تداعيات التسوية وتأثيرها في مستقبل التنمية العربية
كلمات مفتاحية: 
السياسة الاقتصادية
التنمية الاقتصادية
إسرائيل
التجارة الحرة
السياسة الاقتصادية الإقليمية
التكنولوجيا
الاقتصاد الفلسطيني
الاقتصاد العربي
السلام
نبذة مختصرة: 

تهدف الدراسة إلى مناقشة واستكشاف انعكاسات الترتيبات الاقتصادية "الشرق الأوسطية" المقترحة على مستقبل التنمية العربية، في مرحلة ما بعد التسوية.وتعالج الموضوع تحت العناوين الفرعية التالية: الرؤية الاقتصادية ـ الاستراتيجية الإسرائيلية لمرحلة "ما بعد السلام"؛ هل تعد منطقة التجارة الحرة "الشرق الأوسطية" خياراً قابلاً للتطبيق؟؛ الآثار التوزيعية لمنطقة التجارة الحرة في الدول المشاركة؛ قطاع التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل؛ مستقبل الاقتصاد الفلسطيني في السياق الإقليمي؛ الآثار الممكنة للهيمنة الإسرائيلية على الاقتصاد العربي؛ الاتجاه نحو سلام دائم وتنمية واستقرار إقليمي؛ ما العمل؟

النص الكامل: 

 أولاً: مقدمة

تشكل النزعة إلى العالمية (Globalism) والإقليمية (Regionalism) الاتجاهين الرئيسيين اللذين يحكمان حركة الاقتصاد العالمي اليوم. وتطرح هاتان الظاهرتان تحدياً أمام الشركات والحكومات في الدول النامية.

ووفقاً لتشارلز أومان، فإن الترتيبات والاتفاقات الإقليمية يمكن أن تكون نتاج إحدى عمليتين:[1]

أ - عملية سياسية تأخذ طابع إطار تشريعي (تعاقدي) تفرضه قو سياسية بما يؤدي إلى وضع ترتيبات إقليمية مؤسسية بين الحكومات والأطراف المعنية.

ب - عملية اقتصادية تأخذ طابع "الأمر الواقع"، وتحركها قوى الاقتصاد الجزئي التي قد تفضي إلى بلورة إطار للتعاون الاقتصادي الإقليمي، كأمر واقع، من خلال استراتيجيات وسلوك المنتجين والمستثمرين وغيرهم من القوى الاقتصادية الفاعلة، وإنْ كان ذلك يتم في غياب مؤسسات إقليمية قومية.[2]

وفي منطقة الشرق الأوسط تكمن المشكلة في أيهما يحدث أولاً؟ والأمر هنا يتوقف على الجدوى السياسية أكثر منه على الجدوى الاقتصادية المحضة.

ويرى إيبي يامازاوا، وهو اقتصادي ياباني بارز، أن التباين في مستويات التنمية ومراحل التصنيع والموارد الطبيعية يقف عادة حائلاً دون حدوث التكامل والتعاون الاقتصادي بين البلاد النامية، على نحو ما حدث في إطار نموذج التعاون الاقتصادي الأوروبي،[3] انطلاقاً من "اتفاقية روما" التي نشأت بمقتضاها "السوق الأوروبية المشتركة".

وتركز المناقشات الفكرية في الوطن العربي اليوم على جدوى الترتيبات الإقليمية وفوق الإقليمية المطروحة، التي تضم إسرائيل في عصر "ما بعد التسوية السلمية". ويدور الحديث بصفة خاصة عن إمكان قيام "منطقة تجارة حرة"، وما يسمى "السوق الشرق الأوسطية".

وبينما يبدي كثير من الإسرائيليين الاستعداد لمبادلة "الأرض" بـ "السلام"، فإن إطار هذا السلام ومحتواه يبدوان مصمَّمين ليلائما طبيعة التحول في المشروع الصهيوني. إذ تحدث كثير من المسؤولين الإسرائيليين أخيراً عن "الصهيونية الاقتصادية" و"الصهيونية التقنية" (High-Techzionsim)، اللتين تشكلان تحولاً باتجاه الخروج من عقلية الحصار القديمة التي ظلت تطبع الفكر الصهيوني حتى عقد قريب،[4] والانتقال إلى مرحلة "الهجوم الاقتصادي الموسّع". وفي الآونة الأخيرة تحدث شمعون بيرس، أحد أبرز الساسة الاستراتيجيين الإسرائيليين، في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، الصادر سنة 1993، عن نظام إقليمي جديد تكون إسرائيل فيه بمثابة العاصمة المالية والتجارية للمنطقة، أي بمثابة "سنغافورة جديدة" في الشرق الأوسط الجديد.

وبينما تحمل التقارير والكتابات الصحافية الغربية قدراً كبيراً من التفاؤل بصدد آفاق "اقتصاديات السلام" والمكاسب الاقتصادية المتوقعة والمصاحبة لما يسمى "عوائد السلام" (Peace dividends)، فإن كثيراً من دوائر المثقفين ورجال الأعمال في البلاد العربية لا يشاركهم ذلك التفاؤل بشأن المسارات المستقبلية لثمار السلام الاقتصادية.

وتهدف هذه الدراسة الأوّلية إلى مناقشة واستكشاف انعكاسات الترتيبات الاقتصادية "الشرق الأوسطية" المقترحة على مستقبل التنمية العربية، في مرحلة ما بعد التسوية.

