كان الصراع بشأن فلسطين باستمرار صراعاً بشأن السيطرة على الأرض. وقليلون هم الذين رصدوا تطور سياسات إسرائيل حيال الأرض في المناطق المحتلة ببراعة وانتباه المحامي رجا شحاده من رام الله.
كان شحاده، خلال القسم الأكبر من عمله في المحاماة، يشارك بصورة حميمة في مهمة حيوية، لا شكر من ورائها، تتمثل في تفنيد وإثبات بطلان الأساليب الرئيسية التي كانت إسرائيل تستخدمها، خارقة بذلك القانون، من أجل تحويل المناطق المحتلة إلى "أرض إسرائيل".
وقليلون هم الذين يستطيعون أن يضارعوه في خبرته ومعرفته بمساعي إسرائيل لتنظيم ادعائها، عبر القانون والدبلوماسية، ملكية الأراضي التي يعتبرها الفلسطينيون إرثاً لهم. وبالتالي، كان طبيعياً أن يوافق شحاده على المشاركة كمستشار قانوني في الوفد الفلسطيني الذي ذهب إلى واشنطن بعد مدريد. إن ما يدعو إلى الدهشة أن الدروس التي تعلمها شحاده وآخرون نتيجة خبراتهم المهنية المتراكمة بمقاومة سياسة إسرائيل فيما يتعلق بالأرض والاستيطان، كان صانعو القرار الفلسطيني يتجاهلونها بانتظام. كان ذلك صحيحاً منذ البداية، منذ المفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن "الإطار المرجعي"، التي سبقت الدعوة إلى عقد مؤتمر مدريد للسلام في تشرين الأول/أكتوبر 1991، وما بعده.
والآن، يقدّم شحاده أفكاراً مهمة فيما يتعلق بالنصوص الدبلوماسية والقانونية التي تحدد العلاقة بين إسرائيل والأرض التي تطمع فيها، والفلسطينيين الذين يسكنونها، والسلطة الفلسطينية. وفي كتابه هذا الذي بين أيدينا، وضع شحاده هذه التطورات التاريخية في الإطار السياسي الحي الذي أحاط بها. وبذلك يكون قطع شوطاً بعيداً في الردّ على السؤال الأساسي: لماذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية (ثم السلطة الفلسطينية من بعدها)، بصفتها ممثلة للشعب الفلسطيني، على استعداد للاعتراف بالمكانة المحميّة لمزاعم إسرائيل المتعلقة بالأرض وبالاستيطان في المناطق المحتلة بثمن باهظ على حساب طموحاتها.
يدرك شحاده إدراكاً لا نظير له الإطار القانوني الاستثنائي الذي وضعته إسرائيل منذ سنة 1967، لتبرير وشرح سياستها التوسعية في مصادرة الأرض والاستيطان. إن هذه الرؤية تمكنه من تقديم حجة مقنعة بأن الاتفاقات التي تم التوصل إليها بين إسرائيل وم.ت.ف. هي "ذروة عملية قانونية بدأت قبل فترة طويلة" - عملية قائمة على إيجاد أساس لسيطرة إسرائيل الدائمة على المناطق المحتلة، والاستيطان في أنحائها كلها. ويأتي هذا التقويم نقيضاً صارخاً لما هو معروف عادة خارج فلسطين، وخارج إسرائيل كذلك.
فقط مع اتفاق "إعلان المبادئ" الذي وُقِّع في احتفال كبير في باحة البيت الأبيض في 13 أيلول/سبتمبر 1993، كسبت م.ت.ف. اعتراف إسرائيل بها ممثلة للشعب الفلسطيني. وهي لا تزال، حتى بعد قيام السلطة الفلسطينية، الطرف الفلسطيني المفاوض. ويقول شحاده إن الاعتراف بها محاوراً فلسطينياً كان الهدف الدبلوماسي الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، خلال هذه العملية. أمّا إيجاد إطار تفاوضي هادف إلى نسف عملية مصادرة الأرض والاستيطان طوال جيل، فكان يعتبره قادة المنظمة إلهاء.
