يتضمن الملف أجوبة لعدد من الشخصيات الفكرية الفلسطينية والعربية التي تمثل مختلف الاتجاهات والتيارات السياسية عن السؤال الذي وجهته مجلة الدراسات الفلسطينية وهو التالي: في ضوء بدء أعمال 'مؤتمر السلام' ماهي في رأيكم، الآفاق التي يطرحها هذا المؤتمر لحل أو عدم حل القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي؟ شارك في الإجابة كل من : الناطق الرسمي باسم حركة حماس إبراهيم غوشة، ونائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح الانتفاضة الياس شوفاني، والباحث المصري جميل مطر، والباحث الفلسطيني جميل هلال، وأستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية ومستشار الشؤون الخارجية في القصر الحكومي جورج ديب، وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عبد الله حوراني، والمستشار السياسي للملك الأردني حسين [عدنان أبو عودة]، والأستاذ المشارك في العلوم السياسية بجامعة بير زيت علي الجرباوي، والعلامة اللبناني محمد حسين فضل الله، والكاتب المصري محمد سيد أحمد، والأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمة. يتضمن الملف رسالة ربى الحصري من مدريد عن المؤتمر، ورسالة وليد العمري عن آراء فلسطينييو 1948 في عملية التسوية ومقالة أحمد خليفة عن المواقف الإسرائيلية من هذه العملية.
الجميع ظلوا صامتين؛ منهم من تحاشى وقوع ناظريه على الجمهور، ومنهم من علت شفتيه ابتسامة عبّرت عن اعتذار وعجز في آن واحد. خيّم الصمت على جمهور المستمعين لبعض الوقت، ثم واصلوا الإجابة عن الأسئلة، وفُتح باب النقاش. وكل ذلك بسبب سؤال، أو تساؤل وضع الأصبع على جرح الحقيقة. كان ذلك في الرابع والعشرين من أيلول/سبتمبر الماضي، حين اكتظت قاعة المركز الثقافي الفلسطيني في القدس المحتلة بالمهتمين والمستمعين، الذين قدموا للاستماع إلى ندوة شارك فيها ممثلو جميع الاتجاهات السياسية الوطنية الفلسطينية في الأرض الفلسطينية المحتلة. وكان موضوع النقاش يتمحور حول التسوية المقترحة التي كان جيمس بيكر، رئيس الدبلوماسية الأميركية، يحوك خيوطها، وعشية الدورة الحرجة الأكثر أهمية للمجلس الوطني الفلسطيني التي التأمت لحسم الموقف من العملية السياسية الأميركية في الشرق الأوسط.
وبعد أن أنهى المتحدثون كلماتهم التي انقسمت بين مؤيد ومعارض كالعادة، ولكل مبرراته، وقف شاب من الجليل قُيّض له أن يوجد في القدس ويحضر هذه الندوة، وأبدى ملاحظة اعتصرت بالكثير من الآلام؛ قال: "تحدثتم جميعكم بيمينكم ويساركم، بالرافض منكم والموافق على بيكر والدعوة إلى حضور مؤتمر السلام المقترح. غير أن أياً منكم لم ينبس ببنت شفة عن الفلسطينيين في الجليل والمثلث والنقب. هل نسيتموهم؟ أم أصبحوا خارج الصورة؟" بدا الحرج، وصمت الجميع. بعد فترة توبع النقاش، وذهبت الملاحظة أدراج الرياح وكأنها لم تكن، كصاحبها الذي أقفل عائداً من حيث أتى.