ثانياً: الرؤية الاقتصادية - الاستراتيجية الإسرائيلية لمرحلة "ما بعد السلام"

تقوم الرؤية الاقتصادية - الاستراتيجية الإسرائيلية لمرحلة "ما بعد السلام" على محورين أساسيين هما:

أ) اختراق الفضاء الاقتصادي العربي وتمزيقه

على الرغم من طابع التجزئة وهشاشة البنية الإنتاجية والتكاملية للفضاء الاقتصادي العربي، فإن الاستراتيجية الإسرائيلية الهجومية في مرحلة اقتصاديات "ما بعد السلام" تقوم على اختراق الفضاء الاقتصادي العربي وتقويض الإمكانات المستقبلية للتكامل الاقتصادي العربي. وهكذا، فإن المخطط الإسرائيلي لمرحلة "ما بعد السلام" ينهض على أن تصبح إسرائيل طرفاً أصيلاً وفاعلاً، وجزءاً أساسياً من النسيج الاقتصادي الجديد للمنطقة، من خلال عدد من المخططات الاستراتيجية، التي يجري تمريرها مشاريع إقليمية بريئة، وذات نفع اقتصادي بحت. وتتمثل تلك المخططات في ما يلي:

(1) تقسيم الفضاء الاقتصادي العربي إلى مناطق منعزلة ومفصول بعضها عن بعض باختراقات إسرائيلية من خلال مجموعة من المشاريع العربية - الإسرائيلية المشتركة، لإسرائيل فيها دور قيادي وفاعل، وفي مناطق مفصلية: العقبة، النقب، الجولان، البحر الميت.

(2) تكريس بقاء الاقتصاد الفلسطيني عمقاً مكملاً للاقتصاد الإسرائيلي، وفصْم علاقاته الطبيعية بالفضاء الاقتصادي العربي من خلال عمقه الطبيعي، أي العمق الأردني.[5]

(3) بناء تجمع اقتصادي ثلاثي بين إسرائيل والكيان الفلسطيني والأردن، على غرار نموذج دول "البنيلوكس"، وذلك في محاولة للقفز فوق العمق الاقتصادي العراقي للأردن والتنسيق الاقتصادي مع سورية، ليكون هذا المثلث بمثابة رأس حربة لمشروع الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية على منطقة المشرق العربي والهلال الخصيب (أنظر الشكل رقم 1).

 

 

(4) بناء علاقات اقتصادية ومالية إسرائيلية - خليجية، وعلاقات اقتصادية مالية إسرائيلية - مغاربية تخترق شبكة العلاقات الاقتصادية والمالية العربية - العربية (المشرقية - المغاربية والمشرقية - الخليجية)، وتحرفها عن مساراتها التقليدية، وذلك على نحو ما رأينا في قمة الدار البيضاء التي عقدت في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر 1994.

المطروح إذن هو تكثيف العلاقات الاقتصادية العربية بالاقتصاد الإسرائيلي، وتقليص التشابكات والعلاقات الاقتصادية العربية - العربية، أو في أحسن الأحوال جعلها تمر عبر "الوسيط الإسرائيلي"، باعتبار أن الاقتصاد الإسرائيلي سيصبح محطة الضخ الاقتصادية الرئيسية في المنطقة: تجارياً ومالياً وتكنولوجياً. ويتم ذلك المخطط عبر مشاريع إقليمية عابرة للبلاد العربية، تدخُل إسرائيل فيها طرفاً رئيسياً، مثل مشاريع الطرق البرية السريعة، وخطوط نقل النفط والغاز، والمشاريع السياحية المشتركة، وغيرها من مشاريع "الربط الإقليمي". ولقد شبّه الكاتب الصحافي صلاح الدين حافظ هذه العملية بعملية زرع المستوطنات في المجال الاقتصادي العربي، حيث أنها "تبدأ صغيرة ثم تتسع وتبني أمراً واقعاً جديداً كل يوم."[6] فجميع المشاريع الثنائية والإقليمية المتعددة الأطراف، التي تطرحها إسرائيل (على نحو ما جاء في الكتاب المقدَّم منها لمؤتمر الدار البيضاء)، إنما هي جزء من منظومة استراتيجية متكاملة، لها أبعادها الاقتصادية والسياسية والأمنية.

ب) تحول إسرائيل من وكيل للولايات المتحدة إلى شريك لها في الشرق الأوسط الجديد

إن المشروع الشرق الأوسطي الجديد هو مشروع استثمار سياسي واستراتيجي إسرائيلي - أميركي مشترك، يقوم على إحكام الهيمنة الأميركية - الإسرائيلية على المنطقة، وتهميش الدور الأوروبي والدور العربي عموماً. ولقد كان مؤتمر الدار البيضاء بمثابة المؤتمر التأسيسي لتدشين هذا النظام الشرق الأوسطي الجديد. إذ تم من خلال هذا المؤتمر بناء شبكات وقنوات تجمع رجال الأعمال العرب والإسرائيليين والشركات الدولية المرتبطة بدوائر المال اليهودي العالمي، تتجاوز النظم والحكومات. كما تم وضع اللبنات الأُولى للهيكل المؤسسي للنظام الشرق الأوسطي الجديد: سكرتاريا دائمة؛ لجنة تسيير (Steering Committee)؛ مجلس إقليمي للسياحة؛ غرفة تجارية إقليمية؛ مشروع للبنك الشرق الأوسطي؛ مجموعة للتخطيط والتفكير الاستراتيجي بقيادة مجلس العلاقات الخارجية الأميركي. وقد تم دخول تلك "المؤسسات الوليدة" طور التنفيذ بعد قمة عمان في تشرين الثاني/نوفمبر 1995.

ولقد راود البعض في مصر الحلم بأن مشروع الشرق الأوسط الجديد يمكن أن يكون مشروع شراكة بين مصر وإسرائيل، لكن سرعان ما تبدد هذا الوهم في مؤتمر الدار البيضاء وتأكد ذلك في مؤتمر عمان. وتبين أن المشروع المطروح هو استثمار اقتصادي واستراتيجي إسرائيلي - أميركي مشترك، وأن الأردن والمغرب قد يؤديان فيه دور الشريك الأصغر (Junior Partner)، بينما الهدف البعيد المدى هو عزل دور مصر الإقليمي وتهميشه، كي لا تستطيع مصر أن تتجه شرقاً ولا غرباً.

