هذه الدراسة تطوير (في ضوء الانتخابات الإسرائيلية) لمحاضرة ألقاها بشارة في يوم دراسي عقد في الناصرة في 29/2/1992، بدعوة من مركز الجليل للأبحاث الاجتماعية، تحت عنوان: "المواطن العربي وانتخابات 1992". يتناول من خلالها الكاتب قضية الفلسطينيين كأقلية داخل إسرائيل من خلال السعي إلى تقديم رؤية جديدة لهذه المسألة تختلف عن التوجه "القومي" القائم على محاولة البحث عن تواصل تاريخي مع أرض الوطن والذي يظهر وجود نقصين: إن التمسك به لا يقدم مفتاحاً لفهم التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للأقلية الفلسطينية، وإن التخلي عنه من جهة أخرى يؤدي إلى بروز النقص الحاد الثاني بقبول تهميش العرب في إسرائيل على هامش المؤسسة والسياسة الإسرائيليتين وذلك بحصر القضية الفلسطينية في الضفة والقطاع. تشير الدراسة إلى أن أسرلة العرب في إسرائيل ثم وضعهم على هامش المجتمع الإسرائيلي قد تتحول مع مرور الوقت إلى نموذج لحل قضية الأقليات الفلسطينية في الدول الأخرى إذا تم القبول على المدى البعيد بتقسيم القضية الفلسطينية إلى مجموعة أقليات. من هنا ترى الدراسة إن رفض القبول بهذا المصير يفرض ضرورة تغيير في التوجه يشمل كتابة التاريخ بما في ذلك تاريخ الأقلية العربية في إسرائيل، ليتضح أن هذا التاريخ ليس تاريخ صمود وبطولات بل تاريخ أقلية تبحث عن الأمان في دولة ليست لها، وليصبح برنامجها الوحيد القبول بالاندماج التهميشي إلى جانب دولة فلسطينية تؤدي وظيفة استقبال البعد القومي المصدر إليها. وتشير الدراسة إلى أن تحليلاً جديداً لواقع الأقلية الفلسطينية في إسرائيل يبين أنه في حالة وجود استراتيجية فلسطينية قومية سيتم اكتشاف طاقة كامنة هائلة في تناقضات هذه الأقلية تطرح أسئلة بشأن جوهر دولة إسرائيل، وتعيد البعد القومي بتعريف صحيح للحقوق المدنية لهذه الأقلية. وتستعرض الدراسة من خلال سياق تاريخي كيفية نشوء هذه المسألة وتطورها منذ نشوء قضية اللاجئين الفلسطينيين وإنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين وعلى أنقاض الوجود القومي الفلسطيني، ونقل وجود هؤلاء إلى المجتمع الإسرائيلي كأقلية قائمة داخل دولة اليهود. تركز الدراسة على محطات بارزة في تاريخ هذه الأقلية التي بدأ يتطور لديها الوعي بالاضطهاد بعد حصولها على الحقوق الليبرالية للمواطنة في سنة 1949، وبداية ظهور تحركات سياسية لديها نشأت في كنف أحزاب صهيونية؛ ثم مرحلة ما بعد حرب 1967 التي كانت البداية الحقيقية لتكتلهم كمجتمع له ما يميزه؛ ثم مرحلة إقامة مؤسسات محلية أو وطنية في السبعينيات وتحديداً بعد حرب 1973؛ ثم مرحلة إثارة قضية الاعتراف بالعرب كأقلية قومية بعد يوم الأرض، لتنتهي بمحاولة تحليل لانتخابات الكنيست الثالث عشر التي اعتبرتها نقطة تحول في التاريخ السياسي للأقلية الفلسطينية في إسرائيل.
مقدمة:
تتميز الكتابة الفلسطينية في موضوع الأقلية الفلسطينية في إسرائيل بمحاولة البحث عن تواصل تاريخي مع ارض الوطن. ويشكل العرب في إسرائيل، أو الأقلية الفلسطينية، حلقة كانت مفقودة لفترة طويلة في هذا التاريخ جعلتهم يمثّلون مفهوم البقاء على أرض الوطن والارتباط به.
لكن هذا التوجه إلى الأقلية الفلسطينية، لكونه تشكيلة إيديولوجية تخدم هدف التحرر الوطني الفلسطيني وتشمل عدة رموز ومفاهيم، مثل البقاء على الأرض والنقاء من "آفات" العالم العربية... إلخ، أظهر نقصين ذوي شأن: الأول عند التمسّك به، والثاني عند التخلي عنه. فعند التمسّك بهذا التوجه يتبين أنه لا يقدم مفتاحاً لفهم التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للأقلية الفلسطينية، بل اصبح يحوّل كل أسرلة وطل ازدواجية إلى حلقة جديدة في البقاء والصمود الفلسطينيين؛ البقاء حقيقة وليس مفتاحاً لفهم الحقيقة. والبقاء يمكن أن يكون إسرائيلياً، أو على هامش الإسرائيلية، ولا يخدم في حدّ ذاته معركة تحرّر تحولت إلى معركة سيادة في الضفة والقطاع.
وعند التخلي عن هذا التوجه بدا النقص الأكثر حدّة بقبول تهميش العرب في إسرائي على هامش المؤسسة والسياسة الإسرائيليتين، وذلك بحصر القضية الفلسطينية في الضفة والقطاع. إن الأقلية الفلسطينية في إسرائيل تحولت إلى عامل مساعد داخل السياسة الإسرائيلية ومن صلبها على هامش ائتلافات حكومية. ولم يؤخذ بعين الاعتبار ما يعنيه هذا التوجه بالنسبة إلى مستقبل هذه الأقلية ومبناها العضوى الثقافي. لقد تحوّل التصويت للأحزاب الصهيونية والائتلاف مع حزب العمل إلى أمور مقبولة ما دامت "تساهم في عملية السلام".
لا أعتقد أن التمسك بالتوجه القومي الأيديولوجي إلى العرب في إسرائيل أو التخلي عنه هما سببان للتطور الفعلي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المشوّه للأقلية الفلسطينية. غير أنهما، من دون شك، يساعدان في هذه العملية ويضفيان شرعية عليها. لكن المأساة الحقيقية تكمن في أن هذا كله يعبّر عن أزمة حقيقية لحكة التحرّر الفلسطيني، وعن غياب وضوح الرؤية بالنسبة إلى أهدافها القومية الشاملة.
إن أسرلة العرب في إسرائيل على هامش المجتمع الإسرائيلي قد تتحوّل، مع الوقت، إلى نموذج لحل قضية "الأقليات" الفلسطينية في الدول الأُخرى، إذا قبلنا على المدى البعيد بتقسيم القضية الفلسطينية إلى مجموعة من قضايا الأقليات. أمّا إذا لم نقبل بهذا المصير، فهنالك ضرورة لتغيير في التوجه يشمل كتابة التاريخ، وضمن ذلك تاريخ الأقلية العربية في إسرائيل، لنتبيّن أنه ليس تاريخ صمود ولا بطولات، بل تاريخ أقلية تبحث عن الأمان في دولة ليست دولتها، ليصبح برنامجها الوحيد القبول بالاندماج التهميشي "إلى جانب دولة فلسطينية" تؤدي وظيفة استقبال البُعد القومي المصدَّر إليها. لكنْ، من ناحية أُخرى، فإن تحليلاً جديداً لواقع الأقلية الفلسطينية في إسرائيل يبيّن أنه في حالة وجود استراتيجية فلسطينية قومية، فسنكتشف طاقة كانت هائلة في تناقضات هذه الأقلية الفلسطينية، تطرح أسئلة بشأن جوهر دولة إسرئايل، وتعيد البُعد القومي بتعريف صحيح للحقوق المدنية لهذه الأقلية.
1
العرب في إسرائيل جزء من الشعب، في تشكّلهم التاريخي، وفي مبناهم الحاضر. وقد نشأن التسمية: "العرب في إسرائيل" أو حتى "عرب إسرائيل" (أحياناً)، مع نشوء قضية اللاجئين الفلسطينيين وإقامة دولة إسرائيل على أنقاض الوجود القومي الفلسطيني. ويعني هذا أن نقطة الانطلاق أو البداية في كتابة تاريخ الفلسطينيين داخل إسرائيل هي نقطة الانطلاق أو البداية نفسها في كتابة تاريخ الفلسطينيين الموجودين خارج إسرائيل.
ليست هنالك قومية أو فئة قومية اسمها "العرب الإسرائيليون" أو "العرب في إسرائيل"، لأن "التاريخ السابق" (خلافاً للتاريخ الحاضر)* أو تاريخ تشكُّل هذه الفئة من الفلسطينيين هو التاريخ الفلسطيني. أما "تاريخهم الحاضر"، أو عملية استنساخ تكوّنهم، أو إعادة إنتاجهم كعرب في إسرائيل، فمرتبط ارتباطاً وثيقاً باستنساخ القضية الفلسطينية وإعادة إنتاجها. أما ما يميزهم من بقية الفلسطينيين فهو نقل وجودهم إلى هامش المجتمع الإسرائيلي، كأقلية قائمة داخل دولة اليهود، كمواطنين في دولة لم يختاروا المواطنة فيها، ولم تقم هي من أجلهم كمواطنين، دولة ليست دولتهم – على أقل تعبير – وذلم وفقاً لما تعرّف هذه الدولة نفسها به، وتحدد هويتها نظرياً وعملياً، قانوناً وممارسة.
لا يؤدي حل القضية الفلسطينية بالضرورة إلى حل قضية العرب في إسرائيل، فكم بالحري عندما لم يتم بعد صوغ قضية العرب في إسرائيل على شكل مسألة أو مجموعة أسئلة تبحث عن إجابة. إن التسوية التاريخية للوضع القومي الفلسطيني، القائمة على نموذج "دولتين"، تبدو اليوم بعيدة. ومع أن تسوية القضية القومية على شكل حل وسط تاريخي شرط لحل قضية العرب في إسرائيل، إلا إنها لا تتضمن هذا الحل في حد ذاتها. ومن الناحية الأُخرى، فإن كل "حل آخر" لا يراعي حقوق الشعب الفلسطيني، أو لا يتضمن تسوية تاريخية مع هذا الشعب، من شأنه أن يعيد الفلسطينيين في إسرائيل إلى حالتهم التاريخية السابقة، أي إلى حالتهم الفلسطينية المحضة، أو يؤدي – في حالة انهيار الخيار القومي انهياراً تاماً – إلى أسرلتهم أسرلة مشوهة.
إن البديل الوحيد من نموذج "الدولتين"، الذي يمكن قبوله من دون سقوط حضاري واعتباره عادلاً، يكمن في نموذج الدولة الثنائية القومية فقط. لكن في مثل هذه الدولة لا يمكن التحدث عن أقلية عربية في إسرائيل، بل عن قوميتين: الأولى تشمل اليهود الإسرائيليين؛ والثانية تشمل الفلسطينيين جميعاً، بمن في ذلك العرب في إسرائيل وسكان الضفة والقطاع.
ولا تشكل الأسرلة التامة خياراً فعلياً أمام العرب في إسرائيل، وذلك لسببين: أولاً لأنها لا تتضمن حلاً للقضية الفلسطينية؛ وثانياً لأن إسرائيل ليست دولة الإسرائيليين وإنما دولة اليهود. لذلك، فإن أسرلة العرب في إسرائيل معناها نبذهم الأبدي إلى هامش الدولة اليهودية، الأمر الذي يعني تشويههم حضارياً وقومياً، وبالتالي خُلقياً.
إننا نشهد، منذ حرب الخليج، محاولات لتجاهل البُعد القومي للقضية الفلسطينية – وهو جوهرها – وتفكيكها إلى قضايا منفصلة لأقليات قومية (الأمر الذي يعبّر عن محاولة لكردنة* القضية). حتى مثل هذه المحاولة سيقود، في نهاية الأمر، إلى ازدياد الاهتمام بالأقلية القومية الفلسطينية في إسرائيل.
