار مرشحي الحزب للكنيست في ظل أجواء خالية نسبياً من التوتر. ويتجه الحزب إلى عقد مؤتمره المخصص لإقرار البرنامج السياسي الذي سيخوض الحزب الانتخابات العامة على أساسه من دون بروز ما يشير إلى إمكان حدث صخب بشأن البرنامج ومن دون أن تظهر إلى العلن أية نقاشات ذات شأن حول بنوده.
وترجع أجواء الوحدة والهدوء المخيمة على الحزب، في اعتقادنا، إلى أربعة أسباب رئيسية. الأول هو الصدمة التي نجمت عن اغتيال زعيم الحزب ورئيس الحكومة يتسحاق رابين، والتي وحدت صفوف الحزب حول خلَفه الطبيعي وجلبت/أعادت إيهود بَراك وحاييم رامون إلى الحزب والحكومة التي ألّفها بيرس في إثر الاغتيال، من دون شروط. ونضيف أن نمط تعامل بيرس مع ما سماه "ميراث رابين" السياسي ومع أبرز رجالات معسكره قد ساعد كثيراً في المحافظة على الوحدة التي نشأت بصورة عفوية وتلقائية بعد الاغتيال. والسبب الثاني هو العمليات الانتحارية التي نفذتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي في القدس وعسقلان وتل أبيب في أواخر شباط/فبراير وأوائل آذار/مارس 1996، والتي أدت إلى تدهور حاد في شعبية الحزب ورئيسه انطوى على احتمال جدي بإمكان خسارة الحزب الحكم، واستدعى أقصى درجة ممكنة من الوحدة والتضامن. والسبب الثالث هو التطورات السياسية والتغيرات في المواقف فيما يتعلق بالسلام مع الفلسطينيين، التي أدت إلى اختفاء عدد من نقاط الخلاف البارزة بين ما يسمى "الصقور" و"الحمائم" في حزب العمل، وتفكك معسكري رابين وبيرس. والسبب الرابع، والأخير، هو قيام المجموعة "الصقرية" المتطرفة جداً داخل الحزب، التي تزعمها عضوا الكنيست أفيغدور كهلاني وعمانويل زيسمان، والمعروفة باسم "الطريق الثالث"، بالانسحاب من الحزب وتأسيسها حزباً منفصلاً لخوض الانتخابات.
لكن الإشارة إلى أجواء الوحدة لا تعني القول إنه لم يعد هناك تكتلات داخل الحزب، أو أن التنافس في الزعامة والمناصب المهمة لن يعود إلى الظهور. كما أنها لا تعني أنه لم يعد هناك خلافات ذات شأن فيما يتعلق بالحل الدائم مع الفلسطينيين والسلام مع سورية. فسواء ربح الحزب الانتخابات أو خسرها، فإن التكتلات والمنافسات بشأن المناصب المهمة (الرسمية أو الحزبية) ستعود إلى الظهور بعد انتهائها، كما سيعود إلى الظهور النقاش الحزبي بشأن الحلول السلمية بعد فترة وجيزة من تأليف الحكومة الجديدة في حال فوز حزب العمل في الانتخابات.
وما سنوجه اهتمامنا إليه في هذا المقال هو ما سيحدث في حال فوز حزب العمل في الانتخابات، وذلك من زاويتين: الطابع العام للتركيبة الحكومية المقبلة، وسياسة الحزب تجاه الحل الدائم مع الفلسطينيين. ولتفحص الزاوية الأُولى، سنعرض بإيجاز نتائج الانتخابات الحزبية التمهيدية وما يمكن استخلاصه بصورة أولية منها. ولتفحص الزاوية الأُخرى، سنعرض ما آلت الأمور إليه في حزب العمل على صعيد النظرة إلى الحل مع الفلسطينيين.