يعكس اتفاق "إعلان المبادئ" وما تلاه "تشابهاً مفاهيمياً أساسياً" بمقترحات إسرائيل في كامب ديفيد عندما أظهر أول مرة الكثيرون من المفاوضين الإسرائيليين تمايزهم. في المفاوضات مع م.ت.ف. نجحت إسرائيل في تحقيق الأهداف الأربعة الرئيسية التي تم صوغها في أثناء مفاوضات كامب ديفيد مع مصر، وهي أن تكون نتائج الاتفاق مع سلطة الحكم الذاتي مفتوحة؛ أن تمارس سلطة الحكم الذاتي صلاحيات وظيفية لا جغرافية؛ ألاّ يحول الاتفاق دون ضم الأراضي المحتلة بالنهاية؛ ألاّ يحول الاتفاق دون التوسع الاستيطاني. وهنا يصرح شحاده "أن الهدف الدبلوماسي الوحيد الثابت الذي سعت له م.ت.ف. ... هو الحصول على الاعتراف بها، وأن تكون الشريك المفاوض الكامل مع إسرائيل، الأمر الذي رُفض في كامب ديفيد. باستثناء هذا الهدف السياسي المهيمن، لا يبدو أن الطرف الفلسطيني سعى لأهداف واضحة مشغولة بعناية أثرت في بنية أو جوهر الوثيقة التي انتهى الطرفان إلى توقيعها."
هناك أربع قضايا استثنيت من إطار الاتفاقات الانتقالية التي وُقِّعت بين إسرائيل وم.ت.ف. وهي: القدس؛ المستعمرات والمستوطنون؛ المواقع العسكرية؛ الوضع القانوني للإسرائيليين في المناطق. لقد نجح الفلسطينيون في كسب موافقة إسرائيل على الشرط الذي يؤكد أن الضفة الغربية وقطاع غزة يشكلان وحدة إقليمية واحدة، يجب الحفاظ على وحدتهما في أثناء الفترة الانتقالية. لقد أمّل الفلسطينيون، كما يشرح شحاده، بأن هذا البند سيقوي مطلبهم أن المستعمرات تخرق الاتفاق لأنها تضعف وحدة الأراضي. إن هذا المطلب، مثل جميع الشكاوى الفلسطينية حيال سياسة التوسع الاستيطاني في أثناء الفترة الانتقالية، كان يُعلن عرضياً (هذا إذا ما أُعلن)، من غير أن يكون له أي تأثير جوهري في سياسة الاستيطان.
يصرح شحاده أن غموض عبارتي "المستعمرات" و"المواقع العسكرية" - وحتى غياب تحديد متفق عليه لـ "القدس" في الاتفاقات، يشيران إلى تفضيل إسرائيل المطالبة بالتعريف الأوسع لهذه العبارات. وقد أذعنت م.ت.ف. في هذا المجال كما في مجالات أُخرى (إنشاء طرق التفافية) إذ إن المزيد من الإحكام كان من شأنه أن يقيّد سياسة إسرائيل وأن يؤدي إلى إبقاء ما يقلّ عن 72% من الضفة الغربية مشمولاً ضمن المنطقة ج التي ستبقى تحت ولاية إسرائيل الحصرية.
هنالك ملاحظة من الملاحظات الأكثر أهمية لشحاده تتصل بصلاحيات السلطة الفلسطينية، وهي المحددة بما يمنحه الحكم العسكري الإسرائيلي، بحيث أن هذا الحكم يبقى المصدر النهائي للسلطة، وصاحب السيادة القانونية على المناطق كلها، حتى تلك التي تخضع لحكم السلطة الفلسطينية الاسمي. ويصرح شحاده أن هذه الصلاحيات "تستند إلى الوضع القانوني الذي كان قائماً قبل اتفاق إعلان المبادئ"، وهي منسجمة مع هدف إسرائيل المتمثل في تفويض صلاحيات إدارية أو وظيفية (بدلاً من صلاحيات إقليمية، وبالتالي صلاحيات سيادية فعلية) إلى سلطة الحكم الذاتي.