إن الفلسطينيين، مواطني دولة إسرائيل، يعيشون في دولة تعلن نفسها أنها ليست دولتهم. هذا الوضع معروف أيضاً في حالات أُخرى لكيانات جمهورية – إثنيّة مستعدة لأن تتحمل وجود أقليات قومية فيها، ولأن تعطيها حقوقاً ليبرالية على أساس فردي فقط لا على أساس جماعي، أي من دون الاعتراف بحقوق للأقلية كمجموعز لكنها، علاوة على ذلك، تعلن نفسها أنها دولة أناس كثيرين ليسوا مواطنيها. ومثل هذا الحال نادر، بل فريد في نوعه في التاريخ، باستثناء حالة الجمهورية الفدرالية الألمانية قبل الاتحاد، إذ اعتبرت نفسها دولة الأمة الألمانية، وإن} لم يعش كامل الأمة في نطاق حدودها. لكن ألمانيا الغربية لم تعلن نفسها قط أنها دولة البروتستانت. أما في حالة إسرائيل – حيث يضاف إلى عدم فصل الدين عن الدولة عدم فصل الدين عن الأمة أيضاً – فالحديث هو عن دولة أمّة – دين، لم تستكمل، ولا تنوي أن تستكمل مقتضيات عملية عصرنتها. وفي ضوء ذلك، فإن الدولة ستتابع الانشغال بالسؤال: من هو اليهودي؟ وليس قضية من هو الإسرائيلي؟
فالفلسطينيون مواطنو دولة إسرائيل، إذاً، هم مواطنو دولة تعلن نفسها أنها ليست دولتهم، وهي في الوقت نفسه دولة أناس كثيرين ليسوا مواطنيها. وإذا لم يكن كافياً أنهم مواطنو الدولة التي قامت على خرائب شعبهم، فإنهم أيضاً جزء من الشعب الذي تحاول هذه الدولة أن تغلق قضيته القومية في المناطق المحتلة، بسلب أرضه وثقافته، وباستبعاد اقتصاده. هكذا، فإن التناقضات العديدة تحيط بكل مجال من مجالات وجود الفلسطينيين مواطني إسرائيل. ونقيضاً للادعاء السائد في علم الاجتماع الإسرائيلي، في شأن الهوية المزدوجة للعرب في إسرائيل، فإنني لا أعتقد أن الازدواجية في هذه الحالة ليست تناقضاً. إن البُعدين الفلسطيني والإسرائيلي هما طرفان في صراع، ولا يعيش الواحد منهما بجانب الآخر في سلام. وما دام لا يوجد تطور في اتجاه التسوية التاريخية فسيمضيان في التطور، الواحد على حساب الثاني، بدلاً من أن يتطورا الواحد إلى جانب الآخر على أساس تواصل وتفاعل مثمر لكلا البُعدين.
2
إن وجود مثل هذا التناقض الذاتي، أي التناقض في قلب الهوية، يبدو نظرياً أنه مجال مثالي لتطبيق الديالكتيك منهَج بحث. والواقع إن الأبحاث الاجتماعية المختلفة عن العرب في إسرائيل تعاملت – عامة – مع ناحية واحدة من التناقض: فعند روزنفيلد نجد التشديد على عملية الأسرلة – العصرنة المفروضة فرضاً، وعند إيلي ريخس نجد عملية العصرنة – أو التحديث، كدافع إلى التطرف السياسي.
في العقد الأخير حدث تقدّم، بل انقلاب في دراسة السكان العرب في إسرائيل – لدى سامي سموحه[1] وتلاميذه اليهود والعرب. فهؤلاء يميلون إلى رؤية ازدواجية الهوية، بل التناقض، لا كعائق أو بُعد سلبي فقط، بل أيضاً كماهية الشيء نفسه، كعنصر يمكنه أن يثري البحث. إلا إنه على الرغم من هذا التقدّم، فإنني أعتقد أن ثمة عنصرين ناقصين في البحث الاجتماعي بشأن العرب في إسرائيل.
أ ) لم تتطور سوسيولوجيا وجهة نظرها فلسطينية، أي سوسيولوجيا تزيد عن كونها أنتروبولوجيا استشراقية. طبعاً، هنالك باحثون فلسطينيون، مثل صبري جريس وإيليا زريق[2] (يمكن اعتبار الأول مؤرخاً، أمّا الثاني فهو باحث اجتماعي يطبّق نظريات في علم الاجتماع)، تابعوا كتابة قصة العرب في إسرائيل كجزء من النكبة – أي التاريخ الفلسطيني. وقد تموقعوا في جانب واحد من التناقض. وإنجازهم كامن في قدرتهم على الإشارة إلى استمرارية الشخصية العربية الفلسطينية في إسرائيل كواقع استعماري. لكننا لا نجد لديهم بحثاً سوسيولوجيا يتعامل مع خصوصية العرب في إسرائيل من وجهة نظر فلسطينية.
ب) لقد مالت الأبحاث المختلفة، بصورة عامة، إلى التعامل مع الناحية السياسية، وبتعبير أدقّ إلى رصد "السلوك السياسي" للعرب في إسرائيل، كما يظهر قبل انتخابات الكنيست والسلطات المحلية، وبعدها. وهكذا رُبط موضوع الهوية بالسلوك السياسي، وبالعكس، وفي الفترة الأخيرة، نشهد اهتماماً بالبحث في الحالة الاجتماعية والاقتصادية للعرب في إسرائيل. وطليعة هذا التوجه، والبارز فيه، هو روزنفيلد.[3] وأهمية هذه الأبحاث هي في أنها تُوقف الهوية المزدوجة على أرجلها، بالكشف عن بُعدها المادي في الواقع الاقتصادي – الاجتماعي. وبذلك لا تُعتبر ازدواجية الهوية والسلوك السياسي شكلاً من أشكال الأزمة النفسية، بل تتعداه لتغدو صدعاً في الواقع.
وعلى الرغم مما يبدو على السطح من انشغال ملح بموضوع الأقلية الفلسطينية، وخصوصاً لدى الباحثين العرب مواطني إسرائيل (الذين حان الوقت لتشجيعهم على الانشغال بشيء آخر علاوة على "أنفسهم")، فمن الصعب أن نجد باحثاً عربياً في إسرائيل مجال اهتمامه المجتمع الإسرائيلي، أو العالم العربي، أو الغرب. ونجد، في الغالب، أن موضوع البحث السمناريوني*، أو بحث الدكتوراه للباحث العربي العامل في جامعة إسرائيلية، هو معالجة هذا الجانب أو ذاك من جوانب قضية العرب في إسرائيل. لكني أعتقد أن ثمة ضرورة لتشجيع استمرار البحث، وخصوصاً في كل ما يتعلق بدراسة الواقع الاجتماعي – الاقتصادي. طبعاً، يمكن أن نستفيد كثيراً من الأبحاث التي تجري في إطار الجامعة الإسرائيلية، لكن يجب ألاّ ننسى – ولو للحظة – أن الجامعات جزء من جهاز السلطة والقوة القائم في الدولة، بما في ذلك شبكة العلاقات المالية والإدارية، وكذلك الهيمنة الفكرية (Hegemony). إن الأبحاث بشأن العرب في إسرائيل، في الجامعات، تخدم أهدافاً مغايرة لأهدافنا، وأهدافنا تقتضي توجهاً بحثياً آخر. ومحصول الأمر: إن غاية البحث الجامعي هي تطوير نماذج وأنماط بحثية، غايتها أن تشرح السلوك السياسي للسكان العرب وتتنبأ به، منسجمة مع عملية المراقبة والسيطرة. وينجم عن هذه العملية، أيضاً، مراقبة وسيطرة على الباحثين والمشتغلين بالموضوع، ممن تختلف حوافزهم عن حوافز المؤسسة، بعد دمجهم ومأسستهم. وترافَق هذه العملية بإنتاج فُتات من المعرفة يمكن أن يستفيد منه أولئك المناضلون لتغيير الوضع القائم، أي ضد المراقبة والسيطرة.
لذلك، يجب أن نتغلب على الشعور بالنقص حيال البحث الجامعي؛ ذلك الشعور الذي اعتمد – فيما اعتمد – على وعي بالثغرة بين النشاط السياسي للتيارات المختلفة في الوسط العربي، وبين أساليب النشاط المُحْكَمة التي تتميّز المؤسسة الإسرائيلية بها. هذه الثغرة اتخذت شكل صدمة ثقافية عقب حرب 1967، التي اعتبرت أنها هزيمة التخلّف أمام العصرنة. وقد ظهر عدد من المثقفين العرب ميل إلى اعتبار البحث "العلمي" المنقذ من كل هذه الهزائم، وهو ما أدّى إلى الازدهار الذي أحررته مؤخراً حركة "التنوير"** التي ترى في العلم والتربية وسائل موضوعية لضمان التقدّم وتحقيق السعادة. إن هذا الموقف يتجاهل الإنجازات العظيمة التي أحزرها الفكر الإنساني في القرن الراهن – ذلك الفكر الذي يضع العلم، سواء من الناحية السوسيولوجية أو من الناحية الأبستمولوجية (المعرفية)، في إطار منظومة القوى السائدة: لا يوجد علم اجتماع حيادي. إن العرب في إسرائيل، وخصوصاً المثقفين منهم، يجتازون منذ أكثر من عقد من الزمان عملية "تنوير" من دون أن تلحق بتلك العملية قيم "التنوير". وهم، بذلك، لا يختلفون عن المجموعات السكانية الأُخرى في العالم الثالث التي تمر بعملية استيراد وتبنّي أساليب ععلمية وتربوية، لإصلاح مجتمع تسوده قيم قبلية من الإقليمية والأصولية. وحيال الفراغ الكبير الذي تعيشه الخريطة السياسية بعد أزمة الستالينية وأزمة الحركة القومية العربية، فإن في وسع كثيرين من المثقفين العرب أن يكونوا طليعة فكرية حقيقية. غير أن هؤلاء يميلون إلى الانغلاق في ندوات نظرية، تنشغل بالمماحكات أكثر من الفعالية السياسية، مستدبرة التحديات الحقيقية. إنني أسخر عادة من النغمة الاستشراقية – التي تحاذي العنصرية – والتي تتحدث عن مثقفين عرب بينما تحتفظ بنعت المفكرين* لليهود. لكن المشكلة هي أنه – كما في كل استشراق – تكمن في هذا الادعاء ذرّة من الحقيقة. فليس لدينا (وأقصد لدى الأقلية الفلسطينية في إسرائيل) مفكرون واسعو الآفاق يتجاوبون مع التحديات السياسية والثقافية، هنا وفي العالم. عندنا متعلمون يتخصصون بمجالات معيّنة من الحياة في "القرية العربية" ("القرية العربية" تحولت، في حدّ ذاتها، إلى تشكيلة لغوية أو اصطلاحية استشراقية)، أو أكاديميون ذوو ألقاب. وفي الواقع، لدينا فراغ يجب أن تملأه طليعة فكرية، والأمر يتطلب جرأة وشجاعة، وكثيراً من العمل المقترن بالبحث الأكاديمي – لكنه مقترن أيضاً بالعمل السياسي المبني على جوازم قيمية نقدية – واستعداداً للتعلم عن شعبنا وثقافته وكذلك عن الشعوب الأُخرى وثقافاتها.
3
قامت دولة إسرائيل على أساس قرار التقسيم الذي نصّ، فيما نصّ عليه، على أن تضمن كل دولة من الدولتين قيام مساواة في الشؤون المدنية والسياسية والاقتصادية والدينية، كما نصّ على ضمان صيانة الحقوق الأساسية للإنسان، بما في ذلك حرية الدين واللغة والنشر والثقافة. لقد رُفض الطلب الأول الذي تقدمت دولة إسرائيل به لتُقْبَل في عضوية الأمم المتحدة، وذلك نتيجة معارضة الدول العربية التي اعتمدت – بين ما أوردته – على معاملة الدولة للأقلية القومية التي بقيت في نطاقها، والتي بلغ عددها آنذاك نحو 160 ألف نسمة. بعد ذلك فقط، في كانون الثاني/ يناير 1949، تقرّر أن يُسمح للمواطنين العرب بأن يصوتوا للكنيست.
