الجنوب اللبناني في خمسين عاماً: صمود ومقاومة... وسلام لا يأتي
كلمات مفتاحية: 
الجنوب اللبناني
الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982
الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1978
انسحاب القوات الإسرائيلية
لبنان
تهديد لبنان
نبذة مختصرة: 

يتناول هذا المقال مسألة الاحتلال الإسرائيلي لجزء من الجنوب اللبناني، وعلاقة الصراع القائمة بين لبنان وإسرائيل منذ إنشائها، مع التركيز على العقود الثلاثة الأخيرة أي منذ العام 1968 الذي شهد بدايات المقاومة الفلسطينية على أرض الجنوب. ويستعرض المقال المشاريع الإسرائيلية للانسحاب من الجنوب بدءاً من مشروع حكومة يتسحاق رابين (1993)، ومشروع حكومة شمعون بيرس وصولاً إلى مشروع لبنان أولاً الذي طرحته حكومة بنيامين نتنياهو، ثم مشاريع كل من يتسحاق مردخاي وأريئيل شارون ويوسي بيلين. ويعرض المقال أربعة احتمالات لمستقبل الصراع في الجنوب، ليخلص إلى أن الوحدة الوطنية الداخلية للبنانيين، والتضامن العربي، بمضمونهما الجدي هما السبيل لإنهاء الاحتلال.

النص الكامل: 

 

ثلاثون عاماً من الاحتلال والمقاومة

إن عمر معاناة الجنوب مع جاره اللدود هو من عمر الحرب العربية – الإسرائيلية سنة 1948 التي شارك فيها لبنان بجيشه الناشئ، ولم يشكل اتفاق الهدنة الذي وقع في 23 آذار/مارس 1949 سوى محطة لم تكن تكفي حتى لالتقاط الأنفاس.

فقد استمرت الحدود اللبنانية – الإسرائيلية عرضة للعمليات المتقطعة حتى صيف سنة 1968 عندما بدأ الفدائيون الفلسطينيون يؤسسون الخلايا الأولى في الجنوب اللبناني قبل الانتشار الكثيف سنتي 1970 و1971 بسبب تصفية مخطتهم الأردنية. ومنذ ذلك الوقت صار الجنوب أكثر الجبهات العربية اشتعالاً، وتحول، في العقود الثلاثة الماضية بين سنتي 1968 و1998 (باستثناء حرب 1973)، إلى ميدان عسكري وحيد للصراع اليومي والمستمر من دون انقطاع بين جبهات الدول العربية مع إسرائيل. فشهد لبنان أربعة اجتياحات كبيرة: سنة 1987، وسنة 1982، وسنة 1993، وسنة 1996، فضلاً عن الاجتياحات الصغيرة، وغارات الطيران الحربي "الروتينية" التي تدمر وتقتل وتهجّر، ومحاصرة المرافئ البحرية، والحملات البرية التي من نتائجها نسفي البيوت والاعتقال والنفي. وعّقّد الكثير من الاتفاقات: اتفاق الهدنة سنة 1949؛ اتفاق القاهرة سنة 1969؛ اتفاق 17 أيار/مايو 1983؛ تفاهم تموز/ يوليو 1993؛ تفاهم نيسان/أبريل 1996. وحلّت على أرضه جيوش عربية (قوات الردع) (سنة 1976)، وقوات متعددة الجنسيات (سنة 1982)، وقوات الأمم المتحدة التي لا تزال ترابط على تخوم "حزام الأمن". وعرفت هضاب الجنوب وأوديته ومساكه الوعرة كل أنواع المقاومين، من لبنانيين وفلسطينيين وعرب وأمميين حالمين بالثورة؛ علمانيين ومتدينين أولاً، ثم إسلاميين احتكروا ساحة المقاومة وتحول الجنوب معهم إلى جزء من معادلة إقليمية، ولم يعد شأناً لبنانياً بحتاً.

