تقدم هذه المقالة شرحاً عن ظاهرة "ما بعد الصهيونية" حيث تعتمد المقاربة الزاوية الأيديولوجية، التي تظهر نوعين من ظاهرة "ما بعد الصهيونية". النوع الأول ينظر إلى الصهيونية بإيجابية شديدة معتبراً أن الصهيونية حققت كامل أهدافها، أما النوع الثاني فيتعاطى مع الظاهرة في مرحلة ما بعد النازية وما قبل قيام دولة إسرائيل، مركزاً على الأيديولوجية المعادية للصهيونية. ويعتبر الكاتب أن عامل الحداثة كان وراء تطور ظاهرة "ما بعد الصهيونية" خاصة بعد تشرّب المفاهيم الأساسية للديمقراطية الليبرالية الأميركية من قبل الشباب الإسرائيلي.
[.......]
الظاهرة المركبة المعروفة باسم "ما بعد الصهيونية" (Post-Zionism) معقدة جداً، ومكوناتها بالتأكيد غير متماثلة.
ومن الأهمية بمكان أن تجلياتها الأيديولوجية هي نتاج حلقة صغيرة من أنصارها. ومع أن صوت هؤلاء الأنصار مرتفع، وكثيراً ما يبرز في المنشورات المطبوعة ووسائل الإعلام الإلكترونية، إلاّ إنهم يعكسون آراء نخب ذات نفوذ ضئيل في المجتمع الإسرائيلي. لكن "ما بعد الصهيونية" هي أيضاً عملية اجتماعية وسوسيولوجية، لذلك فهي أوسع انتشاراً وأكثر نفوذاً مما نميل إلى الاعتراف به، إذ إنها تظهر في جوانب كثيرة من مواقف الحكومة والأحزاب السياسية.
بالتالي، فإننا يجب أن نتفحص هذه الظاهرة أولاً من الزاوية الأيديولوجية. هناك نوعان من الأيديولوجيا الـ "ما بعد الصهيونية". الأول ينظر إلى الصهيونية بإيجابية، بل حتى بإيجابية شديدة، لكنه يقرر أن الصهيونية حققت أهدافها كلها، ولم يبق لها ما تفعله. ومهما تكن الحال، فإن هدف جعل الشعب اليهودي شعباً طبيعياً قد تحقق، سواء أكان وفق تخيل هيرتسل أم لا. لذا، فلنبدأ الآن العمل من أجل الأهداف التي تسعى لها الأمم التي تعيش بأمان في دولها، مثل رفع مستوى المعيشة وتطوير الرفاه الثقافي والاجتماعي.
حدث التغير بهذا المعنى بعد حرب الأيام الستة (1967)، إذ تم إدراك أن إسرائيل برهنت أنها رسّخت وجودها بما فيه الكفاية. لم يعد من الممكن "رميها في البحر"، وحان الوقت لاتخاذ الخطوات الأخيرة من أجل تحقيق تطبيع العلاقات بجيراننا العرب. وكما نعلم جميعاً، فإن هذا شكّل خلفية جدل متناقض بشأن طبيعة الخطوات المطلوبة.
بالنسبة إلى جزء من الأمة، مهدت الحرب الطريق لتحقيق الهدف الطوباوي، أو - إذا شئتم - "المسيحاني"، لدولة إسرائيل. إنهم يأملون بأن يروا ترسخ "إسرائيل الكبرى"، مع هجرة ضخمة من الاتحاد السوفياتي سابقاً من شأنها أن تتيح لإسرائيل إنجاز هدفها المتمثل في جمع المنفيين، وإنجاز هدفها في تحقيق السلام أيضاً، لأن أعداءها سيكونون مرغمين عندئذ على القبول بوجودها. أمّا بقية الأمة، فقد اعتقدت أنه ينبغي تحقيق السلام فوراً من أجل استكمال المشروع الصهيوني، لأن إسرائيل حققت إنجازات أتاحت لها مفاوضة جيرانها، وعقد تسوية من شأنها تصحيح الظلم الذي أُلحق بالشعب الفلسطيني، وبالتالي تحقيق التطبيع. ويُطرح السلام أساساً باعتباره الهدف الذي سيتوج إنجازات الصهيونية ودورها. إن هذا النوع من الأيديولوجيا "ما بعد الصهيونية" يحاول، فعلاً، أن يقنع الآخرين بأن على إسرائيل أن تتقدم نحو السلام باعتباره تتويجاً إيجابياً للمشروع الصهيوني. وبحسب هذا التصور، فإن الصهيونية أنجزت هدفها وينبغي لها ألا تسعى لما هو أبعد منه.
