يبدأ المقال بتفحص المدى الذي وصلت إليه عملية السلام التي بدأت في مؤتمر مدريد في 30/10/1991، ثم ينتقل إلى تفحص ما تمخض اتفاق أوسلو عنه عملياً. ويعالج تصورات الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لما قد تسفر مفاوضات "الوضع الدائم" عنه، وهي مفاوضات قد لا تؤدي إلى السلام المنشود. كما يعالج ما الذي تريده إسرائيل من "عملية السلام". ويخلص إلى أن فلسطين قد أُعيد توحيدها سنة 1967، وليبدأ كل حديث مستقبلي من نقطة وحدة فلسطين الجغرافية.
أين وصلت عملية السلام؟
متى يمكن القول إنها اكتملت، وبالتالي إن السلام في الشرق الأوسط قد تحقق؟ وفي المقابل، في أية أوضاع يمكن القول إنها توقفت، أو حتى فشلت؟ وفي حالة التوقف أو الفشل، ماذا يمكن أن يكون البديل من السلام؟
لقد بدأت عملية السلام في مؤتمر مدريد في 30 تشرين الأول/أكتوبر 1991، بعد تمهيد طويل اجتاز عقبات متعددة، كانت تقف حائلاً دون السلام لدى كل من الأطراف المتشابكة في الصراع العربي - الإسرائيلي والحروب التي اندلعت من هذا الصراع.
ففي الجانب الفلسطيني، تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من الحصول على موافقة المجلس الوطني الفلسطيني، المنعقد في الجزائر بتاريخ 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1988، على قرار بإعلان "قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف." ومع أن القرار لم يعترف مباشرة بدولة إسرائيل، فإنه، ولأول مرة في تاريخ النضال الفلسطيني اعتبر أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 سنة 1947، "الذي قسم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية... ما زال يوفر شروطاً للشرعية الدولية، تضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في السيادة والاستقلال الوطني." وبذلك، فإن منظمة التحرير الفلسطينية تخلّت عن هدف "فلسطين الموحدة" وعن رفض تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وأقرت بدلاً من ذلك بشرعية التقسيم، وبإقامة دولة فلسطينية على أرض فلسطينية أسوة بالدولة اليهودية، كاستكمال متأخر لقرار التقسيم، بعد أن فشلت الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية في إلغائه، وفتحت بذلك باب المفاوضات من أجل تحقيق هذا الهدف الجديد.
لكنه كان من الواضح حين صدور قرار المجلس الوطني الفلسطيني أن هناك تبايناً في الرأي بين المنظمات السياسية الفلسطينية حول جدول أعمال المفاوضات. ومن المؤكد أن جميع التيارات الفلسطينية اجتمعت على أن هدف المفاوضات يجب أن يكون تطبيق جميع قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين. إلا إن المدرسة الواقعية التي تجسدها منظمة "فتح"، كبرى المنظمات المنخرطة في منظمة التحرير الفلسطينية، اعتقدت أن الإصرار على التمسك بجميع قرارات الأمم المتحدة كأساس مسبق للمفاوضات سيعرقل قيام المفاوضات أصلاً، وقبلت - بدلاً من ذلك - بالشروط التي أملتها الولايات المتحدة الأميركية لتكون هي الأساس.
وبناء عليه، فإن المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية جرت بين فريقين غير متكافئين، أحدهما صاحب سيادة وسلطة، والآخر مجرد من كليهما واقعاً وقانوناً. وبذلك أرادت إسرائيل أن تثبت ضمناً أن ثمة دولة واحدة على أرض فلسطين كلها، هي دولة إسرائيل، وأن هذه الدولة تفاوض لتحديد وضع داخلها للفلسطينيين الموجودين فيها.
وكما اختارت منظمة التحرير الفلسطينية أن تفاوض في معزل عن الأردن، فإنها اختارت أن تفاوض في معزل عن سورية. ونتيجة لذلك كله، جرت المفاوضات الفلسطينية في مرحلتين: فالمرحلة الأولى هي التي خاضها الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي. ولقد انصبت جهود الوفد كلها على محاولة يائسة وبائسة لتحديد جدول أعمال المفاوضات. إذ لا بد لأي تفاوض من أن يدور على محاور، أي حول نقاط محددة، يتوخى الوصول إلى حلول ما بشأنها.
والمرحلة الأُخرى للتفاوض الفلسطيني - الإسرائيلي، وهي مرحلة أوسلو، يمكن أن نسميها مرحلة التفاوض العشوائي؛ إذ قبلت منظمة التحرير الفلسطينية أن تدخل مفاوضات أوسلو من دون جدول أعمال، وذلك في مقابل تحديد جديد للطرف الفلسطيني المفاوض، بأنه منظمة التحرير الفلسطينية، صراحة ومباشرة، ومن دون حاجة إلى "حيل شرعية" أو "فذلكات قانونية". واعتبرت المنظمة ذلك إنجازاً يبرر التفاوض العشوائي.
ولسنا الآن في صدد عرض اتفاق أوسلو، وتكفي الإشارة إلى أن الاتفاق نص على تسوية تتم في مرحلتين: إحداهما سُميت المرحلة الانتقالية، والأُخرى سُميت الوضع الدائم. لكن المرحلة الموقتة لم تضع حلاً موقتاً، بل تركت جميع الأمور معلقة إلى حين التوصل إلى اتفاق بشأن الوضع الدائم. والوضع الدائم نفسه ترك من دون "جدول أعمال".
إن إسرائيل والصهيونية العالمية تعتبران أن إسرائيل قد توصلت من خلال اتفاق أوسلو - 1 إلى وضع أفضل من الوضع الذي كانت عليه قبله. ولئن تركت إسرائيل جميع بنود الخلاف الصهيوني - الفلسطيني معلقة بلا حل، فإنها فعلت ذلك لأنها كانت تأمل بأن تهيئ المناخ بصورة أفضل لمرحلة مفاوضات "الوضع الدائم" من خلال تحقيق أمرين هما: تعميق العزلة الفلسطينية، نتيجة التوصل إلى اتفاقات صلح مع الدول العربية، الأطراف في المفاوضات، وهي الأردن وسورية (ولبنان). إذ إن الصلح مع هذه الدول في حد ذاته يشكل اعترافاً بحدود إسرائيل الجديدة؛ فحدودها الآن مع مصر هي الخط الدولي لسيناء، الممتد من البحر الأبيض المتوسط إلى خليج العقبة. وحدودها مع الأردن، هي الخط الدولي لحدود المملكة الأردنية الهاشمية (1945). وإذا استطاعت أن تتوصل إلى صلح مع سورية (ولبنان)، فإن إسرائيل ستنال اعترافاً ضمنياً من الدول العربية المحاذية لكامل الحدود التي كانت مرسومة لفلسطين في صك الانتداب البريطاني، واعترافاً ضمنياً آخر بأن ما تفعله داخل هذه الحدود هو من شؤونها. ولسوف تنطلق من هذه النقطة في مفاوضات الوضع الدائم.
وثمة أمر آخر يقوم على محاولة "التطبيع الاقتصادي" مع الدول العربية بما قد ينتج منه مصالح متبادلة. حينذاك يصبح أي تدخل عربي في قضية فلسطين في اعتقاد الإسرائيليين أقل احتمالاً، نظراً إلى وجود رادع يستند إلى زعم أن مثل هذا التدخل يعتبر تدخلاً في الشؤون الداخلية لإسرائيل، ولوجود مكافأة مقابلة تتمثل في تبادل المصالح وفي دور لإسرائيل في العلاقات الاقتصادية والسياسية العربية في المنطقة "الشرق الأوسطية"، بحسب التصور الإسرائيلي الصهيوني.
لكن الأهم من ذلك هو أن إسرائيل تأمل من خلال هذه المرحلية بأن تجعل المرحلة الثانية من المفاوضات تكراراً لما حدث في مفاوضات أوسلو - 1، أي أن تتخطى كل محاولة لوضع "جدول أعمال" للتفاوض، وتتقدم بدلاً من ذلك رأساً بورقة عمل، مبنية على الواقع الذي رسمته في الخط التشريعي الذي فرضته منذ توقيع اتفاق أوسلو - 1، وبالمناورات الحية لإجراء تغييرات أُخرى في أثناء المفاوضات، وبوسائل التهديد والتخويف التي توحي للفلسطينيين بأن المحافظة على ما بقي أفضل من خسارته - أياً يكن هذا الذي بقي. وكما أن إسرائيل تتطلع إلى تكرار أسلوبها الذي نجح في التوصل إلى اتفاق أوسلو - 1، فإن الأمل يراودها بأن تكرر منظمة التحرير الفلسطينية أيضاً نفسها، فتوقع في النهاية ورقة العمل المقدمة للمفاوضات من قبل إسرائيل مع تعديلات ما، لا تمس جوهر الصورة التي تنوي إسرائيل رسمها لتحديد "الوضع الدائم".
* * *
علينا الآن أن نحاول تفحص ما تمخض اتفاق أوسلو عنه عملياً، بالنسبة إلى الطرفين الموقعين، وهما منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.
ولنبدأ أولاً بالسؤال التالي: إذا كان اتفاق أوسلو - 1 على ما قد وصفناه، فماذا يمكن أن تكون الدوافع التي دعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى توقيعه؟ أو بعبارة أُخرى، لماذا اختارت المنظمة في لحظة وصول مفاوضات الوفد الفلسطيني في واشنطن إلى تأزم واضح أن تعفي الوفد الفلسطيني من التفاوض، وأن تتخلى عن التفاوض بشأن تحديد جدول أعمال، وتدخل في تفاوض عشوائي مباشر مع إسرائيل؟ إذ لا بد حتماً من أن يكون للمنظمة اجتهادها وتصورها للعملية السلمية.
بدايةً، لا بد لأي محلل من أن يلاحظ شيئاً من التميز بين زاوية الرؤية لدى كل من الوفد الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية. وقد أخذ هذا التميز يزداد وضوحاً منذ بداية المفاوضات. فالوفد الفلسطيني المفاوض لم يكن أمامه سوى مشكلة واحدة هي مشكلة فلسطين، كما تتمثل مرحلياً، في التردي الهائل الذي فرضته إسرائيل على الفلسطينيين، إرهاباً، وإفقاراً، وحصاراً في وسائل العيش، وحصاراً لمؤسسات التعليم والصحة والإسكان، وتعدياً على الأراضي والموارد، وإرهاقاً بالضرائب، وملاحقة حتى لأطفال الانتفاضة. وما زلنا نذكر الدعوات التي صدرت عن أعلى القيادات الصهيونية والإسرائيلية بتكسير عظام الأطفال ردعاً للانتفاضة. كل ذلك كان قد أدى إلى شلل كامل في حياة الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس. ثم إن الوفد المفاوض كان يستند بلا شك إلى قرار المجلس الوطني الفلسطيني بإعلان دولة فلسطين (الجزائر 1988)، وربما كان يتصور أن المفاوضات يمكن أن تجري بالتسلسل الآتي: تحديد معنى الأرض في مقابل السلام، وصولاً إلى انسحاب إسرائيلي، ولو على مراحل، من الأراضي التي احتلت سنة 1967، وتأمين وضع انتقالي لهذه الأراضي - مثل وضعها تحت وصاية الأمم المتحدة لفترة متفق عليها، ومن ثم إجراء استفتاء فيها لتقرير المصير، ومن ثم إعلان أنها هي أرض الدولة الفلسطينية التي وافق المجلس الوطني الفلسطيني عليها.
