يحاول هذا المقال رصد النتائج التي قد تنعكس على مستقبل قضية فلسطين وشعبها، وعلى مجمل حركة الصراع العربي ـ الصهيوني التي انبثقت من هذه القضية، وبسببها، وذلك في حال إقدام المجلس الوطني الفلسطيني على تعديل "الميثاق الوطني"، انصياعاً لما تطالب حكومة إسـرائيل به، ولما تعهده ياسر عرفات في رسالتـه الموجهة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق رابين، وكرر التزامه في اتفاق طابا في 4/5/1994.
يحاول هذا المقال رصد النتائج التي قد تنعكس على مستقبل قضية فلسطين وشعبها، وعلى مجمل حركة الصراع العربي - الصهيوني التي انبثقت من هذه القضية، وبسببها، وذلك في حال إقدام المجلس الوطني الفلسطيني على تعديل "الميثاق الوطني" لمنظمة التحرير الفلسطينية، انصياعاً لما تطالب حكومة إسرائيل به، ولما تعهده رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة السيد ياسر عرفات في رسالته الموجهة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق رابين في 9 أيلول/سبتمبر 1993، وهو ما عاد وكرر التزامه في اتفاق طابا في 4 أيار/مايو 1994.
غير أنه لا بد من أن أسجل تحفظي حيال إمكان حدوث ذلك في مستقبل منظور، وخصوصاً في الوقت الذي تم إعلانه، أي في أيار/مايو المقبل، وذلك لأسباب أُوجزها من دون تفصيل:
- هشاشة التجربة التسووية الراهنة وعدم رسوخها، وهما أمران يجعلان هذه التجربة عرضة للاهتزاز، وربما ما هو أكثر من ذلك، ويعرضان الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لتقلبات في المواقف، قد تؤثر في السيناريو الحالي ووتيرة جداوله الزمنية.
- استحالة انعقاد المجلس الوطني في غزة أو في غيرها من مناطق "الحكم الذاتي"، بالعدد المطلوب، لتمرير قرار من هذا الوزن بما يحتاج إليه من صدقية شمولية.
- ما يتمتع به "الميثاق الوطني" المطلوب تعديله/إلغاؤه من مكانة في العقل والوجدان الفلسطينيين، وعجز السلطة الفلسطينية ومن يسير وراءها عن تقديم "التعويض" ثمناً لهذا التعديل المطلوب، ولا سيما أن كل ما يمكن تقديمه من ثمن يندرج في لائحة القضايا المؤجلة إلى مفاوضات المرحلة النهائية.
ولذلك، فإن هذه المحاولة تبق من النوع الافتراضي، وعرضة لتأثير الحركة السياسية الجارية وما قد تفرزه من إمكانات التغيير.
وقبل الدخول في تحديد المواد المطلوب تعديلها لفظاً وإلغاؤها فعلاً، لا بد من التذكير أولاً، والتركيز ثانياً، على الأهمية التاريخية والوطنية والقانونية لهذا "الميثاق الوطني"، باعتباره أهم وثيقة قانونية تصدر عن أوسع مؤتمر وطني ينعقد في التاريخ الفلسطيني المعاصر، أي منذ بداية الانتداب البريطاني حتى لحظتنا الراهنة. إن هذا الميثاق هو بمثابة "الدستور الفلسطيني"، مثل دستور أي بلد عربي، بل ربما يتميز من الكثير من دساتير البلاد العربية بتقديمه أولوية الانتماء القومي على الهوية الوطنية لأرض فلسطين وشعبها.