ثالثاً: هل تعد منطقة التجارة الحرة "الشرق الأوسطية" خياراً قابلاً للتطبيق؟

كما هو معروف في الأدبيات الاقتصادية، هناك عدة مستويات للترتيبات الإقليمية للتعاون والتكامل الاقتصادي بين الأطراف المعنية. وبصفة عامة، هناك ثلاثة مستويات رئيسية للترتيبات الإقليمية الممكنة:

أ) ترتيبات تجارية تفضيلية

وهي مجموعة من الترتيبات التي تفرض الدول المشاركة بموجبها رسوماً جمركية مخفضة على الواردات فيما بينها، مقارنة بالرسوم الجمركية المفروضة على الواردات من باقي العالم الخارجي.

ب) منطقة تجارة حرة (FTA)

وتتضمن عدم فرض أية رسوم جمركية على تدفقات التجارة بين الدول الأعضاء، مع فرض رسوم جمركية على الواردات من الدول غير الأعضاء.

ج) اتحاد جمركي

وهو في واقع الأمر منطقة تجارية حرة ذات رسوم جمركية خارجية موحدة (CET)، يتم الاتفاق عليها بين الدول المشاركة في الاتحاد الجمركي، في مواجهة باقي دول العالم.

وفي السياق "الشرق الأوسطي"، فإن التحدي الحقيقي يتمثل في كيفية معالجة التناقضات الاقتصادية والسياسية في المنطقة، وصوغ الترتيبات الإقليمية الممكنة لتكون مساندة لعملية سلام حقيقية، تتواءم بصورة كاملة مع الإرادة الحرة وطموحات شعوب المنطقة العربية.

وقد ركز الكثير من الوثائق والدراسات في الدوائر الغربية على أهمية إقامة "منطقة تجارة حرة" في المشرق العربي (تتضمن مصر وإسرائيل وفلسطين والأردن وسورية ولبنان). وقد طرحت هذه القضية باعتبارها بعداً رئيسياً في جدول أعمال مرحلة ما بعد التسوية السلمية.

وتؤكد إحدى الدراسات المهمة الصادرة عن المفوضية الأوروبية في بروكسل، في أيلول/سبتمبر 1993، أن أكثر الأولويات إلحاحاً لجميع بلاد الشرق الأوسط تقريباً - وبصفة خاصة بلاد المشرق العربي وإسرائيل - هي تشجيع تدفقات التجارة الحرة، ومن ثم الوصول إلى الصيغة الأفضل لتقسيم العمل فيما بينها. ومع ذلك، فإن الدراسة نفسها تعترف بأن الحديث عن "منطقة تجارة حرة" بين دول المشرق العربي وإسرائيل يثير مخاوف أكثر مما يحفز آمالاً بين الأطراف الإقليمية المرشحة للمشاركة في الترتيبات المقترحة، وبصفة خاصة بين الدول الأقل نمواً منها.

ويبتعد هذا النوع من التحليلات، الذي ينطوي على قدر كبير من التجريد، عن المشكلات الحقيقية للاقتصاد السياسي للسلام، ولا سيما تلك القضايا المرتبطة بتوزيع المكاسب الممكنة من وراء قيام "منطقة تجارة حرة" تضم إسرائيل ومصر وسورية والأردن ولبنان والأراضي الفلسطينية، وفق ما جاء في الكثير من الدراسات المتداولة.

وبينما يتفق الجميع على أن السوق الواسعة، التي ستضم أكثر من 120 مليون نسمة بحلول سنة 2020، قد تزيد في جاذبية المنطقة لدى القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب، فإن السؤال المركزي الذي يفرض نفسه هو: كيف سيتم توطين تدفقات الاستثمارات الجديدة، وبصفة خاصة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فيما بين بلاد المنطقة، ومن ثم توزيع مكاسب التجارة والتدفقات المالية الجديدة؟

وبينما تتيح "منطقة التجارة الحرة" حرية انتقال السلع والخدمات ورؤوس الأموال والعمالة، فمن المشكوك فيه أن تؤدي إلى تحسين مستوى الرفاهية لجميع الأطراف المشاركة. وعلى الرغم من أنه يمكن توضيح المكاسب بسهولة في حالة الدول المتقدمة (إسرائيل مثلاً) من خلال التوسع في الصادرات إلى سائر الدول العربية الأعضاء في المنطقة، فإن الآثار الصافية في الدول الأقل نمواً تبدو أكثر غموضاً وسلبية؛ إذ لن يكون في وسع معظم الدول العربية زيادة صادراتها إلى إسرائيل وباقي الدول المشاركة في المنطقة، هذا في الوقت الذي ستفقد هذه الدول جانباً مهماً من الإيرادات الجمركية التي كانت تحصل عليها قبل الدخول في ترتيبات التجارة الحرة المقترحة.

وبصورة أكثر تحديداً، فإن ترتيبات "منطقة التجارة الحرة" المقترحة لن يتولد عنها مكاسب دينامية بالنسبة إلى معظم الدول العربية المقترح مشاركتها. وهذه الرؤية المتشككة تقوم على ملاحظات تحليلية، نجملها فيما يلي:

(1) تتمتع الدول المرشحة لعضوية "المنطقة الحرة" المقترحة بدرجة محدودة للغاية من التكامل في الطلب على الواردات. ومن المسلَّم به في الأدبيات الاقتصادية أن المكاسب من منطقة التجارة الحرة تكون أكبر عندما تزداد "درجة التكامل" بين الطلب على الواردات.

(2) نظراً إلى تباين مستويات التنمية والفوارق في مستوى دخل الفرد فيما بين الدول المرشحة لعضوية المنطقة المقترحة، فإن الجانب الأكبر من التدفقات التجارية الممكنة بين الدول المشتركة في "المنطقة الحرة" سيكون من نصيب الدول "الأكثر تصنيعاً"، وفي مقدمها إسرائيل وتركيا. وبمرور الوقت، سيتبلور نمط جديد من التخصص في الأنشطة الاقتصادية بين الدول المشاركة في ترتيبات "المنطقة الحرة"، كنوع من الاستجابة للتباين الشديد في مستويات الموارد الاقتصادية والمهارات البشرية. وإذا كانت "وفورات الإنتاج الكبير"، حاضرة بقوة (كما هو الوضع في الصناعات المتقدمة تكنولوجياً)، فإن المكاسب التي ستجنيها إسرائيل ستكون أكبر كثيراً من مكاسب باقي البلاد العربية.