بعد أن حصل العرب في إسرائيل على الحقوق الليبرالية للمواطنة – أي إقامة دائمة وإمكان التصويت – بدأ يتطور لديهم الوعي بالاضطهاد؛ وهو وعي من الصعب تعريفه بأنه وعي أقلية قومية. لم تكن هناك آنذاك قيادة قومية، أو نخبة قومية، في وسعها أن تصوع للعرب في إسرائيل وعي اقلية قومية. إن الأغلبية الساحقة من النخبة الفلسطينية، التي تطورت في آخر المرحلة العثمانية وأيام الانتداب البريطاني، كانت قد تشرّدت. وقد تشمل تلك النخبة فئات الأرستقراطية والطبقة المتوسطة والمتعلمين والنخبة الثقافية – التي بدأت تتنظم وتنظم أحزاباً سياسية في ظل الانتداب البريطاني. وبقي تحت حكم إسرائيل هامش المجتمع الفلسطيني في الجليل والمثلث، ويتكون من سكان قرويين تلخّصت مساهمتهم في الحركة القومية الفلسطينية بمشاركتهم في ثورة 1936 – 1939، ولم يكن لهم دور بارز في الحركة الثقافية الفلسطينية التي تطورت في المراكز المدنية (القدس وحيفا ونابلس وعكا ويافا...). هذه الحركة تابعت تطورها بعد سنة 1948 في الأوضاع الجديدة، أوضاع التشرّد الفلسطيني. أمّا فرصة الالتقاء معها فقد سنحت بعد سنة 1967.
يمكن القول إن السكان الفلسطينيين الذين بقوا في إسرائيل بعد سنة 1948، كانوا بقية مهزومة من مجتمع مهزوم. وتجلّت هذه الحقيق في نظرة هؤلاء السكان إلى أنفسهم وإلى الحكم العسكري الإسرائيلي، وكذلك في طموحهم في ذلك الحين إلى إحراز الأمن لا المساواة. وقد رأوا ضمان ذلك في السلوك السياسي "الحسن"، والمحاولة المشوهة للاندماج - أي أن يُقبلوا في مؤسسات الدولة: الكنيست، والهستدروت، وحزب ماباي (الذي كان يصعب آنذاك تمييزه من مؤسسات الدولة). ولم تكن ردة الفعل الإسرائيلية تجاه محاولة القبول أو الاندماج هذه، قبولاً ولا دمجاً. وسنبحث في هذا الأمر فيما بعد. كانت سلطة الأمن العام (شاباك) و"أذرع الأمن" هي القناة الرئيسية التي نظّمت صلات السلطة بالسكان. هذا الشكل للصلة بالدولة يرافق العرب في إسرائيل باستمرار حتى هذا اليوم، وسيظل قائماً ما بقي مبنى الدولة على ما هو عليه، مؤكداً غربة العرب في إسرائيل، والشك فيهم، ومعاداتهم. ويظل هذا الأساس المُعطى الثابت، مع أن الصورة اليوم تبدو أكثر تركيباً. فعندما يدور النقاش بشأن "الإشراف الملائم" على مجريات الأمور لدى السكان العرب، يعود "الأمن" ليؤدي الدور الأساسي. قبل انتهاء الحكم العسكري سنة 1966، قام أهم الصلات بين السكان العرب والدولة من خلال "الشاباك" وأذرع الأمن. أمّا الحدود بين "الشاباك"، ومكتب مستشار رئيس الحكومة في الشؤون العربية، والدائرة العربية في الهستدروت، والمسؤولين عن الاتصال بالقوائم العربية التي عملت في كتف ماباي، فكانت آنذاك مشوشة وغير واضحة المعالم. هذه المرحلة خلفت آثاراً ثقافية، بل أنتجت فولكلوراً عربياً إسرائيلياً فيه النكات والحكايات والأشعار الشعبية التي تصف العلاقة برجل "الشاباك" المسؤول عن القرية، وبالحاكم العسكري.
في تلك السنوات تشكّل المبنى الخاص للقرية العربية، عقب عملية عصرنة قصرية، ومصادرة أراض، وبرتلة (عملية تحويل إلى بروليتاريا) قوة العمل من دون تصنيع، فأصبحت القرية مصدر قوة عمل لا مصدر شغل، وتحولت إلى مكان نوع لا إلى سوق، وإلى ملجأ وجداني يتيح العودة إلى أحضان العلاقات الاجتماعية الحميمة، وأضحت الوطن المحسوس للغرباء. أمّا موقف سلطات الأمن من القرية فكان من شأنه أن يساهم في حفظ السلم الاجتماعي – العائلي وتجميده، لأنه يتيح لقادة الحمولة مصدر قوة بديلاً بعد أن فقدوا مصدر قوتهم في علاقات الإنتاج. إن مصدر القوة الجديد للمختار، أو لممثل الحمولة الذي فقد مصادر قوته السابقة في عملية البرتلة المسرَّعة، أضحى في مهمته كوسيط بين القرويين والسلطة. وعلى الرغم من التغييرات البنيوية البعيدة المدى التي طرأت أيضاً على ما يسمى "مبنة الحمولة"، وعلى الرغم من أن زمام القوة والقيادة أخذ ينتقل إلى شباب "متعلمين"، فإن وظيفتهم تبقى في ماهيتها مهمة وساطة لدى السلطة المركزية، بعد أن يُنتخبوا للمجالس المحلية في إطار قوائم حمائلية أو طائفية. يستثنى من ذلك – على صعيد انتخابات المجالس المحلية – الحزب الشيوعي والقائمة الإسلامية، مع أنه يمكننا أن نرى في بعض القرى تماساً بين الفرع المحلي للحزب وبين هذه العائلة أو تلك.
لقد مرّت عملية عصرنة بسكان القرية العربية، من دون أن تمر بالقرية نفسها. وجرى هذا التحول في المرحلة الأخيرة عبر شريحة الأكاديميين الذين عادوا إلى القرية. إذ طرأت قفزة نوعية في عدد من هؤلاء، وخصوصاً في السبعينات والثمانينات، وبدأوا يشغلون مناصب في القرية نفسها، وبصورة خاص في التعليم وفي المهن الحرة، كالطب والهندسة والمحاماة والمحاسبة... وعلاوة على ذلك بدأت تتطور – وخصوصاً بعد سنة 1967 – مبادرات اقتصادية في نطاق التجارة والخدمات حتى الصناعة المتوسطة على الصعيد المحلي.
كانت مرحلة 1948 – 1967 مرحلة عزلة. لكن، حتى في بداية توطُّد وتميُّز ملامح المجتمع العربي في إسرائيل، حافظ السكان العرب على صلة بالعالم العربي الواسع عبر أجهزة الراديو ("صوت العرب" من القاهرة...). ومنذ ذلك الحين، صيغ نمط السوك المتميز للعربي مواطن دولة إسرائيل – وهو السير على حبل دقيق بين الانتماء إلى الأمة العربية وبين الشعور بالضعف المقترن بمطمح تحقيق الأمن في إطار دولة إسرائيل. وعلى الرغم من أن أغلبية العرب البالغين صوتت في حينه للأحزاب الصهيونية، وعلى الرغم من أن ما نظم علاقة هذه الأغلبية بالسلطة كان قانون الخوف، فإنها أيدت عبد الناصر ومطمحي الوحدة العربية والتحرر من نير الاستعمار، اللذين أعرب عنهما. وكان شعور تأييد عبد الناصر وكل ما يمثله مشتركا في حينه لدى "التيارات السياسية" كلها، وقد أظهر أن "التعاون" مع السلطة كان في الواقع شكلاً من أشكال الغربة لا دليلاً على الانتماء.
في هذه المرحلة رزح السكان العرب – في أغلبيتهم – تحت حكم عسكري، ولم ينظروا إلى المساواة في دولة اليهود أنها أمر مفهوم ضمناً. ولم يكن في الإمكان التعامل مع أمور مثل مجرد البقاء في المكان، وحق العمل وتكوين عائلة وتعليم الأولاد، كأنها أمور مفروغ منها؛ فللحصول عليها كان لا بد من الدفع بعملة من السلوك السياسي "الحسن". إن النضال ضد التمييز يعبّر عن رغبة في الاندماج، لأنه يتعامل مع المواطَنة بجدية، وخصوصاً عندما يطالب السلطة بأن تحقق وثيقة الاستقلال – أي أنه تعبير عن إسرائيلية العرب. هذا الخط مثّله الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وإلى حدّ ما "مابام". غير أن الحزب الأخير لم يحظ بصدقية، لكونه جزءاً من المشروع الصهيوني والسلطة، وبسبب العداء الذي أبداه حيال رغبة الأمة العربية في التحرّر والتقدّم بالشكل الذي صانه عبد الناصر وجسّده. وفي رأيي أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي هو أبو شعار المساواة داخل دولة إسرائيل. ولهذا فهو، بمعنى معين، أبو فكرة الاندماج في الدولة. وقد حظي بصدقية معيّنة، كذلك، بسبب الخط المثابر المعادي للاستعمار، الذي انتهجه. في هذه المرحلة، كان الحزب الشيوعي الإسرائيلي الحزب الوحيد الذي اتخذ موقفاً إيجابياً من نضال الشعوب العربية في سبيل التحرّر والتقدّم الاجتماعي، على الرغم مما حدث من تصدّع بين الشيوعيين وحزب البعث والناصريين في العالم العربي، والأزمات التي تم تخطّيها فيما بعد بفضل "الصداقة" العربية مع الاتحاد السوفياتي."
أمّا ماهية نضال الحزب الشيوعي في الوسط العربي، فكانت تكمن في كونه نضالاً ضد التمييز. غير أن هذا النضال لم يقترن به العزم على تعريف المساواة بصورة إيجابية. فقد كان ذلك توجهاً اكتفى بصبغة التعريف السلبي للمساواة بأنها عدم التمييز. وتختلف هذه الصبغة عن التعريف الإيجابي للمساواة، والذي بموجبه تتحول إسرائيل إلى دولة لكل مواطنيها، بدلاً من كونها دولة اليهود فقط. في ذلك الحين، أيّد الحزب الشيوعي الإسرائيلي (ماكي) حق العودة واستيعاب الهجرة، بل أظهر عداء لبداية تنظيم حركة قومية فلسطينية في المهجر، وضد كل تنظيم على أساس قومي بين السكان العرب في إسرائيل، كما حدث في حالة حركة "الأرض". ومع هذا، فإنه ناضل بصورة مثابرة ضد التمييز القومي. إن العملية التي حدثت داخل الحزب الشيوعي هي بمثابة صورة مصغرة للعمليات التي ستحدث فيما بعد، على مدى أوسع، بين السكان العرب كافة. لقد اجتاز الرفاق العرب في الحزب الشيوعي عملية عصرنة مسرَّعة، مضمونها الأسرلة والفلسطنة في الوقت نفسه: أمّا الأسرلة فمعناها توسيع الوعي بقضية الحقوق المدنية؛ وأمّا الفلسطنة فهي تأكيد الانتماء القومي للشعب الفلسطيني.
وفي الوقت الذي رسّخ الحزب الشيوعي أنماط التنظيم الأساسية للعرب في إسرائيل في النضال من أجل مساواة الحقوق المدنية (والمعرّفة بالصيغة السلبية)، حدث في هذا الحزب تيقّظ قومي صاغ طرق التعبير عن الانتماء القومي للشعب العربي الفلسطيني – سواء في اللغة أو في الأدب. إن مصدر اللغة والخطاب السياسي الذي تستعمله الأحزاب العاملة اليوم في الوسط العربي – سواء كان ذلك سلباً أو إيجاباً – هو من دون شك صحف "الاتحاد" و"الغد" و"الجديد". لقد بدأ الحزب الشيوعي طريقه في الوسط العربي مع شباب عرب مثقفين بقيادة يهود ستالينيين من أصل شرق – أوروبي، وانتهى بقيادة عربية ستالينية قادت الوسط العربية كله خلال عقد من السنين (1975 – 1985)، وخسر تأييد الأغلبية عندما أصبحت شعاراته مطلب الجميع.