وينفرد هذا الميثاق/الدستور، مقارنة بغيره من الدساتير العربية وغير العربية - بسبب اغتصاب الأرض الفلسطينية، وتشريد أكثر من نصف شعبها خارجها، ومحاولات شطب هويته الوطنية وشخصيته الاعتبارية - بأهمية وطنية استثنائية، وهو ما يجعل أي مساس به مصدر خطر ماحق يحدد مصير الوطن والمواطن الفلسطينيين. فلغير فلسطين من البلاد العربية وغير العربية من المقومات الأساسية ما يحمي كياناتها وهوية مواطنيها، مثل الاعترافات الدولية بها، وتمتعها بحقوق السيادة وتقرير المصير، تغنيها وتكفيها حتى لو لم يكن لها دساتيرها المثبّتة لهذه الحقوق والحقائق، أو حتى لو اضطرت إلى تعليق دساتيرها لسبب أو لآخر. إن الواقع المؤلم الذي آلت قضية فلسطين إليه، وطناً وشعباً، لم يبق لهما من مقومات الوجود القانوني غير هذا الميثاق/الدستور الذي تمكن من الربط، تاريخياً وقانونياً ووطنياً، بين المراحل المتتالية لوجود فلسطين وشعبها، وصولاً إلى حاضرهما القلق ومستقبلهما المجهول.
الميثاق الوطني هو باختصار: شهادة الشعب الفلسطيني ووثيقته الرسمية الوحيدة على حقه في الوجود كشعب له وطن وحقوق. وإذا جاز المساس بما يمكن اعتباره "سياسيا" منه، ويتعلق بمقتضيات الحركة النضالية التي يخوضها شعب فلسطين وما تتعرض له من ضغوط عابرة، فإنه لا يجوز المساس بما هو "وطني" منه ويتناول ما هو مصيري بالنسبة إلى الوطن والمواطن، أي إلى فلسطين والفلسطيني.
ولتفصيل هذا، لا بد من تناول المواد المطلوب تعديلها، تمهيداً لاستقراء النتائج التي يمكن أن تنجم عن هذا التعديل.
يتألف الميثاق الوطني من ثلاث وثلاثين مادة، آخر ثلاث مواد منها تنظيمية، أي ليس لها مضمون أو مدلول سياسي - وطني، والمواد الثلاثون الباقية كلها سياسية - وطنية، ومن النوع الذي "لا يتفق والتعهدات الواردة" في رسالة عرفات المشار إليها، ولا مع اتفاق أوسلو وما تلاه من اتفاقات. وبالتالي، فإن المطلوب تعديله يشمل 27 مادة من مجموع 30، أي ما يعادل 90% من مجمل الميثاق، الأمر الذي يعني إلغاءه برمته فعلاً.
ولعل عرضاً، ولو موجزاً، لهذه المواد، يفي بتوضيح صورة ما يمكن أن تكون عليه نتائج هذا التعديل/الإلغاء المطلوب.
- تقول المادة الأولى: "فلسطين وطن الشعب العربي الفلسطيني وهي جزء لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير، والشعب الفلسطيني جزء من أمته العربية."
لا شك في أن هذه المادة تتصدر طليعة المواد المناقضة لرسالة عرفات ولاتفاق أوسلو وما تلاه. ووفقاً لذلك، لا بد من إلغائها لأن تعديلها أمر مستحيل. لماذا؟ لأن "فلسطين" التي تشير المادة إليها هي تلك التي كانت معروفة بحدودها الدولية خلال فترة الانتداب، كوحدة إقليمية لا تتجزأ، كما ورد في نص المادة الثانية. وبالتالي، لا بد عند التعديل من تحديد البديل الذي سيصبح وطناً للشعب الفلسطيني وتعريف حدوده. ولما كانت هذه القضية، قضية "الوطن" بمعنى الدولة وحدودها، لا تزال معلقة بانتظار مفاوضات المرحلة النهائية، فإنه يستحيل تثبيت نص مسبق حولها قبل الانتهاء من المفاوضات. ولو كان الأمر غير ذلك لما جاء نص القَسَم، الذي أداه عرفات في غزة يوم تنصيبه أول رئيس منتخب للسلطة الفلسطينية، مبهماً غامضاً على الشكل التالي:
"أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للوطن وأن أحافظ على الدستور والقانون وأحافظ على مصالح الشعب الفلسطيني وسلامة أراضيه وتحقيق أمانيه وآماله الوطنية..."