الانتخابات التمهيدية[1]
جرت الانتخابات الحزبية التمهيدية في 25 آذار/مارس 1996، في أجواء هادئة نسبياً، ولم تخرج التكتلات والمنافسات فيها، على وجه الإجمال، عن المألوف والمتوقع في الأحوال الاعتيادية في مثل هذه المناسبات، باستثناء الحملة الموجهة ضد وزير الداخلية حاييم رامون، التي نظمتها الأوساط المعادية له في الحزب، وهي الأوساط التي لم تغفر له انشقاقه عن الحزب في انتخابات الهستدروت سنة 1994 وإلحاقه الهزيمة بقائمة حزب العمل فيه. وشارك في الحملة عدد من كبار الوزراء من زملائه. وقد تمكن رامون، على الرغم من هذه الحملة، من الوصول إلى المكان الخامس في قائمة مرشحي الحزب لانتخابات الكنيست، واعتبر أنصاره ذلك إنجازاً كبيراً.
وكانت أنظار المراقبين للانتخابات التمهيدية قد تركزت بصفة خاصة على أداء كل من حاييم رامون ووزير الخارجية ورئيس الأركان السابق إيهود بَراك، باعتبارهما أبرز المرشحين لخلافة شمعون بيرس في رئاسة الحزب عندما يحين أوان ذلك، ونظراً إلى أن الاستقصاءات توقعت فوز أحدهما بالمكان الثاني في القائمة بعد بيرس (رئيس القائمة)، الذي انتخبه مركز الحزب رئيساً للحزب بالإجماع في إثر اغتيال رابين. وكانت مفاجأة الانتخابات هي حلول رامون في المكان الخامس، كما أسلفنا القول، وحلول بَراك في المكان الثالث، بينما فاز بالموقع الثاني الأكثر دلالة وزير السياحة عوزي برعام، وهو شخصية مسالمة ومحبوبة، ويتمتع برصيد شعبي كبير في الحزب، لكن لم يعرف عنه طموحه إلى شغل منصب رئاسة الحزب أو رئاسة الحكومة، وقد لا تكون لديه أصلاً المؤهلات اللازمة لذلك. وبالتالي، فإن المراقبين لم يعيروا تقدمه على رامون وبَراك أهمية كبيرة، ولم يروا في نتيجة الانتخابات التمهيدية تغيراً في الصورة، من ناحية الخلافة.
وقد سجل أنصار بَراك بارتياح تقدم ترتيبه في القائمة الانتخابية على ترتيب رامون، ورأوا في عدد الأصوات التي حملته إلى المركز الثالث مصادقة على المكانة الرفيعة التي أحلته قيادة الحزب فيها بتعيينه وزيراً للخارجية بعد فترة وجيزة من تقاعده من الجيش، بينما سجل أنصار رامون بارتياح انحسار موجة العداء ضده في الحزب بسبب قضية الهستدروت، وفوز 15 مرشحاً موالين له بأماكن حقيقية[2] في القائمة الانتخابية، الأمر الذي من شأنه أن يمنحه نفوذاً في الكتلة البرلمانية للحزب يفوق نفوذ بَراك، الذي يفتقر إلى مثل هذه القاعدة.
أمّا أبرز النتائج الأُخرى للانتخابات التمهيدية لحزب العمل، فنوجزها بما يلي:
- وجود أربعة من كبار العسكريين السابقين، من ذوي الميول "الصقرية" (بمعايير حزب العمل)، ضمن الأماكن العشرة الأُولى في القائمة الانتخابية، التي يعتبر شاغلوها، بحكم عدد الأصوات التي أهّلتهم لشغلها، بمثابة القيادة العليا المنتخبة للحزب. والأربعة هم: إيهود بَراك (المكان الثالث)، وزير الإسكان بنيامين بن إليعيزر (المكان الرابع)، وزير الصحة إفرايم سنيه (المكان الثامن)، نائب وزير الدفاع أوري أور (المكان العاشر). وهذه نتيجة في مصلحة الحزب وبيرس من الناحية الانتخابية، باعتبار أن الهاجس الرئيسي للناخب الإسرائيلي في الفترة الحالية هو الأمن، ووجود هؤلاء في القيادة العليا للحزب مدعاة إلى اطمئنانه، بالإضافة إلى كونه عامل جذب للناخبين الأقرب إلى الوسط في ميولهم السياسية. كما أنه يشكل ثقلاً مضاداً للمجموعة الأمنية البارزة في قائمة اليمين الانتخابية، المتمثلة في أريئيل شارون ورفائيل إيتان ويتسحاق مردخاي.