لقد آمن "ماكي" بإخلاص – على الأقل قبل سنة 1967 – بإمكان قيام الشعب الإسرائيلي المؤلف من عرب ويهود. ولذلك عارض مبدئياً قيام حركات، كحركة "الأرض" وتنظيم الطلاب العرب، في أواخر الخمسينات. وبدأ الحزب بالموافقة على وجود تنظيمات جماهيرية على أساس قومي، بل إبداء استحسانه ومبادرته فقط بعد أن نمت فيه هو قيادة عربية، وبعد أن عُزل بصورة تامة في الوسط اليهودي بعد سنة 1967. لقد كُتب الكثير عن تجربة حركة "الأرض"، وذلك لأن كل ظاهرة في الوسط العربي، ولو كانت على أصغر نطاق، تدرسها الأكاديميا الإسرائيلية بشكل يكاد يكون استحواذياً (Obsessive).
اعتُبرت حركة "الأرض" حالة قضائية دستورية في الغالب، وبُحث فيها أولاً من وجهة نظر القانون. أمّا الذي حُسم في قرار المحكمة العليا، والذي منع الحركة من إمكان التنافس في الانتخابات، فهو أنه ليس هناك مكان لتنظيم عربي لا يقوم على الاعتراف بأن هذه الدولة دولة اليهود. ول يترك القرار مكاناً للتفرقة بين الاعتراف بقيام دولة إسرائيل وبين القبول بطابع الدولة اليهودي. وتكرّر هذا الوضع في المداولات القضائية بشأن "القائمة التقدمية للسلام". إن حركة "الأرض" لم تكن حركة جماهيرية، ووزنها الجقيقي ومستواها التنظيمي والأيديولوجي أدنى كثيراً من الأهمية التي حظيت بها كحالة قضائية. لكن على الرغم من ذلك، فإنه يجب ألاّ نقلّل من أهميتها، وخصوصاً بالنسبة إلى صوغ وعي المثقفين العرب وتشكيله. وقد تابع طريق هذه الحركة، فيما بعد، حركات أُخرى مثل: "أبناء البلد" و"الحركة التقدمية"؛ وهما الحركتان اللتان يمكن أن نرى فيهما انقسام الشق اليساري واليميني في التيار القومي العربي بين السكان الفلسطينيين. كل هذا حدث طبعاً بعد سنة 1967 – أي بعد تحوّل التيار القومي العربي في صفوف الأقلية الفلسطينية، أيضاً، إلى تيار قومي فلسطيني.
هذه العملية حدثت كجزء من تجربة العرب في إسرائيل ليتحولوا من بقية مجتمع إلى مجتمع له ملامحه. ومع أن هذا المجتمع الذي تحولوا إليه ليس مجتمعاً أوتونومياً، إلاّ إنه اجتاز عملية تمايز طبقي (ضمن عملية إنتاج مستقلة)، وقامت فيه طبقة متوسطة ونخبة سياسية وثقافية خاصة به. وكلما تطور هذا المجتمع تهمشت كل حركة تؤكد ناحية واحد فقط من واقعه المركّب. وكان أول ما سقط القوائم العربية المرتبطة بحز ماباي. هذه القوائم عبّرت عن الخوف من ناحية، وعبذرت من ناحية أُخرى عن التخلف الاجتماعي لأقلية في دولة حديثة، وخلفت وصمة في الذاكرة الجماعية. وقد شددت هذه الحركات على الإسرائيلية (السلبية الخائفة طبعاً) فقط. لكن الحركات السياسية التي شددت على البُعد الفلسطيني في الواقع فحسبن تهمشت أيضاً في مرحلة لاحقة (لا أتحدث عمداً عن الهوية القومية، لأنني أعتقد أن الواقع أكثر تركيباً من كل صيغة توحيدية للهوية القومية. فالهوية القومية فلسطينية، لكن هذا الأمر وحده لا يقدّم مفتاحاً للواقع، وهو أكثر تركيباً من الهوية القومية، مشوهة كانت أم غير مشوهة).
حتى سنة 1967 انقسم العرب في إسرائيل إلى ثلاثة تيارات سياسية أساسية: أولئك الذين تأثروا بالحركة القومية العربية، وتعاونوا مع الشيوعيين حتى استُنسخ الخلاف في العالم العربي بين الحركة القومية العربية – بشقيها البعث والناصرية – وبن الحركة الشيوعية إلى داخل إسرائيل. هذا التيار دُفع إلى الهامش نتيجة مطاردة السلطات، وكذلك بسبب افتقاده الرؤية الواسعة الأفق إلى تركيبة كينونة السكان العرب. وهذا التيار لم يُفلح المجتمع العربي، الذي يعيش في جو من الخوف، في التماثل معه فنجحت السلطة في عزله.
أمّا التيار الثاني، فكان تيار الشيوعيين العرب أعضاء "ماكي". وأما التيار الثالث، فيتألف من مؤيدي الأحزاب الصهيونية والقوائم العربية المرتبطة بتلك الأحزاب. هذا التيار كان يمثل أساساً القوى التقليدية في المجتمع، وعبّر نشاطه السياسي عن الخوف ورغبة السكان في الأمن. وفي الحقيقة، يصعب أن نسمي الفئة الثالثة تياراً سياسياً، ناهيك بالحديث عن تيار أيديولوجي. ومن الأفضل اعتبارها تياراً اجتماعياً، أي قوى اجتماعية، حمائلية وطائفية، مرتبطة بالسلطة، وخصوصاً بحزب مابام في حينه. إلا إنه، مع الوقت، تطوّر تيار سياسي مرتبط حقاً بالأحزاب الصهيونية، صادر عن رؤية براغماتية، ومعبّر عن مصالح بيروقراطية عربية في المكاتب الحكومية والهستدروت وجزء من الطبقة الوسطى العربية. وهذا التيار يشمل أساساً أعضاء في حزب العمل، لكنه يشمل أيضاً أعضاء في أحزاب إلى يسار حزب العمل ويمينه. وقد تبلور هذا التيار بصورة واضحة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
4
تُعتبر حرب 1967 نقطة تحول في تاريخ المنطقة، بما في ذلك تاريخ العرب في إسرائيل. والواقع أن هذه الحرب هي التي صنعت هذا التاريخ الأخير، لأنها كانت البداية الحقيقية لتكتلهم كمجتمع له ما يميزه. إن حرب 1967 هي، من دون شك، أهم حدث في تاريخ المنطقة الحديث (بعد الحرب العالمية الثانية)؛ فقد ثبّتت نتائج حرب 1948، وجعلتها غير قابلة للتغيير، وأبرزت أهمية إسرائيل للغرب، وكسرت مجرى عملية بناء مشروع ثقافي – سياسي عربي عصري بقيادة مصر. وقد أعطت هذه الحرب القوى المحافظة أفضلية في صراعها ضد القوى العصرية في العالم العربي، وغيّرت كلياً خريطة المنطقة السياسية. وما زلنا نعيش في عهد ما بعد حرب 1967، أنه منذ ذلك الحين لم يجْرِ أي حدث سياسي إقليمي يلغي نتائج الحرب، بحيث يمكن تسمية المرحلة باسمه. وإسرائيل بعد 1967 غير ما كانت قبلها، لا من الناحية الاقتصادية – العسكرية ولا من الناحية السياسية – الاجتماعية. والعالم العربي بعد 1967 غير العالم العربي ما قبلها. لقد كُتب الكثير عن الصدمة الثقافية، وصدمة الهزيمة، وعن هبوط القومية العربية العلمانية وارتفاع الإسلام بشقيه – المحافظ والثوري – عقب هذه الحرب. وقد كان أثر هذه الحرب في القضية الفلسطينية مباشراً وكثيفاً جداً، نتج منه ما يلي:
- وُلدت منظمة التحرير الفلسطينية الحديثة – القائمة على أُطر تؤمن بالنضال المسلح.
- أ - بدأ تاريخ الحركة القومية الفلسطينية يتخذ مساراً مستقلاً؛ والمقصود بصورة خاصة الاستقلال عن الدول العربية. وقد اتجه هذا المسار نحو هدف التحرير، الذي استُبدل مع الوقت بهدف السيادة.
ب – فشلت فكرة الاعتماد على الوحدة العربية، وابتدأ مسار الخصوصية الفلسطينية سياسياً. هكذا نشأت الأجواء السياسية التي ولدت الفكرة القائلة إن الشعب الفلسطيني يجب أن يحمل العبء الأساسي في عملية تحريره.
- وقع قسم كبير من الشعب الفلسطيني (أكثر من مليون فلسطيني) تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر، وهو أمر لم يحدث سنة 1948. وقد تولد هكذا، ولأول مرة، صراع أو مواجهة مباشرة بين جزء من الفلسطينيين ودولة إسرائيل، كدولة محتلة. لقد قاد هذا الوضع الجديد إلى تغييرات ذات شأن في البرنامج السياسي الفلسطيني، وفي مبنى حركة التحرر الوطني الفلسطيني. من هنا تنبع خطة المراحل الفلسطينية التي قادت إلى برنامج الدولتين فيما بعد. ومن هنا، أيضاً، قيام الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل.
تأثر العرب في إسرائيل نتيجة اللقاء المباشر مع فلسطينيي المناطق المحتلة، كما تأثروا بالتغيرات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي، كنتيجة للسيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة واستغلالهما اقتصادياً. هذه الحقيقة، أي حقيقة تأثر العرب في إسرائيل بهذا العمق من التغيرات الجارية في المجتمع الإسرائيلي، تشير إلى مدى ارتباط المجتمع العربي في إسرائيل بالمجتمع الإسرائيلي بصورة عامة. وكل من يتحدث عن "تورط" العرب في الجليل والمثلث مع ذلك الجزء من الشعب الفلسطيني، الذي يعيش تحت احتلال إسرائيل المباشر، إمّا أنه لا يدري عما يتحدث، وإمّا أنه يدفع عن قصد في اتجاه "توريطهم"، أي التعامل معهم كشعب تحت الاحتلال. هنالك نوعان من الحسم السياسي في استطاعتهما توحيد مصير جزأي الشعب الفلسطيني، أي ذلك الذي يعيش في إسرائيل مع ذلك الذي يعيش في المنطقة المحتلة:
1) ضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى إسرائيل، أي تحويل الأبارتهايد الفعلي إلى أبارتهايد رسمي.
2) منح سكان المناطق المحتلة حقوق مواطنة، أو تحويل إسرائيل إلى دولة ديمقراطية علمانية أو ثنائية القومية.
لقد كشف لقاء الأقلية الفلسطينية مع الضفة الغربية وقطاع غزة عن "الآخر" (المختلف)، وساهم في اكتشاف خصوصيتها وتميّزها. لقد كشف اللقاء عن المشترك: ثقافة، دين، علاقات قرابة أُسرية. كما فضح الفارق والاختلاف: الموقع في العلاقة الحقوقية بالدولة، الوضع الاقتصادي – الاجتماعي المختلف (في هذا الإطار من الممكن الحديث عن فوارق ثقافية أيضاً). ومع غياب اقتصاد فلسطيني – ولو مستقل نسبياً في الجليل والمثلث كما هو الأمر في المناطق المحتلة – تبيّن أن في استطاعة العرب في إسرائيل، الذين يشكل نشاطهم الاقتصادي جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الإسرائيلي، القيام بدور الوسيط مع اقتصاد المناطق المححتلة...
عاش العرب في إسرائيل عزلة عن المراكز الأساسية للحضارة العربية، لكنهم من الناحية الأُخرى عاشوا في حجر صحي عن التراجعات وعن عملية الجزر في السياسة العربية والثقافة العربية بعد فشل المشروع القومي العربية بصيغته الأصلية في الستينات والتي أدت، فيما أجت إليه، إلى انتعاش وانتشار الإسلام السياسي بعد سنة 1967 بصورة خاصة.
