تنفيذ اتفاقية جنيف الرابعة لضمان حماية الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة
كلمات مفتاحية: 
اتفاقية جنيف الرابعة 1949
انتهاكات قرارات الامم المتحدة
الحقوق المدنية
قطاع غزة
مؤتمرات
نبذة مختصرة: 

مداخلة ألقتها لانغر في ندوة للأمم المتحدة بشأن قضية فلسطين عقدت في مقر المنظمة الدولية في نيويورك. وتتناول هذه المداخلة مسألة تنفيذ اتفاقية جنيف الرابعة لضمان حماية الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة. تستعرض المداخلة طبيعة اتفاقية جنيف الرابعة؛ والموقف الإسرائيلي منها؛ وموقف المجتمع الدولي والممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة التي تشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان؛ ومدى قدرة الفلسطينيين على الحصول على أي وسيلة شرعية لرد الظلم عن أنفسهم؛ وموقف إسرائيل من قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة. تستنتج لانغر أن إسرائيل ترتكب انتهاكات صارخة لاتفاقية جنيف ترقى إلى مستوى جرائم الحرب وترى أن الدول الموقعة على الاتفاقية ملزمة بالتدخل لضمان احترامها. تقترح أن تتدخل هذه الدول من أجل أن تطبق إسرائيل أحكام الاتفاقية كلها وأن تطلب منها التقيد بهذه الأحكام، وإذا رفضت ذلك يطلب من مجلس الأمن تعيين قوة حامية بحسب ما تنص عليه الاتفاقية من أجل حماية السكان في الأراضي المحتلة وفق روح الاتفاقية، وإذا ما استخدمت الولايات المتحدة حق النقض فإن الجمعية العامة مؤهلة للتصرف بناء على قرار الجمعية العامة رقم 377 المعروف بـ: "قرار الاتحاد من أجل السلام"، وذلك من أجل حماية الذين يشعرون إنهم مهملون ومنسيون من قبل المجتمع الدولي.

النص الكامل: 

(1)  اتفاقية جنيف الرابعة، أصلها وطبيعتها

              وُضعت اتفاقية جنيف الرابعة، المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين زمن الحرب، عقب الآثار المروعة التي خلَّفتها الحرب العالمية الثانية، والتي بيَّنت شدة افتقار السكان المدنيين إلى الحماية. ووفقاً لقرار تبنّاه مؤتمر الصليب الأحمر الدولي السابع عشر، الذي عُقد في ستوكهولم سنة 1948 ووافق على مسودات الاتفاقيات التي أعدتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي، فإن الاتفاقية الجديدة الخاصة بحماية المدنيين تستجيب لـ"أعمق تطلعات شعوب العالم"، وتحدِّد "القواعد الجوهرية للحماية التي يستحقها كل كائن بشري."[1]

والمادة التي سأعالجها لاحقاً من الاتفاقية هي المادة الأولى من الباب الأول "أحكام عامة"، التي تنصّ على أن "يتعهد الأطراف السامون المتعاقدون باحترام وضمان احترام أحكام هذه الاتفاقية في جميع الأحوال."

والمادة الأساسية في الاتفاقية، المادة 27، تنصّ – فيما تنصّ – على أن

للأشخاص المحميين في جميع الأحوال حق الاحترام لأشخاصهم وشرفهم، وحقوقهم العائلية وعقائدهم الدينية وممارستها وعاداتهم وتقاليدهم، ويعاملوا في كل الأوقات معاملة إنسانية، وتصير حمايتهم على الأخص ضد أعمال العنف والتهديد بها وضد السب، والتعريض العلني.

وتُحمى النساء بصفة خاصة من الاعتداء على شرفهن وعلى الأخص هتك العرض، والاغتصاب، أو أي نوع من الاعتداء المشين.

إنها أساس الاتفاقية. إن إيراد هاتين المادتين في اتفاقية دولية يسبغ عليها سمة الإلزام القانونية، ويعدُّ مَعْلَم مرحلة حاسمة في تاريخ القانون الدولي الإنساني، المعني أصلاً – وقبل كل شيء – بالإنسان من حيث هو إنسان.[2]

              إن أهم مواد الاتفاقية يفرض على القوة المحتلة، فرضاً مطلقاً، ما يحظر عليها أن تنتهك الحقوق الإنسانية الأساسية للأشخاص الذين تحميهم الاتفاقية. فالمواد 31، 32، 33، 39، 49، 53، تحظر استعمال الإكراه الجسدي أو المعنوي للحصول على المعلومات، وتحظر التعذيب أو إنزال المعاناة الجسدية أو الإبادة، كما تحظر المعاملة الوحشية وترحيل الجماعات أو الأفراد، ونقل السكان المدنيين التابعين للقوة المحتلة إلى الأراضي المحتلة، وتحظر أخيراً تقويض أو إتلاف الممتلكات العقارية أو الشخصية.

تنص المادة 39 على الأحوال التي يحق فيها للأشخاص المحميين أن يحصلوا على مقومات العيش من القوة المحتلة؛ وتنص المادة 47 على الحقوق الثابتة للشخاص المحميين والتي لا يجوز انتهاكها: "لا يحرم الأشخاص المحميون الذين يوجدون في أراض محتلة بأية كيفية من مزايا هذه الاتفاقية، بسبب أي تغيير يطرأ، لاحتلال الأراضي، على أنظمة أو حكومة الأراضي المذكورة، ولا بسبب أي معاهدة تعقد بين سلطات الأراضي المحتلة ودولة الاحتلال، ولا بسبب أي ضم تقوم به الأخيرة لكل أو بعض الأراضي المحتلة."