(3) نتيجة لصعوبات الرقابة الفعالة في ظل ترتيبات "منطقة التجارة الحرة"، فإن الكثير من الدول المشاركة قد يجد نفسه يستورد السلع عبر حدود الدول ذات الرسوم الجمركية الأقل، وهو ما يضع ضغوطاً على الدول ذات الرسوم المرتفعة من أجل خفض رسومها الجمركية، والوصول بها إلى مستوى أقل من الرسوم الجمركية الحمائية في الدول المجاورة.

(4) في ظل غياب اتحاد جمركي مسبق بين دول المشرق العربي (بما فيها مصر)، فإن إسرائيل ستصبح هي الدولة المركزية للترتيبات الاقتصادية "الشرق الأوسطية" الجديدة، ومن ثم فإن إقامة اتحاد جمركي بين الدول العربية المشاركة، قبل الانضمام إلى أية ترتيبات شرق - أوسطية، تفرض نفسها مطلباً حيوياً لزيادة قدرة الدول العربية على المساومة الجماعية. ويحتاج مثل هذه الخطوة التمهيدية إلى وقت طويل نسبياً من أجل التحول إليها والتكيف معها.

رابعاً: الآثار التوزيعية لمنطقة التجارة الحرة في الدول المشاركة

تركز الأدبيات الاقتصادية النمطية على المكاسب الكلية للرفاهية، الناجمة عن عمليات التكامل، ومن ثم تفترض بصورة ضمنية سهولة التكيف مع عملية "إعادة تخصيص" الموارد بين الدول، التي يحتمها النمط الجديد للتدفقات التجارية والاستثمارية. ومع ذلك، فإن المشكلة الحرجة ستتمثل في الآثار التوزيعية لتلك التدفقات عبر الدول المشاركة في الترتيبات الاقتصادية "الشرق الأوسطية" المقترحة.

وكما أوضحت الأدبيات بشأن موضوعات التكامل الاقتصادي، مراراً وتكراراً، فإن عمليات التعاون والتكامل تنهار عندما يتم توزيع المكاسب بصورة غير متساوية. ومن ناحية أُخرى، فإن "المكاسب الساكنة" (Static gains) الناجمة عن عمليات التعاون والتكامل الاقتصادي الإقليمي "الشرق الأوسطي"، ستكون في مرتبة ثانوية بالنسبة إلى "المكاسب الدينامية" (Dynamic gains) التي ستتولد في المستقبل لمصلحة الاقتصاد الإسرائيلي.

ولا شك في أن المحرك الأساسي لكثير من الدول العربية للدخول في عمليات تعاون وتكامل اقتصادي (سواء في إطار حوض البحر المتوسط أو في إطار الشرق الأوسط) هو جذب رؤوس الأموال، والحصول على التكنولوجيا المتقدمة أكثر من الحصول على مكاسب من وراء تحرير تدفقات التجارة. وتشير الأدلة كلها إلى أن النمط المتوقع لتدفق الاستثمارات الأجنبية سيتحول ليكون أداة فعالة لفرض الهيمنة الإسرائيلية في إطار منطقة التجارة الحرة الجديدة.

وإذا أخذنا في الاعتبار الاتفاق الموقع حديثاً بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي، فإن إسرائيل ستستخدم منطقة التجارة الحرة "الشرق الأوسطية" (MEFTA)، نقطة انطلاق لتقوية ديناميات التجارة والاستثمار للاقتصاد الإسرائيلي. ومن ثم، فإن الدعوة إلى منطقة تجارة حرة تضم إسرائيل ودول المشرق العربي تخدم هدف إسرائيل الاستراتيجي في السيطرة على الاقتصاد العربي في المشرق ومنطقة الخليج، لتكون بمثابة "حديقة خلفية" تساعدها في المساومة الاقتصادية مع الكتل الاقتصادية الكبرى. إذ إن إسرائيل تتطلع إلى أن تصبح عضواً في أكثر من منطقة تجارة حرة في وقت واحد (مع الاتحاد الأوروبي، النافتا)، ولتكون "بوابة" آسيا إلى المنطقة العربية.

كما تأمل إسرائيل من تفح أسواق الدول العربية للشركات المتعددة الجنسيات - بعد رفع المقاطعة العربية - أن تصبح محطة النشاط الاقتصادي الرئيسي في المنطقة (الإنتاجية والتسويقية والتمويلية)، بما يحقق التنشيط الفعال لإمكانات الاقتصاد الإسرائيلي الكامنة. ومن المتوقع أن يكون لهذا التكامل بين المدخلات للشركات المتعددة الجنسيات والمدخلات المحلية دور حاسم في تأمين نسبة نمو عالية للاقتصاد الإسرائيلي واستمرارها في المستقبل.

