إن المعارك المستمرة بشأن الوضع الراهن والمستقبلي للقدس والخليل، وحدود فلسطين/ إسرائيل "النهائية" – وهي، في الأساس، صراعات بشأن من "يملك" هذه البلاد القديمة" – تركت للأسف، في الغالب، تأثيراً جانبياً، هو حجب نضالات شبيهة ومتطورة يشنها مواطنون فلسطينيون في إسرائيل من أجل البقاء في بقعة الأرض صغيرة نسبياً، لم ترجع إلى أصحابها "الأصليين" في الأعوام التي تلت حرب 1948. ولم يكن هذا النضال، في أي مكان آخر، أشد حدّة مما كان في يافا، أكثر مدن فلسطين كوزموبوليتانية قبل سنة 1948، وهي مركزها الاقتصادي والثقافي.
وعلى الرغم من أن يافا العربية أُلحقت بتل أبيب، وأُجلي عنها سكانها، ثم أُعيد إليها السكان، وكادت تمحى، فإنها لا تزال مدينة/ ضاحية مناضلة وناشطة، إذ يمثل سكانها ومشكلاتها عالماً مصغراً للمجتمع الإسرائيلي – الفلسطيني، إلا إن تاريخها بصورة عامة بقي مهملاً من قِبل الباحثين. وقد صدر مؤخراً كتابات: الأول لمؤلف فلسطيني، والثاني لمؤلفة إسرائيلية. ويقدم الكتابان مساهمة مهمة في فهم التطورات الاجتماعية والسياسية والتاريخية في يافا في أواخر العهد العثماني وفي عهد الانتداب، ولا سيما دور المسيحيين العرب، واليهود، في هذه العملية.
في الواقع، إن يافا كانت "عروس البحر"، كما يصفها حنّا ملك، مؤلف "الجذور اليافية". فشواطئها، وميناؤها، وبساتينها، وصناعاتها، كل ذلك ساعد في جعلها مركزاً لهجرة العرب واليهود إليها من كل أنحاء فلسطين ومن البلاد المجاورة بحلول العقد الثالث من القرن التاسع عشر، قبل تدفق المسيحيين واليهود الأوروبيين الذي بدأ في نهاية الفترة العثمانية.
ومع أن يافا استمرت في التوسع خلال عهد الانتداب، فإن حدودها واستقلالها وتاريخها بالتالي قد صُنّفت بالتدريج، في ظل الحكم البريطاني، ضمن السيطرة النامية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لليهود الأوروبيين ولمدينتهم تل أبيب "اليهودي حصراً". وحثّ على هذا الاختفاء أسطورتان قويتان، كانت علاقتهما المركزية بالمشروع الصهيوني في فلسطين مفهومة منذ زمن، لكن موقعهما على العلاقة بين يافا وتل أبيب لا زال يتطلب الكشف عنه بصورة وافية. اعتبرت الأسطورة الأولى أن يافا، كبقية أنحاء فلسطين، مرت بفترة جمود وتخلف حتى "وصول" الأوروبيين في نهاية القرن التاسع عشر. أمّا الأسطورة الثاني والمتصلة بالأولى فهي أن ابنة يافا، مدينة تل أبيب، ولدت حرفياً من "الرمال"، وهي ولادة تنكر ليافا أي دور في إنشاء وسرعة تطوير "أول مدينة عبرية حديثة في العالم".
في "الجذور اليافية" يوثّق ملك تواريخ العائلات البارزة في المدينة. كما أن لوائح الأسماء وأماكن الهجرة مفيدة جداً كونها دليلاً على فحص السجلات التاريخية المعاصرة كالصحف، وسجلات المحكمة الشرعية الإسلامية. وهي، بالإضافة إلى ذلك، تؤكد مكانة يافا كمركز للهجرة من مدن أُخرى في فلسطين، وللنزوح إلى الداخل قبل نشوء الصهيونية. كذلك يقدم المؤلف وصفاً تفصيلياً لضواحي يافا، ولصحفها، ولصناعاتها، ولمعالمها البارزة، ولرابطاتها الرياضية والأهلية. ويقدم، إضافة إلى ذلك، نظرة تاريخية عامة تصف الدمار البارز الذي ألحقه البريطانيون بقسم من المدينة القديمة سنة 1936، ثم احتلالها على أيدي القوات الإسرائيلية سنة 1948.
إن هذا الوصف لضواحي يافا يساعد القارىء في إدراك التنوع السكاني وجغرافية يافا قبل تدمير أو احتلال كل ضواحيها، باستثناء ضاحيتين، على أيدي المهاجرين اليهود من البلاد العربية بعد حرب 1948. ويلفت النظر في هذا الإطار صورة شارع جمال باشا (بولفار القدس حالياً)، في أثناء الانتداب (ص 35)، والتي تكشف جماله، وتُظهر أيضاً أنه في تخطيطه ومبانيه شبيه ببولفار روتشيلد في تل أبيب. والأهم من ذلك أن القارىء يرى أنه ينفتح على حي كامل آخر هو حي المنشية، الذي دمر بكامله بعد حرب 1948. إن هذا المشهد لن يُرى ثانية أبداً، لكن الصورة تساعد القراء في تقدير يافا التي زالت من الوجود حق قدرها.
إن أهمية كتاب ملك لا تكمن في الأوصاف التاريخية، إذ إن أكثرها يمكن إيجاده في موسوعات عربية مثل "بلادنا فلسطين" و"الموسوعة الفلسطينية"؛ وإنما تكمن الأهمية في تركيزه على حكايات وذكريات العائلات التي عاشت هناك، ولا سيما العائلات المسيحية (ولو كانت النخبة فقط). وهكذا، يساعدنا المؤلف في فهم كيف رأى أهل يافا مدينتهم في عزها، وهو بذلك يوفر لنا حجة مهمة مناقضة للفكرة السائدة أن يافا هي المكان الخلفي لتل أبيب، والمنعزل عنها، أو كما هو شائع حديثاً، أنها مغرية سياحياً، وضاحية للأثرياء الجدد.
إذا كان في كتاب "الجذور اليافية" أية نقطة ضعف فهي أنه كالحكايات والذكريات الأُخرة للمقيمين العرب السابقين بالمدينة، خال كلياً من ذكر سكان يافا اليهود على الرغم من إقامتهم بها منذ زمن، والدور المهم الذي قاموا به في تطويرها (مثلاً، بلغ عددهم ثلث مجموع سكانها تقريباً في الأربعينات). ويبدو أن محو يافا العربية من تاريخ إسرائيل أدى إلى حذف مماثل ليهودها لدى سكانها العرب السابقين.
إضافة إلى غياب الجالية اليهودية اليافية في الروايات العربية، فإن هذه الجالية أُهملت أو هُمّشت في التأريخ الصهيوني/ الإسرائيلي التقليدي الذي ركّز، إلى حد بعيد، على تل أبيب ودورها السياسي والاقتصادي، فضلاً عن دورها الرمزي في المشروع الصهيوني في فلسطين. ومن حسن الحظ أن الكتاب الجديد للمؤرخة الإسرائيلية حانا رام، "المجتمع اليهودي في يافا"، يعيد اكتشاف ماضي يافا اليهودي الذي عجز المؤرخون القوميون من الطرفين عن فسح أي حيز له في رواياتهم الإقصائية المحددة الغاية. وإدراكاً للمشكلات التي تتصل بالأبحاث الجارية، نجد أن الجالية اليهودية تقصد تخطي "القصة الفولكلورية التي يمتزج فيها الخيال بالواقع، مع أننا نقبلهما كحقيقة تاريخية، [مثل] أسطورة تأسيس تل أبيب، 'أسطورة الرمال'، من دون الاعتراف بأولئك الذين عملوا على إنشائها" (ص 8). إن عدد وتنوع المصادر التي استعملتها المؤلفة، ولا سيما سجلات مجلس اليهود اليافيين والصحف العربية المعاصرة، يساعدانها في تقديم معالجة للموضوع هي الأدق والأكمل إلى الآن.