وفي هذه العقود الثلاثة تمادت إسرائيل في طموحاتها إلى أقصى مدى يمكن أن تبلغه: احتلت بيروت ومعظم لبنان؛ طردت رجال المقاومة الفلسطينية؛ أوصلت مرشحها بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية. ثم تراجعت تحت ضربات "المقاومة الوطنية" إلى "حزام أمن" يشكل 10٪ من مساحة لبنان، لا تكاد تصمد فيه أمام حرب الاستنزاف التي نجحت "المقاومة الإسلامية" في فرضها على الجيش الإسرائيلي داخل الأراضي اللبنانية. ومهما يكن الجدل بشأن التقويم الراهن للوضع الجنوبي: هل الجنوب رهينة لدى إسرائيل إلى أن تفرض سلمها على لبنان وسورية، أم أن القوات الإسرائيلية في الجنوب صارت رهينة "المقاومة الإسلامية" كمحصلة لبنانية – سورية – إيرانية؟ هل لا يزال "حزام الأمن" خطاً أمامياً ودرعاً يمتص الضربات قبل أنت تصيب إسرائيل، أم تحول إلى "بطن رخو" يضحي الجنود الإسرائيليون بحياتهم لحمايته؟ هل لا يزال جنود "جيش لبنان الجنوبي" "أكياس رمل" صالحة للاستعمال، أم صاروا عبئاً على الجيش الإسرائيلي، وصيداً سهلاً للفخوخ التي يتفنن رجال المقاومة في نصبها؟ ومهما تتباين الإجابات عن هذه الأسئلة – وهي على أهميتها نوع من التحليل البارد لحالة عسكرية وإنسانية ساخنة – فالثابت هو أن الجنوب مستمر ساحة قتال وأرضاً محروقة، وأن قدر الجنوبيين المعاناة الدائمة إلى أجل لا يملك أحد الآن تحديده. هذه المعاناة التي تمتد من دائرة ضيقة: "حزام الأمن" بعدد سكانه الذي تقلص إلى حدود الستين ألف نسمة أو السبعين ألفاً بعد موجات النزوح المتتالية، إلى دائرة أوسع تشمل القرى المحيطة بالحزام التي تتلقى يومياً قذائف مدافع الجيش الإسرائيلي وقذائف طائراته الحربية، ثم تمتد لتشمل كل الذين تغيرت أوضاع حياتهم نتيجة النزوح والاستقرار (أو عدم الاستقرار) بأماكن أُخرى من لبنان وخارجه. لكن المعاناة لا تتوقف هنا، بل تمس حياة كل الشعب اللبناني والوطن اللبناني الذي لا يمكن أن يقوم فيه عمران وازدهار، ولا يمكن أن تكون فيه حياة طبيعية كغيره من الشعوب والدول، ما دام الاحتلال قائماً، ومخاطر الاجتياحات والتهجير مستمرة، والإرادة الشعبية مكبلة بالاعتبارات المتضاربة.

وعلى هذا، فالسؤال الجنوبي صار سؤالاً لبنانياً منذ تفجره على الساحة اللبنانية كلها، ولا سيما في اجتياح سنة 1982 وما تلاه من أحداث. وهو لا يزال يطرق أذناً عربية صماء (بالعجز أو التخاذل، سيان). فمهما يكن التقدير العربي لتضحيات أهالي الجنوب وللدور الذي تضطلع به المقاومة ولنجاحها في تكبير المأزق الإسرائيلي، فإن "النموذج" و"البؤرة" و"الطليعة" لا يمكن أن تظل حالة "شاذة" في بحر عربي راكد، وخصوصاً عندما تتداخل العوامل المتعددة وتتفاعل لتولد خطراً يهدد وحدة لبنان، أرضاً وشعباً.