- ازدياد قوة التيار "الصقري" (مرة أُخرى، بمعايير حزب العمل) في القيادة العليا للحزب، بحكم تفوق شعبية المجموعة المذكورة أعلاه في صفوف الحزب على شعبية عدد من أبرز "حمائم" الحزب، أمثال الوزراء: يوسي بيلين (المكان 11)، أورا نمير (المكان 18)، دافيد ليبائي (المكان 21)، وعضو الكنيست حغاي ميروم (المكان 15). وتصب هذه النتيجة أيضاً في مصلحة الحزب الانتخابية، للسببين المذكورين أعلاه، حيث أن "بروفيل" القائمة الانتخابية ترسمه في ذهن الناخب الوجوه الأبرز التي تتصدرها.
- انتخاب أربعة مرشحين من العرب لأماكن حقيقية في القائمة (نواف مصالحة، صالح طريف، رفيق الحاج يحيى، ناديا حلو) في مقابل اثنين في قائمة انتخابات سنة 1992 (مصالحة وطريف).
- وصول 16 وجهاً جديداً إلى أماكن حقيقية في القائمة، أبرزهم البروفسور شلومو بن عامي، سفير إسرائيل سابقاً في إسبانيا، الذي يتوقع كثيرون في الحزب أن يعينه بيرس وزيراً في الحكومة المقبلة في حال فوزه في الانتخابات.
- انتخاب 19 مرشحاً من أبناء الطوائف الشرقية لأماكن حقيقية، أي ما يعادل 45% من مجموع المرشحين اليهود حتى المكان 45.
- فشل أي ممثل لمهاجري الاتحاد السوفياتي السابق في الوصول إلى مكان حقيقي في القائمة، ونجاح ممثل عن يهود إثيوبيا في شغل المقعد المخصص للمهاجرين الجدد. وهذا أمر سيكون له تأثير سلبي في أوساط المهاجرين من الاتحاد السوفياتي السابق، الذين يتمتعون بقوة انتخابية كبيرة. ولذلك فمن المؤكد أن تعمل قيادة الحزب على معالجته على حساب مرشح آخر.
ماذا تعني هذه النتائج، أو بالأحرى النتيجتان الأُولى والثانية، لجهة تركيبة الحكومة وسياستها السلمية في حال فوز شمعون بيرس في الانتخابات؟ إن النظام الانتخابي الجديد، الذي يُنتخب رئيس الحكومة بموجبه مباشرة من الشعب، يضعه في مركز قوة لا يستهان بها تجاه الضغوط الصادرة عن الزعماء الآخرين في حزبه، ويتيح له حرية اختيار الوزراء واتخاذ القرارات السياسية بحسب مشيئته. وفي حالة شمعون بيرس، يضاف إلى ذلك أنه من الأرجح أن تكون هذه هي ولايته الأخيرة نظراً إلى تقدمه في السن، وبالتالي فإنه لن يكون مضطراً إلى إجراء حسابات انتخابات سنة 2000. لكن مع ذلك، فإن بيرس - في حال فوزه - لن يستطيع تجاهل عدد الأصوات التي حصل عليها كل من الزعماء في الانتخابات التمهيدية، والوزن الحزبي والعام الذي أكسبته هذه الأصوات لكل منهم، وسيكون مضطراً إلى الأخذ في الاعتبار مطالبتهم الأكيدة بأن تعكس المناصب التي سيتولونها في الحكم شعبيتهم في الحزب، وإلى أن يراعي آراءهم السياسية. وعندما تكون القيادة العليا للحزب أكثر "صقرية"، فمن المرجح أن تأتي التركيبة الحكومية أكثر "صقرية"، وينطبق القول ذاته على توجه الحكومة السياسي العام.