إن هذا التسلسل النظري يمثل "الصورة" التي روجتها منظمة التحرير الفلسطينية للمفاوضات، التي كان منتظراً إجراؤها بعد قرار المجلس الوطني الفلسطيني، وذلك على الرغم من أن القرار نفسه اكتفى بإعلان "الدولة الفلسطينية" على "أرض فلسطينية"، من دون أي تحديد لتلك الأرض.
وإن منظمة التحرير الفلسطينية، التي هي في الأساس صاحبة هذا التصور، كان لديها بنود أُخرى إلى جانب قرار إعلان الدولة. فمن هذه البنود أنها - على الرغم من القرار العربي باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني - لم تلق استجابة دولية لوضعها هذا، وبالتالي فإنها كانت من دون شك ستجد في الحصول على هذا الاعتراف مكسباً مهمّاً. ثم إنها كانت تعاني تضاؤل الموارد المالية بحيث لم تعد قادرة على تمويل مكاتبها وسفاراتها وقواتها المسلحة. وقد كان من الطبيعي بالتالي أن تضع الأسبقية لك معضلاتها هذه، وربما اعتقدت أيضاً أن تخفيف عبء هذه المشكلات عن كاهلها سيضعها في موقف تفاوضي أفضل، بالنسبة إلى المرحلة المقبلة. ولعلها اعتقدت أيضاً أن التساهل في المفاوضات بالنسبة إلى المرحلة الانتقالية أمر غير محفوف بأخطار، ظناً منها أن خسائر المرحلة الانتقالية يمكن استردادها وأن نواقصها يمكن استكمالها، فيما ستتمخض مفاوضات المرحلة الدائمة عنه. فكانت بذلك مثل ذلك الذي وصفه أرسطاطاليس الحكيم اليوناني بأنه استغرق في النظر إلى النجوم في أثناء سيره فلم يلحظ حفرة في الأرض تحت قدميه وسقط فيها.
ثم إن الوضع العربي كان قد تردى بعد حرب الخليج الثانية. وكان لتصريحات السيد ياسر عرفات المنحازة إلى الجانب الذي خسر تلك الحرب أثر لدى الأطراف التي كسبتها، انعكس في حجب الأموال عن منظمة التحرير، وفي تصعيد الغضب ضد الفلسطينيين في بعض دول الخليج، إلى حد أن إحدى تلك الدول أخرجت قرابة ثلاثمئة ألف فلسطيني من أراضيها. وكان الوضع الدولي أسوأ من ذلك، إذ إن انهيار الاتحاد السوفياتي فوّت على المنظمة الدعم (المحدود) التي كانت تلقاه في المجال الدولي، من خلال مساندة الاتحاد السوفياتي.
طبعاً، يمكن القول إن هذه الأمور لم تأت مصادفة. فحرب الخليج الثانية افتُعلت (was induced) بعد إعداد وتحضير بدآ سنة 1974، في إبان حظر النفط الذي فرضته دول الخليج المصدرة للنفط في وجه الدول الصناعية المستهلكة له. والاستثارة ضد الفلسطينيين بدأت قبل ذلك بأعوام، وتصاعدت طوال الحرب الأهلية اللبنانية، حيث صُور الفلسطينيون بأنهم يشكلون خطراً على البلاد التي تستضيفهم. وكانت قرارات الترحيل معدة تنتظر مواعيد تنفيذها. لكن انهيار الاتحاد السوفياتي كان موعداً تاريخياً غير محسوب حقاً.
ترى، هل من المجدي أو المفيد إثارة سؤال حول ما إذا كان قرار منظمة التحرير الفلسطينية بالمضي في المفاوضات مع إسرائيل مع نقلها من العلن إلى السرية، ومن واشنطن إلى أوسلو، ومع إعفاء وفدها المفاوض وتسلُّم مقاليد التفاوض بصورة مباشرة قراراً حكيماً، أم هل كان من الأفضل الصبر على هذا الاستعصاء حتى يأتي الزمن بمنفذ له؟
نلاحظ بداية أن إسرائيل قلبت موقفها من تحديد هوية الفلسطيني المفاوض رأساً على عقب، عندما بادرت هي إلى الاتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية وتقدمت إليها باقتراح التفاوض المباشر. وفي اعتقادنا، إن تصلبها السابق في استبعاد منظمة التحرير كمفاوض مباشر كان تصلباً حقيقياً لا تمثيلياً أو مسرحياً، وذلك لأن المنظمة تمثل الفلسطينيين كافة في الداخل والخارج، بينما كانت إسرائيل تصر على أن يجري التفاوض فقط مع ممثلي الفلسطينيين الموجودين على الأرض، من دون القدس. والسبب في ذلك أنها لم تكن تريد التعامل مع قضية الشعب الفلسطيني، بل - فقط - مع قضية الأرض التي تسميها أرض، ومع الفلسطينيين المقيمين فيها - والذين لا تعترف لهم بأي وضع أو أية هوية، بل تريد أن تتعامل معهم كأقلية موجودة على أرضها، وخاضعة لمثل التقلبات والتحيزات والتمييزات التي تخضع لها أقليات في بلاد كثيرة. وهذا أمر يختلف كثيراً عن التعامل مع شعب بأكمله يطالب بالعيش الكريم على أرضه، أصيلاً فيها لا غريباً عنها، سيداً عليها لا تابعاً فيها، بما له من الحق لا بما يقدم إليه من المنّة. وقضية "الأرض" من وجهة نظر إسرائيل ذات وجهين: الأول أن فلسطين كانت "أرضاً" بلا شعب، وبالتالي فإن الشعب الفلسطيني من وجهة النظر هذه ليس مجرداً من كل حق فحسب، بل هو غير موجود أصلاً. والوجه الآخر أن فلسطين هي "أرض إسرائيل" وأن حدودها مرسومة في التوراة، وأنها أُعطيت إلى اليهود بمنحة إلهية وبصك إلهي.
لكن الأمر الذي لم تلحظه المنظمة هو أن هذا الانقلاب الإسرائيلي ناجم في الأساس عن التلهف الإسرائيلي والصهيوني العارم لتحقيق اختراق في المفاوضات - وخصوصاً بالنسبة إلى الصهيونية الأميركية - والانتقال من مسلسل الحروب الذي تتخلله فترات اللاسلم واللاحرب، إلى وضع ذي طبيعة سلمية، يمكّن من إيجاد قدر من الهدنة النفسانية التي يحتاج الإنسان الإسرائيلي إليها، وقدر من العلاقات، والقدرة على التجول والتحرك، وبالأخص على القيام بمحاولة لبناء اقتصاد غير تبعي، يوفر مستوى معيشياً يغني الإسرائيليين عن التفكير في النزوح إلى بلاد الازدهار والوفرة، ويوجد توازناً يمكن إسرائيل من تجنب الضغوط التي قد تتعرض لها في حال تراخي المصالح بينها وبين مصادر إعالتها في أميركا وأوروبا. إلا إن حاجة منظمة التحرير الفلسطينية إلى التفاوض كانت أكثر للأسباب التي سبق شرحها. لكن هناك سبباً إضافياً حان الآن وقت البحث فيه.
* * *
تدور في الأوساط الفلسطينية نظريات متعددة حول أسلوب التعامل مع القضية الفلسطينية، منها نظرية النضال العسكري المستمر، المعبَّر عنها بالشعار الذي رفعته منظمة "فتح" حين تأسيسها، وهو شعار "ثورة حتى النصر". ولو حاولنا أن نضع هذا الشعار في منطق عقلاني، فربما يمكن القول إنه مبني على تعبئة القوى العربية العسكرية لمعركة كبرى ينتصر فيها الجانب العربي، ويفرض شروطه لحل القضية. ويمكن القول إن حرب رمضان العظيمة سنة 1973 كانت تشكل اختباراً لهذه النظرية. ولا داعي إلى الخوض في تحليل أسباب تعثر تلك الحرب، فالمهم في الأمر أن مصر بصورة خاصة، عندما رأت حجم التدخل الأميركي في تلك الحرب، ولمست التصميم الأميركي على منع حدوث انتصار عسكري عربي، استنتجت أن مثل هذا الانتصار غير ممكن من الناحية الواقعية، مهما يكن الاستعداد والبذل. فالميزان العسكري ليس ميزان القوى بين الدول العربية وإسرائيل، بل هو ميزان القوى بين الدول العربية والقوى التي تقف خلف إسرائيل، أي أميركا وامتداداتها التحالفية. وقد تعزز هذا الاستنتاج بالنظرية التي قدمها المفكر محمد حسنين هيكل والقائلة باستحالة الحروب في عصرنا. وقد تكون هذه الحقيقة أحد التفاسير لتحرك إسرائيل للتصالح مع الدول العربية، لأن البديل من هذا التصالح هو "حرب تدمرنا جميعاً"، بحسب قول يتسحاق رابين.
في هذا الإطار جرت تجربة مفاوضات كامب ديفيد، والصلح المصري - الإسرائيلي المنفرد. ومن المؤكد أن هذه التجربة - مهما قيل فيها - قد تركت انطباعاً عميقاً جداً في الفكر السياسي الفلسطيني على المستوى القيادي، بحيث يمكن من وجهات عديدة وصف مفاوضات أوسلو بأنها الـ "كامب ديفيد" الفلسطينية.
وهناك نقطة مهمة لم يلتفت أحد إليها، وهي معنى الانتصار العسكري. ففي سنة 1973، اعتبرت مصر أنها انتصرت عسكرياً على إسرائيل. وبقطع النظر عن الجانب الإعلامي من المبارزة، فإن القائد العسكري المصري المشير أحمد إسماعيل قال إن مصر كانت هي الجانب المنتصر في تلك الحرب، وعرّف انتصار مصر بأنه خروج قواتها سليمة من المعركة، ومحافظتها بالتالي على قدرتها القتالية من دون أي نقصان. واعتُبر ذلك في حينه تعريفاً جديداً ومهماً للنصر في أوضاع معينة كأوضاع حرب رمضان سنة 1973. لكن كلاً من منظمة التحرير الفلسطينية وسورية لم تدرك أن نصراً عسكرياً نهائياً قد تحقق سنة 1982؛ نهائياً بمعنى أن إسرائيل قررت ألاّ تخوض حرباً عسكرية شاملة بعده، وبمعنى أن سورية استفاقت بسرعة على حقيقة ما وقع، واستطاعت إفشال محاولة الصلح المنفرد الذي حاولت إسرائيل فرضه على لبنان في أيار/مايو 1983، واستعادت وجودها العسكري الوقائي في لبنان، ولم تتدخل في حرب الاستنزاف التي تشنها المقاومة اللبنانية الإسلامية. وفي مفاوضاتها مع إسرائيل، لم تأبه للتهديدات الإسرائيلية؛ وبمعنى أن حزب الليكود الذي قاد إسرائيل في تلك الحرب أصابه تمزق كبير، وأن زعيمه مناحم بيغن انهار تماماً بعد أن اطلع على ما كانت مؤسسته العسكرية تخفيه عنه. أمّا بالنسبة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فإن الإغراق الإعلامي الذي صور انسحابها من لبنان بأنه هزيمة حال بينها وبين الإدراك الصحيح لما جرى.