وتنص المادة 146 المتعلقة بالعقوبات الجزائية على ما يلي:

يتعهد الأطراف السامون المتعاقدون باتخاذ أي تشريع يلزم لفرض عقوبات فعالة على الأشخاص الذين يقترفون مخالفات خطيرة لهذه الاتفاقية، أو يأمرون بها، بحسب ما هو مبين في المادة التالية.

يلتزم كل طرف من الأطراف السامين المتعاقدين بالبحث عن الأشخاص المتهمين باقتراف مثل هذه المخالفات الخطيرة أو أمروا بها وأن يقدم مثل هؤلاء الأشخاص، بغض النظر عن جنسيتهم، إلى محاكمة. ويجوز له أيضاً إذا رأى أفضلية ذلك وطبقاً لأحكام تشريعه أن يسلم مثله هؤلاء الأشخاص إلى طرف آخر من الأطراف السامين المتعاقدين ذوي الشأن لمحاكمتهم بشرط أن يكون لدى هذا الطرف السامي المتعاقد أدلة اتهامات كافية ضد هؤلاء الأشخاص.

وتعرِّف المادة 147 المخالفات "الخطيرة" كما يلي:

المخالفات الخطيرة التي تشير إليها المادة السابقة هي التي تتضمن أحد الأعمال الآتية إذا اقتُرفت ضد أشخاص أو ممتلكات تحميها هذه الاتفاقية: القتل العمد، التعذيب أو المعاملة البعيدة عن الإنسانية، بما في ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة، الأعمال التي تسبِّب عمداً آلاماً شديدة أو إصابة خطيرة للجسم أو الصحة، النفي أو الإبعاد غير القانوني للأشخاص المحميين، إرغام الشخص المحمي على الخدمة في قوات الدولة المعادية، أو تعمد حرمان شخص من الحقوق الخاصة بالمحاكمة الصحيحة القانونية المنصوص عنها بهذه الاتفاقية، أخذ الرهائن والتدمير الشامل للممتلكات أو الاستيلاء عليها دون ضرورة حربية وبكيفية غير مشروعة واستبدادية.

(2) الموقف الإسرائيلي

              تدّعي السلطات الإسرائيلية أن الاتفاقية لا تطبق إلا حيث أُقصيت دولة شرعية ذات سيادة عن الأرض المحتلة، أصدرت بعض الأحكام التي استُبعد فيها إمكان تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة. وقد سوَّغت المحكمة رأيها بناء على المبدأ القائل إن

الاتفاقية غير صالحة لأن تنظر فيها محكمة وإنها، لمّا كانت من جملة القانون الدولي التقليدي لا من القانون الدولي العرفي، فهي لا تشكل جزءاً من قانون إسرائيل المحلي، ولا يمكن لها أن تصبح جزءاً من هذا القانون إلا إذا أقر الكنيست تشريعاً في هذا الشأن.

غير أن محكمة العدل العليا قررت أن أنظمة لاهاي تنطبق على الأراضي التي احتلتها إسرائيل سنة 1967، على أساس أنها تعبّر عن القانون الدولي العرفي المعدود جزءاً من القانون الإسرائيلي في غياب أي قانون محلي يتعارض معها. يضاف إلى ذلك أن رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية، القائي مئير شمغار، قال

إنه يبدو من اللوازم البديهية [اللازمة عن الاتفاقية] ألاّ يُحَوِّل كلُّ احتلالٍ الأراضيَ المحتلةَ إلى أراض تنطبق عليها أحكام الاتفاقية.[3]

(3)  موقف المجتمع الدولي تحليل قانوني

              جوبهت المواقف الإسرائيلية بالرفض العنيف من قبل الأغلبية العظمى من الخبراء القانونيين، ومن قبل اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي وغيرهما. أما موقف الأمم المتحدة الصريح، المؤيد لتطبيق أحكام الاتفاقية، فسأعود إليه لاحقاً.

              إن الاحتلال معرَّف تعريفاً واضحاً في المادة 42 من اتفاقية لاهاي التي تلتزمها إسرائيل. "فلئن كانت إسرائيل تُعدُّ قوة محتلة بحسب مقتضيات اتفاقية لاهاي، إذن يجب أن تُعَدّ قوة محتلة وفق مقتضيات اتفاقية جنيف الرابعة"، بحسب قول أحد الخبراء الإسرائيليين.[4]

ما من إشارة قط، في أي مكان، إلى أن السيادة على الأراضي المحتلة قبل احتلالها، تعتبر شرطاً مسبقاً لتطبيق الاتفاقية التي يغلب عليها "التوجّه إلى الشعوب" لا "التوجّه إلى الأراضي" [من حيث صلاحياتها]. وقد صرَّحت المحكمة الدولية في فتاواها الاستشارية في قضية ناميبيا "أن إشغال الأرض مادياً، لا السيادة [السياسية] أو شرعية الملك، هو الأساس في أهلية دولة ما للأعمال المتعلقة بدول أُخرى."[5]  وتقضي المادة 154 من الاتفاقية بكونها مكملة لاتفاقية لاهاي، لا بديلاً منها؛ وهذه الواقعة تمثل حجة أُخرى لوجوب تطبيق الاتفاقيتين بالتضافر.