مشاريع الانسحاب الإسرائيلية

أطلقت حكومة بنيامين نتنياهو حملة دبلوماسية عنوانها: تنفيذ القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 19 آذار/مارس 1978 لمعالجة آثار الاجتياح الإسرائيلي الذي بدأ ليل 14 – 1ذ5 من الشهر نفسه، وعرف باسم "عملية الليطاني". ولم تكن إسرائيل تعترف قبل ذلك بهذا القرار الذي طالما دعا المسؤولون اللبنانيون إلى تنفيذه. وفي السنوات الأخيرة، تحول يوم 14 آذار/مارس من كل سنة إلى يوم إعلامي يذكّر فيه اللبنانيون أنفسهم والعالم بالقرار 425 وضرورة تنفيذه، عبر الحشود الاحتفالية والتظاهرات الإعلامية، والكثير من الكلام والتصريحات والخطب.

وقد سبق أن أعلنت حكومة يتسحاق رابين، بعد اجتياح سنة 1993 (عملية "تصفية الحسابات")، مشروعاً يقوم على اختبار قدرة الجيش اللبناني على حفظ الأمن في النوب مدة ستة أشهر، ثم ينسحق الجيش الإسرائيلي خلال ثلاثة أشهر، يتم بعدها توقيع معاهدة سلام مع لبنان.

وطرحت حكومة شمعون بيرس، في إبان عملية "عناقيد الغضب" سنة 1996، مشروعاً مماثلاً أسقطت منه عقد معاهدة سلام وأبقت على الشروط الأُخرى التي تشمل: إزالة تهديدات "الإرهاب" وتفكيك البنية العسكرية لـ"حزب الله" وسائر "المنظمات الإرهابية"، وضمان سلامة جنود "جيش لبنان الجنوبي"؛ على أن يتم ذلك كله بموافقة سورية ودعمها.

وعرضت حكومة نتنياهو، بعد تأليفها في أواسط سنة 1996، مشروع "لبنان أولاً" الذي يطالب أيضاً بحل "حزب الله" وتجريده من السلاح وباستيعاب جنود "جيش لبنان الجنوبي" في الجيش اللبناني، على أن تعهد إليهم – كجزء من الجيش النظامي – مهمة أمنية في الجنوب. ولا يتحدث المشروع عن "معاهدة سلام" مع لبنان، ويكتفي بأن تضمن سورية ترتيبات الأمن على الحدود اللبنانية.

كان وزير الدفاع الإسرائيلي يتسحاق مردخاي، أول من طرح إمكان الانسحاب على أساس تنفيذ القرار 425 (في حديث نشرته مجلة "الوطن العربي" بتاريخ 2/1/1998)، لكنه كبّل مشروعه بشروط لم تقبلها الحكومتان اللبنانية والسورية.

وينص القرار 425 على:

  • الاحترام الصارم لوحدة أراضي لبنان ولسيادته ولاستقلاله السياسي داخل حدوده المعترف بها دولياً.
  • الوقف الفوري للعمل العسكري الإسرائيلي، والانسحاب الفوري للقوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية كافة.
  • إنشاء قوة دولية موقتة في الجنوب اللبناني (UNIFEL)، بطلب من الحكومة اللبنانية، مهمتها:
  • التثبت من انسحاب القوات الإسرائيلية.
  • إعادة السلام والأمن الدوليين في المنطقة المعنية إلى سابق عهدهما.
  • مساعدة حكومة لبنان في توفير الأمن وعودة سلطتها الفعالة في المنطقة.

يكمل القرار 425 القرار 426 (الصادر في آذار/مارس 1978 أيضاً)، الذي يوافق على تقرير الأمين العام للأمم المتحدة المتعلق بإجراءات تنفي القرار الأول.