وثمة نظرية ثانية تروج في الأوساط الفلسطينية، وكانت هي أيضاً ذات تأثير كبير في مجرى الأحداث على القناة الفلسطينية. هذه النظرية تذهب إلى القول إن التصور الاستراتيجي الفلسطيني لا بد له من أن يستفيد من الدروس والتجارب الصهيونية؛ فاليهود لم يطلبوا منذ البداية أن تكون فلسطين دولة يهودية، ولا طلبوا أن تصبح "فلسطين يهودية بقدر ما هي بريطانيا بريطانية." بل طلبوا وطناً قومياً لهم في فلسطين، وحكماً بريطانياً انتدابياً يشاركون فيه من خلال الحكومة الخفية اليهودية في فلسطين والمسماة "الوكالة اليهودية". ثم عندما أصبح لهم وجود سكاني، وموطئ قدم أرضي، بنوا قوة عسكرية، وطالبوا بدولة في فلسطين، أي تقسيم فلسطين بحيث تكون لهم دولة فيها. ثم حصلوا على قرار الأمم المتحدة بإنشاء هذه الدولة فأنشأوها، واستخدموا القوة العسكرية التي بنوها على الفور من أجل توسيعها. وفي إطار بناء الدولة، قاموا بعمليات أصبح يطلق عليها اليوم "التطهير العنصري"، وطردوا العرب من أراضيهم.
وتقول هذه النظرية إن الاستراتيجيا الفلسطينية لن تستطيع أن تبدأ من المطالبة بوضع يتلاءم مع الحقوق الفلسطينية التي لا ريب فيها، بالأرض وحق تقرير المصير والدولة، لأن القوى العالمية الكبرى تقف ضدهم. فما المانع إذاً من بداية من الصفر الذي بدأت الصهيونية العالمية منه، بهدف استعادة ما قد فقد في مراحل تتوافق مع الواقعين العالمي والعربي المتغيرين.
ونستطيع القول إن أوسلو - 1 هو ذلك الصفر. فمن حيث الصيغة هو بالنسبة إلى الفلسطينيين أقل مما كان وعد بلفور بالنسبة إلى اليهود، لأن وعد بلفور تحدث عن وطن قومي لليهود في فلسطين، أمّا اتفاق أوسلو - 1 فتحدث عن اعتراف متبادل بين دولة إسرائيل وبين منظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني، لكنه لم يتحدث حتى عن وطن قومي. وتعتقد المنظمة أنها بالتفاوض، وبإنشاء واقع جديد قابل للتطور ستصل إلى مرحلة إثارة الحق الوطني للشعب الفلسطيني في أرضه، وفي تقرير مصيره. وبالتالي فهي ستسعى للحصول على دولة فلسطينية في مفاوضات الوضع الدائم، ومن ثم، وبقدر ما تسمح الأوضاع، لإيجاد وضع تعددي في الدولتين اليهودية والفلسطينية، وتوسيع الصيغ الممكنة لاستعادة الحقوق الفلسطينية، وحل مشكلة الفلسطينيين على أرض فلسطينية. هذا هو المنطق الذي تتصرف ضمنه.
لكن هذه النظرية ليست مبنية على أسس مدروسة. والجانب الإسرائيلي غير غافل عنها، ولديه ردوده عليها. فهو أيضاً له حساباته ووسائله التي ترمي إلى تحجيم القدرة الفلسطينية ومحاصرتها بوسائل جديدة لا إطلاقها من قيودها وعقالها، وإلى استبعاد قيام دولة فلسطينية، أو، في حال قيامها، جعلها دولة مسلوبة من جميع مقومات التطور، تدور على نفسها في إحباط متصاعد.
وفي نهاية المطاف، فإنها نظرية لا أكثر. أمّا الحق الفلسطيني فهو حق. ولا يجوز إدخال هذا الحق في مزاد النظريات. ولم يسمع التاريخ عن شعب يقبل بأن يتنازل عن حق له تحت نظرية أن هذا التنازل هو وسيلته الوحيدة لاسترداد ذلك الحق.
وثمة وجه آخر لهذه النظرية يقول إن النصوص، ومن بينها وعد بلفور مثلاً، والوقائع التي تقوم على أساسها، ومن بينها دولة إسرائيل مثلاً، إنما تصل إلى غاياتها بفعل مدّ تاريخي يحملها ويكتسح كل ما يقف في طريقها. فإذا ما بلغ المدّ مداه وتراجع الماء الذي جاء به فستطفو الأرض التي طغى عليها من جديد. وتلك أقوال رومانسية و"وصفية" في أحسن الأحوال، ولا مكان لها في عالم الواقع. فالتاريخ ليس ظاهرة مناخية بل حاصل فعل الشعوب.
* * *
ومن بديهيات الأمور أن كل مفاوض يجب أن يعرف خصمه: ما هي إمكاناته، وقدراته، وحاجاته، وقيوده، وحدوده؟ ما هي الأشياء التي يريدها، والأشياء التي يريد تجنبها؟ ما هي الأوراق التي يعلنها والأوراق التي يخفيها؟ ما هي حقيقة القوة التي يتبجح بها، وفي المقابل حقيقة الضعف الذي يحاول أن يستره؟ ما هو أسلوبه في التفاوض؟ والحجج؟ والمؤثرات الإعلامية؟ التمثيل والمسرحة؟ التحرك من خلال طرف ثالث "صديق" أو غير "صديق"؟ التحركات الميدانية: عنف؟ تخويف بالطرد الجماعي (ترانسفير)؟ تلويح بأحداث وقعت في الماضي؟ اختراق أمني؟ اختراق سياسي؟ اختراق من خلال الضعف البشري؟ من خلال المصالح الخاصة؟ كيف يلعب مبارياته؟ بالتحرك المباشر؟ بالتمويه؟ بالخطوط المزدوجة أو المتعددة؟ كيف يتعامل مع الزمن المتاح للتفاوض؟ هل يبلغ؟ هل هو مستعد حقاً لانقطاع المفاوضات؟ ما حقيقة علاماته مع "مؤيديه" ومع "جمهوره الحقيقي"؟
لكن السؤالين الكبيرين من وراء هذه الأسئلة كلها هما: لماذا جاء إلى المفاوضات أصلاً؟ وما هو بديله منها؟ المفاوضون الفلسطينيون لم يسألوا أنفسهم أياً من هذه الأسئلة، وربما اعتبروها غير ذات موضوع أصلاً. والمهم في الأمر أننا لم نكن ندرك أن هذه المفاوضات إنما جاءت بناء على قرار صهيوني (أميركي) وبناء على حاجة إسرائيلية ملحة، وخوفاً من العواقب المخيفة التي بدأت تلوح في الأفق وتشعل الأزرار الحمر في غرف العمليات الصهيونية. ولئن ظنت القيادة الإسرائيلية أن لإسرائيل بدائل من المفاوضات ومن السلام، فلا شك في أن أميركا واللوبي الصهيوني فيها أفهماها بأن طريق البدائل قد أخذ يضيق، وأن طرفه المنظور مسدود تماماً.
والأسوأ من ذلك أن منظمة التحرير الفلسطينية ذهبت إلى المفاوضات كما لو أن هي التي طلبتها وسعت لها. وكان مسؤولوها كلما انتُقد موقفهم هذا يقولون: وما هو البديل؟
البديل هو "الصبر والمصابرة". وقديماً قال العرب، وحديثاً نسي العرب، إن "الشجاعة صبر ساعة". نقول ذلك لأن السؤال ما زال يُطرح كلما وجّه سؤال أو رفع انتقاد.
* * *
إذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية حين دخولها المنفرد إلى المفاوضات في أوسلو قد عزلت نفسها عن كل من الأردن وسورية، واختارت طريق التفاوض المنفرد مع إسرائيل، فإن اتفاق أوسلو يحمل في طياته إحكاماً لهذه العزلة وتعميقاً لها. ولئن كانت عزلة التفاوض قد أنجبت اتفاق اللاشيء، فإن اكتمال مخطط المرحلة الأُولى من عملية السلام مرسوم لإضعاف الموقف الفلسطيني في التفاوض من أجل المرحلة الثانية. إذ من الواضح أن التقسيم المرحلي الذي نص اتفاق أوسلو عليه مقصود منه في الدرجة الأُولى كسب الوقت الذي سيمضي في إطار المرحلة الأُولى من الحكم الذاتي، من أجل إتمام المفاوضات مع الدول العربية، حتى لا تدخل إسرائيل مفاوضات المرحلة الثانية إلا بعد اكتمال صلحها مع الدول العربية. وهي تقدّر أن هذا الصلح سيزيد في عزلة المفاوض الفلسطيني، ويضعف ما بقي من الموازين التي يرتكز عليها، ويسحب منه جميع أوراق اللعبة. فالصراع العربي - الإسرائيلي يكون قد انتهى، والسلام العادل يكون قد تحقق بالنسبة إلى الدول العربية باستعادتها الأراضي التي كانت قد فقدتها، والسلام الشامل يمكن الزعم أنه تحقق، بمعنى أن الجانب الأخير في التفاوض، وهو الجانب الفلسطيني، قد قبل الوضع الذي عرض عليه، وقبِل التحرك من ضمنه وفي إطاره. لقد كان واجب المفاوض الفلسطيني أن يتأخر في التفاوض ليصبح آخر الموقعين لا أولهم.
وبالإضافة إلى أن اكتمال المفاوضات مع الدول العربية سيعمق العزلة الفلسطينية في الإطار العربي، فإن الشكل الذي رسمته إسرائيل للمرحلة الانتقالية قد وضِع لخلق عزلة لمنظمة التحرير الفلسطينية في الإطار الفلسطيني، وذلك بإسقاط الأساس الذي تقوم المنظمة عليه.
* * *
ولا بد من كلمة مختصرة بشأن تصورات الطرف الفلسطيني لما قد تسفر مفاوضات "الوضع الدائم" عنه. وسنعالج تصورات الطرف الإسرائيلي في فقرة لاحقة.