ومن أصول القانون الدولي العرفي أن من واجب كل دولة أن تقوم بالتزاماتها الناشئة عن المعاهدات، وأن تعمد في حال نشوب نزاع إلى تطويع قانونها المحلي بما يتسق مع القانون الدولي. وهذا القانون الدولي العرفي منصوص عليه في المادة 13 من إعلان حقوق الدول وواجباتها، الذي تبنته لجنة القانون الدولية سنة 1949، ونصها:

من واجب كل دولة أن تفي، بحسن نية، بالالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، ولا يجوز لها أن تتخذ الأحكام الواردة في دستورها أو قوانينها ذريعة للتقصير في القيام بهذا الواجب.

والقانون مستلهم من القول القديم "العهودُ تُحفَظ"، وقد ضُمِّنَ في المادة 26 من معاهدة فيينا الخاصة بقانون المعاهدات لسنة 1969.

              يضاف إلى ذلك أن على إسرائيل، بحسب المادة 43 من أنظمة لاهاي، أن تحترم اتفاقية فيينا باعتبارها جزءاً من القانون المحلي الذي كان معمولاً به في الضفة الغربية عند حدوث الاحتلال، وذلك وفقاً للمادة 33 من الدستور الأردني.

(4)  الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة.

انتهاكات حقوق الإنسان تحدياً لاتفاقية جنيف الرابعة

              يتخذ قهر السكان في الأراضي المحتلة صوراً متعددة، سأعرضها عرضاً عاجلاً نظراً إلى ضيق المجال.

فمن ذلك أن سياسة طرد السكان وإبعادهم قد باتت تدبيراً مألوفاً، من دون أن تتاح للمبعدين أية وسيلة قضائية فعلية للطعن في هذا التدبير.

وقد تحوّلت العقوبات الجماعية إلى علامة مميزة للاحتلال، من أهم صورها هدم آلاف المنازل. وفي إطار العقوبات الجماعية، عوقبت مدن كاملة بحظر تصدير منتوجاتها، وحظر السفر إلى الأردن، وفرض حظر التجول لفترات متطاولة.

إن جندي الاحتلال، السعيد بالضغط على الزناد، لم يولد مع الانتفاضة. بل إن هذه العادة قد زرعت بالتدريج في الجنود والمستوطنين، حتى باتت محل إجماع بينهم. وقد قتل المئات، على مرِّ السنين، نتيجة "الرصاصات التي أُطلقت في الهواء." ويثابر القادة على الحؤول دون مثول جنودهم أمام القضاء، وذلك من أجل عدم المساس بدافعية الجنود إلى الخدمة في الأراضي المحتلة.

لقد باتت إغارات منتصف الليل على مخيمات اللاجئين في غزة والضفة الغربية مألوفة؛ وقد صار من المعتاد أن يُضرَب سكانها، ويعتقل بعضهم عسفاً، ويهان الجميع. وفي الماضي، كانت الإصابات الخطرة وضحايا إطلاق النار أموراً تحدث بانتظام في مخيمي بلاطة وعسكر وغيرهما من مخيمات اللاجئين. أما مخيم الدهيشة فقد سُوَِرَ بجدران تحيط به، وأُقفل بحيث تحوّل فعلاً إلى غيتو.

إن استعمال التعذيب الذي بدأ، بحسب معرفتي الشخصية، منذ سنة 1967، قد بات منهجاً أَقرّت شرعيته لجنة لنداو (سنة 1987) التي ألفتها الحكومة للتحقيق في طرق الاستجواب المعتمدة لدى جهاز الأمن العام الإسرائيلي، الشين بيت، والتي أوصت باستعمال "الضغط الجسدي المعتدل مع المعتقلين الذين يستجوبون لأسباب أمنية."

إن عملية استعمار الأراضي المحتلة، المورَّى عنها باسم الاستيطان، قد غَيّرت – بمصادرتها الأراضي الفلسطينية – الطبيعة السكانية لتلك الأراضي وبنيتها التحتية. ولم تزل السلطات الإسرائيلية تنفّذ سياسة أبارْتْهَيد (فصل عنصري) واضحة، وذلك من خلال سلسلة من الأوامر العسكرية والقوانين التي تبسط نظامها القضائي والإداري ليشمل المستوطنين اليهود، بينما تطبِّق الأحكام العسكرية الصارمة على السكان الفلسطينيين. وتنتظم المستوطنات في وحدات بلدية ومجالس محلية وإقليمية. والقائد العسكري مخوَّل إقامة "محكمة للشؤون المحلية" من أجل معالجة شؤون المستوطنات. يضاف إلى ذلك أن القوانين الداخلية لهذه الوحدات البلدية تضم الكثير من التشريعات الإسرائيلية، وتلحظ السريان الآلي لمفعول أية تغيّرات تطرأ على القوانين الإسرائيلية في هذه البلديات. أخيراً، فقد سنَّت إسرائيل تشريعاتها الخاصة "التي تطبق خارج حدودها"، والتي يمتد مفعولها على مستوى شخصي إلى المواطنين الإسرائيليين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة. وللمحاكم الإسرائيلية، المدنية والجنائية، صلاحيات النظر في أية دعاوى تنشأ، بما فيها تلك التي يتقدم مستوطن يهودي بها ضد أحد السكان الفلسطينيين. أما الفلسطينيون فيخضعون، على الضدِّ من ذلك، لمنظومة المحاكم المدنية التي كانت قائمة في ظل الحكم الأردني، إلا حين يتعلق الأمر بأحد المستوطنين. ففي هذه الحال، تعرض الدعوى على محكمة مدنية إسرائيلية. ويخضع الفلسطينيون طبعاً لجهاز "عدل" منفصل في المحاكم العسكرية، التي تنظر في القضايا المتصلة بأي من الدواعي "الأمنية" الواسعة التعريف التي تعني القوة المحتلة. والحق أن تلك كانت الحال فيما يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة قبل الانتفاضة. وإلى هذه الصورة السريعة الخطوط ينبغي للمرء أن يضيف القمع الكامل للثقافة الفلسطينية، بحظر الكتب وحرية التعبير والإبداع، وكبح معاهد التعليم العالي والنقابات والصحف والمنظمات النسائية إلخ، فضلاً عن الإذلال اليومي وشتى صنوف المضايقات.