لعل إنجاز رام الأكبر هو الصورة المتشابكة والدينامية للجالية اليهودية النامية التي تصورها. وبما أن دراسة حانا رام تبدأ قبل عشرات الأعوام من وصول الصهيونيين الأوائل إلى ميناء يافا في الثمانينات من القرن الماضي، فإنها تمكنت من أن تبين أمرين معاً: كيف أن التطور الاقتصادي الذي كان أخذ في النمو في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، ساهم في جذب الـ"علياه" (الهجرة اليهودية ما قبل الصهيونية) من شمال إفريقيا (ص 51)، ثم بالتالي كيف أن "انتشار الييشوف الهيودي كان جزءاً متمماً لعملية التوسع خارج المدينة القديمة وتشكيل المدينة الجديدة" (ص 126). يضاف إلى ذلك أن رام بتقديمها تحليلاً للدينامية الاجتماعية – الاقتصادية العاملة في أوساط سكان المدينة اليهود خلال الفترة التي أدت إلى الهجرتين الصهيونيتين الأولى ثم الثانية، قد أعطت الباحثين معطيات جديدة لفهم الصراعات المتنوعة بين المجتمعين، والتي كانت تنشأ مع التغير الدائم في يافا نتيجة تزايد الهجرة اليهودية الأوروبية إليها. وقد شملت صراعات بين الجماعات اليافية والمقدسية بشأن قيادة الييشوف الساعي للتوسع، وبين الجماعات الأشكنازية والسفاردية في يافا، ثم "حرب الآراء والمبادئ"، وهي الأوسع شهرة (ص 147)، بين الييشوف "العلماني" الجديد والييشوف "التقليدي" القديم في فترة الهجرة الثانية.
ويوثق النصف الثاني من كتاب "المجتمع اليهودي" الـ"صهينة" المتدرجة للمجتمع اليهودي والأراضي حول يافا. ومع توسع يافا خارج جُدُر المدينة القديمة خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، كان اليهود في البداية، على العموم، يعيشون بين السكان، لا في ضواحي خاصة بهم. وبينما شهدت أواخر الثمانينات من القرن تاسع عشر تأسيس الضواحي اليهودية الأولى للمدينة، فقد ظل هؤلاء، فيما يتعلق بالحيّز والثقافة والاقتصاد، جزءاً من يافا؛ إلا إنه مع قيام المؤسسات الصهيونية، كالبنك الإنكليزي – الفلسطيني و"مكتب أرض إسرائيل" التابعين للمنظمة الصهيونية في العقد الأول من القرن، نشأت فكرة تأسيس ضواحٍ لليهود حصراً على مسافة من المدينة، وكانت ذروة ذلك تأسيس تل أبيب سنة 1909. وسجّل إنشاء تل أبيب حداً فاصلاً في هذه العملية بما في ذلك من تأثيرات عميقة لا في مجتمع يافا اليهودي فحسب، بل في المدينة ككل أيضاً.
وبناء على أن تلك أبيب لم تكن تُعتبر مجرد ضاحية لليهود حصراً، وإنما جزءاً من مخطط مدروس "للسيطرة على يافا اقتصادياً" (كما قال أرثر روبين)، فإن من غير المستغرب أن تكون السلطات التركية المحلية عارضت إنشاءها. والأكثر أهمية من ذلك هو بحث رام في مصادر الصراع المتزايد بين القيادتين بشأن السلطة السياسية والمالية في مجتمع يافا اليهودي. ومن عرض رام يرى المرء كيف أن كل موجة من العنف المجتمعي بين العرب واليهود – في السنوات 1921 و1929 و1936 – أدت إلى تعزيز وضع تل أبيب مع تزايد أعداد اليهود الذين كانوا يغادرون مدينةً لم يعودوا يرون فيها مدينة لهم.
ختاماً، إن كتابيْ "الجذور اليافية" و"المجتمع اليهودي" هما خطوة أولى في عملية طويلة لإدخال تاريخ الشعبين المهمشين في يافا وتل أبيب (وشعب فلسطين كلها) في تاريخ البلد. ولا زال هنالك مصادر مهمة لا بد من تفحصها، مثل سجلات يافا (التي بدأت تجذب انتباه الباحثين بصورة ملموسة)، ومصادر الأرشيف العثماني (التي لم تستعمل إلى الآن بصورة منهجية)، والآثار المتبقية من العهد العثماني، الموجودة، فعلاً، في صناديق في متحف يافا بانتظار من يصنفها ويحللها. لقد بيّن حنا ملك وحانا رام حجم التاريخ الذي لا يزال بحاجة إلى الكتابة، وبفعلهما هذا ساهما في وضع جدول أعمال للبحث مستقبلاً في تاريخ يافا وتل أبيب وفلسطين كلها.