من الواضح من قرار المجلس الوطني الفلسطيني المستند إلى شرعية تتمثل في قرار الأمم المتحدة رقم 181، أن منظمة التحرير الفلسطينية قد حددت هدفها بأنه إقامة دولة فلسطينية على التراب الفلسطيني، جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل اليهودية. ومن الواضح أيضاً أن المنظمة فهمت مبدأ السلام في مقابل الأرض بأنه يعني أن الأرض التي يحق لها أن تطالب بها للدولة الفلسطينية هي، في أفضل الأحوال، الأرض التي حددها قرار الأمم المتحدة رقم 181، وفي أسوأ الأحوال الأرض التي احتلتها إسرائيل سنة 1967، أي الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة، باعتبار ما ورد في القرار رقم 242 من عدم جواز احتلال الأراضي بالقوة. وبطبيعة الحال، فإن هنالك مسائل جوهرية كثيرة ستتفرع عما ستجري المطالبة به في سياق المفاوضات، تحت عناوين كثيرة. وإن الدرس المستفاد من مفاوضات إسرائيل مع كل من سورية والأردن يوضح أن لدى الإسرائيليين خيالاً لا حدود يستخدمونه في ابتداع العناوين والموضوعات والعراقيل والمصاعب، إلخ... بقصد تعظيم ما قد يستطيعون ابتزازه وتصغير ما قد يناله الطرف الآخر، ويتبع ذلك اعتباره منّة منهم، وتنازلاً.
وكما ستبتدع موضوعات، فإنها ستستبعد موضوعات غيرها، وهي تلك المتعلقة بما يعود إلى الشعب الفلسطيني، كشعب، من حقوق - جماعية وفردية - ناتجة من الاغتصاب الإسرائيلي المبني على تشريعات إسرائيلية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن كل ما كان في إمكان منظمة التحرير الفلسطينية أن تطالب به، بحكم كونها "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني"، سيستبعد تماماً إذا قبل الجانب الفلسطيني أن يستمد الوفد الفلسطيني المفاوض سلطته وشرعيته من مجلس منتخب، لا يحتوي تمثيلاً للفلسطينيين المشردين واللاجئين والمطرودين والملاحقين.
ومن المؤكد أن مفاوضات "الوضع الدائم" لا تستطيع أن تسفر عن وضع دائم لأسباب كثيرة، أولها أنها لن تخوض في صلب القضية الفلسطينية، وثانيها أنهال ن تتعامل مع مشكلات الفلسطينيين الموجودين خارج نطاق المنطقة المخصصة لهم، وثالثها أنهاب النسبة إلى الوضع الفلسطيني داخل "تراب فلسطين" لا تستطيع، في أفضل الأحوال، أكثر من نقلهم من "الرمضاء إلى النار" على الرغم من التأكيد بأن في مقدورها أن تنقلهم - بالعكس من ذلك - من "النار إلى الرمضاء". وعلى الرغم من إدراكنا أن تحديد التفاوض على أنه قيام دولة فلسطينية على تراب فلسطين يستند إلى قرار للمجلس الوطني الفلسطيني، وقد يتأكد لاحقاً بقرار من سلطة ينتخبها "فلسطينيون" يشكلون نصف الشعب الفلسطيني تقريباً، فإننا لا نرى سبباً يحول دون مناقشة الموضوع كله وإعادة النظر فيه من أساسه. فلقد مرت منذ صدور قرار المجلس الوطني الفلسطيني أعوام ملآنة بأحداث وتجارب ودروس، وتكشفت فيها أمور لم تكن واضحة، ومقاصد لم تكن معروفة، وخلقت فيها وقائع جديدة، وتغير أثناءها العالم كله، بما في ذلك موقع إسرائيل واليهود من ذلك العالم، ولم ينج خصمنا من المؤثرات التاريخية التي وصلت إليه أخيراً وأخذت تفعل فيه فعلها.
إن السؤال الذي نطرحه إذاً هو سؤال تحليلي، نحاول من خلاله أن نلقي ضوءاً على ما وصلت الأمور إليه في هذه اللحظة، وأن نستشف التيارات والمقاصد لما سيأتي بعدها. وهذا السؤال هو التالي: هل خيار الدولة الفلسطينية هو الخيار الأفضل للمفاوض الفلسطيني؟
إن النضال الفلسطيني قد تركز لفترة طويلة من الزمن على هدف واضح، هو رفض قيام دولة يهودية على أرض فلسطين - بعضها أو كلها. فالثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936، التي تجددت بعد تقرير اللجنة الملكية لفلسطين المنشور سنة 1937، إنما تجددت لمنع التقسيم الذي أوصت تلك اللجنة به ونجحت في استبعاده، وأجبرت الحكومة البريطانية المنتدبة على إرسال لجنة أُخرى (لجنة وودهيد) أوصت بإبقاء فلسطين موحدة، ومهدت الطريق للكتاب الأبيض لسنة 1939.
وعندما أوصت لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين (UNSCOP) سنة 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية، رفضت القيادة الفلسطينية ذلك القرار وأشعلت ثورة فلسطينية لإفشاله. ولم تحذ القيادة الفلسطينية حذو القيادة اليهودية بإعلان دولة فلسطينية في مقابل الدولة اليهودية التي سُميت إسرائيل. وعندما استقر الأمر على هزائم سنة 1948 المعروفة، أعلنت القيادة الفلسطينية قيام حكومة فلسطينية في المنفى سمتها "حكومة عموم فلسطين". وعندما اندلعت الثورة الفلسطينية التي أشعلتها المنظمات الفلسطينية - وخصوصاً بعد كارثة سنة 1967 - أُطلق مشروع الدولة الديمقراطية الموحدة لفلسطين هدفاً تعمل الثورة لبلوغه.
لقد برزت فكرة دولة التقسيم الفلسطينية إلى الوجود أول مرة بوصفها ضرورية لإمكان تنفيذ القرار رقم 242؛ فقد اعتبر العرب أن القرار يطالب إسرائيل بالانسحاب من جميع الأراضي التي احتلتها سنة 1967 - وذلك على الرغم من الخلاف المشهور بشأن ما إذا كان النص يتحدث عن الأراضي أو عن أراضٍ. ولم يدر في خلد أحد أن يتساءل - حين صدور هذا القرار - عما إذا كان ينطبق على الضفة الغربية، لأنها كانت آنذاك تابعة للأردن، وكانت بالتالي تابعة لدولة كشأن سيناء والجولان. لكن ظهور منظمة التحرير الفلسطينية والمنظمات والميليشيات الفلسطينية أوجد إرادة، أو إرادات فلسطينية لم تكن موجودة في أثناء اندماج الضفة الغربية في الأردن، وأصبح لهذه الإرادات تطلعاتها. ولم تستطع القيادة الأردنية أن تجمعها تحت لواء أردني لأسباب ليس هذا مجال البحث فيها. ومن هنا أخذت منظمة التحرير الفلسطينية توحي بأن فراغاً سينشأ في حال انسحاب إسرائيل من أراضي الضفة، وأنها هي صاحبة الحق في ملء هذا الفراغ. وعندما وقعت المجابهة بين الأردن والمنظمة سنة 1970، أخذ الرأي الفلسطيني يتبلور حول هذه النقطة. وبذلك نشأت فكرة الدولة الفلسطينية، لا كخيار لكن كضرورة ستنشأ في إطار تنفيذ القرار رقم 242. وبعد ذلك جاء قرار قمة الرباط لسنة 1974 باعتبار المنظمة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وفي ظن المنظمة أن ذلك يعني أنها صاحبة الحق الأوحد في ملء فراغ مفترض سينشأ عن انسحاب إسرائيلي مفترض من الضفة الغربية.
وإذ اعتقدت منظمة التحرير الفلسطينية أن الأمور ستسير على هذا النحو، وأنها ستجد نفسها وقد أصبحت دولة ذات أرض "محررة"، على حد المصطلح المستعمل آنذاك، وأن هذه الدولة التي ستنشأ عفواً ومن دون إرادتها لا تشكل خروجاً على الموقف الفلسطيني برفض تقسيم فلسطين، فإن ذلك يدل على رومانسية ساذجة. لكن واقع الحال أن المنظمة، ككل تنظيم نضالي، أصبح لها مصلحة ذاتية وتطلعات، وأخذت تتجه بالتدريج إلى المطابقة ما بين هذه المصلحة وبين مصلحة القضية التي نشأت من أجلها. وانتقلت التبريرات رويداً رويداً إلى منطق سياسة الواقع.
لكن المنظمة لم تنتبه إلى أن إسرائيل سبقتها إلى ملء الفراغ المفترض بضم القدس، واستملاك الأراضي، وبناء المستوطنات، وبفرض قانون المحتل على الضفة وقطاع غزة من دون أن تكترث لمعاهدة جنيف، وبادعاء أن أرض الضفة، التي تسميها يهودا والسامرة، هي أرض إسرائيلية، داخلة في القوشان التوراتي، وبأن ليس هناك دولة تطالب بها بعد أن تخلى الأردن عن تلك المطالبة. ولم يوقفها عن إعلان ضمها إلى إسرائيل، كما فعلت بالنسبة إلى القدس، سوى الوجود السكاني الفلسطيني الكثيف فيها، حيث يزيد عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما فيها القدس في الوقت الحاضر، عن 1,3 مليون نسمة، فإذا ضمت الأرض إلى إسرائيل أصبح هؤلاء الفلسطينيين مواطنين إسرائيليين حكماً. وينطبق القول نفسه على قطاع غزة، الذي كان إغراء ضمه أقل في أية حال، لأن الاشتهاء اليهودي في الضم يتجه دوماً إلى الأرض، وقطاع غزة لا تزيد مساحته عن 365 كلم2 يقيم فيها مليون فلسطيني. ومع ذلك، فحتى قطاع غزة أُخضع لإجراءات الادعاء نفسها، بما فيها مصادرة الأراضي، وإقامة المستوطنات، وفرض قانون المحتل.
ولئن توقفت إسرائيل عن ضم الضفة والقطاع إليها، فإنها لم تتوقف عن محاولة الاستيلاء على كامل أراضيهما، من دون السكان، والتفتيش عن صيغة لهذه العملية. وعلى ذلك، فإن الفراغ النظري الذي تصورته المنظمة أصبح وهماً تماماً، وقد وصلت الآن إلى نقطة التفاوض لانتزاع شيء ما من هذا الوضع المعقد والمتداخل.
إن إسرائيل تسعى حالياً لتوحيد فلسطين تحت رايتها ولمصلحة اليهود وحدهم. لكنها اعترفت بوجود الشعب الفلسطيني، وبأن منظمة التحرير الفلسطينية تصلح لأن تمثله في مفاوضات معها. ونحن نخشى صراحة أنه في حال قيام سلطة حكم ذاتي منتخبة، فمن الجائز أن تعتبر إسرائيل ذلك إيذاناً بانتهاء اعترافها بمنظمة التحرير، الذي شكل بصورة غير مباشرة اعترافاً بالشعب الفلسطيني ذاته، وأن تهيئ بذلك طريق العودة إلى حكم ذاتي تقيمه هي بالتشريع، على غرار ما كانت تفعل منذ سنة 1967.
ثم إن على منظمة التحرير الفلسطينية، التي لا تزال، ويجب أن تبقى بعد قيام المجلس المنتخب، الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، أن تفكر فيما إذا كان قيام "دولة على التراب الفلسطيني" هو أفضل الخيارات، بل هل هو خيار مطروح أصلاً. عليها أن تتخذ قراراً في هذا الأمر عندما تطلعها إسرائيل على مشاريعها بشأن أراضي التراب الفلسطيني.
* * *
المهم بالنسبة إلى الوقت الحاضر هو أن "عملية السلام"، و"مفاوضات سلام"، و"اتفاقات سلام" قد لا تؤدي إلى السلام المنشود.
ومن حق الشعب الفلسطيني أن يعرف ما يجري، وأن يساهم فيما يجري. وفي اعتقادنا، إن الأمور تبدأ من هنا. وإن اعترافاً بمنظمة التحرير - على علاته - يجب ألاّ يسقط في خضم إنشاء مؤسسات ومناصب؛ فالمنظمة هي أهم ضرورة للشعب الفلسطيني. لا غنى عنها ما بقي هذا الشعب مبعداً عن الوطن ومساقط الرأس. ولن يكون للقضية مكان إن لم يكن الشعب صاحبها، وصاحب المكانة السيدة المحترمة فيها. لا يجوز أبداً، إطلاقاً، الاستمرار في تجاهل الشعب.
إن قرار إعلان دولة فلسطين لا يعني أية دولة بأي حجم وبأية خطوط جغرافية. والقدس الشرقية مطلب لا مجال لتراجع عنه أو لتنازل بشأنه، ولا بديل من القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية. ولا يكفي القول إن القيادة الفلسطينية تعي هذه الأمور. والمسألة ليست مسألة ثقة الشعب بالقيادة، بل مسألة ثقة القيادة بالشعب. وكيف يمكن دخول مرحلة ديمقراطية، إذا تجاوزت القرارات الإطار الديمقراطي قبل أن تولد.
لا بد لنا عند هذه النقطة من التعرف إلى مواقف الفلسطينيين الموجودين على أرض فلسطين من اتفاق أوسلو، والأحداث التي تمخض عنها. إننا نستطيع أن نجمل هذه المواقف في ثلاثة تيارات أو في ثلاث مدارس فكرية وسياسية:
فالتيار الأول يرى أن اتفاق أوسلو أتاح الفرصة لالتقاط الأنفاس، بعدما ساءت أحوال الحياة نتيجة القمع الإسرائيلي واللامميز الذي جاء نتيجة للانتفاضة، كطبقة هوجاء من فوق طبقات الكبت والقمع التي مارستها إسرائيل في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967. وليس لدى هذه الشريحة من الشعب الفلسطيني أية آمال عريضة، وموقفها بصورة عامة موقف ترقب، وإرجاء لإصدار الحكم، مع ميل واضح إلى إعطاء التجربة فرصة كافية. وتتألف أغلبية هذه الشريحة عموماً من الفلسطينيين الذين ظلوا في مواقعهم في كل من غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس. ومن الجائز أن يكون هنالك تحفظات لدى جيل الشباب منهم، لكن القاعدة العريضة ذات التوجه الإيجابي من اتفاق أوسلو تأتي من هؤلاء الذين لم يُقتلعوا من مواطنهم.
أمّا الشريحة الثانية، فتتألف في أغلبيتها من سكان المخيمات في كل من قطاع غزة والضفة الغربية. وهؤلاء يختلفون عن الشريحة الأُولى في أن تطلعاتهم تتوق إلى العودة إلى مساقط رؤوسهم في إسرائيل. وهم يرون أن "عملية السلام" في شكلها الراهن ليس لديها ما تقدمه إليهم. ومن هذه الشريحة يتألف المنتسبون إلى المنظمات الداعية إلى مناهضة عملية السلام بأسرها، وفي مقدمها "حماس"، و"الجهاد الإسلامي"، ومن بينها "صقور فتح" والجبهة الشعبية، والجبهة الشعبية الديمقراطية. والمهم في موقف هذه الشريحة أنها حريصة على ألاّ تتجه مناهضتها لعملية السلام إلى مجابهة مع منظمة التحرير الفلسطينية وأجهزتها، لئلا تتحول هذه المجابهة إلى ما يشبه حرباً أهلية تكون إسرائيل المستفيد الأوحد منها.
أمّا الشريحة المؤلفة من فلسطينيي سنة 1948، الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، فإن لهم موقعاً متميزاً ومحاطاً بمختلف الإمكانات والاحتمالات. وعلى نحو إجمالي، بقي هؤلاء الفلسطينيون في إسرائيل محيدين سياسياً وأمنياً، وليس لديهم تنظيمات سياسية. ويُعتبرون في إسرائيل مواطنين من درجة أدنى، وثمة قيود بشأن فرص التعليم المتاحة لهم في المدارس وفي الجامعات الإسرائيلية.
إن التجربة التي عاناها هؤلاء الفلسطينيون بالمعايشة اليومية مع يهود إسرائيل جعلتهم أكثر شفافية. فهم على سبيل المثال أعطوا الأدب الوطني الفلسطيني أفضل تعابيره؛ منهم الشعراء الكبار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، ومنهم الكاتب الروائي إميل حبيبي. وبينهم أعضاء في الكنيست الإسرائيلي، لكن أحاديثهم السياسية تجري بصوت خافت؛ إذ إنهم شاهدوا حملة التطهير العرقي التي قامت إسرائيل بها في أثناء حرب سنة 1948، وشاهدوا كيف أن جنسيتهم الإسرائيلية لم تمنع وقوع حادث كمجزرة كفر قاسم سنة 1956. كما أنهم شاهدوا كيف أن إسرائيل نجحت سنة 1967 في إعادة توحيد فلسطين، بعد ما كانت قد قسمت بعد سنة 1948 إلى ثلاث شرائح. ولئن نظروا إلى هذا الواقع بالغصة والألم لأنه توحيد جاء نتيجة انتصار إسرائيل على العرب، ولأنه سُخِّر أيضاً لاغتصاب حقوق وموارد عربية، فإنه أتاح لهم الفرصة للخروج من العزلة المجتمعية والنفسانية، والتفاعل مع عرب الضفة وغزة. وتوحي الحاسة التاريخية إليهم بأن بقاء التوحيد أمر إيجابي في حد ذاته، وأن التطور نحو حل للقضية الفلسطينية يفضَّل أن يأتي من خلال توحيد فلسطين لا بالعودة إلى تقسيمها.
إن الشعب الفلسطيني بأسره يتوزع بين هذه التيارات الثلاثة، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ذاتها. لكن لكل تجمع فلسطيني مشكلات حياتية ويومية تضيف عنصراً ما إلى جانب موقفه من أي من هذه التيارات.
* * *
لو أردنا أن نوجز الحصيلة العملية لأوسلو - 1 بالنسبة إلى الفلسطينيين لوجدناها زهيدة جداً. فالآمال المعقودة على نشاط تنموي أو تجاري أو اقتصادي تبخرت بسرعة، بعد أن اكتشف المستثمرون أن العمل الاقتصادي بأسره ما زال محكوماً بالقوانين الإسرائيلية، ليس فقط لجهة الاستيراد والتصدير والرسوم والضرائب والتكاليف الرأسية، بل أيضاً لجهة الترخيص بالمشاريع. وعندما تدافع المستثمرون - من محليين، وفلسطينيين في الخارج، وعرب، وأجانب - بطلباتهم لإقامة مشاريع، اكتشفوا أن صلاحية سلطة الحكم الذاتي لا تزيد عن التحويل البريدي إلى الجهات الإسرائيلية المختصة، وأن الوضع بالنسبة إلى السلطة الإسرائيلية، صاحبة السلطة الحقيقية، باق على حاله تقريباً. والأمر لم يعدُ إقامة بوابة بيروقراطية وسيطة.
إلا إن قطاعين اقتصاديين شهدا بعض النشاط، أولهما قطاع المباني، وهو على غاية الأهمية بالنسبة إلى الأهالي الفلسطينيين، لأنهم كانوا ممنوعين تقريباً من إقامة المباني بقصد تضييق سيل الحياة عليهم ودفعهم إلى الرحيل. أمّا النشاط الآخر فهو قطاع المنشآت السياحية. ورافق هذين النشاطين، كما هو متوقع، نشاط طفيلي من المضاربة بالأراضي العقارية. واستمرت إجراءات التضييق على تحركات العمال، والحصار الكلي أو الجزئي عقب الحوادث الأمنية.
* * *
ما الذي تريده إسرائيل من "عملية السلام"؟
قد يمكن القول إن "عملية السلام" التي ابتدأت سنة 1991، انطلقت عندما أشعرت أميركا إسرائيل بأن تحقيق "إسرائيل الكبرى" لم يعد هدفاً واقعياً. ولئن جاء هذا الإشعار على لسان وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر سنة 1989، فإنه كان في الواقع النتيجة الحتمية - والمتأخرة - للأداء الإسرائيلي العسكري المتردي في أثناء اجتياح لبنان سنة 1982؛ فلقد ظهر جلياً نتيجة تلك الحرب، أن الميزان العسكري الحقيقي والمباشر بين إسرائيل والعرب - من دون تدخل طرف ثالث - لم يعد لمصلحة إسرائيل. وبما أن حلم إسرائيل الكبرى لا يمكن تحقيقه من دون يتفوق عسكري ساحق لإسرائيل على الدول العربية مجتمعة، فقد وجب عليها أن تعيد تعريف أهدافها. وقد استقر الرأي في إسرائيل على ترسيم جديد للحدود، هو فلسطين الانتدابية، من دون استبعاد أية زيادة يمكن اقتطاعها أو ابتزازها عملية المفاوضات، ولا سيما فيما يتعلق بالجولان. إذ إن الرومانسية اليهودية التي تجسدت في مذكرة المنظمة الصهيونية العالمية إلى مؤتمر فرساي سنة 1919، والتي رسمت حدود "الوطن القومي اليهودي"، ربطت بين الأرض والمياه، ووصفت جبل الشيخ بأنه أبو المياه. وظلت العيون اليهودية ترنو إليه حتى قيام إسرائيل باحتلال الجولان سنة 1967. وبالتالي، فقد كان للجولان أهمية خاصة في مفاوضات السلام مع سورية.
غير أنه كان وراء السعي الصهيوني للسلام أسباب أُخرى كثيرة ومهمة، منها التحول الطبيعي في تطلعات الأجيال الجديدة الإسرائيلية، من رومانسية الرؤيا، إلى أشواق الحياة الاستهلاكية، وعزوفهم بالتالي عن الإسبارطية العسكرية، وتوجههم إلى احتذاء البلاد الاستهلاكية، بل التوجه إليها والعيش فيها. ومنها عزوف اليهود عن الهجرة الدائمة إلى إسرائيل، وتفضيلهم البقاء في بلادهم التي يعيشون فيها، بعد أن زالت أسباب الاضطهاد الذي كانوا يعانونه. وحتى التجمع اليهودي الكبير في الاتحاد السوفياتي لم يتحرك بالحجم المفترض عند انهيار الاتحاد السوفياتي، على الرغم من إزالة جميع القيود والعراقيل من أمام تحركه. وعندما جاء يهود الاتحاد السوفياتي إلى إسرائيل خلّفوا مشكلات أتعبت الدولة وأظهرت لها وللصهيونية الأميركية أن قدرة إسرائيل على استيعاب المهاجرين قد وصلت حدّ الإشباع. ومنها أن إسرائيل لم تنجح في بناء اقتصاد متوازن، وظلت معتمدة على المعونات الأجنبية. ولا داعي للخوض في أسباب هذا الفشل، لكن تكفي الإشارة إلى أن إسرائيل مضطرة إلى المحافظة على مستوى عال من الأجور، لتجنب ما يُسمى الهجرة المعاكسة أو نزوح سكانها إلى الخارج، لكن الأجور العالية تقلل من قدرتها على المنافسة. ومن الواضح أن الهجرة المعاكسة هذه أخذت حجماً خطراً يفوق كل ما تتحدث الأرقام المعلنة عنه، ويتضح بصورة خاصة في هبوط مستوى القوات المسلحة عدداً ونوعاً. فالمهاجرون من إسرائيل هم الشباب، وقد أدى نزوحهم إلى خلل في التركيبة العمرية وفي النسبة بين الإنتاج والتكاليف الاجتماعية. ويبدو واضحاً من التسرع الذي تبديه إسرائيل في التحرك الاقتصادي - المسرحي - ولو قبل اكتمال عملية السلام، أن الوعد الاقتصادي ضروري لتثبيت السكان وتخفيف نزوحهم.
وكان للمتغيرات العالمية دورها أيضاً. فإسرائيل كانت خلال الحرب الباردة راية ملائمة ترفعها أميركا لحماية مصالحها النفطية وللتحكم بقناة السويس، خوفاً من أنها إذا قامت بالعملية بقدراتها الخاصة فقد يؤدي ذلك إلى احتكاك خطر مع الاتحاد السوفياتي. لكن الحرب الأميركية، المسماة "عاصفة الصحراء"، أظهرت أن أميركا أصبحت تفضل أن تخوض حروبها بنفسها، وتفضل أن تبعد إسرائيل عنها.
ولقد أفرزت التطورات العالمية تبايناً ما بين مصالح أميركية ومصالح إسرائيلية، ولا يطفو من هذا التباين سوى بعض المؤشرات. مثلاً، إن حادث الجاسوس بولارد وزوجته، الذي تم بواسطة نقل أسرار تقانية أميركية حساسة إلى الصين، جرى بإجازة موقعة من رئيس حكومة إسرائيل يتسحاق شمير ونائبه شمعون بيرس. وقد ذهبت عبثاً جميع محاولات إسرائيل للتهوين من شأن هذا الحادث، ولم يصدر عفو عن بولارد. ثم جاء بعده - ومؤخراً - تسليم إسرائيل جميع المعلومات التقانية الخاصة بطائرة "لافي"، التي كانت تطورها بتمويل أميركي انطلاقاً من طائرة "أف - 16"، إلى الصين، بإجازة إسرائيلية على أعلى المستويات. ومثل هذه الحوادث محير للغاية. فإذا أقدمت إسرائيل عليها من أجل "الثمن" الذي قبضته في المقابل، فمعنى ذلك أنها في حاجة يائسة إلى المال. وإذا كان الأمر بناء علاقات مع الصين، فمعنى ذلك أن تفضيل إسرائيل السياسي قد انتقل من أميركا إلى الصين. أترى جاء ذلك لأن أميركا خفضت درجة اهتمامها بإسرائيل، أم لأن إسرائيل تتوقع للصين دوراً نشيطاً في غرب آسيا، وتحاول أن تجعل لها حصة فيه. وهناك طبعاً افتراضات أُخرى لا داعي للخوض فيها.
لكن للمسألة وجهاً آخر غير وجه علاقة إسرائيل بأميركا وبالصين، وقد يكون حتى أهم من تلك العلاقة، وهو علاقة الصهيونية الإسرائيلية بالصهيونية الأميركية، وعلاقة الصهيونية الأميركية بالمؤسسات السياسية الأميركية - ليس فقط مجلس الشيوخ الذي تستطيع إسرائيل أن تحصل فيه على 98 صوتاً، أو مجلس النواب، وإنما أيضاً الأجهزة المستورة التي تسيّر السياسة الأميركية والحياة الأميركية - البنتاغون، وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، مجلس الأمن القومي، شركات الإنتاج الحربي، شركات التقانة العالية، الشركات الأممية الكبرى، إلخ.. ثمة مؤشرات على أن شروخاً عميقة بدأت تتبدى، ومؤشرات أُخرى تدل على أن أميركا التي تمارس سياسة الفرض كقسم من النظام العالمي الجديد، بدأت ممارسة هذه السياسة تجاه إسرائيل نفسها. وهي في غير حاجة إلى عناء كبير في ذلك، لأن إسرائيل معتمدة على أميركا اعتماداً كلياً، ولأن لأميركا وإسرائيل اختراقات أمنية كبرى - كل واحدة منهما لدى الأُخرى. وهذه الاختراقات كانت تُعتبر فيما مضى من باب التحالف وتطابق المصالح، لكن من الجائز أن يكون قد طرأ بشأنها تغير ما.
ونعود الآن إلى التساؤل الذي طرحناه وهو: هل هنالك تباين في الرأي بين الصهيونية الأميركية وإسرائيل؟ وإنْ وجِد، فماذا يمكن أن تكون موضوعاته، وماذا يمكن أن يكون مداه وتأثيره؟
بدايةً، نقول إن الصهيونية الأميركية وإسرائيل وجهان لشيء واحد. ولقد نجحت الصهيونية الأميركية إلى حد بعيد في تجنب أية عواقب محتملة لازدواج ولاء يهودي بين أميركا وإسرائيل. فسمح لليهودي الأميركي بأن يعمل في القوات المسلحة الإسرائيلية مثلاً، وهو ما جعل يهود أميركا احتياطاً استراتيجياً مستوراً لإسرائيل، فضلاً عن السماح لهم بازدواج الجنسية. وقد جاء هذا الترتيب في إبان الحرب الباردة، يوم كانت أميركا تعتبر إسرائيل وقواتها المسلحة خطاً أمامياً لها.
لكن يبدو الآن كما لو أن نظرة الصهيونية الأميركية ونظرة إسرائيل إلى "عملية السلام" غير متطابقتين، وهذا أمر طبيعي، نظراً إلى أن زاويتي الرؤية مختلفتان. إلا إن التلهف الصهيوني الأميركي على السلام قد يخفي في طياته، إلى جانب الخوف الطبيعي على مستقبل إسرائيل في حال اختلال ميزان القوى بينها وبين الدول العربية، قلقاً من ناحيتين: أُولاهما التناقص المحتمل في الموارد التي قد تتيحها أميركا لإسرائيل، ولا سيما في إطار السعي الأميركي لموازنة الميزانية وللتخلي عموماً عن سياسة المساعدات التي ابتدعت كذراع سياسية في أثناء الحرب الباردة، وكذلك في إطار تناقص الحاجة إلى قوة إسرائيلية عسكرية. ويمكن التساؤل: هل تعب يهود أميركا من العمل الدائب على توفير الموارد لإسرائيل؟ وهل بدأت إسرائيل ممارسة سياسة "ابتزاز" تجاههم وتجاه أميركا، تتمثل في التجسس التقاني وبين الأسرار التقانية إلى الغير، كالصين مثلاً؟ أم هل بدأت إثارة وساوس وشكوك في أميركا تجاه "اليهود"، أملاً بخلق موجة مكارثية ضدهم مثلاً، تدفع جانباً منهم إلى الهجرة، ربما إلى إسرائيل، بعد أن أصبحت أميركا المستودع السكاني الأخير للوجود اليهودي، في إثر انكشاف غطاء التجمع اليهودي في روسيا واكتشاف ضآلته؟
لا شك في أن الصهيونية الأميركية قلقة من هذه الناحية، وهي توضح للصهيونية الإسرائيلية بشتى الطرق دوماً أن يهود أميركا يملكون كامل الحرية للهجرة إلى إسرائيل، لكن هجرة من بينهم إلى إسرائيل يجب أن تتم طوعاً لا قسراً، لأن يهود أميركا لا يريدون مغادرتها، أو اختلاق أسباب لدفعهم إلى مغادرتها. وفي المقابل، هل يمكن أن نتوقع حدوث "تعاون أمني" بين الصهيونية الأميركية ومكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) ووكالة الاستخبارات المركزية، على غرار "التعاون الأمني" بين سلطة الأمن الذاتي الفلسطينية وإسرائيل؟
باختصار، هل يمكن القول إن الأمور بين الصهيونية الإسرائيلية و الصهيونية الأميركية ربما تكون سائرة في المنحنى المماثل لذلك الذي شهدناه في علاقة عرب فلسطين بسائر العرب، والتي تغيرت من تأييد غير مشروط إلى توتر ملحوظ، أصاب الفلسطينيين شعباً وقضية إصابة كبرى؟ وهل يمكن القول أيضاً إن العلاقة بين إسرائيل وأميركا سائرة في المنحنى ذاته الذي شهدناه بين منظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية؟
إن كان شيء من هذا يجري الآن، كما تدل مؤشرات كثيرة، فإن معنى ذلك أن إسرائيل ستواجه قريباً العزلة ذاتها التي يواجهها الشعب الفلسطيني ومنظماته السياسية. وهذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى المنظور السياسي.
* * *
وهنالك نقطة أُخرى في "تركيبة" إسرائيل لا بد من أن يكون لعملية السلام تأثير فيها، وهي التعددية اليهودية، التي تتجاوز حدّ التجانس أحياناً كثيرة، بل ربما تبلغ حد التنافر حتى في كثير من الأمور الخطرة. ولقد قيل الكثير بشأن هذه المسألة فيما مضى، وبدا أن التقديرات التي قدمت بشأن أهميتها قد تجاوزها الواقع. فإسرائيل بيهودها الشرقيين أو السافرديين، من عراقيين ويمنيين ومغاربة، وعرب آخرين، وغير عرب، وبيهودها الغربيين أو الأشكناز، من روس وبولنديين وألمان، استطاعت أن تنشئ مجتمعاً متماسكاً منطوياً تحت دولة دينامية. فلو لم يتماسك هذا الجمع في الحروب والأزمات التي واجهته، لكانت دولة إسرائيل قد انهارت من زمن. إذاً، يمكن القول إن إسرائيل بتاريخها الذي لا يبلغ نصف قرن قد أسقطت نظرية كانت تقول إن اليهود شعوب لا شعب واحد، وثقافات لا ثقافة وحدة. لكن ثمة نظرية أُخرى تقول إن "وحدة" الجمع اليهودي اجتازت امتحان الحرب والأزمات والانغلاق، ولم تدخل بعدُ في امتحان السلم والأمان والانفتاح. بل إن هذه النظرية تذهب إلى الزعم القائل إن قيادة إسرائيل كانت تبعد "شبح" السلام كلما لاح في الأفق، وتجهضه بحرب، أو بإثارة جو من التهديد بالحرب، وإنها كانت تفتعل في إعلامها أساطير من شأنها أن تضخم الأخطار والعواقب التي تتعرض إسرائيل لها، كأن تنسب إلى زعماء فلسطينيين تصريحات تزعم أنهم سيلقون اليهود في البحر. ولا بد لأية مبالغة، ولأي تماد في خط معين، ولأي تكرار للمزاعم ذاتها، من أن تأتي - بعد نقطة معينة - بمردود معاكس. وهكذا، فإن هذا التضخيم جعل الكثيرين من اليهود يفضلون الحياة بعيداً عن الحروب والأخطار والخوف والتهديد، ونشأت في مقابل "التوحيد" عملية "تفريغ" لو مضت إلى نهايتها لأذابت إسرائيل بدلاً من أن توحدها، وتسمى هذه العملية في المصطلح الإسرائيلي "الهجرة المعاكسة". فنشأت حاجة مقابلة إلى "السلام" لوقف هذه العملية التفريغية.
إن التركيبة اليهودية في إسرائيل تركيبة هرمية - اجتماعياً وسياسياً. فالأشكناز هم مواطنو الدرجة الأُولى، وهم المؤسسة. ورؤساء الحكومات والقيادات العسكرية والأمنية، وأصحاب المناصب في الداخل والخارج، وأصحاب وسائل الإعلام والأساتذة والمفكرون، وما شئت، وحتى النظام الديمقراطي مبني على أساس إبقاء سيطرتهم على جميع المسالك والمناصب.
وأخيراً، فإن أهم امتحان يواجه المجتمع اليهودي في إسرائيل هو امتحان الاستقرار على الأرض. وتلك مشكلة لم تكن قائمة في مرحلة تكوين إسرائيل. فاليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل كانوا جموعاً اقتُلعت من منابتها نتيجة الاضطهاد، فهاجرت طلباً للأمان. وربما اعتقد معظم هؤلاء أن الأمان المطلوب موجود في أميركا، لكن النظام الأميركي للهجرة حال دون استقبالهم، وظهرت الأيديولوجيا الصهيونية لتحول اتجاههم إلى فلسطين. وعندما نضبت الهجرة إلى إسرائيل، ضغطت الصهيونية على أميركا لتعيد نظام الكوتا حتى تستطيع استدراج اليهود السوفيات إلى فلسطين بدلاً من أن يهاجروا إلى أميركا. وربما كان عزوف اليهود الأشكناز الروس عن المجيء إلى إسرائيل، على الرغم من الجهود والمغريات الهائلة التي بذلت لاستدراجهم، القشة الأخيرة التي قصمت الحلم الصهيوني بتجميع يهود العالم في دولة واحدة.
* * *
إن المفاوضات الثنائية التي أجرتها سورية مع إسرائيل تدار على أعلى مستوى من الكفاءة. وقد أدخلت سورية فيها كل عناصر تجربتها مع إسرائيل. وسورية فهمت أن إسرائيل في موقف ضعف عسكري، تكشَّف في حملتها لاجتياح لبنان؛ إذ إن إسرائيل دفعت إلى المعركة معظم قواتها النظامية البرية والخاصة، والجوية وقد خلا لها الجو، وبكامل القوة البحرية وقد خلا لها البحر. وكانت القوات الإسرائيلية قد أُنهكت في أثناء تقدمها في الأراضي اللبنانية ولحقت بها خسائر جسيمة، خفضت كثيراً من عنفوانها الهجومي، وأصابت معنوياتها. وقام الفلسطينيون واللبنانيون بهجمات فاتكة على الخطوط الإسرائيلية الخلفية، كان أروعها محصولاً وأعظمها أثراً في معنويات القوات الإسرائيلية، وقادة إسرائيل العسكريين والسياسيين، ذلك الهجوم البطولي الذي قامت به مجموعة صغيرة من الشبان الفلسطينيين تتألف من خمسة أفراد على مقر القيادة الميدانية للقوات الإسرائيلية في الدامور. وفي هذه العملية، قام أربع من الشبان بتغطية الهجوم الفردي الذي مكّن قائد المجموعة الشهيد البطل كمال الحسن - من مخيم شاتيلا - من اقتحام مقر القيادة في أثناء اجتماع القائد العام الميداني يكوتئيل أدام مع أركان حربه البالغ عددهم سبعة عشر من كبار الضباط، وفاجأهم في غرفة العمليات وقد نشروا خريطة كبيرة وأخذوا يتدارسون عملياتهم عليها، ولم يستطيعوا في غمار الذهول الذي أصابهم بفعل المفاجأة أن يبدوا أية مقاومة، فقتلهم جميعاً - إلا ضابطاً واحداً نجا لأنه ارتمى بين أجساد رفاقه الممزقة. وفي الاشتباك الذي وقع مع حرس القيادة، بعد خروج كمال الحسن من غرفة العمليات، استشهد هو ورفاقه. وهذه العملية النادرة في بسالتها وفي حصيلتها، هي بل شك إحدى أعظم عمليات البطولة والفداء. وقد استماتت إسرائيل - في محاولتها تغطية الأثر المعنوي المدمر لهذه العملية على قواتها - لتنال رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بالقتل، لكنها فشلت. وقامت بدلاً من ذلك، وبعد انتهاء المعركة، وعلى الرغم من التعهدات التي أعطتها، باحتلال بيروت، وصبرا وشاتيلا لتحصل فيهما المجازر المعروفة.
واستطاعت سورية أن تسقط الثمرة الوحيدة التي حصلت إسرائيل عليها من الكارثة العسكرية التي أحاقت بها في حرب سنة 1982، وهي اتفاق الصلح بين لبنان وإسرائيل الموقع في أيار/مايو 1983. وعندما تشبثت إسرائيل بـ "حزام أمني" في الجنوب اللبناني، فإنها أشعلت نضالاً لبنانياً لم يلبث حزب الله أن تزعمه، ودفعت - وما زالت تدفع - من الثمن أضعاف ما تجنبه من الفائدة. وفي النهاية، أخذ حزب الله يوقت هجماته على الحزام بصورة تدعم الموقف التفاوضي السوري، وانقلب الاحتلال على المحتل، مادياً ومعنوياً.
* * *
إذا اعتبرنا أن توقيع اتفاق سلام بين سورية (ولبنان) وإسرائيل، سيمثل الحلقة الحاسمة، وربما النهائية، في إطفاء الصراع العربي - الإسرائيلي، فإنه بالتأكيد لن يكون لحلقة الحاسمة أو النهائية في إقرار السلام، لأنه لن يحقق مفهوم السلام "العادل والشامل" الذي سوف يطغى بديناميته على المرحلة المقبلة. إذ إن من المؤكد أن سلاماً يرد إلى الدول العربية كلها أراضي فقدتها في حروبها، ويثبت خطوط حدودها مع إسرائيل، هو لمصلحة هذه الدول، وبالتالي يُعتبر من وجهة نظر استراتيجية "كاملة وشاملة" إحباطاً نهائياً للتوسعية الإسرائيلية ولمنهجها القائم على العنف وإثارة الحروب، ويعيدها إلى نقطة البداية، فإنه يمثل أيضاً إحباطاً لأمل الدول العربية بتقديم العون الفعال للشعب الفلسطيني في نضاله للثبات على أرضه - بدايةً - ولاستعادة ما فقد من أرض وحقوق بعد ذلك. والأرض الفلسطينية التي ترزح تحت احتلال إسرائيلي هي في النتيجة أرض عربية، والشعب الفلسطيني الذي اغتُصبت حقوقه كلها تقريباً هو أيضاً في النتيجة شعب عربي. ولئن ضُيِّق الصراع العربي - الإسرائيلي لتحل "قضية فلسطين" محله من جديد، فإنه مرشح لأن يتسع مجدداً من خلال هذه القضية التي مثلت جوهر الموضوع منذ البداية، وأخذت تعود الآن بالتدريج إلى نقطة البداية أيضاً، وبالتالي إلى موقعها المركزي المحرك في الدراما بأسرها.
من الواضح تماماً أن اتفاقات السلام بين الدول العربية وإسرائيل قائمة كلها على مبدأ تخلي هذه الدول عن أية مطالب بشأن القضية الفلسطينية. صحيح أن اتفاق أوسلو سهل بعضها هذه العملية، لكن اتفاق كامب ديفيد مثلاً، جاء قبل اتفاق أوسلو وقام على هذا المبدأ. وباختصار، فإن ما استعادته الدول العربية من أرض إنما استعادته على حساب الحق الفلسطيني. لكن ربما كان كل من الدول العربية والجانب الفلسطيني يعتقد أن الأمر كله لا يعدو كونه صيغة مرحلية فرضها توازن القوى العالمية المتداخلة مع الصراع العربي - الإسرائيلي، وأنه بالتالي لا بد من دخول تلك المرحلة مع ترقب لتغير الأزمان والظروف. وبقدر ما يتطابق هذا القول مع الأفكار الاستراتيجية العربية، يمكن القول إنه يتضمن أيضاً مفارقة مهمة بين مصالحة عابرة وبين استقرار دائم، ويشبه بالتالي، إلى حد ما، مرحلة ما بين الحربين العالميتين في تاريخ العالم المعاصر. ومهما تكن الخطط التي تضعها إسرائيل، والتحركات التي تقوم بها لحصار القضية الفلسطينية وخنقها ومنعها من الاتساع المحدد لتعود قضية العرب "الأُولى" أو "المركزية" أو حتى "الوحيدة"، كما كانت تسمى في فترات طويلة من الصراع، فإن عناصر الحركية الكامنة في هذه القضية غير قابلة للكبت إطلاقاً. بل يمكن القول إن اتفاقات السلام بين الدول العربية وإسرائيل هي التي تشكل حصاراً لقدرة إسرائيل على التعامل مع القضية الفلسطينية. مثلاً، إن إسرائيل - بدايةً - وفي سنتي 1948 و1949، عملت على تبسيط مشكلاتها داخل الأرض الفلسطينية بأن قذفت نصف الشعب الفلسطيني إلى خارج حدود فلسطين، وألقت به في أراضي دول عربية، وقذفت ثلث هذا الشعب إلى أراض غير أراضيه داخل التراب الفلسطيني. ودأبت منذ ذلك الحين على تحيّن الفرص لقذف مزيد من هذا الشعب إلى خارج الأرض الفلسطينية، كما حدث سنة 1967، وتهدد بالإعلام المضخم بطرد الفلسطينيين كلهم أو بعضهم، وتطرد البعض منهم انتقائياً لتدلل على قدرتها على ذلك.
أمّا بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فيمكن القول إن جميع الاتفاقات والأحداث التي جرت في الإطار الفلسطيني - الإسرائيلي، لم تكن سوى التنظيم الإجرائي والتطبيق الواقعي لاتفاق أوسلو. وقد سبق أن لاحظنا أن المجتمع الفلسطيني وافق على نقل صراعه مع إسرائيل والصهيونية من جانب المقاومة والنضال إلى جانب التفاوض. لكن التفاوض الذي قبل به هو تفاوض ضيق الخيارات، إن لم يكن عديمها، وضئيل الحصيلة إن لم يكن عديمها.
لا أحد في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني يعرف كيف ستتصرف قياداته المنتخبة بشأن المرحلة المقبلة؛ فأسلوب التوصل إلى أوسلو أحدث شرخاً كبيراً في صدقية العملية كلها وفي كفاءة القائمين عليها. وليس في هذا أي تناقض مع "الابتهاج" الذي عم تلك المناطق نتيجة عملية إعادة الانتشار. إذ إن مجرد مشاهدة المحتلين في المدن كان يشكل عذاباً، فما بالك القمع الذي كانوا يمارسونه، بطشاً وإرهاقاً. لكن المنظر وحده، لا الجوهر، هو الذي تباعد. ولئن أعطت انتخابات الحكم الذاتي شعوراً بالانتماء ونوعاً من تحديد الهوية، فإنها لم تعط أية صلاحية أو سلطة جديدة. وسيكتشف الفلسطينيون أنها كانت انتخابات مفرغة كلياً من كامل المضمون، الذي تقام من أجله الانتخابات وتنشأ لتحقيقه المؤسسات.
ثم إن ميزان التعامل مع القضية الفلسطينية، الذي كان فيما مضى بيد الفلسطينيين في الخارج، باعتبار أن قياداتهم وتنظيماتهم وتحركاتهم العسكرية كانت كلها في الخارج، قد انتقل إلى الداخل. وثمة اختلاف - وإن يكن مرحلياً - بين نظرة الفلسطينيين في الخارج إلى "قضية فلسطين" وبين نظرة الفلسطينيين في الداخل؛ فالفلسطينيون في الخارج يعتبرون القضية قضية استعادة وعودة وإعادة، أي استعادة مواطنهم وأراضيهم، والعودة إليها وإعادة مجتمعاتهم إليها. ولقد عمقت تجربتهم هذا الاقتناع منذ طردهم من هذه المواطن. فمع أنهم بنوا بلاداً عربية بكاملها من الصفر ونهضوا بها إلى درجة عالية من المدنية، فإنهم في النتيجة وجدوا أنفسهم معزولين في الحياة العربية، وموضع تمييز وشكوك وإساءة وطرد، وذلك لأن قوى عالمية هائلة أفهمت الدول والمجتمعات العربية أنها إذا وفرت لهم أي قدر من الرعاية، فإن العصي ستنهال عليها. وأنها إذا اضطهدتهم أو ميزت ضدهم فإن جزرات ستنهال عليها. وأصبح هؤلاء الفلسطينيون، الذين يشكلون نصف الشعب الفلسطيني تقريباً، في وضع مشابه لوضع اليهود الذي انطلقت منه الحركة الصهيونية بأكملها. ومن الواضح أنه إذا كان مطلوباً من الدول العربية أن تتخلى عن الفلسطينيين عموماً كي تستعيد أراضيها التي احتلتها إسرائيل سنة 1967 وسنة 1982، فسيكون مطلوباً من فلسطينيي الداخل أن يتخلوا عن فلسطينيي الخارج ليحصلوا على اللاشيء أو القليل الذي سيُمنح لهم، وذلك تحت طائلة العصا ذاتها والجزرات ذاتها. وسوف يعتمد الشيء الكثير على مدى قدرة التجمع الفلسطيني في الداخل والتجمعات الفلسطينية في الخارج على الاتفاق على أهداف مشتركة، والمحافظة على روابط مشتركة، وإقامة مؤسسات مشتركة، وإيجاد نطاق ما من العمل المشترك، كما فعلت الصهيونية العالمية وإسرائيل. لكن أعداء قضية فلسطين سوف يعملون إلى إذكاء توتر أو احتكاك بين الجانبين.
من البداهات، بالتالي، أن أوسلو - 1 (الحكم الذاتي) وما قد تسفر مفاوضات "الوضع الدائم" عنه ليسا سوى تكريس للوضع المستحيل الذي يعانيه الشعب الفلسطيني، وإضفاء شرعية عليه. ولن يستطيع أي قدر من الإعلام والمسرحة... أي انتخابات ومناصب ومواكب... أي إعادة انتشار للقوات الإسرائيلية... أي تحويل لمهمة الأمن في الجيش الإسرائيلي إلى شرطة وطنية... أي تلطيف لبشاعة الكبت الذي يمارسه محتل مغتصب... لن يستطيع كل هذا طمس هذه الحقيقة؛ بل إنها ستعود بكامل مأساويتها ومرارتها بعد انتهاء عمليات "الإخراج المسرحي".
الشعب الفلسطيني يعدُّ الآن قرابة 7 ملايين نسمة، وسيكون عدد أبنائه سنة 2010 نحو ضعف هذا العدد، أي أكثر من جميع يهود العالم. ويعيش نصف هذا الشعب في أراض فلسطينية ولو غُير اسمها، وسيتضاعف هؤلاء في غضون عقد ونصف عقد ليزيدوا عن سكان إسرائيل عدداً. وهذه الحقائق توضح لإسرائيل ذاتها وللصهيونية العالمية من ورائها، أن سلام إسرائيل لا يتحقق إلا إذا كان للشعب الفلسطيني السلام ذاته، وعلى قدم المساواة. وبعبارة أُخرى، إن الاستعصاء الذي دفع إسرائيل، بعد حروب دامية، إلى طلب السلام - وإسرائيل هي التي طلبت السلام - سيظل قائماً. إسرائيل لا تستطيع أن تبيد شعب فلسطين، ولا أن تمنع تكاثره، وتصاعده، بالتعليم وبالتفوق وبالقدرة العالية على البناء وبالصبر والمثابرة وبالمحافظة على الكرامة وسط الأوضاع كلها، وعلى الرغم من المحاولات كافة.
إن الحقائق كلها توحي أن السلام الممكن على أرض فلسطين هو السلام بين كل يهود العالم وكل شعب فلسطين. ولا يعقل ولا يقبل أن يكون لليهودي ذي الأصل الخزاري، التتري العنصر، الذي لم يكن له في أي وقت من الأوقات وجود على أرض فلسطين، حق في أن يأتي إلى إسرائيل وينال جنسيتها حتى قبل أن يطأ أرضها، وألاّ يكون للفلسطيني الذي طُرد من أرضه أمام أعين العالم كله، قبل أقل من نصف قرن من الزمن، مثل هذا الحق؟
هل ثمة أمل بأن يتحقق مثل هذا السلام؟
ثمة أمل وحيد وأخير في عالم ملآن بأخطر الاحتمالات التقانية. هذا الاحتمال يبدأ من نقطة أن فلسطين قد أُعيد توحيدها الجغرافي عقب حرب سنة 1967. فلتبق موحدة بقطع النظر عمن وحّدها. وليبدأ كل حديث مستقبلي من نقطة وحدة فلسطين الجغرافية. وبالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، فإن نضاله قد بُني على محاولة منع تقسيم فلسطين، فلن يجد في النهاية غضاضة في توحيدها. وحتى دعاة دولة فلسطينية على تراب فلسطين اختاروا ما اعتبروه عملياً حتى هذه اللحظة من دون تبصر كاف في مستقبل تلك الدولة، بل حتى في مستقبل الشعب الفلسطيني.
الشعب الفلسطيني ليس له وطن غير فلسطين. صحيح أنه عربي ومعتز بعروبته، لكن صحيح أيضاً أنه عانى ويعاني في بلاد العرب، ويُذكَّر كل يوم بأنه غير مرغوب فيه، وأن لا أمان ولا استقرار ولا مستقبل له في أية أرض عربية. وهو يريد أرضه ولا يريد سواها. لا يريد وطناً بديلاً بل وطنه الذي لا وطن له غيره. والسلام لا يكون إلا بعودته إلى وطنه. وإذا قلنا إنه ليس للفلسطينيين وطن بديل فلنقُل أيضاً ليس لهم بديل من فلسطين. من الممكن أن يظلوا عرضة للقصف اليومي والكبت اليومي، وأن تُسد في وجوههم منافذ العمل وفي وجوه أبنائهم وسائل التعليم، وأن يفقروا ويجوعوا ويُقتلعوا ويُقذف بهم. هذا ممكن ما دام في الحياة قدرة على القهر والتجبر والاستعلاء. لكن هذا الأمر لا يمكن أن يدوم، إذ إن هذا الوضع في حد ذاته له وجهه الآخر هو أنه سيؤدي إلى استحالة التطبيع بين إسرائيل والعرب، واستحالة الاستقرار والأمان لشعب إسرائيل، وبالتالي، فإن العنف يولد عنفاً، والظلم يؤذي الظالم لا المظلوم وحده.
لسنا من السذاجة بحيث نتصور أن اليهود سيقبلون بهذا الحل، لأن الأيديولوجيا الصهيونية تتحدث عن دولة يهودية ذات نقاء عنصري وديني. وما الداعي إلى مثل هذا النقاء الموهوم؟ فهذه الدولة بشكلها الحالي، يشكل العرب فيها عشرين في المئة من سكانها، وسيبلغون أربعين في المئة خلال فترة منظورة من الزمن، لنقُل ربع قرن. وإذا كانوا غير مسيسين بعدُ، فسيصبحون مسيسين، وسيتحالفون مع إسرائيليين؛ إذ يفترض أن تكون الحواجز والموانع زالت للانتقال عبر الخطوط. والعرب أيضاً سيتزايدون ويشتدون، وسيبلون في غضون الفترة المنظورة التي تحدثنا عنها نحو 500 مليون نسمة. إن إسرائيل التي لم يبق من قوتها العسكرية سوى طيران وقوة نووية، ستجد قريباً أن عليها أن تتخلى عن قوتها النووية وإلا ستجد أمامها قوى نووية متعددة. وإسرائيل التي تعتمد على أميركا والتزاماتها المكتوبة وغير المكتوبة، بدأ تحس تغيراً في طبيعة هذه الالتزامات. وإسرائيل التي تعتمد على المساعدات المالية الأميركية تدرك أن هذه المساعدة آخذة بالأفول. غير أن إسرائيل التي تدعي التفوق التكنولوجي، أخذت تبيع أسرار أميركا التكنولوجية، وتحاول أن تلعب دور السمسار التكنولوجي. فهي تعلم، بعد فشل تجربتها في بناء الطائرة "لافي"، على الرغم من العون الأميركي المالي والتقاني، أن ثمن التكنولوجيا يفوق طاقاتها. وربما ستدرك أخطار السمسرة التقانية، إن لم تكن قد أدركتها.
سيمضي وقت قبل استيعاب هذه الحقائق، والأمل الباقي هو أن يحدث هذا الاستيعاب قبل أن تتحقق كارثة.