هذه المرة، لم ترتدِ دورة المجلس الوطني الفلسطيني الأهمية نفسها التي استحوذت عليها في الدورات السابقة من جانب فلسطينيي الداخل، الذين تشير معلومات ومؤشرات كثيرة إلى أنهم ينزعون إلى الاندماج في الدولة الإسرائيلية، لأن ذلك خيارهم الوحيد، ولا سيما أنهم يعيشون أزمة قيادة وفراغ فكري بفعل العوامل الفلسطينية الداخلية والمستجدات الدولية؛ فهم بين خوفهم على فلسطينيتهم وبين خشيتهم عليها. وهناك من يرى أن القيادة الراهنة لهذه الجماهير منفصلة ولا علاقة لها بهذه الجماهير، وأنها – أي القيادة – هي الصمام الذي مهمته تنفيس الضغط كلما تصاعد داخل الجماهير التي يتقاطع فيها الكثير من الأزمات، إلى درجة أن مؤشرات تقول بميلاد حركة سياسية جديدة، وذلك كمحاولة لملء الفراغ بعد تفكك الحزب الشيوعي الإسرائيلي وتقهقره، وعجز الحركات الأخرى عن توفير البديل اللازم. هذه القيادة البديلة، بحسب تقديرات مركز يافا للأبحاث في مدينة الناصرة، وكما أجملها الصحافي الباحث عبد الحكيم مفيد اغباريه، يجب أن تتمتع بـ"القدرة على حل مشكلات العرب في إسرائيل لدى وزارة الداخلية، وفي الوقت نفسه تكون قادرة على ملاقاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات."
وفيما يتعلق بسبب عدم اهتمام فلسطينيي الداخل بدورة المجلس الوطني الأخيرة، خلافاً لما درجوا عليه في الدورات السابقة، رد اغباريه ذلك إلى خيبة الأمل مما يحدث في المنطقة، وإلى نتائج أزمة الخليج التي أدخلت الناس في نشوة وأوهمتهم بأن كل شيء انتهى، وبات حل القضية الفلسطينية بكاملها على مرمى حجر، والتي تركت انعكاساتها وأوجدت حالة من اللامبالاة بالنسبة إلى العرب في الداخل. وهذا ما أدى إلى تراجع النزعة الانفصالية لمصلحة النزعة الاندماجية؛ إذ بات لدى معظم العرب في الداخل ميل واضح إلى الانخراط في الدولة الإسرائيلية، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بفلسطينيتهم وعروبتهم وإبرازهما. ولا بد، في هذا السياق، من الإشارة إلى أن فلسطينيي الداخل يعيشون على ردة الفعل بعيدين عن روح المبادرة، ولهذا هناك خيبة أمل كبيرة من طريقة استثمار الانتفاضة علماً بأنهم تغنوا بها، لكن مساهمتهم ظلت محدودة لم تتعد التعاطف بالمشاعر ومعونات تموينية. وهم يرون، بحسب ما يستشف من أحاديث الناس، أن الإفراز السياسي الراهن سيىء وناجم عن أوضاع سيئة، وينتابهم خوف شديد من أن التسوية المقترحة لن تجدي الشعب الفلسطيني نفعاً، غير أنهم مع أي حل سياسي لسببين:
- لا يؤخذون في الحسبان في أية معادلة تسوية.
- وجود شعور بمعاناة الشعب الفلسطيني.
هكذا، فهم يرون أن منظمة التحرير الفلسطينية أخرجتهم، في آخر قراراتها،من اللعبة، وهكذا تصرفت إسرائيل أيضاً. لذا فهم يؤيدون أي حل سياسي يخفف من معاناة إخوانهم في الأراضي المحتلة، حتى لو كان ذلك على حساب مصيرهم. وهم في الوقت نفسه، يؤيدون أي قرار تتخذه منظمة التحرير الفلسطينية، على الرغم من أنهم أصبحوا خارج دائرة الفعل الحقيقية على الساحة الفلسطينية. ويتلخص الرأي الذي يجتمع الكثيرون حوله في السعي لوقف المعاناة والبطش والإرهاب التي يتعرض لها أهلهم في الضفة الغربية وقطاع غزة. فالأغلبية أيدت الذهاب إلى مؤتمر مدريد ولم تخفِ إعجابها بالإنجاز الإعلامي الذي حققه الفريق الفلسطيني.
خلاصة القول: إن العرب في الداخل على استعداد لقبول عزلهم عن شعبهم الفلسطيني ثمناً لرفع المعاناة عن إخوانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين؛ فهم يقبلون بما تقبل منظمة التحرير الفلسطينية به، معلنين: "لسنا جزءاً من لعبتكم، لكننا نؤيد ما تقررون."