أمّا النوع الثاني من الأيديولوجيا الـ "ما بعد صهيونية" فهو، أساساً، تجسُّد جديد للأيديولوجيا المعادية للصهيونية، العائدة إلى فترة ما بعد "الكارثة" [على يد النازية] وما قبل قيام الدولة.
كانت الصهيونية، إلى حين قيام الدولة، تمثل أقلية في أوساط الشعب اليهودي، وتواجه معارضة من أجزاء متعددة منه، ولم تكن جهودها تتمتع قط بإجماع عريض. ولم يتكون إجماع يهودي عليها إلاّ بعد "الكارثة" وتأسيس دولة إسرائيل؛ عندئذ فقط أصبحت الصهيونية مسألة وحّد الاتفاق عليها جميع اليهود في إسرائيل والشتات.
وبقي هذا الإجماع قائماً حتى حرب الأيام الستة. بعد ذلك، وخصوصاً بعد حرب الاستنزاف (1968 - 1970) وحرب "يوم الغفران" (1973)، بدأ المرء يسمع أصداء إعادة نظر فيما يتعلق بصحة [أطروحات] الصهيونية.
كان العامل الرئيسي في إعادة النظر هذه إحساساً لدى كثيرين من الشبان الإسرائيليين بأن الصهيونية تتطلب ثمناً شخصياً عالياً جداً من أجل تحقيقها، مطلوباً من الشبان خاصة. وفي هذا السياق، يجب أن تبقى صدمة حرب "يوم الغفران" حاضرة في الذهن. فكثيرون من الشبان استخلصوا منها أن المكاسب الشخصية لم تكن متلائمة مع الهدف القومي المتمثل في إقامة الدولة، وأن من الضروري - من هذه الزاوية - طرح السؤال هل كانت الصهيونية صحيحة وصادقة في ادعاءاتها؟ وبعبارة أُخرى: هل كانت الصهيونية الحل لمشكلات الشعب اليهودي، أو لمتاعبه؟
لاحظ هؤلاء الشبان، عدا إحساسهم بأنهم ظُلموا شخصياً كأفراد، أن أولئك الذين تحرروا من الخوف كانوا يهود الشتات، وأنه إنْ كان ثمة يهود واجهوا خطر الإبادة وكارثة جماعية فهم أولئك الموجودون في إسرائيل وحواليها. بالإضافة إلى ذلك، حتى لو كانت دولة إسرائيل قادرة على منع وقوع كارثة جماعية، كما حدث في الحقيقة في حرب "يوم الغفران"، فإن الثمن غال جداً ولدى اليهود خيارات أُخرى للاستمرار في البقاء.
مهّد هذا الطريق لإعادة النظر في الجانب الآخر المتعلق بعدالة الصهيونية. فقد أحيا ثمن الحروب المرتفع عقدة الشعور الحاد بالذنب حيال الفلسطينيين، الذين ظُلموا، مع أن هذا الظلم لم ينجم في رأيي عن "خطيئة أصلية" صهيونية. وتجدد الجدل بشأن هذه المسألة، لأنه بات واضحاً تماماً لهؤلاء الناس أن جرحاً مفتوحاً يتقرّح ويحول دون انتهاء الصراع.