وعلى امتداد هذه الفترة، تعالت الاحتجاجات والتحذيرات السياسية والخلقية ضد هذه المظالم. وقد نهض الناس ذوو الضمائر الحية والنيات الطيبة، من أحزاب ومنظمات في إسرائيل، يناشدون الرأي العام في إسرائيل نفسها وفي العالم. لكن أعدادهم ونفوذهم لم تحل دون تدهور الأوضاع. وينبغي للمرء أيضاً أن يأخذ في الحسبان ندرة المعلومات في وسائل الإعلام. وما يمكن أحياناً أن يعدَّ مؤامرة الصمت التي نفذتها الصحافة المحلية والعالمية حيال الحقيقة المرة.

على الرغم من رسالة السلام السياسية التي أعلنتها الانتفاضة منذ بدايتها، تلك الدعوة المحتوية على اقتراح حل ذي دولتين، وعلى الرغم من إعلان الدولة الفلسطينية من قبل منظمة التحرير الفلسطينية في الجزائر في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1988 والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كدولة (وبقرارات الأمم المتحدة 181، 242، 338)، فقد قررت إسرائيل أن تصفّي الانتفاضة بالقوة الوحشية، رافضة إلى اليوم هذه المبادرة الرسمية للسلام التي تقدم الفلسطينيون بها.

وقد تكثّف القمع بحيث تحوَّل إلى فظائع، منها نجازر نحالين ونابلس ورفح والقدس (المسجد الأقصى)، وسياسة تكسير العظام التي ابتكرها الوزير يتسحاق رابين؛ ومنها سياسة إطلاق النار للقتل التي اتبعتها الوحدات السرية وغيرها التي إنما كانت تُصَفِّي الفلسطينيين من "مطلوبين" وغير مطلوبين، والاعتقالات الجماعية، وهدم المنازل، واقتلاع الأشجار؛ ومنها سياسة حظر التجول لفترات متطاولة، بحيث تؤدي إلى تدمير الاقتصاد الفلسطيني وإلى الجوع أحياناً؛ ومنها سياسة فرض الضرائب القمعية الباهظة، ورفض إصدار رخص العمل في إسرائيل بحيث تؤدي إلى افتقار مروِّع ولا سيما في قطاع غزة، وتكثيف عملية هَبْش الأراضي مع توسع المستوطنات اليهودية توسعاً سريعاً.

وأُودّ أن أُشدّد على أن للمستوطنين آراء شوفينية ومسيحانية شديدة التطرف في شأن كمال أرض إسرائيل، التي يعدُّونها معيَّنة بأمر من الله. وليس الفلسطينيون في نظر المستوطنين شيئاً إلا عقبة يجب التخلص منها، سواء بشتى أنواع القهر أو بطردهم من الأراضي المحتلة. وكلمة "ترانسفير" (طرد الفلسطينيين)، التي كانت فيما مضى كلمة بذيئة، اكتسبت اليوم شرعية الاستعمال، وباتت المناقشات تدور بشأن تاريخه وفعاليته. وقد اختارت المنظمات اليهودية السرية الإرهابية المجرمة أفرادها من المستوطنين، وأشار رئيس الحكومة الإسرائيلية إليهم بقوله "أبنائي الأعزاء". وهم اليوم ما عادوا يحتاجون إلى العمل السري، بعد أن حصلوا على "الضوء الأخضر" من السلطات لـ"التعامل" مع الفلسطينيين. وتظهر آخر عملية أدت إلى مقتل أربعة فلسطينيين على الأقل وجرح 40 آخرين في أول نيسان/أبريل  1992، في مخيم اللاجئين في رفح (قطاع غزة)، نمطاً من استعمال القوة استعمالاً أعشى.

وقد أصدر مركز معلومات حقوق الإنسان الفلسطيني في القدس، في 10 أيار/ مايو 1992، نتائج أول استقصاء منظَّم عن وحدات إسرائيل المقنَّعة، وأظهر أن إسرائيل تنتهج سياسة تصفية الفلسطينيين السريعة من خلال عمليات الوحدات المقنّعة. ومن نتائج الاستقصاء أن عمل هذه الوحدات يرادف عمل فرق الموت. وقد خلص تقرير المركز إلى أن تيسير قواعد إطلاق النار الإسرائيلية، وإلغاء تقارير تشريح الجثث، وعدم مسؤولية الوحدات المقنَّعة وصعوبة التحقيق معها، والتقصير في ملاحقة الحالات الواضحة لاستعمال العنف المفرط، وإغفال أسماء جنود الوحدات المقنَّعة، تشجع السياسة الرسمية في التصفيات المقنَّعة السريعة.