عن أي "وطن" يتحدث القَسَم وما هي حدوده؟ هل يقصد "الوطن" التاريخي، أم "الوطن" المحدد بخرائط القرار رقم 181، أم "الوطن" الذي أشار إعلان "الدولة" إليه سنة 1988؟ وهل "سلامة أراضيه" تشمل المستوطنات أم تستثنيها بانتظار مصيرها المؤجل هو الآخر إلى المفاوضات النهائية؟
قد يحاول أحدهم التذاكي أو ادعاء الدهاء فيتساءل: "ولماذا يحدد الفلسطينيون وطنهم في الوقت الذي لم يحدد الإسرائيليون دولتهم؟ وقد يغالي في التذاكي ليضيف: أَوَلاَ يمكن أن يكون ذلك في مصلحة الفلسطينيين فيعطيهم أكثر مما يتوقعون في ظلال الموازين الراهنة؟ والجواب ببساطة هو أن "وجود الوطن الفلسطيني" لا "وجود إسرائيل" هو المطروح على مائدة التفاوض. وإسرائيل - كدولة - حقيقة معترف بها دولياً وعضو في الأمم المتحدة، ولم يكن ينقصها سوى الاعتراف الفلسطيني بها، وهو ما أقدم رئيس منظمة التحرير على التبرع به في رسالته إياها من دون الحصول في المقابل على اعتراف إسرائيلي بوجود "وطن" فلسطيني.
لو لم يكن الأمر كذلك لما وجد السيد عرفات حرجاً في أن يستلهم قَسَمه من وثيقة إعلان الدولة التي صيغت - على الرغم من التنازل التاريخي عن كل فلسطين - بإبداع فكري حمى التراث والذاكرة، وصان بعض الوطن وحدوده، وحفظ الهوية الوطنية الفلسطينية والانتماء القومي العربي الأصيل. وبالتالي، فإن أي إلغاء لهذه المادة، والمادة التي تليها، أو أي تعديل لهما لا يستلهم وثيقة إعلان الدولة إنما يشكل تآمراً مفضوحاً ضد شعب فلسطين وقضيته بجميع أبعادها، ولا يتنكر للأجيال التي صرفت أعمارها في التضحية والعطاء فحسب، بل إنه يطال أيضاً الأجيال الطالعة التي من حقها أن تحيا كسائر بني البشر بهوية ووطن معروفين بوضوح وتحديد.
- تقول المادة الثالثة: "الشعب العربي الفلسطيني هو صاحب الحق الشرعي في وطنه، ويقرر مصيره بعد أن يتم تحرير وطنه وفق مشيئته وبمحض إرادته واختياره."
وهذه المادة أيضاً، لا بد من شطبها وفقاً لتعهدات الرسالة إياها والاتفاقات التي تم توقيعها، والنصوص واضحة. وبغض النظر عن "الوطن" المشار إليه في هذا النص، وهو طبعاً يقصد فلسطين كلها، فإن الاتفاقات المعقودة لم تعترف لشعب فلسطين بأي "حق شرعي" على أي جزء من الوطن، ولا بحقه في "تقرير مصيره وفق مشيئته وبمحض إرادته واختياره." فتلك أيضاً من القضايا المؤجلة إلى مفاوضات المرحلة النهائية وما ستنتهي إليه من نتائج ملزمة للجانب الفلسطيني، باعتبار أن "لا مرجعية" غير ما يتفق الطرفان عليه من خلال التفاوض السلمي الذي أقرت المنظمة بألاّ تلجأ إلى أسلوب غيره لتحقيق ما تهدف إليه.
وأية محاولة لتعديل هذه المادة، بديلاً من إلغائها، لا بد لها هي الأُخرى من استلهام وثيقة إعلان الدولة، وهو ما لا يمكن لإسرائيل القبول به لأنه يستبق نتائج المفاوضات النهائية التي أشارت إليها الاتفاقات الموقَّعة.
- تتحدث المادة الرابعة عن أزلية الشخصية الوطنية الفلسطينية، ولا تعترف بأن الاحتلال الصهيوني وتشتيت الشعب العربي الفلسطيني يفقدانه هذه الشخصية الوطنية.