ومن المتعذر تماماً فهم ظاهرة الإسلام السياسي في أوساط المجتمع العربي في إسرائيل، من دون فهم اللقاء مع الإسلام الشعبي وإسلام المؤسسة في المناطق المحتلة. ولقد عاش المجتمع العربي في أجواء إسلامية تقليدية، لكن لم تقم بين المسلمين في الداخل مؤسسة إسلامية مستقلة، ولا كلية إسلامية، ولا منظمات سياسية إسلامية،[4] حتى نضوج اللقاء مع مسلمي الضفة والقطاع.
كان للقاء مع المناطق المحتلة أهمية كبرى في مجالات أُخرى عديدة. فمثلاً، في مجال العلاقة بالحركة الوطنية في المناطق المحتلة، تمّ نسج هذه العلاقات بسرعة فائقة، وقد قاد الحزب الشيوعي الإسرائيلي هذه العملية بحكم علاقته بالحزب الشيوعي الفلسطيني الذي تصدّر الجبهة الوطنية أوائل السبعينات. حتى السجون تحولت إلى أماكن لقاء بين السجناء الجنائيين من عرب الداخل، وبين السجناء السياسيين من المناطق المحتلة.
لكن اللقاء الأساسي كان في مجال الاقتصاد: في السوق، وفي علاقات العمل. وقد استفاد العرب مواطنو إسرائيل بصورة واضحة من هذه العلاقة نتيجة قربهم من المراكز الاقتصادية والسلطوية الإسرائيلية، إضافة إلى إجادة اللغة العبرية وحرية حركتهم كمواطنين، وميزات أُخرى أهلتهم للقيام بدور الوسيط بين المناطق المحتلة وإسرائيل. وقد ظهر ذلك بصورة خاصة في مجالي البناء والزراعة، حيث برز دور المقاولين العرب في إسرائيل كوسطاء بين قوة العمل الفلسطينية ورأس المال الإسرائيلي، لكنه ظهر أيضاً في مجالات أُخرى مثل الوظائف الحكومية المباشرة ومجالات الخدمات.
بعد سنة 1967، طرأ تحسن نوعي على الوضع الاقتصادي لقطاعات واسعة من العرب في إسرائيل، نتيجة القفزة الهائلة في قطاعي البناء والخدمات*. ومنذ ذلك الحين، وخصوصاً في السبعينات والثمانينات، نشهد عملية توزيع اجتماعي طبقي جديد تؤدي إلى إعادة تصميم مبنى المجتمع العربي بصورة عامة. وحتى سنة 1967، كان التطور الأساسي الذي حدّد شكل المجتمع العربي ومبناه هو "البرتلة"، أو عملية التحويل إلى برولتاريا، أو تحوّل العرب في إسرائيل من الزراعة والحرف إلى العمل المأجور. لكنْ منذ سنة 1967، فإن التطور الأساسي الذي يصبغ المجتمع بطابعه هو تطور طبقي وسطي من أصحاب المهن الحرة، والمقاولين، وتجار الجملة، والصناعيين المتوسطين؛ وبكلمات أُخرى: نشوء بورجوازية عربية على هامش البورجوازية الإسرائيلية، تتميز بأنها تطوّر مصالح اقتصادية من نوع جديد، يمكن أن نطلق عليها تسمى "طموحات" اقتصادية تتجاوز الأمن المعيشي وتسعى لتحقيقها ضمن الاقتصاد الإسرائيلي. وتكمن أسرلة هذه البورجوازية بوضعها لأهداف مستقبلية في إطار المجتمع الإسرائيلي، تتجاوز "السلبية" فحسب، أي تتجاوز "أن تمر الأمور بسلام وأمان."
لقد بدأ طريق هذه الفئة سياسياً ببناء أساس للتحالف مع الشيوعيين، ثم وصل إلى انفصال عن هذا التحالف وإقامة حركات سياسية جديدة مستقلة، أو بالتحالف مع عناصر انفصلت عن الأحزاب الصهيونية نتيجة الوعي نفسه. وتنقسم هذه الفئة، في أيامنا، إلى استراتيجيتين للعمل السياسي:
أ) تشدِّد الأولى على خصوصية المجتمع العربي، وتجد تعبيراً عنها في أحزاب مثل الحزب الديمقراطي العربي والأوساط التي تتبلور حول لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية.
ب) أمّا الثانية فتشدد على إمكان الاندماج، وتدعم الأحزاب الصهيونية، وخصوصاً حزب العمل.
ومن الممكن اعتبار كلا الاستراتيجيتين "عربية إسرائيلية"، أي انتهازية بمعنى معين.
تشكل الطبقة الوسطى أساساً لتوجه قومي من نوع جديد. لقد انقسمت التيارات السياسية بين العرب في إسرائيل في الماضي إلى "متعاونين" من جهة، وإلى شيوعيين وقوميين من جهة أُخرى – هكذا ببساطة. لكن بعد سنة 1967، بدأت عملية أدّت إلى تطور تيارات سياسية جديدة في الثمانينات تدعم الأحزاب الصهيونية، لا من منطلق إظهار الولاء والبحث عن الأمن، وإنما كتلبية لمصالح. من ناحية أُخرى، طورت هذه الفئة خطاباً سياسياً قومياً ينطلق من مواقع ومصالح إسرائيلية جداً. والخطاب السياسي للحزب الديمقراطي العربي، الذي أمضى مؤسسه عشرات الأعوام في حزب العمل ثم عاد ليبحث عن خصوصية عربية إسرائيلية، وليؤكد انتماءه إلى الشعب الفلسطيني – هذا الخطاب السياسي يختلف عن قومية حركة الأرض وأبناء البلد اختلافاً جذرياً، لأن منطلقه ليس غربة عن إسرائيل وإنما انتماء إلى الواقع "العربي الإسرائيلي". لقد تحول السير الحذر على الحبل الدقيق بين الانتماء إلى الأمة العربية وطلب الأمان في إسرائيل، إلى فن الرقص على الحبل. ولم يتبق من الواقع المعقّد والمركّب إلا خداعه.
5
ابتدأ العرب في إسرائيل في السبعينات، وتحديداً بعد حرب 1973، بإقامة مؤسسات محلية قد يصحّ أن يُطلق عليها اسم مؤسسات وطنية: "الاتحاد القطري للطلاب الثانويين"، "لجنة الدفاع عن الأراضي"، "لجنة رؤساء السلطات المحلية"، "اتحاد الطلاب الجامعيين". وابتدأت "الأنتلجنسيا"، التي أخذ عددها يزداد، بتنظيم نفسها على نطاق محلي. وقد شعر الأكاديميون، الذين عادوا إلى قراهم بعد دراستهم الجامعية، بـ"واجب خلقي" يدعوهم إلى التأثير في الحياة السياسية، فأقاموا تنظيمات مستقلة للأكاديميين، في حال عدم وجود فرع قوي للحزب الشيوعي في قراهم، وقاموا في حال وجوده بالتعاون معه.
بعد فوز "الجبهة الديمقراطية"، في انتخابات بلدية الناصرة سنة 1975، حاول الحزب الشيوعي أن يعمّم هذا النموذج في أنحاء الوسط العربية كافة، غير أن نجاحه كان محدوداً؛ وذلك لعدم وجود شركاء منظمين في القرى غير المتطورة، ولعدم موافقة الشركاء الملائمين في القرى الأكثر تطوراً على قبول دور التابع للحزب الشيوعي. والجبهة هي، في الواقع، حزب واحد يعمل بالتعاون مع عدد من التنظيمات التي ينشط أعضاء الحزب في صفوفها. وفي حالة الناصرة، كانت تلك تنظيمات أكاديميين، وتجار، وطلاب. وكان لهذه التنظيمات طابع مهني، لكنها كلها دخلت في حلف مع الحزب الشيوعي الذي كان أعضاؤه نشيطين فيها.
بقيت الجبهة تحالفاً بين الحزب وغير حزبيين، ولم تتعد ذلك في يوم من الأيام لتصبح شكلاً منظماً لعمل مشترك بين تيارات سياسية أو فكرية مختلفة. وكان غير الحزبيين يتغيرون كل مرة، وفي بعض الأحيان كانوا أبناء حمولة معينة في قرية معينة، بينما كانوا في أحيان أُخرى تنظيماً للأكاديميين. لكن الجبهة لم تكن إلا أحد أشكال هيمنة الحزب الشيوعي، وعندما شعر بعض التيارات فيها بالقوة، انفصل عنها وأقام تنظيماً آخر؛ هكذا نشأت "الحركة التقدمية"، بمبادرة هؤلاء الأكاديميين والتجار الذين انفصلوا عن جبهة الناصرة في بداية الثمانينات.
أدّى النسيج الاجتماعي – السياسي الجديد إلى أحداث يوم الأرض (30 آذار/ مارس 1976)، وكان بمثابة أول مواجهة عنيفة مع السلطة. ودخلت التنظيمات الجماهيرية والمؤسسات الجديدة في صراع مع السلطة، توحّد فيه عنصرا الصراع؛ العنصر الحقوقي – المدني، والعنصر القومي. وتشكّل قضية الأرض، من هذه الناحية، موضوعاً نموذجياً يوحّد بطبيعته بصورة موضوعية عنصري الصراع، المدني والقومي، حتى لو لم يكن هناك محاولة واعية لتوحيدهما. وقد برزت في يوم الأرض ملامح عصيان مدني: إضراب عام، وتظاهرات، ومواجهة عنيفة مع قوات الأمن.
جرت مصادرة الأراضي بهدف "تهويد الجليل"، وهو أكثر التعابير فظاظة لتعامل الدولة مع مواطنيها غير اليهود، واعتبارهم غرباء غير منتظمين. وقد ردت السلطة على ملامح التنظيم القومي وعلى العصيان ردّاً حاسماً: "الدولة ليست دولتكم ولن نحتمل أي عصيان!"
كان يوم الأرض الحدث الأول والأخير الذي وحّد أغلبية العرب في إسرائيل في فعالية قومية / مدنية، عاكساً تصرفهم السياسي كأقلية قومية؛ وفي ذلك مصدر قوته: فقد قامت على رموزه، وذكراه، والاحتفالات السنوية به، حركات سياسية مدة طويلة. لكن السلطات، وكذلك المنظمات الجماهيرية والأحزاب السياسية الفاعلة بين العرب في إسرائيل، استخلصت النتائج من هذا اليوم، فلم يكرر ذاته إلاّ كذكرى.
لقد أحسّ العرب في إسرائيل، في ذلك اليوم، بأنهم أقوياء. لكنهم خافوا من قوتهم، فخشوا أن يمضوا قدماً. وكان اتجاه حركتهم خطوة واحدة إلى الخلف، وتحولت المؤسسات الجماهيرية التي قادت يوم الأرض إلى غاية في حدّ ذاتها. فقد بدأت، بعد يوم الأرض، عملية مأسسة انبثقت منها منظمات وحركات سياسية جديدة، وثبتت المؤسسات القديمة. وابتدأت الحركة القومية الفلسطينية (منظمة التحرير الفلسطينية)، بعد يوم الأرض، توجّه اهتماماً إلى الفلسطينيين مواطني إسرائيل، وشرعت في إقامة علاقات سياسية مباشرة بالسكان العرب عبر منظمات ومؤتمرات دولية، وتدخلت تدخلاً مباشراً في مجرى الانتخابات للكنيست – بالدعوة إلى تأييد "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة"، ثم الجبهة وقائمة "الحركة التقدمية"، وبتوجيه أموال إلى صناديق ومؤسسات جماهيرية من خارج البلد. وساعدت الحركة القومية الفلسطينية في مأسسة حركة الاحتجاج التي أخذت تتطور بين العرب في إسرائيل. فقد ساهمت هذه الأموال في تأطير الاحتجاج في مؤسسات تعمل ضمن إطار القانون الإسرائيلي – أي الأسرلة. وبدأت تظهر في الصحف الفلسطينية نغمة مديح للعرب في إسرائيل، ممزوجة بالكثير من الرومانسية حول "التشبث بالأرض" و"البقاء في الوطن". هذا المديح زاد في التقدير الذاتي لدى العرب في إسرائيل بصورة لا تتلاءم أبداً مع الممارسة السياسية في واقع ما بعد يوم الأرض. إن قسماً صغيراً فقط من التيارات السياسية الفاعلة في الوسط العربي – وخصوصاً أبناء البلد وجزءاً من "الحركة التقدمية" – رأى ويرى في العلاقة بمنظمة التحرير أمراً استراتيجياً، بينما رأى الآخرون في تلك العلاقة وسيلة تخدم عملية المأسسة داخل دولة إسرائيل. وقد اقترنت بداية هذه العملية زمنياً – أي منذ نهاية السبعينات – بتبني منظمة التحرير لبرنامج الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، الذي حوّل العرب في إسرائيل عملياً إلى قوة ديمقراطية مساعدة داخل المجتمع الإسرائيلي.