وهنا، قد يكون من الملائم إبداء تحفظ معين والقول إن مصطلحي "الحمائم" و"الصقور" في حزب العمل، رغم اضطرار المرء إلى استخدامهما على علاّتهما، باتا بحاجة إلى إعادة تعريف. فما كان يشكل الموقف "الحمائمي" أو "الصقري" في الحزب قد تغير، ومن هو "حمامة" في نظرته إلى عنصر أو أكثر من عناصر الحلول السلمية قد يكون "صقرا" في نظرته إلى عناصر أُخرى، والعكس بالعكس، ولم يعد من السهل معرفة أي من "البطاقتين" ينبغي وضعها على هذا الزعيم أو ذاك.
النظرة إلى الحل الدائم
من الصعب في المساحة المتاحة لهذا المقال، وقبل تبلور برنامج حزب العمل وسماع النقاشات بشأن البنود الرئيسية فيه، تقديم عرض دقيق وموثق لنظرة الحزب إلى الحل الدائم مع الفلسطينيين. لكن في الإمكان، استناداً إلى المواقف والنقاشات حتى لحظة كتابة هذه السطور (أوائل نيسان/أبريل 1996)، وتحليل التطورات الفعلية على أرض الواقع، عرض ما هو متفق عليه وجوهر ما هو مختلف في شأنه في حزب العمل بالنسبة إلى هذا الحل، الذي سيكون واحداً من موضوعين سياسيين رئيسيين (الآخر هو السلام مع سورية) موجودين في رأس جدول أعمال أية حكومة جديدة، سواء ألّفها حزب العمل أو الليكود.[3]
ما هو متفق عليه في حزب العمل بشأن الحل الدائم مع الفلسطينيين يدل عليه بعبارات مبهمة وعامة جداً إعلانٌ انتخابي مذيل بالشعار الانتخابي المركزي لحملة الحزب الانتخابية: "إسرائيل قوية مع بيرس"، نشر في صحف إسرائيلية بتاريخ 7 نيسان/أبريل 1996، وجاء فيه أن حكومة برئاسة شمعون بيرس "ستكون ملتزمة طرح التسوية الدائمة على استفتاء شعبي"، ومواصلة مفاوضات السلام "مع السلطة الفلسطينية" استناداً إلى المبادئ التالية:
- القدس موحدة تحت سيادة إسرائيل.
- الفصل بين إسرائيل والفلسطينيين، نحن هنا وهم هناك.
- نهر الأردن هو الحدود الأمنية لإسرائيل.
- أغلبية المستوطنين اليهود ستبقى تحت سيادة إسرائيلية.
- لن يتم الاعتراف بحق العودة للفلسطينيين."
ومن المؤكد أن برنامج حزب العمل، عندما يتم وضعه، سيعيد صوغ هذه المبادئ بتفصيل أكثر، ويزيل جانباً من الغموض فيها، لكن من المؤكد أيضاً أنه (لأغراض حزبية وانتخابية وسياسية) سيحافظ على مقدار كبير من الغموض والعمومية. ولذلك، لا بد من أجل معرفة مواقف حزب العمل، ووجهات النظر داخله، من الاستعانة بالنقاش السياسي بين أطرافه وبسياسته الفعلية المطبقة على أرض الواقع.
قبل أربعة أعوام، عندما وضع حزب العمل برنامجه السياسي الذي خاض الانتخابات الماضية على أساسه، صاغ مواقفه من قضايا الحل الدائم مع الفلسطينيين (القدس، الكيان الفلسطيني وعلاقته بإسرائيل والأردن، الحدود، المستوطنات، اللاجئون الفلسطينيون) على النحو التالي:
- مبادئ عامة: "إن حزب العمل يرفض الوضع الراهن، المتمثل في السيطرة على السكان الفلسطينيين، ويعارض الضم، ويرى أن على إسرائيل تقديم مبادرة سلمية مترابطة على أساس حل وسط إقليمي، وعلى أساس مبدأ أراض في مقابل سلام إسرائيل وأمنها"؛ "ويجب أن يستند الاتفاق إلى حاجات إسرائيل الأمنية (....) وإلى الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، بما في ذلك حقوقهم الوطنية."
- القدس: "ستبقى القدس، عاصمة إسرائيل، مدينة موحدة في ظل سيادة إسرائيل، وستضمن حرية العبادة للأديان كلها. وستمنح الأماكن المقدسة للإسلام والمسيحية فيها مكانة خاصة."