هذا الموقف ينسحب على الفعاليات السياسية بين فلسطينيي الداخل، التي تتخبط بدورها بعد أن أخفقت في التوصل إلى صيغة عمل مشتركة.
وفي سبيل استجلاء مواقف تلك الفعاليات من العملية السياسية الراهنة، طرحنا على قادتها سؤالاً واحداً تمحور حول رؤية الفعاليات السياسية للتسوية المقترحة، وموقع عرب الداخل فيها.
رؤية الفعاليات السياسية
للتسوية المقترحة
عندما طرحنا السؤال على النائب محمد ميعاري زعيم الحركة التقدمية للسلام، وكان ذلك قبل التئام مؤتمر مدريد، وماذا سيستفيد من هذا المؤتمر، إذ إن ميعاري لاجىء أصله من قرية البروة التي دمرتها سلطات إسرائيل وشتَّتت أهلها، سرد علينا ما دار بينه وبين والده من نقاش. قال أبوه: أريد أن أعرف ماذا أجني أنا من حل كهذا، دولة في الضفة والقطاع، هل يعيدني ذلك إلى قرية البروة. إن هذا الرد لميعاري، الشيخ، قد يوجز ما يجيش في صدور السواد الأعظم من فلسطينيي الداخل. في أية حال، هكذا كانت أجوبة الفعاليات السياسية وعلى لسان قادتها الكبار.
- النائب محمد ميعاري (زعيم الحركة التقدمية للسلام): هناك مستويان للقضية:
(1) على مستوى الشعب الفلسطيني، فهي متعلقة بجميع الفلسطينيين، بمن فيهم فلسطينيو 1948.
(2) بينما القضية المطروحة سياسياً، في هذه المرحلة، تتحدد في مصير الأراضي المحتلة. ونحن كفلسطينيين في مناطق 1948، نرى أن الحل الذي يمكن أن يؤمن الوجود الوطني والسياسي للشعب الفلسطيني في أي جزء من أراضي فلسطين، هو هدف يجب العمل على تحقيقه. كما أننا نعلم أن الدولة القومية اليوم قد لا تضم جميع أبناء الشعب ضمن إطارها السياسي. وحتى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة لن يمنع الصراع الحضاري مستقبلاً. والأمر يتوقف على طبيعة العلاقة التي ستقوم بين الدولة الفلسطينية وإسرائيل، كما يتعلق بالترتيبات التي ستتم في المنطقة برمتها.
المقصود حل سياسي في مضمونه. وأن فلسطينيي الداخل ملتزمون وراضون بتنفيذ هذا الحل الذي يضمن للشعب الفلسطيني تشييد كيانه الوطني على جزء من أرضه.
- النائب عبد الوهاب دراوشه (زعيم الحزب العربي الديمقراطي): يدور الحديث عن إيجاد حل للشعب الفلسطيني الذي يعيش في الأراضي المحتلة والشتات، وكذلك إيجاد حل شامل للصراع في الشرق الأوسط، بما يضمن إنهاء الاحتلال وتحقيق سلام شامل في المنطقة. إن أي طرح لموضوع الفلسطينيين من مواطني دولة إسرائيل، في هذه المرحلة، سيسيء إلى المسيرة السلمية، ويوجِد جواً من عدم الثقة بالنسبة إلى أي حل سياسي مستقبلي. لذلك، أرى أن من الأفضل والأنجح عدم التحدث عن هذا الموضوع في أثناء مؤتمر السلام، على أن يطرح لاحقاً موضوع الحقوق القومية والمدنية للفلسطينيين داخل إسرائيل، مثل الأراضي والحقوق المعيشية اليومية، وطريقة التوجه المطلوبة من المؤسسة الحاكمة في إسرائيل تجاه الفلسطينيين.
وأعتقد أنه في حال الوصول إلى حل سلمي للقضية الفلسطينية، وإقامة دول فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، سيكون من الأسهل طرح قضايا المواطنين العرب لأنه ستبنى عندئذ علاقات أفضل، وستكون هناك أسس من الثقة المتبادلة بين الشعبين، تمكّن من طرح الأمور طرحاً عقلانياً والتوصل إلى حلول مرضية.
إن المواطنين العرب في إسرائيل جزء من المواطنين في الدولة، لكن لهم سماتهم الخاصة كونهم جزءاً من الشعب الفلسطيني والأمة العربية. ويجب أن يحصلوا على حقوقهم المدنية داخل الدولة، وعلى حقوقهم كأقلية قومية. وعلى سبيل المثال: إقامة فرع عربي داخل وزارة المعارف يكون مستقلاً عن التعليم اليهودي، كي نضمن الاندماج الصحيح لا الانصهار والذوبان؛ فنحن أقلية في إسرائيل، ولكننا جزء من أكثرية في المنطقة.
- الشيخ عبد الله نمر درويش (زعيم الحركة الإسلامية): لخص موقف الحركة الإسلامية في نقاط ثلاث:
(1) لا يوجد فلسطيني واحد من النهر إلى البحر، مهما يكن انتماؤه السياسي أو ولاؤه العقائدي، يرفض مبدأ السلام لأن السلام، كما تعتقد الفئات الفلسطينية كافة، هو الذي نبني به الحضارات وتتقدم به الأمم. وشعبنا الفلسطيني، الذي هو في طليعة الشعوب الحضارية، هو أكثر الشعوب معرفة بقيمة السلام وضرورته لخير الإنسان، حاضراً ومستقبلاً.
(2) المبدأ الثاني، والذي لا يجوز مطلقاً أن يفصل أو يعزل عن مبدأ السلام، هو العدل الذي يتلخص في حصول كل ذي حق على حقه، بصورة ترضيه أو، على الأقل، ترضي أغلبية الشعب أو الأمة. فالسلام من غير عدالة لا يدوم، وتحقيق السلام من غير حصول جميع أطراف الصراع على حقوقهم المشروعة هو نوع من العبث. وحقوق شعبنا الفلسطيني المشروعة تتلخص، في نظرنا، في ثلاثة حقوق أساسية يُبنى باقي الحقوق عليها:
أ – حقه في تقرير المصير
ب – حقه في الاستقلال وإقامة الدولة.
ج – حق اللاجئين في العودة أو التعويض إذا قبلوا به.
إذا تحققت هذه الأمور الثلاثة، فإننا نتوقع أن يكون المجتمع الدولي قد بدأ يميل نحو العدالة، ولو بصورة نسبية، في تحقيق السلام؛ ذلك بأن هذه الحقوق الثلاثة ليست إلاّ الجزء الأساسي من حقوقنا الفلسطينية. ومع ذلك، فإن شعبنا على استعداد للقبول بأي حل سياسي يضمن له هذه الحقوق. ونعتقد أن على المجتمع الدولي وإسرائيل أن يعلما جيداً أن الذي يتنازل من أجل السلام هو شعبنا الفلسطيني، لا إسرائيل. ولا بد من تغيير الفكرة التي تدعي أن إسرائيل تتنازل للعرب. هذا غير صحيح، بل العرب هم الذين يتنازلون من أجل السلام، ومن أجل الشرعية الدولية.
(3) مؤتمر مدريد، أو أي مؤتمر آخر يجب أن يكون مدعوماً بقوة تضمن تحقيق قرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم، وإلا تكون هذه الاجتماعات مجرد سهرات أو رحلات سياحية. إن شعبنا الفلسطيني يقبل التعدد الاجتهادي في داخله، لكنه يرفض العداء الفئوي؛ فنحن نرى أن الذين اشتركوا في مؤتمر مدريد هم من الفلسطينيين الشرفاء الذين تهمهم القضية، كما أن المعارضين هم فلسطينيون شرفاء تهمهم القضية. المهم في الأمر أن يصب في مصلحة القضية.
إننا نرفض أسلوب العداء الفئوي، أو أسلوب المهاترات والمزايدات، أياً يكن المزايد، ومهما يكن انتماؤه. فمرحلة قضيتنا الحالية تستوجب وحدة البيت الفلسطيني حول سياسة موحدة يلتقي الفلسطينيون فيها، ولو على الحد الأدنى من برنامج سياسي موحد يتقدمون به إلى العالم بأسلوبهم الحضاري، بأنه شعب.
وفيما يتعلق بموقع عرب الداخل في العملية السياسية، أجاب: في تصوري أن قضية العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر ستكون جزءاً لا يتجزأ من الحل الشامل .ولا أعني بذلك أن الفلسطينيين داخل الخط الأخضر سوف يرتحلون إلى دولة فلسطينية، لكنهم سيظلون في وطنهم ومدنهم وقراهم، مع المطالبة الحاسمة بحقهم في الحصول على حقوقهم الكاملة، من غير تمييز أو مطاردات أو مصادرات للأراضي. وفي تصوري، أن المبدأ الملحّ الآن الذي ننتظر تطبيقه، هو حصول شعبنا على حق تقرير المصير، ثم تتبعه الحلول الأخرى.
في رأيي، أن نضال الفلسطينيين في الداخل سيكون عندها أكثر جدية، وأكثر وضوحاً، ومحدَّد الأهداف بدقة؛ وإذا تحددت الأهداف بدقة، فإن الوصول إليها ميسَّر بعون الله.
- توفيق طوبي (السكرتير العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي): إن عقد مؤتمر السلام في مدريد، وبدء عملية المفاوضات بين إسرائيل من جهة وبين الدول العربية المجاورة وممثلي الشعب العربي الفلسطيني من جهة أخرى، يفتحان مرحلة جديدة في حياة منطقتنا، تحمل في طياتها إمكان إحلال السلام الذي تتطلع شعوب هذه المنطقة إليه، وخصوصاً الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني.
إننا ندرك تماماً أن النجاح الأكيد والسريع للمؤتمر الدولي من أجل السلام في الشرق الأوسط، ووصوله المضمون إلى التسوية السلمية العادلة الشاملة والدائمة، كانا يتطلبان قواعد أكثر وضوحاً وإلزاماً لتطبيق الشرعية الدولية، ومشاركة أكثر فعالية للأمم المتحدة، وتوازناً دولياً أكثر دعماً للسلام العادل. ومع ذلك، فمعطيات الوضع الدولي والإقليمي أفرزت هذا الإطار الذي عكس تأثير انتفاضة الشعب العربي الفلسطيني ضد الاحتلال، وطموح الأسرة الدولية إلى إخماد مواقد التوتر الإقليمية حرصاً على السلام العالمي، والذي حمل إمكانات الوصول إلى التسوية السلمية القائمة على إنهاء الاحتلال واحترام الحقوق المتبادل.
لقد تطلعت حكومة شمير إلى الرفض العربي والفلسطيني لتنقذ نفسها من "مصيبة" المشاركة في مؤتمر السلام، الذي بذلت جهداً كبيراً لمنع عقده؛ لكن قرار المشاركة الفلسطيني والعربي جاء غير مطابق لأماني القوى المتطلعة إلى استمرار الوضع القائم من احتلال وعداء وسفك دماء.
وقد ثبت فعلاً أن مجرد مشاركة الوفد الفلسطيني في المؤتمر، وظهور الشخصية الفلسطينية على حقيقتها أمام الرأي العام العالمي، بقضيتها العادلة التي طالما سعى حكام إسرائيل لطمسها، كانا مكسباً لقضية السلام العادل.
إن ظهور الوفد الفلسطيني، بموقفه السلمي المرن، والسياسي الحكيم، والمبدئي المتمسك بحقوق شعبه العادلة، مستنداً إلى قرارات دورتي المجلس الوطني الفلسطيني التاسعة عشرة والعشرين، المبنية على حلول التعايش السلمي واحترام الحقوق المتبادل، في مقابل موقف الرفض الإسرائيلي المتمثل في الاحتلال والاستيطان، والمتنكر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره؛ هذا الظهور قد أثر تأثيراً بالغاً في الراي العام الإسرائيلي، لا أقل من التأثير الذي أحدثته تظاهرات التأييد الشعبي – بأغصان الزيتون – في الأراضي المحتلة لمؤتمر السلام ولموقف الوفد الفلسطيني.
إن عقد المؤتمر وبدء المفاوضات هما خطوة أولى على طريق معقد وشاق، تعترضه عقبات ومساع استفزازية ضد المسيرة السلمية. فلا يمر يوم من دون أن يطلق شمير تصريحاته الرافضة للانسحاب من الأراضي المحتلة. وما قرار الكنيست هذه الأيام، بأكثرية أصوات الليكود وبتأييد نواب حزب العمل "المعارض"، تأكيداً لضم الجولان إلى إسرائيل، إلا تحدياً وقحاً لعملية السلام. وفي الوقت نفسه، تتابع حكومة شمير عمليات الاستيطان الاستفزازية، مدركة أنها تزرع الألغام في طريق استمرار المفاوضات.
إن المزيد من القوى الاجتماعية في إسرائيل يتفهم ما نعود فنؤكده من أن نجاح مؤتمر السلام والمفاوضات الثنائية والإقليمية لتحقيق السلام المنشود، يتطلب خطوات عملية من أجل إيجاد مناخ ملائم لإقامة علاقات ثقة. وندعو حكومة إسرائيل إلى وقف الاستيطان فوراً، وكذلك وقف أعمال القمع في الأراضي المحتلة، وإطلاق المعتقلين السياسيين الفلسطينيين، وإعادة المبعدين إلى وطنهم.
إن نجاح مسيرة عملية السلام، في مراحلها كافة، يعتمد كثيراً على راعيي المؤتمر، وخصوصاً الولايات المتحدة والتزامها التأثير في حكومة إسرائيل، ودفع عملية السلام على أساس تطبيق الشرعية الدولية، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن، واحترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة في الضفة الغربية والقدس العربية وقطاع غزة، والانسحاب من الجولان والجنوب اللبناني.
ونحن في إسرائيل نرى أن واجبنا الأول، تجاه دفع عملية السلام إلى الأمام وإنجاحها، العمل لمضاعفة جهودنا ونشاطاتنا الجماهيرية مع جميع قوى السلام في إسرائيل، من أجل أن توقف الحكومة الإسرائيلية عمليات الاستيطان في الأراضي المحتلة، وأن تجري المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية من دون لف أو دوران، على قاعدة الاعتراف المتبادل بالحقوق، وعلى أساس دولة لكل من الشعبين.
- رجا اغباريه (الأمين العام لحركة أبناء البلد): سبق أن نشرنا ودعونا إلى رفض المشاركة، فلسطينياً بصورة خاصة، في هذا المؤتمر لعدة أسباب جوهرية، أهمها:
(1) إن المبادرة الأميركية جاءت على خلفية انهيار الاتحاد السوفياتي وتذيّله للولايات المتحدة، وعلى خلفية الحرب الإمبريالية في الخليج حيث دمرت الولايات المتحدة وحليفاتها القاعدة الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية للشعب العراقي والأمة العربية، وكرست إسرائيل كدولة نووية وحيدة في الشرق الأوسط، وخصوصاً في ظل انهيار النظام العربي الذي تحالف مع الإمبريالية لضرب العراق وشعبه. إن هذه الحقيقة هي وحدها التي تفسر عجلة الولايات المتحدة وإصرارها على إنجاز تسويتها التصفوية، وخصوصاً أن الموقف الوطني العربي تمر به مرحلة من أصعب مراحل تاريخه؛ فهو فاقد القدرة على فرض إرادته، أو انتزاع حقوقه المشروعة من خلال المفاوضات في مؤتمر مدريد.
إن هذه الحقيقة تدركها إسرائيل جيداً؛ فعلى الرغم من موقف حكومة اليمين الفاشية، المتظاهر بالتصلب، فإنها تشارك في المؤتمر من دون أن يسبب ذلك أية خلافات أو انسحاب من جانب وزراء غلاة اليمين، أمثال زئيفي ونئمان وإيتان وشارون.
(2) إن المبادرة الأميركية جاءت بديلاً من ممارسة الأمم المتحدة لدورها في تطبيق الشرعية الدولية في فلسطين، كما فعلت الولايات المتحدة ذلك باسمها في الخليج. وهو الأمر الذي يعني أن مجلس الأمن والأمم المتحدة هما مؤسستان ملائمتان بالنسبة إلى الولايات المتحدة لشن حرب عدوانية إمبريالية على العراق، بينما لا ترى فيهما مؤسستين ملائمتين لإحلال السلام وتطبيق الشرعية الدولية في فلسطين.
إن هذه الحقيقة تجعل من المؤتمر الإقليمي بديلاً من المؤتمر الدولي الذي قررت الأمم المتحدة عقده لتنفيذ قراراتها بحق الشعب الفلسطيني، والداعية إلى تطبيق حق العودة وتقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على التراب الوطني.
(3) على خلفية ما تقدم، فإننا لم نر في عقد مؤتمر مدريد للسلام سوى حصول الولايات المتحدة وإسرائيل على توقيع عربي وفلسطيني شامل لتعميم اتفاق كامب ديفيد الخياني على المنطقة برمتها. حيث تحدد سقف إعادة تفسير القرارين رقم 242 ورقم 338 بإعطاء الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة حكماً ذاتياً في إطار "كيان" فلسطيني مندمج مع الأردن في فدرالية؛ وهذا ما أكدته الدعوات التي وجهتها الولايات المتحدة إلى حضور المؤتمر، وهو أيضاً ما أكده شمير، وما وافق عليه ممثل الوفد الفلسطيني في مدريد الذي وافق على الحكم الذاتي كمرحلة أولى وتحدث عن أفق الحل النهائي أي الاستقلال، الأمر الذي رفضه شمير قائلاً لكل الوفود المشاركة: "إذا جئتم للحديث عن إعادة أراض فستصلون إلى طريق مسدود." وبهذا، حسم شمير نتيجة المفاوضات بشأن المرحلة الثنائية، حيث لن يبقى إلا الحكم الذاتي.
وعليه، فإننا نفضل الابقاء على "الحكم الذاتي" للانتفاضة، إذا جاز التعبير، مع ضمان استمرارها في مقاومة الاحتلال، على المشاركة في مؤتمر تصفية القضية الوطنية الفلسطينية الذي عقد في مدريد.
(4) وبعد الافتتاح الذي جرى في مدريد، فإن مواقفنا تترسخ أكثر إذ اتضحت عدة نقاط جوهرية أخرى، هي:
- إن المفاوضات الموازية للحكم الذاتي – الفلسطيني هي في شأن توسع إسرائيل اقتصادياً، وبالتالي سياسياً، في الوطن العربي كله، بعد أن ثبتت توسعها العسكري – الجغرافي في حدود احتلالها الحالية.
- إن إسرائيل قد انتزعت اعترافاً عربياً وفلسطينياً بشرعية وجودها وبحدودها الحالية، ومن دون أي مقابل، وهو ما حاربت إسرائيل من أجله – ولو إعلامياً – طوال 43 عاماً. لقد خسر العرب إحدى أهم أوراق التفاوض مع إسرائيل، من دون أن يحققوا أي إنجاز معنوي، مثل تجميد الاستيطان في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967.
- صحيح أن الوفود العربية، وخصوصاً الوفد الفلسطيني، حققت إنجازات إعلامية في مؤتمر مدريد، لكن مشكلة العرب والفلسطينيين ليست مشكلة إعلامية، بل هي مشكلة تصفية الاحتلال وتحقيق العودة والاستقلال.
أخيراً، فإننا مصممون على خوض معركة جماهيرية قدر المستطاع، لإفشال مؤتمر مدريد، أو محاولة ردع الطرف الفلسطيني عن التفريط بالثوابت التي التزمها في إطار قرارات المجلس الوطني، والتي لا يختلف في شأنها أي فلسطيني من الصف الوطني. ونشدد على أن اجتهادنا المذكور يأتي ضمن الاجتهادات الوطنية المتعددة التي تؤكد الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني، بكل اجتهاداته الوطنية، لكنس الاحتلال وتحقيق العودة والحرية والاستقلال.