وكانت دراسة حديثة، أجرتها مؤسسة بحثية أوروبية على عينة ليست صغيرة من الشركات متعددة الجنسيات من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وإسرائيل، قد أظهرت انحيازاً واضحاً إلى مصلحة عمليات التوطين في إسرائيل. فلقد أعربت جميع الشركات العاملة في مجال الغزل والنسيج والأغذية والسياحة والكيماويات الخفيفة عن رغبتها في العمل، انطلاقاً من الأراضي المصرية والأردنية، في إطار سيناريو السلام الشامل. وعلى العكس من ذلك، فإن إسرائيل كانت الاختيار المفضل للشركات العاملة في مجال التكنولوجيا المتقدمة، حتى يمكنها الاستفادة من الأيدي العاملة العالية المهارة، والبنية التحتية للبحث والتطوير في إسرائيل، بالإضافة إلى القرب النسبي لسوق المستهلك النهائي. ومن ثم، فإنه من المتوقع أن ينقل الكثير من الشركات "الأولية النشاط" عملياته الإنتاجية والتسويقية إلى إسرائيل. وهكذا، فإن التدفقات الاستثمارية الأجنبية المباشرة في مجال الصناعات التكنولوجية المتقدمة ستؤدي إلى نقل جانب مهم من منجزات التطور التكنولوجي الحديث إلى إسرائيل، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تمتعها بمكاسب كبيرة بالنسبة إلى مستويات الإنتاجية في المدى الطويل. وبالنسبة إلى دول المشرق العربي، فإنها قد تتمتع ببعض المكاسب الموقتة، إلا إنه قد ينتهي الأمر بها إلى فقد مكاسب الكفاءة والفاعلية في المدى الطويل.

وعلى مستوى الصناعة الواحدة (أو فرع النشاط الواحد)، فإن توزيع المكاسب الممكنة في ترتيبات التعاقد من الباطن (Sub-contracting) والتجارة البينية فيما بين الصناعات (Intra-Industry trade)، لن يكون في مصلحة الدول العربية المشاركة. وإذا تحدثنا عن صناعة الغزل والنسيج، على سبيل المثال، نجد أن بعض الاقتصاديين الإسرائيليين يقترح أن تتخصص مصر - وفقاً للترتيبات "الشرق الأوسطية الجديدة" - بإنتاج غزول القطن والملبوسات الجاهزة، وهي صناعات ذات عمالة كثيفة، بينما تتخصص إسرائيل بعمليات التصميم والطباعة والتسويق، وغيرها من الأنشطة التي تحتاج إلى مهارة عالية وتتميز بارتفاع القيمة المضافة. وليس هناك من شك في أن مثل هذا التقسيم غير العادل للعمل لا يؤدي بدوره إلى تطوير الاقتصاديات العربية، بل يفضي إلى زيادة التباين في مستويات التنمية بين إسرائيل وسائر بلاد المنطقة العربية.

ومن وجهة نظر الدول الأقل تقدماً، فإن توسيع دائرة التدفقات التجارية والاستثمارية في إطار "منطقة تجارة حرة" ضخمة تضم إسرائيل يؤدي إلى تهديد الشركات العربية القائمة من جانب منافسين أقوياء جدد. ولعل الإغراء الجذاب الوحيد أمام رجال الأعمال العرب في الدول التي قد تشارك في الترتيبات الشرق الأوسطية ليس من خلال زيادة الصادرات، بل من خلال الفرص المتاحة لبيع الأصول أو "المشاريع المشتركة" عن طريق دخول استثمارات أجنبية جديدة، تدفع لهم أسعاراً عالية لأصولهم، لتكون بمثابة "عمولة" أو "سمسرة". ويقال عادة إن الطابع الدولي المتزايد للتدفقات الاستثمارية يميل إلى إلغاء الطابع اليهودي لبعض المؤسسات المالية الدولية. ومع ذلك، فهناك دوافع سياسية وأيديولوجية واضحة أمام رأس المال اليهودي المالي الدولي للاستفادة من عملية السلام، وحركة الانفتاح، والتحول إلى القطاع الخاص (الخصخصة) في معظم الدول العربية في عصر "ما بعد السلام". ولقد سارعت فعلاً مجموعة كلاريدج الاستثمارية، التي تمتلك عائلة برونفمان (Bronfman) الكندية نسبة كبيرة من أسهمها، إلى تقديم تسهيلات قيمتها 150 مليون دولار لمستثمرين دوليين يتوجهون إلى إسرائيل. وقد تجاوز الاكتتاب في عملية التمويل المشار إليها في آذار/مارس 1994 المستوى الذي كان متوقعاً. وهذا يشير بوضوح إلى نوع الرابطة العضوية التي تربط إسرائيل بدوائر رأس المال المالي ومراكز التكنولوجيا المتقدمة.

خامساً: قطاع التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل

مع أنه لا يزال أمام الاقتصاد الإسرائيلي شوط كبير يتعين عليه أن يقطعه قبل إمكان تصنيفه ضمن ما يسمى "اقتصادات الإلكترونيات الدقيقة" (Blue-chip economies)، فإنه يتمتع بعدد من نقاط القوة الكامنة في هذا المجال. فالإنفاق على البحث والتطوير (R&D) في إسرائيل يبلغ 3% من إجمالي الناتج المحلي، وهي نسبة تفوق نظيراتها في الولايات المتحدة واليابان وغيرهما من الدول الصناعية المتقدمة، فضلاً عن أن الهجرة اليهودية من روسيا أضافت إلى تعداد إسرائيل نحو نصف مليون نسمة، منهم من ذوي خبرات ومهارات علمية متقدمة، الأمر الذي يؤدي إلى دعم وتقوية الرصيد الكلي الإسرائيلي من العلماء والمهندسين (أو ما يسمى "رأس المال البشري").

وقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تسريع نمو الصناعات الإسرائيلية العالية التكنولوجيا منذ منتصف الثمانينات، سواء كان معيار النمو حجم المبيعات أو حجم التصدير. وتطور قطاع الصناعات التكنولوجية المتقدمة بفضل النمو السريع لحجم العقود العسكرية؛ فأغلب المؤسسات الصناعية ذات التكنولوجيا المتقدمة التي حققت طفرة في النمو بدأ أول الأمر مورداً للقطاع العسكري في إسرائيل. بل إن بعض هذه المؤسسات أُسس على يد ضباط عسكريين سابقين وعدد من المديرين السابقين للصناعات العسكرية الحكومية.

ويأمل الاستراتيجيون الإسرائيليون أن تتيح التسوية لبلدهم استخدام موارده البشرية والعلمية وخبراته التكنولوجية في القيام بدور "مسيطر" على الاقتصاد الإقليمي لما يسمى "الشرق الأوسط الجديد".