- الكيان: "إن الواقع السياسي في المنطقة، وضرورة إيجاد حل لمشكلة اللاجئين، وحاجات إسرائيل الأمنية، تستوجب اتفاقاً بشأن إطار أردني - فلسطيني يكون على استعداد لتعاون واسع النطاق مع إسرائيل، وليس دولة فلسطينية منفصلة غربي نهر الأردن."
- الحدود: "ستصر إسرائيل، خلال المفاوضات، على أن يشكل غور الأردن وشمال غرب البحر الميت - فيظل سيادة إسرائيل - الحدود الأمنية للدولة"؛ "كذلك ستحتفظ إسرائيل بمناطق حيوية غير مزدحمة بالسكان العرب، مثل ضواحي القدس وغوش عتسيون."
- المستوطنات: "يجب أن يضمن الاتفاق إمكان بقاء المستوطنات اليهودية، التي ستجلو إسرائيل عنها، في مكانها، وتأمين سلامة المستوطنين وأمنهم."
- اللاجئون الفلسطينيون: "سيتضمن اتفاق السلام مشروعاً لتسوية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين خارج حدود إسرائيل، وستدعى الدول العربية جميعاً، ولا سيما الأردن ودول الخليج، إلى المشاركة في تسوية مشكلة اللاجئين. وسيجند رأس مال دولي لهذه الغاية"؛ "إن إسرائيل ترفض حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى الأرض الواقعة تحت سيادة إسرائيل."
وكان قد سبق المؤتمر الذي أقر البرنامج السياسي، ورافق عقده، نقاش صاخب بين "الحمائم" و"الصقور" في الحزب بشأن عدد من القضايا، أبرز ما يجدر الإشارة إليه بصددها هو أن "الحمائم" حاولوا (فيما يختص بقضايا الحل الدائم) إدخال عبارة تنص على استعداد لحزب لـ "الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير"، وهي عبارة تعني استعداداً للاعتراف بدولة فلسطينية، وحذف عبارة "تحت سيادة إسرائيل" من البند المتعلق بمنطقة غور الأردن وشمال البحر الميت، لكنهم فشلوا في مسعاهم، وجاءت الصيغة المتعلقة بالأمرين على النحو الوارد أعلاه.
ويمكن المرء أن يستخلص من البرنامج السابق، والنقاش السياسي بشأنه (ومما احتدم الجدل أو لم يحتدم حوله)، نقاط الاتفاق ونقاط الخلاف في حينه بصدد الموضوع الذي يدور الحديث حوله.
نقاط الاتفاق هي: القدس وقضية اللاجئين، وما يوجد من خلاف بشأن هاتين المسألتين يمس التفصيلات لا الجوهر؛ لا ضم للمناطق، ولا عودة إلى حدود سنة 1967، وستسعى إسرائيل لضم مناطق معين من الضفة الغربية، وحكماً المستوطنات الموجودة فيها؛ نهر الأردن وشمال البحر الميت حد أمني لإسرائيل؛ موافقة على كيان فلسطيني يشمل المناطق المزدحمة بالسكان العرب.
أمّا نقاط الخلاف فهي: طبيعة الكيان الفلسطيني الذي سينشأ، ونمط ارتباطه (أو علاقته) بإسرائيل والأردن، أي المناطق ينبغي ضمها إلى إسرائيل؛ مصير المستوطنات الموجودة في المناطق التي لن تسعى إسرائيل لضمها.
ووقتها، كان يمكن التمييز بين وجهتي نظر عريضتين قائمتين كلتيهما على "حل إقليمي"، أُولاهما "حمائمية" وأُخراهما "صقرية"، ووجهة نظر ثالثة أقل وضوحاً، قائمة على "حل وظيفي"، وخارجة عن التصنيف "الحمائمي - الصقري".
وقد دعت وجهة النظر "الحمائمية" إلى ما يلي:
- الإقرار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة (إذا شاء الفلسطينيون ذلك) في المناطق التي ستجلو إسرائيل عنها.