وقد وثَّق المركز الفلسطيني مقتل 75 فلسطينياً، منذ سنة 1988 إلى سنة 1991، على يد الوحدات المقنَّعة. (وخلال المدة نفسها أطلق الجنود النظاميون الإسرائيليون النار وقتلوا 709 من الفلسطينيين). ومنذ كانون الثاني/ يناير 1992، زادت وحدات الأمن الإسرائيلية ذات اللباس المدني وعملياتها الخاصة ضد الناشطين الفلسطينيين، عدداً وعنفاً. وقد غدت العمليات أوقح بصورة متزايدة في غياب الإدانة الدولية، وذلك على الرغم من أنها قد شهدها مراقبون إسرائيليون وأجانب، ومن أنها وُثّقت توثيقاً جيداً في الصحافتين المحلية والعالمية.

ويروي شهود عيان في بيت لحم واليامون وعرّابة وبيت ساحور وطولكرم حدوث عمليات القتل المقصودة هذه. وثمة "قطعة جديدة من التشريعات" هي "تعديل قانون العقوبات" الذي يقرر "أن الشخص لن يتحمل أية مسؤولية جرمية إذا ما تصرف، سواء بالتفويض أو عن طريق الخطأ، ليدفع عن نفسه اعتداء يعرِّض حياته، أو حريته، أو شخصه، أو ممتلكاته، أو حياة وحرية وشخص وممتلكات غيره للخطر."

وقد أطلق الصحافي ب. ميخائيل، من "هآرتس"، على هذا التعديل اسم "قانون الصيد الحر" (20 آذار/مارس 1992)، إذ كتب:

كلمات قليلة فحسب، لكنها كلمات تحمل كثيراً من الشرور. وهذا القانون، كالكثير  غيره من القوانين الجائرة، قد صمم ليسهل على آلة الاحتلال وعلى يهود المناطق (المحتلة) أن يتنمَّروا على العرب هناك، وأن يصدروا الأحكام عليهم. فقد سئم الإسرائيليون ما تسبِّبه لهم من إزعاج ضرورة أن يرفعوا تقريراً كلما زرعوا رصاصة في رأس عربي قذر. ولمّا كان ثمة لوبي برلماني مجتهم، جاهز للاستجابة لك نزوة من نزواتهم، فقد استجيب طلبهم استجابة تامة. فمن الآن فصاعداً، بات في وسعهم أن يطلقوا الرصاص على رماة الحجارة، وأن يطاردوا الصبية الذين يرشقون الحجارة / أو كانوا على وشك رمي الحجارة / أو كانوا ينوون رشق الحجارة، وأن يثقبوا أجسامهم بالرصاص. وسيكون ذلك كله كوشيرا (حلالا)، وشرعياً، ومباحاً.

بلغت حصيلة ضحايا الانتفاضة 1070 قتيلاً، منهم مئات الصبية؛ وهذا تحدّ مأساوي حقيقي للمجتمع الدولي. وثمة الألوف من المصابين والجرحى الفلسطينيين الذين تعرقَل إعادة تأهيلهم بسبب سوء أحوال الخدمات الصحية الناجمة عن السياسة الإسرائيلية.

وقد اكتُشفت مؤخراً وحدة تعذيب خاصة عقب تقرير المحامي الأميركي جِف ديلمان (Jeff Dillman) (العامل بالوكالة عن مركز معلومات حقوق الإنسان الفلسطيني)، المبني على الشهادات الخطية التي أدلى بها ثمانية فلسطينيين من ناحية الخليل، تتراوح أعمارهم بين 14 عاماً و23 عاماً، متهمين برمي الحجارة، ومعتقلين في السجن العسكرية في الخليل. وقد شهد المعتقلون بأنهم عُذِّبوا بالصدمات الكهربائية التي سُلِّطت على أطرافهم، وبأنهم ضُرِبوا ضرباً مبرِّحاً على كل أنحاء جسمهم بقضبان خشبية، وخراطيم المياه، والزجاجات الفارغة، وضربات الكاراتيه، واللكمات. وفي الشهادات الخطية أيضاً أنهم قد غُلَّت أيديهم وطرحوا أرضاً "وراح (المستجوبون) يلعبون كرة القدم بأجسادهم، ويركلونهم ركلات شديدة." و"قد لعبوا كرة السلّة برأس أحد السجناء، فركلوه وشدّوه من شعره." وأُحرقت جفونهم بالسيجارة، وهدَّدهم المستجوبون بقطع قضبانهم. ووضعوا بندقية على رأس الواحد منهم، واستُجوبوا بحضور كلب شرس يهرّ.

وحدة التعذيب هذه اكتشفتها صحيفة "حداشوت" (دورون مئيري، 24/2/1992)، وهذا ما أكّد أن الشكاوى التي وردت في الشهادات الخطية المذكورة هي وصف حقيقي لهذه الوحدة.

لم يحظ الجميع بحظ النجاة كي يدلي بشهادة خطية، بل إن عوض حمدان وابراهيم مطور ومحمود المصري وخالد الشيخ ومصطفى عكاري، وكثيرين غيرهم، لقوا حتوفهم في السجن، وقضوا ضحايا "الضغط الجسدي المعتدل."