وهذه المادة أيضاً تتناقض مع ديباجة اتفاق أوسلو التي تتحدث عن "المصالحة التاريخية" والتي يفهمها الإسرائيلي على نحو مناقض لهذا النص تماماً، كما تتناقض مع الطروحات الإسرائيلية لحل قضية اللاجئين والنازحين الذين لم يتم الاتفاق حتى الآن بشأن تعريفهم وتحديد هويتهم في اللجنة الرباعية المنبثقة من اتفاق أوسلو، على الرغم من مرور عام ونصف عام على إنشاء هذه اللجنة وعقدها سبعة اجتماعات! وفي أية حال، فالمسألة كلها، هي الأُخرى، في جدول المفاوضات النهائية.
- تقول المادة الخامسة: "الفلسطينيون هم المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى عام 1947، سواء من أُخرج منها أو بقي فيها، وكل من ولد لأب عربي فلسطيني بعد هذا التاريخ داخل فلسطين أو خارجها هو فلسطيني."
لقد هدف واضعو هذه المادة - وهي امتداد طبيعي للمادة التي سبقتها - إلى الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية باعتبارها من حقوقه الأزلية غير القابلة للتصرف، وبالتالي تثبيت وحدة الشعب الفلسطيني بغض النظر عن أماكن وجوده داخل الوطن أو في الشتات، والتي تضمن للشعب حقه في العودة إلى الديار. وهي أيضاً مهددة بالشطب إذا تعذر تعديلها. والسؤال: هل يمكن تعديلها، وكيف؟ ومن يستطيع التنبؤ بما ستنتهي مفاوضات المرحلة النهائية إليه؟ هل سيبقى الوضع القانوني لفلسطينيي الوطن وفلسطينيي الشتات واحداً؟ هل سيحمل الجميع هوية وطنية واحدة، ويكون لهم بالتالي الحقوق والواجبات نفسها؟ من يمكنه التكهن بإجابة إيجابية عن هذه الأسئلة، سواء من قراءته لنصوص ما تم توقيعه من اتفاقات أو مما يراه من ممارسات إسرائيل الميدانية؟ ولو كان في نية إسرائيل التزحزح عن سياستها الاستيطانية التي تزداد تشدداً وتعنتاً، لما كان إصرارها على ضرورة تعديل الميثاق قبل الخوض في مفاوضات المرحلة النهائية، ولما كانت هذه الوتيرة المتسارعة لعمليات اغتصاب الأرض حتى وصلت إلى ما مساحته مئة هكتار شهرياً منذ توقيع اتفاق أوسلو، وفق آخر تقرير لجامعة الدول العربية صدر في كانون الثاني/يناير 1996.
إن بقاء هذه المادة وما تحمله من الإقرار بحق عودة اللاجئين والنازحين، ولو إلى مناطق الحكم الذاتي وحدها، يعتبر من رابع المستحيلات بالنسبة إلى إسرائيل لأنها تعني لقادتها "تدمير إسرائيل". ومن يطالع مسلسل الدراسات الإحصائية التي يعكف الاستراتيجيون عليها يدرك مدى هلعهم مما يسمونه "القنبلة الديموغرافية" التي لن يتأخر موعد تفجرها عن عقدين من الزمن، وفق ما يتوقعون.
طبعاً، إن إلغاء هذه المادة سيكون بمثابة طعنة قاتلة للهوية الوطنية ووحدة الشعب ولأي أمل للاجئين بالعودة إلى ديارهم في فلسطين، بما فيها مناطق الحكم الذاتي.
- أمّا المواد ما بين السابعة والتاسعة عشرة، وهي تبلغ إحدى عشرة مادة، فكلها من النوع التعبوي الذي يتناول عملية "تحرير فلسطين" أداة وصلات وعلاقات، وهذه تصبح ملغاة شكلاً ومضموناً لحظة المساس بنص المادة الأُولى وما يتلوها.
وعلى سبيل المثال، إن المادة السابعة تدعو إلى تنشئة الفرد الفلسطيني تنشئة عربية، وتأهيله للنضال والكفاح والتضحية بالروح والمال من أجل استرداد وطنه.