- الاكتفاء بضم القدس الشرقية بحدودها البلدية المعيّنة بعد الاحتلال مباشرة، ومنطقة غوش عتسيون، وأجزاء معينة في منطقتي طولكرم وقلقيلية لدواع أمنية، والاحتفاظ بغور الأردن وشمال غرب البحر الميت كحد أمني لا سياسي.
- وبالنسبة إلى المستوطنات، فقد تراوحت الاجتهادات ضمن وجهة النظر العريضة هذه بين التخلي عن المستوطنات في المناطق التي ستنشأ الدولة الفلسطينية فيها وترحيل المستوطنين إلى إسرائيل، وبين التخلي فقط عن المستوطنات الصغيرة والواقعة في مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية، والسعي لبقاء المستوطنات الكبيرة تحت السيادة الفلسطينية، مع ضمان أمنها وتخيير المستوطنين فيها بين البقاء أو الرحيل إلى إسرائيل.
أمّا وجهة النظر "الصقرية" فقد دعت إلى ما يلي:
- رفض الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ورفض قيام دولة فلسطينية، والتفاوض على حل للكيان الفلسطيني قائم على علاقة اندماجية أو فدرالية مع الأردن (وربما مع إسرائيل أيضاً في إطار صيغة ما).
- ضم مناطق واسعة تشمل القدس الكبرى ومنطقة غوش عتسيون وغرب قضاء نابلس وغور الأردن وشمال غرب البحر الميت. وتبلغ مساحة هذه المناطق المقترح ضمها 20% - 25% من إجمالي مساحة الضفة الغربية، وتضم جميع المستوطنات الكبيرة ونحو 70% من المستوطنين.
- وبالنسبة إلى المستوطنات الصغيرة، فقد تراوحت الاجتهادات ضمن وجهة النظر هذه بين تفكيكها وإجلاء المستوطنين إلى إسرائيل وبين السعي لإبقائها تحت الحكم الفلسطيني، أيضاً مع ضمان أمنها وتخيير المستوطنين فيها بين البقاء أو الرحيل.
وأمّا وجهة النظر الثالثة، التي كانت تبدو قليلة الوضوح والتماسك وتائهة بين وجهتي النظر الأوُليين، فقد تطلعت إلى "حل وظيفي" يقوم على المبادئ التالية: سيطرة إسرائيل الأمنية (الأمن الاستراتيجي وأمن المستوطنات) في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ بقاء جميع المستوطنات في أماكنها؛ حدود مفتوحة وعلاقات تعايش وتعاون اقتصادي وثيق بين كيان فلسطيني يتمتع بالحكم الذاتي وببعض مظاهر السيادة وبين إسرائيل؛ ارتباط سياسي بين الكيان الفلسطيني - الأردن - إسرائيل يجري توضيحه وابتداع شكله لاحقاً في ضوء التطورات وتجربة التعايش؛ تقاسم وظيفي للمسؤوليات والصلاحيات في الضفة الغربية بين الكيان الفلسطيني والأردن وإسرائيل، مع ترك بت أمر السيادة عليها للمستقبل.
وفي الحقيقة، لا تزال هذه هي وجهات النظر العريضة الرئيسية الموجودة في حزب العمل حالياً، مع تغير مهم طرأ في العام الأخير على وجهة النظر "الحمائمية"، وآخر قد يكون طرأ على وجهة النظر "الصقرية". ويتمثل التغيير الذي طرأ على وجهة النظر "الحمائمية" في قبول "الحمائم" بتوسيع المناطق التي ينبغي السعي لضمها إلى إسرائيل، بحيث تشمل منطقة القدس الكبرى والمستوطنات الكبيرة كافة، بالإضافة إلى القدس المصغرة وغوش عتسيون وأجزاء معينة في منطقتي طولكرم وقلقيلية. وربما يكون من ضمن العوامل التي شجعتهم على هذا القبول ما لمسوه لدى بعض المحاورين الفلسطينيين في الاتصالات السرية من استعداد للقبول بهذه الفكرة.[4] أمّا التغيير الذي ربما يكون حدث في وجهة النظر "الصقرية"، فهو الاستعداد للقبول بقيام دولة فلسطينية في المناطق التي ستجلو إسرائيل عنها، أو في قطاع غزة على الأقل.