منذ يوم الأرض سنة 1976، مرّت بالسكان العرب مرحلة انتقال فيما يختص بمأسسة منظماتهم الجماهيرية: فبدلاً من حركات احتجاج قومي – مدني قامت هيئات محلية وقطرية، ذات طابع تمثيل محلي. وحل محل سيطرة الحزب الشيوعي، في نهاية الثمانينات، نوع من التوازن بين عدد من التيارات السياسية، بما في ذلك أولئك الذين يؤيدون الأحزاب الصهيونية. وتتألف "لجنة المتابعة العليا"، التي تشمل هيئات ومنظمات عديدة إضافة إلى اللجنة القطرية للسلطات المحلية العربية، من عدد من أعضاء الكنيست العرب بينهم أعضاء كنيست يمثلون أحزاباً صهيونية. هذا التيار لم يعد يعتبر تيار "متعاونين" أو "عملاء"، بل أصبح أحد التيارات السياسية المشروعة بين السكان العرب. ومنذ نشوء المؤسسة السياسية لـ"عرب إسرائيل"، التي تشمل التنظيمات والهيئات والأحزاب المختلفة، دخلت أزمة تسمى اليوم "أزمة النشاط السياسي بين السكان العرب". ولم تظهر هذه الأزمة علانية إلاّ بعد أن انتهت مرحلة "الاستهلاك" السياسي ليوم الأرض، وبعد أن هدأ التماثل الفعّال مع الانتفاضة في مرحلتها الأولى.
وقد وضّحت الانتفاضة الفارق بين الفلسطينيين في إسرائيل والفلسطينيين في المناطق المحتلة. لكنْ عندما برزت الحاجة إلى توضيح الملامح المميزة والموحدة، تبيّن أنه باستثناء الادعاء أن ليس للانتفاضة مكان في الجليل والمثلث، لا يوجد للقوى السياسية الفاعلة بين السكان العرب أية استراتيجية سياسية ذات شأن. وبدلاً من رؤية التوازن أنه حاجة تسد نقصاً، إضافة إلى كونه تقييداً للاستراتيجية، أصبح هو الاستراتيجية ذاتها. لقد شُغل السكان العرب بالصراعات الداخلية أعواماً عديدة، إلى أن كُسر احتكار الحزب الشيوعي. لكن بعد كسر هذا الاحتكار تبيّن أن ليس للقوى السياسية الجديدة شيء جديد تقوله – باستثناء الدعوة المعروفة إلى "الدولتين" وإلى "المساواة"، وهي التي توحد جميع القوى السياسية الفاعلة في الوسط العربي في أيامنا. هذه الدعوة – إلى دولة فلسطينية في الضفة والقطاع وإلى المساواة للمواطنين العرب في إسرائيل – تحولت أيضاً إلى شعار ينادي به النشيطون العرب في الأحزاب الصهيونية. لكن أية من هذه القوى السياسية لا تجرؤ على تعريف ما تقصده حين تتحدث عن المساواة.
يتضح عملياً أن الشعار يخدم هدفاً واحداً واضحاً، حين لا يُعرّف ولا يوضّح مدلوله، هو الانفصال بين البعد القومي والبعد المدني في النشاط السياسي بين الجماهير العربية. فالبعد القومي يُقذف به إلى ما وراء الخط الأخضر، حيث من المفروض أن يتحقق (ولم يؤخذ في الحسبان إمكان عدم حدوث ذلك). أمّا قضية العرب في إسرائيل فتعرَّف بأنها قضية مدنية. لكنْ، حتى القضية المدنية ليست معرّفة أو محدودة أبداً، الأمر الذي جعلها تتخذ شكل مطالب ميزانية فقط. ويقود رؤساء المجالس المحلية النضال من أجل المساواة في ميزانيات المجالس، وينشىء هذا النضال قيادة على صورته ومثاله. إن الانفصال الواعي عن القضية القومية يترك خلفه كاريكاتوراً للنضال المدني.
في حالة العرب في إسرائيل، فإن القضية المدنية لا تشكل قطاعاً مستقلاً في حد ذاته، لكنها جزء من القضية القومية شئنا أم أبينا. فمن دون هذا البعد تتحول قضية الميزانيات إلى قضية مجالس ورؤساء مجالس، لا تُسيَّس ولا تجنَّد للنشاط السياسي. ولن يعود العنصر القومي ثانية إلاّ إذا حُدّد وعُرّف معنى "المواطنة"، أي البعد المدني حتى النهاية؛ أي عندما يرفع العرب في إسرائيل مطلب أن تتحول دولة إسرائيل إلى دولة كل مواطنيها. هذا مطلب مدني بكل معنى الكلمة، إلاّ إنه قائم على علامة استفهام توضع حول ماهية الدولة. وهناك قوانين في إسرائيل تمنع أية قائمة ترفع لواء مطلب المساواة المدنية، بشكلها المحدد والواضح، من الترشيح للكنيست. إن تعريف المساواة، عبر مطلب تحويل الدولة إلى دولة كل مواطنيها، تعريف ليبرالي بسيط ليس له أية صلة بيمين أو يسار. غير أن هذا المطلب، الذي يعتبر في أماكن كثيرة في العالم مطلباً ليبرالياً، يتحول في إسرائيل إلى مطلب لليسار، كما هو حال العديد من المطالب ذات الطابع الديمقراطي البحت في إسرائيل.
لقد تعلمت السلطة الإسرائيلية أيضاً من التجربة، وأحدثت تغييرات في سياستها. والواقع أن "سياسة الأمن" في تعاملها مع عرب إسرائيل أصبحت أكثر حنكة وذكاء، وتجلّى ذلك في إقامة أجهزة مراقبة وسيطرة جدية تنسق بين فعاليات الأجسام المختلفة: الشرطة، والمباحث (الشاباك)... إلخ. وقد تطورت هذه الحنكة، بصورة خاصة، في العام الأول للانتفاضة. لكنْ، لا شك في أن السياسة الرسمية تجاه العرب في إسرائيل تحولت إلى تمييز قومي مركّب حل محل التمييز القومي الحاد والبسيط. وبرزت هذه السياسة في تعيين وزير للشؤون العربية بدلاً من مستشار في الشؤون العربية، فحسب، كما في محاولة معالجة قضايا الدروز والبدو خاص، ومؤخراً في محاولة إقناع الشبان المسيحيين للتجنّد في الجيش.
هناك ميل إلى التحدّث مع "لجنة رؤساء السلطات المحلية" من دون الاعتراف بها رسمياً، أي منع هذه اللجنة من أن تتحول إلى قيادة قومية من ناحية، ومن ناحية أُخرى عدم إتاحة الفرصة لها لتنظّم نفسها كجسم "أوتونومي" تعترف السلطة به. لكن التطور المعنوي المهم هو أن رجال المؤسسة الحاكمة يتحدثون بكل صراحة عن أن هناك مشكلات، بل يعترفون بوجود التمييز القومي. ونتيجة ذلك زال النقاش العقيم في شأن وجود الحقائق أو عدم وجودها. إن الاعتراف بالحقائق يؤدي إلى تمحور النقاش حول آراء وتوجهات سياسية، لأن الاعتراف بوجود التمييز يوجب عدداً من الردود: فمن ناحية، إعطاء التمييز شرعية في ضوء حقيقة أن الحديث هو عن دولة يهودية، ومن ناحية أُخرى المطالب بإلغاء التمييز. وفي هذه الأثناء يمكن أن يوجد، ولمدة طويلة نسبياً، اختيار مرحلي يخفف حدة التمييز على الصعيد الفردي (لا الجماعي)، مع وجود إمكان لتقدّم وتحسين مواقع (حراك اجتماعي / اقتصادي) عن طريق المبادرة الاقتصادة والامتياز المهني. هذه هي الخيارات التي تشجعها الأنتلجنسيا العربية الجديدة بمباركة السلطة – وهي تعني عدم أو نزع تسيّس القضية العربية في الداخل. ليس هناك ما يمنع الامتياز أو "المبادرة الاقتصادية" (هذه هي الكلمة الرائجة) كاختيار فرددي، لكنْ حين يعرض مثل هذا الخيار على العرب كمجموعة سكانية كاملة، فإن ذلك لا يؤدي إلى اللاتسيُّس، بكل ما يقترن بذلك من ظاهر خلقية سلبية، فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى انتشار نمط جديد من الشخصية العربية، يقبل بالتهميش الاجتماعي كشرط لـ"النجاح الشخصي". إن حاملي مثل هذه القيم هم نماذج بشرية من نوع خاص، تتطور في الوسط العربي في السنوات الأخيرة، ولا يمكنها أن تمثّل مستقبل هذا المجتمع، ولا أي مجتمع يريد الحياة. إن "الاندماج" المقترح على الأساس الفردي اندماج كاذب، قائم على التنازل عن الهوية، وعلى تحويل الأقنعة الإسرائيلية إلى جلد إنساني. إن الأسرلة كخيار ثقافي – جماعي ليست مطروحة، بل لا يمكن أن تكون مطروحة، وذلك ليس فقط لأننا لا نعيش في مجتمع قائم على قيم "التنوير"، ولا لأننا نعيش في دولة غير معنية بإقامة أمّة على أساس الانتماء المدني، ولا لأنه ظهر في هذا القرن أن الاندماج اختيار قائم فقط على التعددية الثقافية التي تتضمن مساواة بين الثقافات فحسب، بل لأن المهم هو أننا نعيش في دولة جمهورانية إثنيّة من أسوأ الأنواع. إن الأسرلة كخيار ثقافي – سياسي معناها التهميش، أي أن تحكم على نفسك بأن تعيش بلا هوية أصلية، على هامش مجتمع يحوّل التهوّد الديني، أو الوطنية العسكرانية، إلى مقاييس الانتماء إلى المجموع.
إنّ لاتسيّس الموقف من الواقع الاجتماعي والسياسي، وأزمة النشاط السياسي بين العرب في إسرائيل، يؤديان إلى أزمة هوية مقترنة بالتفتت المعنوي والتسبّب الخلقي. أمّا المثقفون، أو الأنتلجنسيا العربية، فلم ينجبوا بعد من صفوفهم سلطة معنوية، أو خلقية، ترسم الطريق لهذا المجتمع. في هذا الوضع أخذت الحركة الإسلامية على عاتقها مهمة كلاسية للحركات الأصولية، تعبّر عن ردة فعل تجاه حالة من الشذوذ الحضاري* وأزمة الهوية. لكنّ الأصولية تمتنع من إعطاء بديل تتوفر فيه عناصر مجابهة للواقع، بل هي تدعو إلى استدبار الواقع. وقد يبدو الاستنتاج غريباً أول وهلة، إلا إنه لا شك في أن الإسلام السياسي يتضمن عناصر قوية من اللاتسيّس في الموقف من الواقع والدولة.