سادساً: مستقبل الاقتصاد الفلسطيني في السياق الإقليمي

يركز أغلب الوثائق والدراسات التي تناولت اقتصاديات السلام على أهمية إقامة "منطقة تجارة حرة إسرائيلية - فلسطينية"، تعطي الفلسطينيين دور الوسيط المتميز بين إسرائيل وباقي دول المنطقة العربية، بينما تتطلب مسيرة الفلسطينيين في سبيل بناء دولة فلسطينية وتحقيق استقلالية الاقتصاد الفلسطيني خطوات حاسمة لتأكيد السيادة الاقتصادية على مواردهم ومقدّراتهم الاقتصادية، كي يتمكنوا من التطور بحرية، بعيداً عن الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي والالتحاق به.

وفي الوقت الحالي، يُعدُّ الاقتصاد في الأراضي الفلسطينية المحتلة في حالة تبعية وإلحاق فعلي (de facto) بالاقتصاد الإسرائيلي. وإذا كانت إسرائيل لم تقم علاقات تجارية مع الأراضي المحتلة قبل الاحتلال، فقد أصبحت بعده الشريك التجاري الوحيد من الناحية العملية. وفي سنة 1991 كان نحو 90% من واردات الأراضي المحتلة تأتي من إسرائيل، وكان 85% من صادرات الأراضي المحتلة تتوجه إلى إسرائيل، بينما لم تتوجه إلى الأردن سوى 13%.

وفي الجانب الآخر، ارتفع عدد الفلسطينيين العاملين في إسرائيل إلى 109 آلاف عامل بحلول سنة 1987 (عشية اندلاع الانتفاضة الفلسطينية)، وهو ما يشكل نسبة 35% من إجمالي القوى العاملة في الضفة الغربية، و45% من إجمالي القوى العاملة في قطاع غزة. وتتسم أوضاع العمالة الفلسطينية داخل الاقتصاد الإسرائيلي بطابع استغلالي؛ إذ إن الجانب الأكبر من العمالة الفلسطينية يتركز في قطاعات غير ماهرة أو شبه ماهرة (البناء بصفة خاصة)، وحيث لا تزيد الأجور عن الحد الأدنى للأجور في إسرائيل. ولا تتجاوز نسبة الفلسطينيين العاملين في إسرائيل في وظائف مهنية وفنية نسبة 2%.

ولا شك في أن مسيرة الحكم الذاتي والاستقلال الفلسطيني تؤدي بالضرورة إلى تخفيض هذا الاعتماد التجاري غير المتوازن على إسرائيل في مجالات التجارة والعمالة والأمور المالية. وتمثل عملية "فك الارتباط" الاقتصادي جوهر عملية تقدم الفلسطينيين نحو الحصول على حق تقرير المصير الاقتصادي، حتى يتمكنوا من تحقيق مصالحهم الاقتصادية بحرية، بعيداً عن القسر والإكراه.

وفي هذا الإطار، يجب ملاحظة أن الملحقين الثالث والرابع من "اتفاق غزة - أريحا" فرضا على الفلسطينيين نوعاً من التعاون الاقتصادي القسري، ومشاركة غير متوازنة مع إسرائيل كجزء من الصفقة السياسية الشاملة. وقد تعرض المفاوضون الفلسطينيون في باريس لضغوط شديدة من أجل قبول شكل من أشكال "الاتحاد الجمركي" مع إسرائيل في المراحل الأولى للحكم الذاتي، وذلك على حساب علاقاتهم الاقتصادية البينية والمتميزة مع سائر الدول العربية. وفي واقع الأمر، وافق الفلسطينيون مرغمين على جداول رسوم جمركية مشتركة على معظم السلع من دول الطرف الثالث (بما فيها الدول العربية).

وفي الحقيقة، إن الفلسطينيين مطالبون بالتحرك بسرعة نحو درجة أكبر من الاستقلال السياسي والاقتصادي. ومن الضروري أن تتاح لهم الفرصة ليختاروا بحرية شكل التعاون الذي يرغبون فيه ويختاروا الدول التي يرغبون في التعامل معها، من دون ليّ ذراعهم أو ابتزازهم من جانب الإسرائيليين؛ وإلا، فإن نوع العلاقة بين إسرائيل والكيان الفلسطيني الوليد سيكون مشابهاً لما وصفه مؤرخ يوناني قديم، عندما قال في سياق آخر: "إن القوي يفرض ما يرغب فيه والضعف يعاني ما يجب أن يعانيه."

سابعاً: الآثار الممكنة للهيمنة الإسرائيلية على الاقتصاد العربي

إن الترتيبات الإقليمية البينية بين الدول التي تتمتع بمستويات تنمية متباينة لا بد من أن تعكس علاقات قوة. والقوى الإقليمية المسيطرة تلجأ عادة إلى استغلال التباين وعدم التوازن (asymmetry) في علاقات الاعتماد المتبادلة، من أجل ممارسة الاحتكار والتحكم في الشركاء التجاريين الأضعف والأكثر فقراً لدفعهم إلى تغيير سياستهم ولفرض السيطرة الإقليمية عليهم.