وينص تقرير الأمين العام (وثيقة رقم S/12611 – تاريخ 19/3/1978 – النسخة الفرنسية) على تنفيذ مهمة القوة الدولية على مرحلتين: تتأكد القوة، في المرحلة الأولى، من "انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبناني حتى الحدود الدولية." وتنشىء بعد ذلك (المرحلة الثانية) منطقة عمليات دولية تمارس منها مسؤولياتها، و"تتخذ كل ما تعتقد ضرورياً للتأكد من عودة السيادة اللبنانية بفاعلية." ومن أجل تسهيل مهمة القوة الدولية، وخصوصاً "الإجراءات لإنجاز الانسحاب السريع للقوات الإسرائيلية، والمسائل المتعلقة بذلك، قد يتطلب الأمر وضع ترتيبات مع إسرائيل ولبنان كتدابير تمهيدية لتطبيق قرار مجلس الأمن...". كما ينص التقرير على أن مهمة القوة الدولية موقتة في انتظار أن تضطلع الحكومة اللبنانية بمسؤوليتها في الجنوب، على أن تعود لجنة الهدنة اللبنانية – الإسرائيلية إلى استئناف عملها بعد انتهاء مهمة القوات الدولية.

ومن أجل تنفيذ الانسحاب يعطي الأمين العام قائد القوة الدولية تعليمات "كي يجري اتصالات فورية بالحكومتين الإسرائيلية واللبنانية، ويتداول مع ممثليهما للاتفاق على كيفية انسحاب القوات الإسرائيلية وإقامة منطقة عمليات الأمم المتحدة."

يستخلص من القرارين 425 و426 وغيرهما من القرارات اللاحقة، التي كانت الولايات المتحدة بين الأعضاء المبادرين إليها أو الموافقين عليها، ومن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة المذكور أعلاه، ما يلي:

  • إن حدود لبنان المعترف بها دولياً ليست موضوع بحث في أية مفاوضات.
  • إن على القوات الإسرائيلية أن تنسحب، من دون شرط، من جميع الأراضي اللبنانية إلى الحدود المعترف بها دولياً.
  • إن مهمة القوة الدولية، بناء على طلب لبنان، هي: التثبت من انسحاب القوات الإسرائيلية الكامل؛ إعادة السلام والأمن الدوليين إلى المنطقة المعنية بالقرار؛ مساعدة الحكومة اللبنانية في إعادة سلطتها الفعالة إلى المنطقة وتوفير الأمن.
  • إن تنسيق عملية الانسحاب الإسرائيلي يتم عبر ممثلي الأمم المتحدة.
  • إن اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل هو الذي ينظم العلاقات بينهما بعد انتهاء مهمة القوة الدولية.

ويتضمن اقتراح يتسحاق مردخاي شروطاً تمس حق لبنان في السيادة على أرضه وإدارة شؤون مواطنيه، ولا علاقة لها بالقرار 425، مثل: تفكيك البنية العسكرية لـ"حزب الله" وتجريده من السلاح، وإدخال جنود "جيش لبنان الجنوبي في الأجهزة العسكرية اللبنانية؛ وهذه من الشؤون الداخلية للدول، ولا تقبل بإملائها أية دولة ذات سيادة. كما أن تنفيذ القرار الدولي لا يستدعي مفاوضات لبنانية – إسرائيلية مباشرة، ولا يمكن مطالبة سورية بضمان اتفاق في الجنوب من دون البحث في مصير الجولان المحتل. أمّا التنسيق بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي، لضمان الأمن على جانبي الحدود، فينظمه اتفاق الهدنة بين البلدين الموقع سنة 1949.

وبعد إطلاق تصريحات صحافية تعكس مواقف قوى إسرائيلية كثيرة من موضوع الانسحاب من الجنوب، انحصر التداول في ثلاثة مشاريع: مشروع مردخاي، ومشروع أريئيل شارون[1]، ومشروع يوسي بيلين[2] (من حزب العمل)، ثم استقر على مشروع مردخاي الذي تحول إلى مشروع رسمي بعد أن وجه ممثل إسرائيل لدى الأمم المتحدة، دوري غولد، رسالة/ وثيقة إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة، مؤرخة في 27 كانون الثاني/يناير 1998، تتبنى موقف وزير الدفاع وشروطه للانسحاب من الجنوب (نص رسالة غولد نشرت ترجمتها العربية في صحيفة "النهار" اللبنانية في 21 نيسان/أبريل 1998). وفي الأول من نيسان/أبريل الماضي، صدر عن مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر بيان يعلن قبول الحكومة القرار 425 والموافقة على انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان "مع ترتيبات أمنية مناسبة،" يتم التوصل إليها عبر مفاوضات بين الحكومتين الإسرائيلية واللبنانية. وبينما يهمل البيان الحديث الصريح عن تفكيك البنية التحتية لـ"حزب الله"، يؤكد "أن أمن سكان الحزام الأمني في جنوب لبنان وجنود جيش لبنان الجنوبي وسلامتهم يشكلان جزءاً لا يتجزأ من تطبيق القرار 425..." (نص البيان في صحيفة "الحياة"، 2 نيسان/أبريل 1998).