وتدعو المادة الثامنة إلى نبذ التناقضات الثانوية في صفوف شعب فلسطين لمصلحة التناقض الأساسي مع الصهيونية والاستعمار. أمّا المادة التاسعة فلا تعترف بغير الكفاح المسلح سبيلاً إلى تحرير فلسطين. وتكرر المادة العاشرة المعنى ذاته بكلمات أُخرى، بينما تحدد المادة الحادية عشرة لشعب فلسطين ثلاثة شعارات هي الوحدة الوطنية، والتعبئة القومية، والتحرير. أمّا المواد الباقية، من المادة الثانية عشرة إلى المادة الخامسة عشرة، فتتحدث جميعها عن عروبة القضية وعلاقة شعب فلسطين بالأمة العربية ومشروعها الوحدوي، وتربط بين التحرير والوحدة. أَوَلم يصف اتفاق أوسلو الأشقاء العرب بـ "الجيران" لإسقاط الانتماء القومي بين شعب فلسطين وأمته العربية التي هي جزء منها؟
وهكذا، نرى استحالة بقاء هذه المواد، فإمّا إلغاؤها وإمّا تعديلها بما يقود إلى ميثاق جديد بفكر آخر واستراتيجيا أُخرى لا يبقيان من منظمة التحرير حتى اسمها؛ أوَليس "تحرير فلسطين" صنو "تدمير إسرائيل"؟
- تقول المادة التاسعة عشرة: "تقسيم فلسطين الذي جرى عام 1947 وقيام إسرائيل باطل من أساسه مهما طال عليه الزمن لمغايرته لإرادة الشعب الفلسطيني وحقه الطبيعي في وطنه ومناقضته للمبادئ التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة وفي مقدمتها حق تقرير المصير."
على الرغم من صوابية هذه المادة، تاريخياً وقانونياً، فإنه يمكن القول إن المجلس الوطني الفلسطيني ألغى عند إقراره إعلان "دولة فلسطين" هذه المادة بعد فذلكة فكرية وجدانية تاريخية حاولت جهدها وضع توليفة تجمع بين العقيدي المطلق والسياسي الممكن، مساهمة من "الفلسطيني" في إيجاد حل يضمن سلاماً دائماً يقوم على عدل نسبي، يضمن قيام دولة له في فلسطين ذات سيادة واستقلال وطنيين ولو على جزء من ترابه الوطني التاريخي. واعتبر المجلس في القرار نفسه - كشرط ضمني - أن كل ما تم احتلاله من أرض فلسطينية في حرب سنة 1967 هو وطن الفلسطينيين، بما في ذلك القدس الشرقية، وأن القرار رقم 242 يتكفل بإعادة هذه الأراضي انسجاماً مع القانون الدولي الذي لا يجيز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة.
وهكذا، نجد مرة أُخرى أننا أمام مادة مطلوب إلغاؤها في الوقت الذي ترفض إسرائيل التعديل الوحيد الممكن لها. ونكرر ثانية أنه لو كان لدى إسرائيل أية نية للتزحزح عن مشروعها الرافض لقيام أية دولة فلسطينية، لما أصرت على أسبقية تعديل الميثاق قبل الخوض في مفاوضات الحل النهائي. وبما أن ما ورد في وثيقة إعلان الدولة يمثل أقصى ما يمكن للفلسطيني أن يتنازل عنه، فإن أية صيغة لتعديل المادة التاسعة عشرة خارج نص هذه الوثيقة إنما تعني السقوط وراء الخط الأحمر، والاستسلام التام للمشروع الصهيوني، وتصفية القضية إلى الأبد.
- تقول المادة العشرون: "يعتبر باطلاً كل من تصريح بلفور وصك الانتداب وما ترتب عليهما وأن دعوى الترابط التاريخي أو الروحي بين اليهود وفلسطين لا تتفق مع حقائق التاريخ..." وإذا ألحقنا بهذه المادة على الفور المادة الحادية والعشرين التي تليها، والتي تقول: "الشعب العربي الفلسطيني... يرفض كل الحلول البديلة عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً ويرفض المشاريع الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية أو تدويلها"، ندرك عندئذ أن لا سبيل إلى أي تعديل لهما؛ فالأُولى منهما تنسف "النظرية التاريخية" لما يسمى حق اليهود في فلسطين، والأُخرى تؤكد إصرار الفلسطينيين على ضرورة "الإنجاز المادي" لنسف هذه "النظرية". وإمعاناً في تأكيد ذلك وتوضيحاً له، تأتي المادة الثانية والعشرون لتعتبر "الهوية الصهيونية حركة سياسية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالإمبريالية العالمية ومعادية لجميع حركات التحرر والتقدم في العالم، وهي حركة عنصرية تعصبية في تكوينها، عدوانية توسعية استيطانية في أهدافها..." ولا حاجة إلى المضي في تسجيل باقي النص، فما قيل منه يكفي ليثبت أن هذه المادة وكل ما سبقها من مواد لا مفر من إلغائها، على غرار ما حدث في الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما سحبت قرارها الذي اعتبر الصهيونية ذات يوم حركة عنصرية وشكلاً من أشكال التمييز العنصري. إن مسائل من هذا النوع لا مجال فيها لأنصاف حلول، فإمّا التثبيت وإمّا الإلغاء. وليس هناك من شك في الموقف المطلوب - إسرائيلياً - من هذين الاحتمالين.
أعتقد أنه لا داعي إلى الاستطراد، وصولاً إلى ما بقي من مواد، لأن ما سبقت الإشارة إليه يكفي للتدليل على أنه لا مجال للاستجابة إلى مراعاة ما تعهده ياسر عرفات في رسالته إلى رابين والتزام ما وقِّع في اتفاق أوسلو وفي غيره من اتفاقات عن طريق "تعيل" الميثاق الوطني، وأن درب الاستجابة الأوحد هو "إلغاء" هذا الميثاق باعتباره نقيضاً كاملاً لمنطق التسوية الراهنة ولنصوص ما تم إبرامه من اتفاقات باسمها.
ولو أجملنا ما أشرنا إليه من نتائج إلغاء هذا الميثاق، وأضفنا إليه ما يعكسه من آثار على شعب فلسطين وقضيته، فإنه يمكننا رصد ما هو آت:
أولاً: وحدة الشعب الفلسطيني
إن إلغاء الميثاق بمعنى التسليم بمنطق تسوية أوسلو سيؤدي إلى انقسام الساحة الفلسطينية سياسياً على نحو لا مثيل له في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، مع ما يحمله مثل هذا الانقسام من مخاطر الاقتتال الأهلي، وتكريس تقسيم الشعب الفلسطينية إلى "شعوب" تختلف أولويات كل واحد منها وفق "مكان" وجوده و"زمان" هذا الوجود، الأمر الذي سيؤدي إلى اغتيال وحدة الموقف ووحدة الهدف اللتين كانتا ولا تزالان من أهم ما صان وحدة الشعب الفلسطيني منذ نكبته سنة 1948.
ففي داخل الأرض المحتلة سيكون هناك "شعب" في القطاع وآخر في الضفة الغربية، من دون أن ننسى "شعب عرب إسرائيل"، تفصل بينهم "الجغرافيا" كما تفصل بينهم الأوضاع "القانونية" لكل منها.
وخارج الأرض المحتلة، لن يكون الوضع أقل تعاسة؛ إذ سيتوزع فلسطينيو الشتات كذلك إلى "شعوب" من "لاجئي لبنان" و"لاجئي سورية" و"لاجئي الأردن" و... و... وصولاً إلى لاجئي المهاجر البعيدة في أوروبا والأميركتين وأوستراليا وكندا!!
هذه "الشعوب" كلها كانت "شعباً" واحداً في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت بمثابة "الوطن الروحي" له بانتظار الوطن الحقيقي. فإذا أُلغي الميثاق أُلغيت المنظمة، وبالتالي، أُلغي "الوطن الروحي"، وتحول الشعب شعوباً.