(5) هل يستطيع الفلسطينيون الحصول على أية وسيلة شرعية لرد الجور عن أنفسهم؟

              أود، في هذه النقطة تحديداً، أن أُشرككم في خبرتي الشخصية المهنية بعد أن عملت محامية دفاع في المحكمة العسكرية وفي محكمة العدل العليا في إسرائيل، خلال مدة تناهز 23 عاماً، في أثناء الاحتلال. وأنا أعلن، مع الأسف، بما أن يهودية وإسرائيلية، أن لا قِبَل للفلسطيني بأن يحصل على أية وسيلة شرعية لدفع الظل حقاً عن نفسه في أي من انتهاكات حقوق الإنسان المعدَّدة، من تعذيب، ونفي، ومصادرة أرض، وعقوبات جماعية من شتى الصنوف – وفيما هدم المنازل، والتنكيل، والقتل، وإتلاف الممتلكات، والإذلال، والمضايقة، والحرمات من وسائل العيش. ذلك لأن لجان الاعتراض (العسكرية) الاستشارية، التي يعيّنها القائد العام في كل منطقة، ليست سوى أختام مطاطية للموافقة على أفعال القائد العام. وعليّ أن أُقر، بمزيد من الأسف، أن محكمة العدل العليا قد رفضت بانتظام، خلال تلك السنين كلها، أن تصون حقوق الفلسطينيين الأساسية تجاوباً مع روح قانون الأمم. وهذا القول يصحّ اليوم أيضاً.

              في السنتين 1989 – 1990 قررتُ عدم المرافعة أمام المحاكمة العسكرية، احتجاجاً على "المحاكمات الفورية"، وعلى تحويل العملية كلها إلى مهزلة كئيبة. وفي سنة 1991، أكَّد اتهاماتي تقريرُ لجنة العفو الدولية، الذي استند إلى أشهر عدة من الاستقصاء الدقيق، والذي سجَّل لامبالات القضاة العسكريين في مسألة شكوى أحد المعتقلين من سوء المعاملة، على الرغم من أن المعتقل استطاع إظهار آثار ذلك على جسده. لقد ناضلتُ ضد أمثال هؤلاء القضاة طوال أعوام، لكن لسوء الحظ، وعلى الرغم من النشاط المشكور الذي تقوم به منظمات عدة للحفاظ على حقوق الإنسان من مثل بيتسيليم، ومجلس مناهضة التعذيب، والأطباء الفلسطينيون الإسرائيليون لحقوق الإنسان وغيرهم، فإن قسوة "الشين بيت" لم تخفّ ولم تتوقف، كما أن موقف اللامبالاة من قبل القضاة العسكريين قد بات أمراً رتيباً. إن وفاة مصطفى عكاوي في السجن في 4 شباط/فبراير 1992، بعد أن أظهر القاضي آثار التعذيب قبل يوم من الوفاة، وما كان من رفض القاضي الإفراج عنه، لأسطع مثال لهذه الرتابة.

              بعد أن اعتزلتُ المحاكم العسكرية، عزمتُ أن أنذر وقتي كله لمحاولة تحقيق العدالة لعائلات ضحايا إطلاق الرصاص من قتلى، ومصابين، ومدفونين أحياء، وأولئك الذين ماتوا في السجن. فتحول مكتبي، في معظم الوقت، إلى مركز تحقيق. وكنت أناشد السلطات، والمحكمة العليا. حتى إنني أفلحت ولأول مرة في إقامة سابقة (في حالة إبراهيم مطور) بفتح قبر من أجل تشريح ثان على يد اختصاصي أجنبي، بتكليف من أسرة الفقيد. لكن كل ذلك ذهب سدى. فقد اطّلعت على تدني مناقبية أطبائنا الذين لم يمدوا يد الإسعاف إلى الجرحى والضحايا المتألمين، وعلى الضرب حتى الموت الذي يتعرض المعتقلون له من قبل الجنود، وعلى شهادات الزور، وعلى تبرئة ساحة القتلة، وعلى الأحكام المضحكة بتفاهتها وبما تظهره من رخص حياة الفلسطينيين في نظر الحكام. لكنني، في أغلبية الحالات، وقد وقفتُ على واقعة بسيطة جداً، هي أن من الصعوبة بمكان، وحتى من المستحيل أحياناً، أن تثبت العلاقة، "الربط"، بين فلسطيني قتيل وبين قاتله الإسرائيلي. لذلك، خلصت إلى أن الوقت قد حان لأن أصرخ، وأن أنذر، وأن أدين، وأن أخبر الحقيقة عن أسطورة العدالة الإسرائيلية، وأن أناشد المجتمع الدولي بنداء جليٍّ: "الفلسطينيون في الأراضي المحتلة مُطَّرحون خارج القانون، متروكون تحت رحمة أناس بلا رحمة. وهم يحتاجون إلى حمايتكم، الآن!"

(6) إسرائيل وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة عرض وجيز

              ها أنا أعود إلى وجهة نظر المجتمع الدولي في شأن تطبيق إسرائيل لاتفاقية جنيف الرابعة.

              إن أَقْدَم قرارات مجلس الأمن – القرار رقم 237 – اعتُمد بالإجماع في 14 حزيران/ يونيو 1967، ودُعيت إسرائيل فيه إلى أن تصون سلامة سكان الأراضي المحتلة وحقوقهم ومصالحهم، وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة.

وفي 27 أيلول/ سبتمبر 1968 أسف مجلس الأمن، في قراره رقم 259، للتأخير في تطبيق قراره الذي صدر في 14 حزيران/ يونيو 1967، وطلب من الأمين العام مجدداً أن يوفد مندوباً خاصاً يمثله إلى "الأراضي العربية الواقعة تحت احتلال إسرائيل العسكرية بعد حرب 5 حزيران/ يونيو 1967"، وذلك كي يرفع تقريراً عن تطبيق قرار مجلس الأمن السابق. وقد طلب مجلس الأمن، أيضاً، من إسرائيل أن تستقبل الممثل الخاص للأمين العام، وأن تتعاون معه وتسهل عمله. ورفضت إسرائيل ثانية استقبال ممثل الأمين العام، وحالت بذلك دون قيام أي استقصاء دولي على الأرض، في شأن معاملتها للسكان المدنيين، وفي شأن الشكاوى من انتهاكاتها لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة.

في 19 كانون الأول/ ديسمبر 1968، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تؤلف لجنة خاصة للتحقيق في الممارسات الإسرائيلية المتعلقة بحقوق الإنسان للسكان المدنيين في الأراضي المحتلة. غير أن إسرائيل لم تسمح لهذه اللجنة بزيارة الأراضي المحتلة. لكن اللجنة الخاصة، على الرغم من تمنّع إسرائيل من التعاون معها، مضت تجري تحقيقاتها، ورفعت إلى الجمعية العامة تقريراً يفيد بأن إسرائيل تنتهج في الأراضي المحتلة "سياسات وممارسات تنتهك حقوق الإنسان المعترف بها لسكان تلك الأراضي." وقد أشارت اللجنة الخاصة إلى أن إسرائيل تقيم مستوطنات لها في الأراضي المحتلة، وأعلنت "أن القوة المحتلة تنتهج سياسة واعية ومقصودة تهدف إلى إخلاء تلك الأراضي من سكانها." وفي 15 كانون الأول/ ديسمبر 1970، دعت الجمعية العامة إسرائيل إلى أن تطبق فوراً توصيات اللجنة الخاصة، وإلى الوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاقية جنيف المعقودة في 12 آب/ أغسطس 1949، والمتعلقة بحماية المدنيين زمن الحرب، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكل القرارات الصادرة عن المنظمات الدولية على اختلافها. وقد طلبت الجمعية العامة من اللجنة الخاصة، أيضاً، أن تتابع عملها من أجل ضمان حماية حقوق سكان الأراضي المحتلة. لكن إسرائيل لم تكترث، مرة أُخرى، لهذا القرار.[6]

ثمة قرار آخر ذو شأن كبير صدر عن مجلس الأمن في 22 آذار/ مارس 1979، هو القرار رقم 466، الذي "يؤكد مرة أُخرى أن اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين زمن الحرب، والمعقودة في 12 آب/ أغسطس 1949، تطبق على الأراضي العربية التي تحتلها إسرائيل منذ سنة 1967، بما فيها القدس."

خلال السنوات 1988 و1989 و1990، عمدت الأمم المتحدة إلى اتخاذ قرارات في هذا الشأن تصدر عن الروح نفسها، وذلك إعراباً عن الإجماع الدولي الواسع حيال تطبيق إسرائيل لهذه الاتفاقية. وكان كل قرار جديد من قرارات الأمم المتحدة يبدأ بقائمة تحيل على القرارات غير المطبقة، وفي ذلك دليل ساطع على عجز مستغرب ومتطاول المدة من قبل الهيئة الدولية حيال إسرائيل. وقد مضت القائمة تتنامى باطراد، ومعها كانت تتزايد الغطرسة الإسرائيلية، بل الازدراء الإسرائيلي لها.

أحد آخر هذه القرارات كان القرار 681، الذي صدر عن مجلس الأمن في 20 كانون الأول/ ديسمبر 1990، والذي يدين إسرائيل على طردها أربعة فلسطينيين وانتهاكها المادة 49 من الاتفاقية، والذي يؤكِّد مجدداً وجوب تطبيق الاتفاقية على إسرائيل. وقد أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، يتسحاق شمير، أن هذا القرار سيظل في المحفوظات مغطى بالغبار، كغيره من نظائره، ولن يأبه أحد له. ولم تكن هذه مجرد كلمات معجرفة مهينة توجّه إلى المجتمع الدولي، بل إنها قد شُفعت بصدور أمر بطرد 12 فلسطينياً في 2 كانون الثاني/يناير 1992. وقد عقدت أُسر المبعدين مؤتمراً صحافياً في القدس، وأطلقت نداء إلى العالم اتهمت فيه المجتمع الدولي بتجاهل حقوق الفلسطينيين الإنسانية، وبالتساهل حيال الممارسات الإسرائيلية غير الشرعية بحيث تتمكن إسرائيل من الإمكان فيها.

(7) خاتمة ومقترحات

ترتكب إسرائيل انتهاكات صارخة للاتفاقية (انتهاكات هي بمثابة جرائم حرب)، مثلما جاء تعريفها في المادة 147، المستشهد بها في القسم (1) من مداخلتي. وتنصُّ المادة 146 على أن الدولة ملزمة قانونياً بملاحقة الأفراد الذين يرتكبون جرائم كهذه.

وتشدّد المادة 148 من الاتفاقية في صيغتها، التي تحِّد بوضوح الطبيعة المطلقة لهذه الانتهاكات، على أنه "لا يسمح لأحد الأطراف السامين المتعاقدين أن يخلي نفسه أو يخلي طرفاً آخر من الأطراف المتعاقدين من المسؤولية الملقاة عليه أو على الطرف الآخر بالنسبة للمخالفات المنصوص عنها في المادة السابقة."

وهاتان المادتان العظيمتا الأهمية ملزمتان للأطراف السامين الآخرين؛ وهما تعززان الدعوى القائلة إن الدول الموقعة للاتفاقية ملزمة بالتدخل لضمان احترام الاتفاقية، في الأحوال كافة، في العلاقات المتبادلة ما بين الدول المنصوص عليها في المادة الأولى من الاتفاقية.

يضاف إلى ذلك أن ثمة أقساماً من الاتفاقية تعتبر بمثابة "قانون عرفي بل أكثر، إذ تعدُّ بمنزلة قانون أُمم ينشىء مسؤولية جنائية وتشريعاً عالمياً بالنسبة إلى الناس أجمعين."[7]   وفي رأي البروفسور أنطونيو سيسيزي (Antonio Cessese) أن هذه المبادىء تنطبق على حالة إسرائيل في مجالات التعذيب، وغياب حرية الاجتماع، والتمييز العرقي.

وعلى هدي ما تقدم، وأخذاً في الاعتبار الانتهاكات اليومية لحقوق الإنسان التي يتعرض سكان الأراضي المحتلة لها، والتي زادت شدتها مؤخراً، فقد آن الأوان كي تتدخل الدول الموقعة لاتفاقية جنيف الرابعة، كما يلي:

  • أن تطبق على إسرائيل أحكام الاتفاقية كلها، وأن تطلب من إسرائيل التقيد بهذه الأحكام من الآن فصاعداً.
  • وفي حال تشبثت إسرائيل برفض الامتثال، الطلب إلى مجلس الأمن أن يعيِّن قوة حامية، مثلما تنص الاتفاقية، وذلك من أجل حماية سكان الأراضي المحتلة وفق روح اتفاقية جنيف الرابعة.

من الواضح أن قرارارً كهذا لا يمكن أن يُقَرّ إلا إذا لم تعارضه الولايات المتحدة باستعمال حق النقض، مثلما فعلت مراراً عدّة فيما مضى، وإذا كفّت عن التصرف وفق معيار خلقي مزدوج (قارن حالة العراق – الكويت)، وأدركتْ أخيراً أن أحكام القانون الدولي كُلاً شاملاً. مع ذلك، يجب أن نبيِّن أنه في حال نقض أميركي "فإن الجمعية العامة مؤهلة للتصرف في حال نقض أحد قرارات مجلس الأمن. ويمكن لذلك أن يتم بناءعلى قرار الجمعية العامة رقم 377 (الدورة الخامسة) الذي صدر في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1950 (أي "قرار الاتحاد من أجل السلام")؛ وهو القرار الذي استُند إليه في حالات الحرب الكورية (1950)، وأزمة السويس (1956)، والكونغو (1960). واللجوء إلى القرار 377 (الدورة الخامسة) الذي صدر في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1950، يمكن تسويغه بحسب أحكام المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على أن غايات الأمم المتحدة هي 'اتخاذ التدابير الجماعية الفعالة' من أجل الحؤول دون المخاطر الي تهدِّد السلام وإزالة هذه المخاطر، ومن أجل قمع أعمال العدوان. ويمكن لإجراء كهذا أن يسوَّغ على أساس المادة 24 من الميثاق، التي تقضي بأن أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة يولون مجلس الأمن 'المسؤولية الأولى' عن صيانة السلام والأمن الدوليين، ويوافقون على أن مجلس الأمن إذ يقوم بالواجبات التي تمليها عليه هذه المسؤولية، فإنه إنما يتصرف بموجب السلطة 'المفوَّضة' إليه من قبل أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ وانسجاماً مع المبادىء القانونية العامة فإن المنتدب الذي فوِّضت إليه صلاحية ما، إذا ما مُنع من القيام بما انتُدب له، فإن أعضاء الأمم المتحدة – بصفتهم أُصلاء – مؤهلون 'لاتخاذ تدابير جماعية'."[8]

              ثمة إجماع عالمي واسع على أن الممارسات الإسرائيلية، كما هي موصوفة في هذه المداخلة، تشكل تهديدات للسلام؛ وهي أعمال يرتكبها عضو في الأمم المتحدة، قُبلت عضويته بعد أن أعلن تعهده باحترام ميثاق الأمم المتحدة.

إن "قرار الاتحاد من أجل السلام" يجب أن يطبَّق، رابع مرة حمايةً لأولئك الذين يشعرون بأنهم مهملون ومنسيون من قبل المجتمع الدولي.

وإن التساهل حيال الشرّ من قبل القادرين على إزالته، يعني التواطؤ. 

 

*   مداخلة لانغر في ندوة الأمم المتحدة الثامنة بشأن قضية فلسطين، التي عُقدت في المقر العام للأمم المتحدة في نيويورك، في 22 – 23 حزيران/ يونيو 1992.

[1]   Jean S. Pictet, Commentary, p. 15.

[2]   Ibid., pp. 199-200.

[3]   Abdallah Abu Eid: The International Community and the Occupied Territories, pp. 5-6 (Shamgar).                                                                                                               

[4]   Theodore Meron: The West Bank and Gaza; Human Rights and Humanitarian Law in   the Period of Transition. IYHR, Vol. 9, 1979, p. 109.                                             

[5]   رأي استشاري في النتائج القانونية لاستمرار وجود جنوب إفريقيا في ناميبيا (جنوب غرب إفريقيا)، على الرغم من قرار مجلس الأمن رقم 276.

[6]   Henry Cattan, Palestine and International Law, The Legal Aspects of the Arab-Israeli Conflict, pp. 196, 197 (Longman).                                                                                

[7]   Enforcement of International Law in the Israeli Occupied Territories, Al-Haq, p. 35.

[8]   Cattan, op.cit., p. 348.

السيرة الشخصية: 

فيليتسيا لانغر: محاضِرة في جامعة بريمين في ألمانيا. وهي محامية إسرائيلية كانت أول من دافع عن الفلسطينيين المعتقلين في المناطق المحتلة. وقد أغلقت مكتبها في القدس سنة 1990، احتجاجاً على الظلم الذي يتعرض الفلسطينيون له في المحاكم العسكرية في الضفة والقطاع.