وقد اعتبر مجرد اعتراف الحكومة الإسرائيلية بالقرار 425 أمراً إيجابياً في حد ذاته، وكذلك تأكيد استعدادها للانسحاب حتى الحدود الدولية، وأن لا أطماع لها ولا مطالب إقليمية في لبنان. ولعل ذلك يشمل ما قضمته من أراض في الجانب اللبناني من الحدود الدولية، وما استولت عليه من مياه!

رحبت الحكومتان اللبنانية والسورية بإعلان إسرائيل الانسحاب وفق القرار 425، ورفضتا الشروط التي اعتبرتاها خارجة عن مضمون القرار، ودعتا الحكومة الإسرائيلية إلى استئناف المفاوضات السورية – الإسرائيلية، واللبنانية – الإسرائيلية، من حيث توقفت في عهد الحكومة العمالية، وأكدتا تلازم المسارين اللبناني والسوري تلازماً عضوياً أبدياً لا انفكاك له ولا عودة عنه.

أمّا الإدارة الأميركية فتولي المسار الفلسطيني – الإسرائيلي الاهتمام الأكبر، وتدعم في الوقت نفسه أي تقدم متاح على أي مسار، وتنصح للبنان ولسورية التعامل مع الاقتراحات الإسرائيلية بشأن الانسحاب على أنها اقتراحات جادة.

هل من فرصة لتحرير الجنوب؟

 (أ) وضع بنيامين نتنياهو العملية السلمية في فلك مختلف عن ذلك كانت تدور فيه زمن رابين وبيرس. فوارث اليمين التقليدي، وحليف اليمين المتطرف بشقيه العلماني والديني، والفائز بانتخابات شعبية مباشرة بعد مقتل يتسحاق رابين، لا يزال مخلصاً للبيئة التي انطلق منها في منتصف سنة 1996، وللثوابت التي تسيّج رقعة تحركه: خفض سق التطلعات والتوقعات الفلسطينية؛ رفض مشروع الشرق الأوسط الجديد؛ وعدم الاهتمام بتطوير العلاقات العربية – الإسرائيلية في هذه المرحلة؛ تحييد الضغوط الخارجية؛ الاستفادة إلى أقصى قدر ممكن من الوقت لاستحداث "حقائق الأمر الواقع" في المناطق المحتلة.

 (ب) يقدر المراقبون أن الحملة الدبلوماسية التي أطلقتها الحكومة الإسرائيلية بالدعوة إلى تنفيذ القرار 425 تعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية:

(1) الاستجابة للضغوط الداخلية التي لا ترى فائدة في البقاء في لبنان وتكبد خسائر حرب الاستنزاف العتي نجحت "المقاومة الإسلامية" في فرضها على الجيش الإسرائيلي، ضمن قواعد اللعبة في تفاهم نيسان/أبريل 1996.

(2) صرف الأنظار عن تعثر المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، وممارسة السياسة الإسرائيلية "التقليدية" في اللعب على تعمد المسارات، وفك عزلة حكومة نتنياهو على الصعيد العالمي نتيجة تحميلها مسؤولية تجميد العملية السلمية.

(3) انتزاع ورقة المقاومة من يد سورية وإحكام محاصرتها عبر التحالف مع تركيا، والعلاقات الوثيقة بحكومة الأردن، والانقسام اللبناني بشأن دورها في لبنان، وفي وقت يتراجع التضامن العربي إلى أدنى درجاته.

(ج) استفاد الموقف اللبناني/السوري من السمعة السيئة التي لحقت بنتنياهو نتيجة موقفه من العملية السلمية، ومن الشروط التي قرن بها قبوله القرار 425، فشُنت حملة إعلانية نشيطة وبذل جهد دبلوماسي حثيث يعتبران الموقف الإسرائيلي فخاً ومناورة ويصفانه بعدم الجدية والخداع (بينما يعتبر "حزب الله" أن الموقف الإسرائيلي جدي بسبب ضغوط المقاومة). وظل هذا الموقف صامداً وثابتاً حتى بعد أن أعلنت مصادر إسرائيلية أنها تعني بالمفاوضات مع لبنان محادثات عسكرية للاتفاق على الانسحاب والترتيبات الأمنية، على غرار تلك التي جرت سنتي 1984 و1985 بين وفدين عسكريين من البلدين على الحدود الجنوبية، برعاية الأمم المتحدة (حديث صحافي للنائب الأول للمدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، يوآف بيران – القدس 21 أيار/ مايو 1998 – عن الإنترنت http://www.israel-mfa.gov.il).

(د) في الواقع، إن الحكومة الإسرائيلية تعتمد الغموض والكشف، على مراحل/ عن أهداف الحملة الدبلوماسية التي أطلقتها على الجبهة اللبنانية؛ فهي تؤكد حيناً الشروط التي لا انسحاب من دون تحقيقها، وتعلن أحياناً أنها تسعى لانسحاب وفق القرارين 425 و426 والترتيبات التي ينصان عليها، من دون زيادة أو نقصان (ربما لأن لها تفسيرها الخاص للقرارين).

ولا يقل الموقف الرسمي اللبناني غموضاً وحذراً؛ فهو مطالَب (خلقياً على الأقل) بعدم تفويت، بل باستكشاف، أية فرصة يمكن اقتناصها لتحرير الجنوب وإنهاء معاناة أهله. لكنه ملتزم وحدة المسارين، ولا يملك بالتالي الذهاب بعيداً في تقصي الموقف الإسرائيلي "خشية" أن يكون جدياً فعلاً. وفي أي حال، فإن الحكمة والتعقل ألا يوازن لبنان بين ثمن التزام "وحدة المسارين" وثمن الإقدام على فصلهما؛ فهذه مفاضلة لا مكان لها لأكثر من سبب.

إن موقف إسرائيل على الجبهة اللبنانية ليس متطابقاً بالضرورة مع موقفها في الضفة الغربية وفي الجولان، وإن ما تحققه إسرائيل من الانسحاب (وليس البقاء) من الجنوب اللبناني، قد يساعدها في تحقيق أهدافها على الجبهتين الفلسطينية والسورية. وهذا سبب آخر يضاف إلى أن ما تتكبده إسرائيل في الجنوب اللبناني بات يفوق ما تكسبه ببقائها هناك.
(هـ) إن من حق الذين يشككون في جدية الموقف الإسرائيلي أن يفعلوا هذا ما دامت الحكومة الإسرائيلية لم تلجأ إلى الأمم المتحدة (ولو فعلت لكانت هذه سابقة في علاقة إسرائيل بالأمم المتحدة) كي تدعوها إلى تنفيذ القرار 425 وفق الترتيبات التي ينص عليها القرار 426 وتقرير الأمين العام (ولو فعلت لكاتب هذه أيضاً سابقة: إنهاء الاحتلال والخروج من دون ثمن).