إن عملية لاتسيّس الواقع تجري، مؤخراً، في كثير من المجالات. فالتعليم العربي مشغول بمشاريع الحوار والتعايش. وذلك معناه لاتسيّس الواقع بتحويل السياسة إلى نوع من الدينامية الجماعية والعلاج النفساني (الجماعي)* بين التلاميذ والمعلمين اليهود والعرب. إلى جانب ذلك، ينتشر نوع جديد من التنظيمات والمؤسسات التي تهدف إلى استمالة الحكومة للاهتمام بقضايا الوسط العربي. وتتلخص الرؤية الأساسية لهذه المؤسسات في أن سرّ المشكلة هو إهمال السلطة التنفيذية، وليس الموقف السياسي الأساسي للمؤسسة الحاكمة. هذه الظاهر الآخذة في الانتشار هي، في حد ذاتها، مظاهر أزمة سياسية وليست حلاً لهذه الأزمة. ولا يكون حل الأزمة السياسية إلاّ بطريق سياسية، وبرسم برنامج جديد من خلال قوى جديدة. كل هذا يجب أن يحدث سريعاً، قبل أن يفوت الوقت، وقبل أن يجتاز هذا المجتمع عملية تهميش كلّي، وقبل أن يصبح النموذج المأساوي لعرب اللد والرملة وعكا ويافا واقع العرب في إسرائيل ومستقبلهم.
6
بعد "يوم الأرض" أُثيرت قضية الاعتراف بالسكان العرب في إسرائيل كأقلية قومية. ومعروف أن الحكم الإسرائيلية لا يمنح العرب أية حقوق جماعية، إلاّ على أساس الانتماء الديني. بل إن ذلك لا يتم، في حالة الطائفة الإسلامية، من دون مراقبة من قبل السلطة وتدخّل منها (مثلاً قضية الوقف الإسلامي وتعيين القضاة الشرعيين). وفي كل حال، فإن إسرائيل تتحدث بصورة رسمية عن "أبناء الأقليات" لا عن أقلية قومية عربية. وقد رفض الحكم الإسرائيلي، مبدئياً، مطلب الاعتراف بالعرب كأقلية قومية. إلاّ إن ذلك المطلب ظل يدور في مختلف الأوساط السياسية. فقد بدأ الحزب الشيوعي مثلاً يتحدث عن حقوق يومية (مدنية)، وعن حقوق قومية. غير أنه لم تجر أية محاولة لتعريف مدلول "الحقوق القومية"، عند الحديث عن العرب في إسرائيل. وقد تبنت "القائمة التقدمية"، مؤخراً، مطلب الاعتراف بالعرب في إسرائيل كأقلية قومية، لكنها لم تفسّر مدلولات هذا الاعتراف.
إن الاعتراف بالأقلية العربية في إسرائيل كأقلية قومية هو اعتراف بحقوقهم الجماعية؛ أي الاعتراف بحقهم في إدارة شؤونهم الثقافية. وتتطرق "الأوتونوميا" عادة إلى أوضاع أقليات قومية حصلت على المواطنة، لكنها لم تحد تعبيراً عن قوميتها وخصوصيتها الحضارية في الدولة القومية. إن "الأتونوميا"، في هذه الحالة، "امتياز" يتجاوز المساواة المدنية لملء ذلك الفراغ. وفي حالة العرب في إسرائيل، فقد جرى التنازل التاريخي عن الوطن كدولة من قبل أهل البلد الذين بقوا فيه. وهكذا، فإن "الأوتونوميا"، إضافة إلى المساواة التامة في الحقوق، هي تسوية تاريخية تُجرى مع أبناء البلد، السكان الأصليين، مواطني الدولة. وهي لا تمس حقوقهم المدنية، أو علاقتهم بالحكم المركزي. ولا تقام "الأوتونوميا"، في هذه الحالة، على أساس إقليمي (هناك مدن مختلطة، والسكان العرب موزعون على عدة مناطق)، بل على أساس شخصي.
أما فيما يتعلق بالمناطق المحتلة، فالأمر مختلف. إذ يجب ألا تكون "الأوتونوميا"، بديلاً من السيادة، ولا تعويضاً منها. يمكن أن نفهم قيام حكم ذاتي في المناطق المحتلة فقط إذا توفرت فيه عملية انتقال الحكم بالتدريج إلى يد الشعب الواقع تحت الاحتلال. هذه العملية ليست مألوفة تاريخياً، لكن من أجل إتمامها لا بد من الاتفاق بين المحتل والمحتلين، فإن الدولة المحتلة لا تقترح انتقالاً إلى السيادة، ولا تعلن مثل هذا الإمكان حتى ولا في المستقبل البعيد. أي أن الدولة المحتلة تقترح "أوتونوميا" أقليات قومية لشعب تحت الاحتلال. مثل هذا الشكل من "الأوتونوميا" عنوانه هو: الأقلية القومية العربية في إسرائيل. هذا الفارق يجب أن يُسمع لا بسبب الخيار الذي يطرحه لمستقبل العرب في إسرائيل فقط، بل لأنه يوضح الخيارات في الأراضي المحتلة ويدعم بصورة فعّالة، وليس بالتضامن السلبي، النضال ضد الاحتلال. ليس في الإمكان أن نفصل في مقال واحد، أو في محاضرة واحدة، نموذجاً مسهباً لـ"الأوتونوميا"، إنما أردت أن أعرض أمامكم الاختيار المبدئي. وأنا لسب ممن يؤمنون بتطوير نماذج نظرية جاهزة ومتكاملة، ومحاولة فرضها على الواقع المركّب. فلا بد من أن يتطور الخيار بالتدريج، وستقترحه بالتفصيل القوى والنخب التي ستطالب به. ولا ضرورة لاقتراح نموذج مفصّل سلفاً، إلا من باب التمارين النظرية. هناك ضرورة لاقتراح الخيار والبدء بتطويره، ليصبح مع الوقت أكثر تركيباً، أي أكثر عينية. ينبغي لليسار والأوساط العقلانية والقومية الديمقراطية ألا تترك خيار الأقلية القومية الثقافي في يد القوى الدينية – السياسية. هناك، حالياً خياران ثقافيان ينطويان على أزمة: (1) تهميش ثقافي للمجتمع العربي عبر اندماج فردي على هامش المجتمع الإسرائيلي؛ (2) ردة فعل تجاه التهميش البادي في الإدبار والانغلاق الثقافي، في صيغة الأصولية.
علينا أن نقترح البديل الثالث، وهو البديل السياسي الثقافي القائم على الإيمان بالقيم والمساواة والحرية والعدل الاجتماعي والتعاون اليهودي – العربي، القائم على المساواة والاحترام المتبادل. إن الحياة الاجتماعية والثقافية للسكان العرب في إسرائيل قد تجاوزت مرحلة الانتقال إلى مرحلة الأزمة: أزمة الشذوذ الثقافي، أزمة الهوية. ويعود الشذوذ الثقافي إلى الرغبة الجامحة في التساوي مع الثقافة السائدة، واستمرار تحقيق هذه الرغبة نتيجة عوائق بنيوية يضعها المجتمع، وتثبتها الدولة العنصرية في مبناها. علينا أن نكون قادرين على اقتراح طريق عصري للتطور الثقافي والاجتماعي، عصري وتحرري، والتخلص من عقدة التساوي مع الثقافة العنصرية السائدة، أو من ردة الفعل الأصولية تجاهها.
فمثلاً، يتوفر إمكان الدعوة إلى مساواة المرأة في المجتمع العربي، من دون أن يرتبط ذلك بعملية التهميش في المجتمع الإسرائيلي. كما يجب البحث عن إمكان إحياء الثقافة العربية، عبر التفتيش عن العناصر التحررية فيها، من دون الوقوع في فخ الشوفينية، أو أن نزعم قيماً – إيجابية أو سلبية – للانتماء القومي.
إن الحكم الذاتي ليس بديلاً من الاندماج، ولا بديلاً من المساواة التامة. والاندماج في دولة، هي موضوعياً ثنائية القومية، لا يكون بـ"الاذدناب" (التبعية الذيلية) ليهودية الدولة، بل لا يمكن إلاّ أن يكون على أساس تعدّدية ثقافية تترك للأقلية القومية مجالاً من الإدارة الذاتية. إن الاندماج، في هذه الحالة، هو المساواة التامة في دولة هي دولة مواطنيها. لكن هذه المساواة هي مساواة بين المختلفين لا مساواة بين المتساوين.
الحكم الذاتي، إذاً، ليس بديلاً من المساواة بين القوميات في دول مختلفة، ولا بين القوميات في دولة واحدة؛ بل هو متمِّم ومكمِّل طبيعي للمساواة. ليس هنالك حل للقضية القومية في حكم ذاتي، وإنما في دولة قومية. كذلك ليس هنالك حل لقضية الأقليات القومية في حكم ذاتي، وإنما بالمساواة التي يكمّلها الحكم الذاتي. لقد آن الأوان لإيقاف فكرة الحكم الذاتي على رجليها بعد أن اقترحتها الحكومات الإسرائيلية وهي واقفة على رأسها.[5]
7
يمكن اعتبار نتائج الانتخابات للكنيست الثالث عشر نقطة تحوّل ذات شأن في التاريخ السياسي للأقلية الفلسطينية في إسرائيل. وقد بدت بوادر هذا التحوّل في مرحلة التحضير لهذه الانتخابات، عندما تحولت الانتخابات الأولية (primaries) في حزب العمل إلى ظاهرة سياسية واجتماعية علنية، شارك فيها 16 الف مواطن عربي اكتتبوا في هذا الحزب لإنجاح هذا المرشح أو ذاك، ودفعوا رسوم عضوية من أجل المساهمة. وكان الجديد هو مدى شرعية هذا النشاط الاجتماعية، وغياب اعتراض فلسطيني عليه وإنْ كان رسمياً أو غير رسمي. وكانت هذه الظاهرة نتيجة حتمية للتحولات التي سبق الإشارة إليها في أوساط الأقلية الفلسطينة خلال الثمانينات.
في هذه الانتخابات، حازت الأحزاب الصهيونية على أكثر قليلاً من خمسين في المئة من الأصوات العربية (270 ألف صوت) لتصل إلى الأغلبية أول مرة منذ يوم الأرض. وقد طرأ ارتفاع ملحوظ في تأييد كل من حزب العمل من 16,4 % في انتخابات الكنيست الثاني عشر إلى 20,3% في الانتخابات الأخيرة، والليكود من 6,7% إلى 8,4%، و"شاس" من 0,5% إلى 4,9%، والمفدال من 3,1% إلى 4,8%. كما انخفض تأييد الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة من 33,4% إلى 23,2%، والقائمة التقدمية من 14% إلى 9,2% وارتفع التأييد للحزب الديمقراطي العربي من 11,3% إلى 15,2%.
لن أتطرق، في هذه الدراسة، إلى العديد من النظريات التي تتناول التصويت لدى الأقلية الفلسطينية، وتقدم له نماذج إحصائية وتحليلية. كما لن أتناول النظريات التي تتعامل مع الانتخابات في هذه الحالة كأنها استطلاع للرأي العام، ولا النظريات التي ترفض التعامل مع الصوت العربي كموقف سياسي، وذلك لانعدام التقاليد الديمقراطية في المجتمع العربي، وإنما تعتبره أداة للحصول على مصالح يومية لدى مختلف الوزارات، لا بل كبضاعة تُعرض للبيع في موسم الانتخابات.[6]
لا شك في أن هناك مؤشرات جدية على تحوّل تاريخي في الوسط العربي، تجلّى في نتائج الانتخابات، كما تجلّى في مناقشتها فيما بعد، وفي المواقف التي اتخذتها الأحزاب العربية من الائتلاف الحكومي. ومن الممكن تلخيص هذه المؤشرات بالنقاط التالية:
أ) عودة شرعية للأحزاب الصهيونية إلى الوسط العربي: وتتجاوز هذه العودة الارتفاع الكمي في الأصوات إلى تغيّر في التعامل مع فكرة التعاون مع الأحزاب الصهيونية لتتحول إلى استراتيجية للتغيير المتدرج عبر القبول بالاندماج على هامش الدولة اليهودية كثمن يدفع لتحصيل بعض الحقوق والمطالب، ولدفع "العملية السلمية" إلى الأمام في حالة وجود موقف يبحث عن مبرر أكثر تركيباً من المصالح اليومية. ويلاحَظ، في هذا السياق، أن مواقف الأعضاء العرب في الأحزاب الصهيونية حتى حزب العمل لا تختلف، في صيغتها، عن مواقف الجبهة الديمقراطية أو الحزب الديمقراطي العربي. وهي تتجلّى في إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو موقف لا يخدم النضال من أجل هذا الهدف بقدر ما يخدم فكرة التخلّص من البعد القومي والقذف به إلى ما وراء الخط الأخضر. وفي الحقيقة، فإن التيارات التي تمثل هذا الموقف تقبل كلها أي حل يقبل فلسطينيو الضفة والقطاع به؛ أي أن شعار الدولة الفلسطينية ليس استراتيجياً. إضافة إليه وبواو العطف تضاف كلمة المساواة من دون رابط بين الإثنين والمساواة غير معرّفة تعريفاً واضحاً كما سبق أن تناولنا هذا الموضوع.