ويبقى أن نشير إلى أن سياسة رابين كانت تتجه نحو تطبيق وجهة النظر "الصقرية"، وأنها قطعت شوطاً كبيراً في التمهيد لها على أرض الواقع، وأن بيرس حاول في الفترة التي مضت ما بين توليه رئاسة الحكومة وبين موجة العمليات الانتحارية الفلسطينية الأخيرة أن يعكس هذه السياسة، وأن يتوجه نحو تطبيق وجهة النظر القائمة على "الحل الوظيفي". وقد تكون موجة العمليات الانتحارية وضعت حداً لهذا التوجه، لكن من المفكر الجزم بذلك، مع أن كثيرين من المحللين رأوا في موافقة الحكومة على "خطة الفصل" بين الضفة الغربية وإسرائيل دليلاً على عودة حزب العمل إلى خيار "الحل الإقليمي".[5]
إن ما ورد أعلاه يتعلق بمواقف حزب العمل والتمايزات الموجودة داخله تجاه قضايا الحل الدائم مع الفلسطينيين. أمّا السياسات والمواقف التي ستعتمدها حكومة برئاسة شمعون بيرس وزعامة حزب العمل في حال فوزهما في الانتخابات، فهي شأن آخر، وتعتمد على الأغلبية البرلمانية التي سيحصل الحزب عليها، والشركاء الائتلافيين الذين سيختار (أو يضطر) بيرس إلى إشراكهم في الحكم، وباقي العوامل الأُخرى المعقدة المؤثرة في العملية السلمية.
[1] بشأن نتائج الانتخابات الحزبية التمهيدية وقراءة المحللين لها، أنظر: "هآرتس"، 27/3/1996؛ ييريّح طال، "هآرتس"، 27/3/1996؛ أمير نويمان، "دافار"، 27/3/1996.
[2] الأماكن الحقيقية في القائمة هي الأماكن حتى الرقم 45، وهو عدد المقاعد التي يتوقع أن يفوز الحزب بها في الانتخابات.
[3] في تقصينا المواقف داخل حزب العمل تجاه قضايا الحل الدائم، اعتمدنا على السلسلة التي أصدرها مركز يافي للدراسات الاستراتيجية بشأن قضايا الحل الدائم، واشتملت على عرض للمواقف الإسرائيلية (بما في ذلك المواقف في حزب العمل) تجاه هذه القضايا، وعلى متابعة التقارير والنقاشات في الصحافة الإسرائيلية اليومية بشأن الموضوع.
للاطلاع على نص برنامج حزب العمل السياسي سنة 1992، أنظر: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 11، صيف 1992، ص 173 - 177.
ومن أجل عرض للنقاشات في حزب العمل بشأن البرنامج السياسي لسنة 1992، أنظر: سمير صراص، "حزب العمل: برنامج ثوابت صقرية"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 10، ربيع 1992، ص 223 - 229.
[4] بشأن التغير الذي طرأ على موقف "الحمائم" في حزب العمل تجاه المناطق التي ينبغي ضمها إلى إسرائيل، أنظر: عوزي بنزيمان، "هآرتس"، 27/1/1995، وتصريحات يوسي بيلين أمام شباب حزب المفدال المنشورة في "هآرتس"، 28/11/1995، وتصريحاته المنشورة في "هآرتس"، 15/2/1996. وفيما يتعلق بتأثير الاتصالات السرية مع محاورين فلسطينيين، أنظر المقابلة التي أجرتها ليلي غاليلي مع يوسي بيلين، والمنشورة في "هآرتس"، 3/3/1996.
[5] للاطلاع على الفوارق بين سياسة رابين وسياسة بيرس، أنظر: عوزي بنزيمان، "مؤشرات على سياسة بيرس"، "هآرتس"، 15/12/1995؛ حانه كيم، "بيرس ورؤية أرض إسرائيل الكاملة"، "هآرتس"، 15/12/1995.