ثانياً: الهوية الوطنية الفلسطينية
كلنا يعرف ما عاناه شعب فلسطين على امتداد هذا القرن دفاعاً عن هويته وأرضه، وخصوصاً في النصف الأخير منه عقب نكبة سنة 1948 وأعوام التيه التي تلتها، ورفضه التحول إلى مجموعات من اللاجئين والنازحين والمبعدين، إلى غير ذلك من التسميات. لقد احتاج هذا الشعب إلى خمسة عشر عاماً من النضال البطولي رفضاً لمشاريع التوطين والإلحاق والتجنيس، واسترد هويته الوطنية، ورد الاعتبار إلى شخصيته الاعتبارية بإقامة منظمة التحرير الفلسطينية، التي حملت لواء كفاحه ثلاثين عاماً أُخرى، قدم خلالها مئات الآلاف من الشهداء والسجناء والمعاقين، دفاعاً عن هويته كشرط حتمي لاسترداد الأرض.
إنها المرة الأُولى في تاريخ شعب فلسطين التي ينتزع فيها هذا الشعب اعتراف الدنيا بهويته كشعب له حقوق غير قابلة للتصرف، وأصبح عضواً فاعلاً في المنظمات والهيئات والتكتلات الإقليمية والدولية، ويمتلك كامل الحقوق التي لغيره من الشعوب، طبعاً باستثناء الأرض التي كان استردادها هو الهدف الأصيل.
بعد اتفاق أوسلو، الذي وصل بنا إلى حدود المطالبة بإلغاء ذاتنا، من دون أن يتحمل عناء طرح بديل يقبله العقل ولو على مضض، وبعيداً عن وجدان لا يساوم، فإن المساس بميثاقنا الوطني لا يعني التنازل عما أنجزناه بتضحياتنا العظام فحسب، وإنما يعني أيضاً التنكر لكل ما قمنا به هدفاً وأسلوباً واغتيالاً لذاكرتنا التاريخية. فالحديث عن تحرير فلسطين أصبح "مثالية عبثية"، والكفاح المسلح "إرهاباً". إن المساس بالميثاق الوطني يعني التنازل عن هويتنا الأزلية في مقابل "إجازات مرور" أو "وثائق سفر" لا قيمة قانونية لها.
ثالثاً: مصير قضية فلسطين وحركة الصراع العربي - الصهيوني
إن هذه القضية التي كانت بمثابة أُولى قضايا العرب، بل قضيتهم المركزية، والتي مثلت خلال العقود المديدة للصراع حالة وجدانية وتراثاً نضالياً للعرب عامة ولشعب فلسطين خاصة، والتي بقيت مستعصية على الحل ومعلقة في جدول أعمال الأمم المتحدة منذ قيام هذه المنظمة، والتي تسببت في أكثر من خمس حروب عربية - إسرائيلية رسمية، إلى جانب الكفاح الفلسطيني المسلح وغير المسلح على امتداد ثلاثة أجيال... إن هذه القضية تحولت من "قضية فلسطين" العربية إلى "قضية الفلسطينيين" وحدهم، وباتت مهددة الآن بالتصفية وإغلاق ملفها بسبب التسوية الراهنة التي أوهمت الكثيرين عالمياً وعربياً بأنها قد حلّتها بجميع أبعادها، وأن الصراع قد انتهى ليحل محله السلام، مع العلم بأن "التسوية" لم تحل أي بُعْد من أبعاد هذه المشكلة، بل أضافت إليها أبعاداً جديدة، لكنها جعلت المجتمعين العربي والدولي - رسمياً على الأقل - في حِل من التزاماتها تجاه هذه القضية.
هذه أهم الآثار التي قد تنجم عن إلغاء الميثاق الوطني في مستقبل شعب فلسطين وقضيته.
ولا أرى من سبيل إلى درء هذه الأخطار غير تأجيل هذا الاستحقاق بقدر المستطاع، إلى أن تنجلي صورة الوضع بعد مفاوضات المرحلة النهائية. وإنْ تعذر ذلك أمام "بولدوزر" التحالف الأميركي - الإسرائيلي، فليس من بديل من هذا الميثاق غير اعتراف إسرائيلي رسمي وعلني بحقوق شعب فلسطين غير القابلة للتصرف، وتعهد العمل على تحقيقها، وهي الاستقلال، والسيادة الوطنية، وحق تقرير المصير، وعودة جميع اللاجئين إلى ديارهم أو التعويض عليهم، تماماً كما سبق أن اتُّفق عليه في دورتي المجلس الوطني الثامنة عشرة والتاسعة عشرة.