وقد احتدمت أزمة هذه الاستراتيجية عند الحديث عن مطلب "الوزير العربي" في الحكومة الإسرائيلية. وكما هو معروف، ساهم العرب في الائتلاف الحكومي بخمسة مقاعد من داخله وخمسة مقاعد من خارجه. فقد حصل حزب العمل على ثلاثة مقاعد كاملة من الأصوات العربية، وحصلت "ميرتس" شريكته في الائتلاف على مقعد واحد، وكذلك حركة "شاس". كما حصلت الجبهة الديمقراطية والحزب الديمقراطي العربي معاً على خمسة مقاعد دعما فيها الائتلاف الحكومي من دون الانضمام إليه. وإزاء مثل هذا الوزن للأصوات العربية (تم الوصول إليه من دون تحقيق وهم الوحدة الشاملة – وهي وهم في مسألة أقلية قومية فلسطينية داخل إسرائيل)، طالب بعض القوى بتعيين وزير عربي في حكومة الائتلاف. وعند طرح مثل هذا الطلب بدا الأعضاء العرب في الأحزاب الصهيونية أكثر مثابرة من زملائهم أعضاء الجبهة الديمقراطية والحزب الديمقراطي؛ فالأولون طالبوا بالمنصب لأنفسهم، في حين طالب به أعضاء الجبهة والحزب من أجل غيرهم؛ أي من أجل الأعضاء العرب في الائتلاف. لقد كانت هذه القضية حالة كلاسية لأزمة الموقف السياسي العربي في الداخل، والذي يؤدي إذا ما كان مثابراً إلى تأييد استراتيجية العمل في إطار الأحزاب الصهيونية. فإذا كانت الاستراتيجية تقبل بالاندماج على هامش الدولة اليهودية، فإن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي الحصول على بعض المكاسب من خلال الاندماج على هامش الأحزاب الصهيونية – هذا على الأقل استنتاج قطاع واسع من الأقلية الفلسطينية في إسرائيل.
ب) لم تتمكن الحركة الإسلامية من إلزام أعضائها ومؤيديها بالتزام موقف سياسي موحد. أي أنها لم تتمكن من التبلور كحركة سياسية قطرية. لقد توزعت أصوات مؤيديها على الخريطة السياسية الإسرائيلية مثل أصوات بقية الناخبين العرب، ما عدا استثناءات مثل الجبهة. وحتى في حالة الجبهة فليس هناك شك في أنها حصلت على بعض أصوات مؤيدي الحركة الإسلامية في أم الفحم، لأن مرشحها الثالث ينتمي إلى هذه البلدة. إن لهذه الحقيقة مغازي بعيدة التأثير في مستقبل هذه الحركة، تلقي ظلاً على إمكان تجاوزها للتنظيم المحلي البلدي إلى المستوى القطري في دولة مثل إسرائيل. في مثل هذه الدولة، التي لا يطرح فيها شعار الدولة الإسلامية، ليس للحركة الإسلامية ما يميزها من الأحزاب الأُخرى في الموقف السياسي؛ فهي لا تقدم بديلاً في هذه الحالة.
ج) كان غياب دور منظمة التحرير الفلسطينية حاضراً في هذه الانتخابات أكثر من أية انتخابات أُخرى منذ يوم الأرض. فمنذ يوم الأرض وقيادة المنظمة تحاول التأثير في مجريات الانتخابات بدعم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والحركة التقدمية. لكن في هذه الانتخابات تخلّت قيادة المنظمة بصورة واضحة عن ذلك لمصلحة فكرة الوحدة بين الأحزاب العربية؛ وهي فكرة لم تكن ممكنة التحقيق، ولذلك كان في الإمكان تفسير موقف المنظمة من عدة وجوه. لم يكن دور المنظمة حاسماً في يوم من الأيام في التأثير في تصويت العرب في إسرائيل، لكنه كان ذا شأن كموقف. غير أن الموقف لم يكن واضحاً هذه المرة. ودخل الساحة عنصر جديد سيكون له بعض التأثير في المستقبل، هو الدور المصري الذي دعم الحزب الديمقراطي العربي، أو فُسّر كذلك، والأمران سيان من حيث التأثير. وبحكم العلاقة بين العرب، في إسرائيل ومصر، الناجمة عن كونها هدف السياحة الأول بالنسبة إليهم، إضافة إلى وزنها الحضاري وعلاقات السلام التي تربطها بإسرائيل، فإنه يبدو أن هناك مستقبلاً لدور أكبر للنظام المصري الذي سيخضع العلاقات بالعرب في إسرائيل لمستلزمات علاقته بالدولة اليهودية.
د) يبقى التأثير الأكبر في الانتخابات للعلاقة التي تحكم الأقلية الفلسطينية بجهاز السلطة في إسرائيل؛ وهي علاقة تحولت من التمييز البسيط إلى التمييز المركّب الذي يترك هامشاً لدمج العرب في إسرائيل من خلال المبادرة الاقتصادية والوظائف الحكومية، وزيادة ميزانيات السلطة المحلية، والتوصل إلى حلول وسط بشأن مسطّحات البناء، وتغيير ملائم في وسائل الإعلام الرسمية الناطقة بالعربية لتتحول من وسيلة في الحرب النفسية إلى اهتمام أكبر بالقضايا اليومية للعرب في إسرائيل. لم تعد السلطة بحاجة إلى "قوائم عربية" مرتبطة بالأحزاب الصهيونية وأجهزة الاستخبارات، بل توصلت إلى مزيج من سياسة التمييز القومي والأسرلة المحدودة التي تتجاوب معها فئات اجتماعية نمت عبر عملية طويلة من التحديث المشوه. إن الأسرلة المشوهة هي التحدي الأساسي الذي تطرحه الانتخابات للكنيست الثالث عشر على حلبة الأقلية الفلسطينية في إسرائيل – هذه الأقلية المعادية للاحتلال والمستفيدة منه في الوقت نفسه؛ المعادية للهجرة اليهودية والمستفيدة منها في الوقت ذاته – أقلية فلسطينية في دولة يهودية في عصر مؤامرة تحويل القضية الفلسطينية إلى قضايا أقليات.
* هذه الدراسة تطوير (في ضوء الانتخابات) لمحاضرة ألقاها الدكتور عزمي بشارة في يوم دراسي عُقد في الناصرة بتاريخ 29 شباط/فبراير 1992، بدعوة من مركز الجليل للأبحاث الاجتماعية، تحت عنوان "المواطن العربي وانتخابات 1992".
* أُميز في هذه الدراسة بين التاريخ السابق والتاريخ الحاضر: التاريخ السابق هو تاريخ نشوء أو تكوّن الظاهرة، أي التاريخ الذي أدّى إليها؛ والتاريخ الحاضر هو تاريخ الكينونة أو تاريخ إعادة الظاهرة بعد نشوئها.
* أقصد بالكردنة تحويل سؤال قومي حلّه التحرّر القومي، أو حق تقرير المصير، إلى مجموعة من قضايا الأقليات القومية لا يربط بينها رابط ولا يجمعها جامع، وإنما تجد كل منها حلّها أو لا حلّها بحسب الأوضاع في الدولة التي تعيش هذه الأقلية فيها.
[1] Sammy Smooha, The Orientation and Politicization of the Arab Minority in Israel (Haifa, 1984); Sammy Smooha, Israel: Pluralism and Conflict (London, 1978);
Sammy Smooha, “Existing and Alternative Policy Towards the Arabs in
Israel,” in Politics and Society, Vol. 3, Translation Book, 1985; Smooha
and Hofmann, “Some problems of Arabs – Jewish coexistence in Israel,”
Middle East Review, Winter 1976/1977.
[2] أنظر: صبري جريس، "العرب في إسرائيل" (بيروت، 1973)؛
- T. Zureik, The Palestinians in Israel: A Study in Internal Colonialism (London,
1979).
[3] أنظر: شولاميت كرمي وهنري روزنفيلد، "برتلة وتمدين القرويين في إسرائيل" (بالعبرية)، مجلة "البحث الاجتماعي" (جامعة حيفا)، العدد 12 – 19 (1977)؛ هنري روزنفيلد، "الوضع الطبقي للأقلية العربية في إسرائيل" (بالعبرية)، كراريس البحث والنقد – 3 _حيفا، 1979)؛ هنري روزنفيلد، "كانوا فلاحين" (بالعبرية)، (تل أبيب، 1979).
* من Seminar (حلقة دراسية).
** التنوير هنا ترجمة لكلمة Enlightment، وتشير إلى مدارس فلسفية أوروبية ظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشرـ وتأسست على الثورة في العلوم الطبيعية وعلى الاكتشافات الجغرافية، وجعلت من التربية العقلانية حلاً للآفات الاجتماعية كافة، وأولها الدين.
* "المفكرين" هنا ترجمة لكلمة Intellctuals.
[4] راجع بشأن تأثير قيام الحركة الإسلامية في الداخل في المؤسسة الإسلامية وكليات الشريعة في الضفة والقطاع كتاب: توماس ماير، "صحوة المسلمين في إسرائيل" (بالعبرية)، (غفعات حفيفا: معهد الدراسات العربية، 1988).
* تعود هذه العملية من جديد مع الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفياتي لتؤكد التناقض في واقع العرب في إسرائيل، الذين يستفيدون في حالات معينة من الاحتلال ومن الهجرة اليهودية نتيجة انتعاش قطاعي البناء والخدمات اللذين ينعشان نشاطهم الاقتصادي في مجمله.
* ترجمة لـ Cultural Anomaly النابعة من رؤية الحضارة والثقافة المسيطرة كحضارة متفوقة، تتبعها الرغبة في الانضمام إليها والالتحاق بها. لكن هذه الرغبة تصطدم بعوائق بنيوية في المبنى السياسي – الاجتماعي للمجتمع تمنع من تحقيق هذه الرغبة.
* ترجمة لـ Group dynamics و Group therapy.
[5] أ – أنظر فكرة الحكم الذاتي والثقافي في المدرسة الماركسية النمساوية، في: أوتو باور، "الاشتراكية الديمقراطية ومسألة القوميات" (بالألمانية)، (فيينا، 1907).
ب – طرحت فكرة الحكم الذاتي الثقافي للعرب في إسرائيل بديلاً من المساواة التامة، مع الاحتفاظ بطابع الدولة اليهودي، بل من أجل تقوية هذا الطابع، في دراسة صغيرة أعدّها كلود كلاين من كلية الحقوق في الجامعة العبرية بطلب من المركز الدولي للسلام في الشرق الأوسط (في تل أبيب):
Claude Klein, Israel as a Nation-State and the problem of the Arab Minority: In
Search of a Status (Jerusalem, December 1987).
[6] نشرت صحيفة Globus (Tel-Aviv), August 31, 1992، ملحقاً كاملاً يمكن اعتباره وثيقة خطرة تفصل عملية شراء الأصوات في الوسط العربي، وخصوصاً في القرى الصغيرة وفي أوساط البدو والدروز، وفي التجمعات الكبيرة إلى حد ما، وذلك عن طريق التسهيلات التي تقدمها الوزارات المختلفة، وعن طريق الشراء المباشر بالمال.