وإذا كان من الصعب تصور إقدام حكومة نتنياهو على انتهاج هذا الخيار، الجبهة اللبنانية قد تشهد أحد الاحتمالات التالية:

  • أن تنجح الولايات المتحدة في دفع سورية وإسرائيل إلى طاولة المفاوضات، بعد النجاح في تحقيق تقدم على المسار الفلسطيني- الإسرائيلي.
  • أن يبقى الوضع العسكري (نشاط المقاومة) على الجبهة اللبنانية ضمن سقف مقبول، الأمر الذي لا يحرج أياً من أطراف الصراع بتجاوز ما يمكن احتماله.
  • أن تنفذ إسرائيل، في وقت ما، مشروع (أو لِنَقُل تهديد) أريئيل شارون: الانسحاب من جانب واحد، على مراحل، وانتهاج سياسة التوتير الأمني والعسكري بمختلف أشكالها، وتحميل لبنان وسورية مسؤولية استتباب الأمن على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، تحت طائلة أعمال عسكرية انتقامية شديدة.
  • أن تستمر أعمال المقاومة ويستمر نزيف الجيش الإسرائيلي على أرض الجنوب، الأمر الذي يغذي حركة الاحتجاج الداخلية في وجه نتنياهو فيدفع ذراعه العسكرية في اتجاه توسيع ورفع مستوى الأعمال الانتقالية (تدمير منشآت مدنية حيوية لبنانية، ومهاجمة مراكز الجيش السوري في لبنان)، مستفيداً من الترويج الإعلامي الإسرائيلي الناشط أن إسرائيل عرضت الانسحاب، وأن الطرف الآخر (اللبناني – السوري) هو الذي يرفض العرض.

وفي الاحتمالين الأخيرين مراهنة على أن البنية اللبنانية الضعيفة والمفككة، والتي لمّا تبرأ من جروح حربها الأهلية وغير الأهلية، لن تستطيع الصمود في مواجهة عمل عسكري واسع يهدم ما تم بناؤه في السنوات السابقة، ويدفع في اتجاه بيروت مئات الآلاف من المهجرين، مع كل ما ينجم عن ذلك من آثار تدميرية نفسية وبشرية واقتصادية.

وإذا كان اللبنانيون قد نجحوا، حتى الآن، في تلفيق وحدة وطنية وحياة طبيعية هما أقرب إلى تمثل وهم الأشياء من وعي حقائقها الراسخة، فإن عاصفة بهذا الحجم، إذا عصفت، لن تساعدهم في إدرام هذا الوعي.

إن البديل من التفرد أو الاهتراء هو الوحدة الداخلية والتضامن العربي.. لكن بمضمونهما الجدي.

 

[1] يقترح شارون الانسحاب من جانب واحد على مراحل، على أن تتحمل الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني مسؤولية ملء الفراغ الناجم عن كل انسحاب. وإذا لم يتمكن لبنان من ضبط الأمن على الحدود الإسرائيلية تطلق يد الجيش الإسرائيلي في الرد بقوة بما في ذلك تدمير البنية التحتية المدنية، وضرب وحدات الجيش السوري في لبنان.

[2] يقترح مشروع بيلين: إنشاء نظام دفاع متطور في الجانب الإسرائيلي من الحدود مع لبنان، وتصفية العلاقة بـ"جيش لبناني الجنوبي" (دفع تعويضات مالية، وتأمين الإقامة بإسرائيل وأوروبا في بعض الحالات..)؛ صدور قرار عن مجلس الأمن بزيادة قوات الأمم المتحدة؛ انتشار الجيش اللبناني على الحدود بالتنسيق مع القوة الدولية؛ امتناع "حزب الله" من النشاط في مناطق انتشار الجيش اللبناني؛ التزام الحكومة اللبنانية تطبيق اتفاق الهدنة لسنة 1949؛ انسحاب القوات الإسرائيلية في أقصر وقت ممكن؛ تحذير أميركي وأوروبي وياباني لسورية بمعاملتها كدولة منبوذة (مثل إيران والعراق وليبيا)، إذا عرقلت الانسحاب؛ إعلان إسرائيل الرد على أية أعمال عنف على النحو الذي تراه ملائماً وفاعلاً. (الترجمة العربية للنص الكامل لمشروع بيلين في صحيفة "النهار" البيروتية بتاريخ 27 و28 و29 أيار/مايو 1998).