وبصرف النظر عن هذين العاملين، بدأ [تيار] "ما بعد الحداثة" (“post-modernism”) الأميركي اختراق إسرائيل، بعد حرب الأيام الستة، وأحدث تأثيراً قوياً.
لقد استطاعت إسرائيل أن تعوق تأثيرات "ما بعد الحداثة" حتى حرب الأيام الستة، بتطبيق سياسات اجتماعية واقتصادية أملتها عليها الحاجة إلى استيعاب أعداد كبيرة من المهاجرين. لكنْ بعد حرب الأيام الستة سقطت الحواجز، وتغلغل تأثير المفاهيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لليبرالية الأميركية، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في المجتمع الإسرائيلي مندفعاً بقوة كبيرة.
ويجدر أن نتذكر في هذا السياق أن الصهيونية، كحركة قومية ديمقراطية، تطورت على خلفية، وتحت رعاية الفلسفة القومية الديمقراطية في أوروبا الغربية، وأن المذهب الليبرالي الديمقراطي الأميركي، في المقابل، هو مذهب لاقومي، وإلى حد كبير معاد للقومية وفردي إلى أقصى الحدود؛ وفي نموذجه الأساسي، ينظر إلى الدولة باعتبارها ملكاً لمواطنيها، خلافاً للدولة - الأمة التي هي ملك للأمة بصفتها كائناً تاريخياً. وبالتالي فإنه [أي هذا المذهب] يعتبر الدولة مسؤولة عن رفاه وسعادة مواطنيها كأفراد، لا عن استمرار بقاء الأمة ككائن مستقل ذاتياً.
إن تبني مفاهيم الديمقراطية الليبرالية هذه، وتقبل روحية الفردية والمنافسة المقترنة بهذه المفاهيم، والإحساس بأن دولة إسرائيل ظلمت الفلسطينيين - بمن فيهم من كانوا مواطنين إسرائيليين - كل ذلك أدى إلى انحلال الفهم القومي الأساسي الذي اشتُقت منه الديمقراطية الإسرائيلية في الأصل.
وبدأ المرء يسمع، بعد حرب الأيام الستة، ادعاءات عن وجود تناقض جوهري بين كون إسرائيل دولة يهودية وبين كونها دولة ديمقراطية.
وبحسب هذا الادعاء، فإن على إسرائيل، إذا رغبت في أن تكون ديمقراطية كاملة، أن تكف عن أن تكون دولة يهودية. وحقيقة أن يهوداً يعيشون في إسرائيل ويحملون الجنسية الإسرائيلية كأفراد، ينبغي ألاّ يكون لها علاقة بالمظهر الدستوري للدولة ذاتها. وبالتالي، يجب أن تكون إسرائيل "دولة مواطنيها".
من الواضح أنه ينجم عن رؤية الأمور من هذا المنظور محو جوهر إسرائيل الصهيوني؛ ذلك بأن على إسرائيل، إن لم تكن يهودية، ألاّ تمارس سياسات صهيونية فيما يتعلق باستيعاب المهاجرين اليهود ورعاية اليهودية كنموذج للهوية الثقافية والقومية.
هذه هي، تقريباً، الأطروحات الأساسية لأيديولوجيا "ما بعد الصهيونية". وقد حوّل تشرّب المفاهيم الأساسية للديمقراطية الليبرالية الأميركية [....] ظاهرة "ما بعد الصهيونية" إلى نوع من السلوك الاجتماعي والسياسة الاجتماعية الاقتصادية.
وفي هذا السياق، أشدد على أن عدداً قليلاً جداً من الإسرائيليين اعتبر ذلك تخلياً أيديولوجياً عن الصهيونية. بل بالعكس، افترض معظم الإسرائيليين أن مكاسب الفرد الاقتصادية ستكون متطابقة مع التقدم الجاري في الرفاه القومي واستيعاب المهاجرين والاندماج في المدارس، وستكون علامة على بلوغ الإنجاز الصهيوني الذروة.
[.......].