إن التركيب القطاعي للنمط البيني الإقليمي الممكن للتجارة والإنتاج بين إسرائيل وباقي الاقتصاديات العربية يتسم بعدم التساوي، وهو ما يفتح الباب أمام ظهور آثار الهيمنة. ويمكن توضيح هذا الجانب من المشكلة في ضوء القرائن المتاحة بشأن تركيب التجارة بين الدول الآسيوية البارزة في جنوب شرق آسيا، من ناحية، واليابان، من ناحية أُخرى؛ إذ تظهر تلك البيانات بوضوح الطابع غير المتوازن لهذه العلاقات التجارية: فالصادرات اليابانية إلى هذه الدول هي في الأساس سلع مصنَّعة، بينما تقتصر صادرات هذه الدول إلى الأسواق اليابانية على المواد الخام والمكونات. ويمكن تصوير نمط علاقات السيطرة الاقتصادية الإسرائيلية المتوقعة في إطار "الترتيبات الشرق الأوسطية" المقترحة على النحو المبين في الشكل رقم 2:

 

 

وتشير إلى هذه الحقيقة دراسة جامعة هارفرد، الصادرة سنة 1993 بعنوان "تحقيق السلام في الشرق الأوسط: مشروع للتحول الاقتصادي". إذ تعترف الدراسة بأن إقامة منطقة تجارة حرة لتبادل السلع والخدمات ورؤوس الأموال ستتيح فرصاً كثيرة لإسرائيل - بعد إلغاء المقاطعة العربية - من خلال تحويل الكيان الفلسطيني والدولة الأردنية إلى "بوابات" للاقتصاد الإسرائيلي و"معابر" إلى المنطقة العربية، مثلما هي الحال بالنسبة إلى هونغ كونغ، التي تُعَد نافذة للاقتصاد الصيني.

ويتبنى يوسي بيلين، وزير الدولة الإسرائيلي وأحد المساعدين المقربين من بيرس، منهجاً متدرجاً في إطار الاستراتيجية نفسها، حيث يدعو إلى إقامة شبكة من علاقات الاعتماد المتبادل الاقتصادية واللوجستية بين إسرائيل وفلسطين والأردن ومصر وسورية ولبنان، خلال الأعوام الخمسة المقبلة كمطلب مسبق، قبل التحرك نحو مزيد من حلقات التكامل. فقد أشار في كلمة ألقاها أمام عدد من رجال الأعمال البريطانيين المشاركين في "صندوق دعم إسرائيل"، الذي تم تأسيسه أخيراً، إلى أن الشرق الأوسط سيشهد خلال الأعوام الخمسة المقبلة إقامة مرافق مشتركة للبنية الأساسية بين إسرائيل ومصر وفلسطين والأردن وسورية ولبنان (ربط شبكات الكهرباء وشبكات النقل والاتصالات والمياه). وإذا ما نجح ذلك خلال الأعوام الخمسة أو الأعوام العشرة المقبلة، يمكن الحديث حينئذ عن إمكان إقامة "سوق مشتركة". وهكذا، فإن الأمر، وفقاً لرؤية بيلين، يتعلق باختيار التوقيت المرحلي الملائم للتنفيذ، لا بالتخلي عن خطة "السوق الشرق الأوسطية المشتركة"، التي ستحصد إسرائيل أغلب ثمارها في المستقبل. وضمن هذا الإطار المتدرج، يمكن رؤية وفهم مغزى انعقاد مؤتمر الدار البيضاء سنة 1994، ومؤتمر عمان سنة 1995.

ثامناً: الاتجاه نحو سلام دائم وتنمية واستقرار إقليمي

من الواضح أن نموذج التعاون والتكامل الاقتصادي الإقليمي بين الدول الأوروبية لا يمكن نقله أو تقليده في منطقة مثل الشرق الأوسط، وذلك لكثير من الأسباب السياسية والثقافية. والأهم من ذلك أن الدول المشاركة في أية ترتيبات للتعاون الاقتصادي الإقليمي لا بد من أن يتوفر لها حد أدنى من التماثل في الأوضاع الاقتصادية والثقافية والأهداف الاستراتيجية، قبل التنازل عن جزء من السيادة الوطنية.

لذا، فإن أية مخططات لفرض علاقات إقليمية قسرية ستتعرض لمخاطر سياسية تتمثل في عدم قبولها سياسياً، وعدم قدرتها على الصمود والاستمرار في المستقبل.

وحتى نكون واقعيين، فإن الترتيبات الإقليمية العملية الناجحة يجب أن تحترم تطلعات الدول العربية نحو التقدم والاستقلال والتكامل الاقتصادي، مع إقامة نظم وظيفية فرعية متعددة الأطراف تغطي الدوائر الحيوية ذات الأهمية القصوى لحياة شعوب المنطقة وتقدمها. ويمكن إجمال النظم الفرعية على النحو التالي:

1 - نظام للمياه يضمن التوزيع المتكافئ والإدارة الفعالة لموارد المياه في المنطقة، بما يتخطى الحدود الإقليمية لكل دولة على حدة. والإدارة المشتركة لمياه نهر الأردن ذات أولوية ملحة بسبب التباين الشديد في توزيع المياه بين الأطراف، إذ تسيطر إسرائيل حالياً على نسبة 23% من إجمالي الموارد المائية.

2 - نظام فرعي لحماية البيئة يضع حداً لعملية تدهور البيئة، ويصوغ سياسات بيئية مشتركة لمكافحة التلوث، وفقاً لقواعد وسياسات مشتركة.

وقد يكون مثل هذه النظم الفرعية مفيداً للأطراف كافة، إذ تثق الدول المشاركة كلها بأنها تستطيع جني بعض الثمار الفورية الواضحة، فضلاً عن تقسيم بعض "الوفورات الخارجية" الإيجابية المهمة. وعلى النقيض من ذلك، فإن أية خطة دولية أو إقليمية للتكامل ستؤدي في هذه المرحلة إلى وضع احتكاري لمصلحة إسرائيل في إطار ترتيبات اقتصادية جيو - سياسية جديدة.

وهناك عدد من المشاريع الإقليمية المقترحة في إطار اقتصاديات السلام الجديدة، إلا إن هذه المشاريع تتسم بالتوزيع غير المتكافئ للمكاسب والمنافع والأعباء بين الدول المشاركة. وعلى سبيل المثال، فإن تحويل الإمدادات النفطية من منطقة الخليج من خلال خط أنابيب جديد مقترح يربط بين ميناء رأس التنورة في السعودية وميناء حيفا في إسرائيل، ستكون له آثار اقتصادية شديدة السلبية في الاقتصاديات العربية. ومن المتوقع أن يؤدي هذا الخط الجديد إلى حصول الاقتصاد الإسرائيلي على عدة مزايا على حساب إيرادات قناة السويس وخط سوميد.