لقد تطور لدى شحاده إدراك ثاقب للإطار القانوني الذي أقامته إسرائيل في المناطق منذ سنة 1967. وهنا فإن تغيير كلمة أو عبارة لا يمكن له، في الغالب، إلاّ أن يلاحَظ. على سبيل المثال، فإن الحكم العسكري الإسرائيلي يظل صاحب السيادة القانونية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما في ذلك المستعمرات. إلا إن هناك إشارات في نص الاتفاق الانتقالي، صادقت عليها م.ت.ف.، توحي باهتمام إسرائيل بممارسة السلطة المباشرة على مستعمراتها من دون وساطة الحكم العسكري. و"إذا حدث ذلك"، يكتب شحاده، "فسيكون بمثابة ضم هذه المستعمرات إلى إسرائيل." إنه أيضاً أحد القليلين الذين لاحظوا أن م.ت.ف. وافقت على احترام "الحقوق القانونية" للإسرائيليين في أراضٍ واسعة تقع في مناطق خاضعة للولاية الفلسطينية، بدلاً من أن تترك الحكم في هذا الأمر إلى محادثات الوضع النهائي.
وينظر شحاده إلى دبلوماسية إسرائيل مع م.ت.ف. أنها تعزيز، لا رفض، لأهدافها الإقليمية والاستيطانية كما جرى التعبير عنها خلال ثلاثين عاماً من الاحتلال. لقد جرى إطار المفاوضات "في نطاق القوانين القائمة، لا خارجه." وبالنسبة إلى شحاده الذي أمضى حياته القانونية كلها تقريباً في سعي لإحباط هذا الإطار القانوني وتفشيله، تصبح مشاركة م.ت.ف.، في ظل الظروف، مصدر إحباط وحزن رهيبين.
"وفي النهاية"، كما يصرح، "أدت الاتفاقات إلى تعزيز هذا النظام (القانوني)، ولا سيما فيما يتعلق بالفصل الذي تحقق بواسطته بين المستوطنين والفلسطينيين. وأصبح هذا الفصل هو المبدأ الموجّه الذي بُنيت عليه الوثيقة الأولى التي وقعت بين إسرائيل وم.ت.ف.، أي اتفاق (إعلان المبادئ). وبعد ذلك لم يعد في إمكان أي قدر من المفاوضات البارعة أن يوسع سلطات المجلس الفلسطيني وصلاحياته لتشملا المناطق أو الصلاحيات التي استولى عليها المستوطنون الإسرائيليون خلال 28 عاماً من الاحتلال."
الآن، وبعد أن فازت م.ت.ف. بالاعتراف، فلا تزال منهمكة في ما تعتبره نضالاً سياسياً مع إسرائيل (والولايات المتحدة) للحصول على حقها في الاستقلال والسيادة. إن التاريخ الذي أوجزه شحاده بأسلوب فارض يوحي بأن مسار الدبلوماسية في المستقبل هو اعتراف الولايات المتحدة أولاً، ومن ثم إسرائيل، بشرعية تطلعات م.ت.ف. إلى السيادة، تمهيداً لإعلان دولة فلسطين في أجزاء من غزة. في مقابل هذا الإنجاز، سيعزز نص الاتفاق الذي سيليه نجاح إسرائيل في كسب اعتراف م.ت.ف. بالنطاق الواسع لصلاحياتها وسلطتها في كل المناطق المحتلة - استمرار الاستيطان والسيطرة على الأرض بالدرجة الأولى - وهي الصلاحيات والسلطة اللتان تنبأت بهما الاتفاقات المعقودة حتى الآن.