ومن ناحية أُخرى، فإن تحويل طرق ومسارات تجارة الترانزيت (من ميناءي بيروت في لبنان والعقبة في الأردن) سيؤدي إلى تحميل اقتصاد الدولتين أعباء كبيرة جديدة تؤثر في نمو وازدهار اقتصادي البلدين.

وباختصار، إن الانعكاسات الطويلة المدى لمثل هذه الخطط الإقليمية على الاقتصاديات العربية لم تُدرس بصورة كافية. كما أن الخسائر الاقتصادية الدينامية (الضمنية) يجري تجاهلها عادة لأغراض التبسيط والتسويق السياسي.

تاسعاً: ما العمل؟

بسبب المخاوف من سيطرة إسرائيل في إطار أية ترتيبات اقتصادية "شرق أوسطية"، فإن هناك ضرورة ملحة لوضع خطط تتضمن درجة عالية من التعاون والتكامل الاقتصادي بين مجموعات الدول العربية، قبل الدخول في أية علاقات اقتصادية مع إسرائيل. ولهذا المنهج وجه شبه مواز في حالة دول أميركا اللاتينية التي كانت تخشى سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على اقتصاداتها بعد قيام "النافتا". فقد تم في آذار/مارس 1991 توقيع اتفاق لإقامة منطقة تجارة حرة تضم الأرجنتين والبرازيل وأوروغواي وباراغواي. وبالمثل، هناك محاولات جديدة لإحياء السوق المشتركة لـ "مجموعة دول الأنديز" (Andean Pact Countries)، حيث وضعت الدول المشاركة الخطوط العريضة لهذه السوق في نهاية سنة 1991.

وفي السياق العربي، فإن الحد الأدنى من التحرك المطلوب هو بناء تكامل عربي إقليمي للتعاون، انطلاقاً من الاتفاقات الثنائية، ومن دون الحاجة إلى تأسيس منظمات أو هياكل إقليمية جديدة. ومثل هذا المدخل سيقود إلى تعميق العلاقات الاقتصادية والتجانس بين سياسات الاقتصاد الكلي في الدول العربية. وبصرف النظر عن شكل التعاون العربي البيني في مجال التجارة والاستثمار وسياسات الاقتصاد الكلي، فمن المفترض أن يؤدي ذلك إلى تكوين ثقل استراتيجي يعادل الضغوط التي يولدها وجود إسرائيل لاعباً اقتصادياً رئيسياً في مرحلة ما بعد التسوية. ولا يوجد أدنى سبب يدعو إلى الاعتقاد أن فشل محاولات التنسيق الاقتصادي العربية في الماضي سيعوق، بالضرورة، محاولات التعاون والتكامل في المستقبل، في ظل التحديات المصيرية الجديدة.

خلاصة القول هنا هي أن الترتيبات الاقتصادية الشرق الأوسطية ستؤدي إلى إجهاض مستقبل التعاون والتكامل الاقتصادي العربي. كما أن تدفقات التجارة والمال والتكنولوجيا في إطار الترتيبات الشرق الأوسطية ستدور حول إسرائيل باعتبارها محوراً أساسياً، وهو ما يشكل منطلقاً للهيمنة الإقليمية الإسرائيلية. ومن ثم، فإن الترتيبات الشرق الأوسطية لا يمكن النظر إليها في ضوء الاعتبارات الاقتصادية المحضة، لأنها، بصفة أساسية، جزء لا يتجزأ من سياسات وعلاقات القوة في المنطقة.

وللأسف الشديد، ليس هناك حد أدنى من الاستعداد العربي لهذه المرحلة الحرجة، لا بمشروع موحد ولا حتى بمشاريع قطرية. فعلى الرغم من وجود الكثير من الوثائق الاستراتيجية الإسرائيلية المهمة عن "الشرق الأوسط الجديد"، التي تحمل رؤية لمستقبل العلاقات الاقتصادية الإقليمية، فإنه ليس هناك وثيقة عربية واحدة صادرة عن الجامعة العربية، أو عن المنظمات العربية المتخصصة، أو عن الدول العربية المعنية بالأمر (مصر، سورية، الأردن)، تحمل رؤية عربية شاملة مقابلة.

ولا توجد حتى هذه اللحظة دراسة واحدة جادة تحوي حسابات جديدة للفرص والمخاطر لما يسمى "مكاسب السلام" ومشاريع الاندماج والتعاون الإقليمي الجديدة. وإن كل ما نجده هو مجرد دعوة إلى عدم الانغلاق، وضرورة اللحاق بقطار السلام السريع، من دون أن نعرف ما هي الوجهة والمستقر والمصير، وكأننا نسارع إلى ركوب قطار يسير بنا نحو مصير مجهول.

ولذا، فإن المطلوب من "أهل القبول والتبشير" أن يحددوا لنا قبل الهرولة طبيعة الفرص الحقيقية لا المتوهَّمة، ونوع المبادرات اللازمة لبناء موقف عربي تفاوضي يدافع عن الحد الأدنى من التكامل والتعاون الاقتصادي والسياسي العربي.

 

* بحث قُدم إلى ندوة نظمها معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة في كانون الأول/ديسمبر 1995.

 

[1] Charles Oman, Globalisation and Regionalisation (Paris: OECD-Development Centre, 1994).

[2] Ibid.

[3] راجع:

Newsweek, December 13, 1993, p. 39.

[4] راجع:

Newsweek, December 13, 1993, p. 39.

[5] راجع: طاهر كنعان، "الحياة"، 12/5/1994.

[6] راجع: صلاح الدين حافظ، "الشرق أوسطية: من التطبيع إلى الاندماج"، "الأهرام"، 16/10/1994.

السيرة الشخصية: 

محمود عبد الفضيل: أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة.