المقاربة الإسرائيلية للتطورات في لبنان بين الاستراتيجية والتكتيك: محاولة إعادة الأوضاع إلى البداية
كلمات مفتاحية: 
جنوب لبنان
لبنان
سورية
تهديد لبنان
نبذة مختصرة: 

يعالج المقال، بالاستناد إلى المصادر العبرية، المواقف والتصريحات الرسمية والتعليقات الصحافية الإسرائيلية التي صدرت في أعقاب توقيع المعاهدة السورية ـ اللبنانية وانتشار الجيش اللبناني في بعض مناطق الجنوب. ويخلص إلى أن إسرائيل لن تتوقف عن محاولة التأثير في لبنان، وأنها ستواصل استخدام تكتيكاتها وأدواتها في لبنان، سعياً وراء عدم تمكينه من استعادة سيادته على أراضيه.

النص الكامل: 

إن الحلقة الضعيفة في التحالف العربي هي

لبنان... يجب إقامة دولة مسيحية ليكون الليطاني

حدّها الجنوبي... سوريا ستسقط.

 

(دافيد بن – غوريون،

يوميات حرب 1948)

 

              يربط قادة إسرائيل، على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم ومدارسهم الفكرية والسياسية، منذ بن – غوريون حتى شمير، كل تطور في الوطن العربي لجهة التحالف أو الائتلاف فيه بالعبارات التقليدية السحرية: "أمن إسرائيل" و"مصالحها الحيوية" و"سلامة سكانها"؛ وذلك لإيجاد المبرر والمسوّغ الدائمين للتدخل في الأحداث والتأثير في التطورات، إما لتسخيرها في تحقيق أطماعهم وإما للتأثير في عرقلة تقدم الوطن العربي وإلهائه عن اللحاق بركب الحضارة. وبما أن أطماع إسرائيل في لبنان جلية ولا تحتاج إلى برهان: السيطرة على مصادر المياه فيه، وعلى أجزاء من أرضه (إن لم يكن كلها في مراحل لاحقة)، فإن ردات فعل قادة إسرائيل على المعاهدة السورية – اللبنانية جاءت لتعكس هذا المسار. فقد كانت العناصر المشتركة في ردات الفعل تلك هي: "م. ت. ف."، و"الإرهاب" و"أمن إسرائيل"، و"تهديد سلامة إسرائيل"... إلخ، وذلك كي يحتفظوا بخيارات التدخل العسكري المباشر، أو العمل السري التخريبي ضد كل مسعى يومي لاستعادة لبنان عافيته، لأن مجرد استعادة لبنان سيادته على جنوبه ستحرم إسرائيل أطماعها، وستقطع عنها الطريق إلى تحقيق أحلامها.

غداة توقيع المعاهدة بين الرئيسين السوري واللبناني، سارع موشيه آرنس وزير الدفاع الإسرائيلي إلى الجنوب واجتمع إلى "قادة الجيش الإسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي"، وأعلن في مؤتمر صحافي أن إسرائيل لن تسمح لمنظمة التحرير الفلسطينية أو لحزب الله بالاقتراب من الحزام الأمني في الجنوب اللبناني، ومحاولة تقويض الوضع في المنطقة. وأكد "أن الاتفاق الذي وقع بين لبنان وسوريا يقترن بتوجه قوات حزب الله وم. ت. ف. إلى الجنوب." وأضاف أن "م. ت. ف. وحزب الله يخاطران... لن نسمح بتقويض أمن السكان الإسرائيليين في شمال البلد." وتابع آرنس قائلاً إن الاتفاق فصل جديد في المأساة اللبنانية، ويشكل محاولة من جانب سوريا لابتلاع لبنان وإنهاء سيادته. "فالسوريون يفعلون بهدوء وبخفاء ما حاول صدام أن يفعله في الكويت قبل بضعة أشهر. وهم يعرفون موقف إسرائيل، وكيف ترى تحركاتها في لبنان." واختتم آرنس كلامه بقوله: "إننا ندرس الوضع عن كثب... كما أن الولايات المتحدة تحصل على آخر المعلومات، وتدرك ما يجري الآن في لبنان."[1]

أما شارون، فقد حرص على الإعلان في هضبة الجولان أن "الاتفاق بين سوريا ولبنان وسيطرة سوريا على لبنان يشكلان، من دون شك، خطراً فعلياً على أمن إسرائيل." واتهم شارون سوريا بأنها "لا تسمح بعمليات إرهابية من أراضيها، لكنها تسمح بها وتشجعها من الأراضي اللبنانية."[2]   وذهب شارون إلى أبعد من ذلك بقوله، مهوّلاً، إن ثمة "تهديداً مباشراً للصناعات الإسرائيلية في حيفا وشمال البلد، عقب سيطرة سوريا على لبنان." واتهم سوريا بأنها "تحقق حلماً سورياً قديماً... بضم لبنان إلى سوريا." وتابع يقول إن "سيطرة سوريا على لبنان ستؤدي إلى تفاقم مشكلة الإرهاب ومنظمات الإرهاب على الحدود اللبنانية."[3]

وقال يوسي أولمرت، مدير دائرة الصحافة الحكومية، للمراسلين الأجانب إن إسرائيل ستتخذ جميع التدابير المتوفرة لديها، من أجل الحفاظ على مصالحها في الجنوب اللبناني عقب الاتفاق السوري – اللبناني. "لن نسمح لقوات سورية بأن تتمركز على حدود إسرائيل، كما أننا لن نسمح بأية مخاطرة لإسرائيل."[4]   واتهم بنيامين نتنياهو، نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، سوريا بأنها ترفض عملية السلام، وأن تعنتها في هذا الشأن دليل على نياتها الحقيقية.[5]  ويرى شمعون بيرس، زعيم حزب العمل، ضرورة توضيح "الخطوط الحمر" الممنوع تجاوزها من قبل السوريين – على حد قوله.[6]

وفي إثر انتشار الجيش اللبناني في الجنوب اللبناني، تحركت إسرائيل مرة أخرى بطائراتها وتصريحاتها مستخدمة الذرائع نفسها، على الرغم من أن تحركات الجيش اللبناني لا تمسّها، ما دام يتحرك ضمن حدود دولته. وقد بلّغ إيهود براك، رئيس هيئة الأركان، لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست أنه "نتيجة الانتشار الجديد للجيش اللبناني، ستواصل إسرائيل المحافظة على حرية العمل لسلاحي الجو والبحرية في الأجواء اللبنانية وعلى امتداد شواطىء الجنوب، وستمنع السوريين من أن يتقدموا جنوباً من مواقعهم المتقدمة على امتداد طريق بيروت – دمشق."[7]   وكان رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي قد حدد "حاجات إسرائيل الأساسية الثلاث في لبنان: منع تمدد السوريين، وحرية عمل جوية لإسرائيل في أجوائه (أجواء لبنان)، وحرية عمل بحرية في مواجهة شواطئه."[8]

أما موشيه آرنس، وزير الدفاع، فقد اتخذ موقف "المحرض" بين الجيش اللبناني والفلسطينيين؛ إذ إنه عندما سئل عما إذا كان انتشار الجيش اللبناني في الجنوب "يعرض الحزام الأمني للخطر" أجاب: "آمل ألا يحدث ذلك. سمعنا حقاً تصريحات من قبل حكومة بيروت بشأن رغبتها في انتزاع السلاح من المخربين، لكننا لم نر أي دليل على ذلك حتى الآن. بل على العكس، تُبذل في كل يوم محاولات توغل من الجنوب اللبناني إلى إسرائيل."[9]

وأما المهندس الرئيسي لتحركات إسرائيل في لبنان أوري لوبراني، والذي يسندون إليه لقب "منسق أنشطة الحكومة في لبنان"، فقال إن إسرائيل أوضحت وتوضح لجيش لبنان أنها لن تتدخل في انتشاره في الجنوب، ما دام هذا الأمر لا يسيء إلى أمنها ولا يهدد سلامة مستعمرات الشمال. وتابع: إذا لم يمنع الانتشار الجديد محاولات الاعتداء على إسرائيل والحزام الأمني، فإن الوضع في نظرنا لم يتغير قط، وسنواصل العمل كما فعلنا في الماضي."[10]

وعندما سئل نائب لوبراني، الذي لم يفصح عن اسمه، بل أشير إليه بالحرف "ر" فقط، عما إذا كان انتشار الجيش اللبناني سيجر إسرائيل من "موقع مراقبة إلى موقع تدخل"، أجاب أن "إسرائيل تواصل مراقبة التطورات، وسترد بالتالي على كل تطور تعتقد أن من شأنه أن يسيء إلى أمن حدودها الشمالية."[11]

المعاهدة السورية اللبنانية

في مرآة الصحافة

تعكس التعليقات الصحافية على المعاهدة مواقف المسؤولين الإسرائيليين، لكن بمزيد من التفسير والتصريح. فقد توقف بعض المعلقين الإسرائيليين عند انعكاسات المعاهدة المحتملة على تحركات إسرائيل في لبنان، وعلى الوضع الداخلي فيه. وبرزت في هذه التعليقات، كما في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم، نغمات تقليدية ترافق عادة التعليقات الإسرائيلية على التطورات السياسية في الوطن العربي. وأولى هذه النغمات الاتهام بأن "دولة عربية تتطلع إلى ابتلاع دولة عربية أخرى"، أو "دولة عربية تسيطر على دولة أخرى".. إلخ، ثم التهويل بالأخطار على إسرائيل، وكذلك ربط هذا التطور أو ذاك بالنشاط "الإرهابي" للفلسطينيين أو "المسلمين الأصوليين"، وبعد ذلك البحث عن مزايا وعيوب هذا التطور أو ذاك بالنسبة إلى إسرائيل. وأخيراً، البحث عن عنوان لتحميله مسؤولية أي عمل تعتبره إسرائيل ناجماً عن ذلك التطور.

وعلى صعيد تحميل سوريا المسؤولية، قال المعلّق آفي بنياهو إن "سوريا ستكون من الآن وصاعداً العنوان لشكاوى إسرائيل والولايات المتحدة، حتى لو حاولت دمشق التنصل من مسؤوليتها، بزعم أن النشاط الإرهابي يتمحور في المنطقة الجنوبية. وكانت إحدى مشكلات إسرائيل حتى الآن غياب عنوان للقضايا المتعلقة بالمسؤولية عن الإرهاب من لبنان."[12]   ومن جهة أخرى، نقل المراسل العسكري لصحيفة "دافار" عن "مصادر عليا" في إسرائيل تقديرها أن "الجيش السوري سيحاول تقليص الاعتداءات الإرهابية التي تشن من لبنان على إسرائيل بقدر ما يستطيع." وبحسب تلك المصادر، فإن للسوريين مصلحة واضحة في تقليص الاعتداءات ضد إسرائيل من أجل عدم إعطائها ذريعة لتتخذ من الإرهاب مبرراً لعدم استعدادها لمغادرة الحزام الأمني في إطار الترتيبات الجديدة في لبنان، ومحاولة تأليف حكومة مركزية." ونقل المراسل عن المصادر الآنفة الذكر قولها إن "الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أوضحا للرئيس السوري أن شرط لجوئهما إلى ممارسة الضغط من أجل انسحاب إسرائيل من الحزام الأمني مرهون بقدرة السوريين على إقامة الدليل على قدرتهم على السيطرة على المنطقة، بما في ذلك منع العمليات الإرهابية ضد إسرائيل."[13]

وفي  نظر بعض المعلقين الإسرائيليين، فإن "الميزة الأساسية التي من شأنها أن تعود على إسرائيل نتيجة 'اتفاق الأخوة' هي مدى النفوذ الذي سيمارسه الجيش السوري لمنع أعمال إرهابية خلف حدود إسرائيل الشمالية." [14]

التهويل بأخطار مفتعلة

              علاوة على التهويل الذي لوح شارون به فيما يتعلق بوجود "خطر على الصناعات الإسرائيلية في الشمال"، راح بعض المعلقين الإسرائيليين يتحدث عن المزيد من "الأخطار" التي ينطوي الاتفاق اللبناني – السوري عليها. وما ذكره أحدهم يعكس نيات إسرائيل تجاه لبنان. يقول المعلق: "أدى الاتفاق الأخير إلى توجه كثيف لعشرات ومئات المخربين الفلسطينيين والشيعة إلى الجنوب، إلى الحزام الأمني. وبموجب الاتفاق الذي تحاول السلطة المركزية في لبنان تطبيقه برعاية سوريا الكريمة، يُفترض بجميع الفلسطينيين التجمع في مخيمات اللاجئين في منطقتي صور وصيدا، وهذا أمر ستكون له في اعتقاد إسرائيل دلالات خطرة بالنسبة إلى كل ما يتعلق بمستوى العمليات ضد مستوطنات الشمال، وضد الحزام الأمني. فهي لم تنجح في حمل شعوب العالم على معارضته، ولا حتى الولايات المتحدة. ولذا تسعى المؤسسة الأمنية الآن إلى التلميح لسوريا إلى أنها [المؤسسة الأمنية] لن تكون مستعدة للتسليم بالخطوات والتحركات التي ستعرض، وفق تقديراتها، أمن مستوطنات الشمال للخطر."[15]

ويذكر المعلق الآنف الذكر "أخطاراً" أخرى ناجمة عن الاتفاق، فيقول: "من الناحية العسكرية الصرف، يمكن الجزم أن اتفاق الأخوة ينطوي على أخطار تجاه إسرائيل. إذ إن الاتفاق ينص على أن السوريين يستطيعون الاحتفاظ بقوات عسكرية على الأراضي اللبنانية، من دون قيود تقريباً... بما في ذلك بطاريات صواريخ أرض – جو... فهذه الصواريخ المنتشرة حالياً على الأراضي السورية قرب الحدود السورية – اللبنانية تقيّد حرية تحليق سلاح الجو الإسرائيلي، وقدرته على جمع آخر المعلومات عن المخربين. ويضرّ توسيع هذه القيود بالمصلحة الإسرائيلية."[16] 

وبالنسبة إلى "الدلالة الاستراتيجية العامة للوجود السوري في لبنان"، يشير تيدي فرويس إلى "مدرستين" ما زالتا قائمتين في إسرائيل: الأولى ترى أن تمركز أربعين ألف جندي سوري في لبنان يعني انقسام القوة السورية وانكشافها أمام هجوم إسرائيل، إذا ما نشأ سبب لذلك؛ والثانية تقول عكس ذلك: "إن لدى الأسد الآن نقطتي انطلاق للهجوم على إسرائيل، الأمر الذي يفاقم الخطر عليها."[17]

أما فيما يتعلق بالمغزى السياسي للاتفاق  السوري – اللبناني، فإن المعلق الصحافي، آفي بنياهو، يرى أنه "قد يكون لاتفاق دمشق... تأثير مستقبلي في هذا المسار السياسي، أو ذاك، بين إسرائيل وسوريا. إذ  إن الفريقين... سيطرحان مسألة لبنان على طاولة المفاوضات، وستطلب دمشق إبعاد إسرائيل عن الجنوب، بينما ستطالب القدس بابتعاد سوريا عن الأراضي اللبنانية كلها. وفي خضم هذا الخلاف، قد يظهر أيضاً من سيطالب بتقسيم لبنان في إطار تسوية شاملة تضم إعادة أجزاء كبيرة من هضبة الجولان إلى أيد سورية."[18]

استراتيجية "الخطوط الحمر"

              كانت استراتيجية "الخطوط الحمر" ولا تزال، أداة مهمة تنتهجها إسرائيل لتبرير تدخلها العسكري في الدول العربية، أو للتأثير في التطورات فيها بما يتفق مع مصالحها. ففي علاقة إسرائيل بكل دولة عربية "خطوط حمر": مع مصر، خلال الستينات والسبعينات، عدم السماح لها بصناعة الصواريخ (اعتداء إسرائيل على العلماء الألمان في مصر)؛ ومع العراق: عدم السماح له بالعمل في الحقل النووي مهما تكن أغراضه، حتى للأغراض السلمية؛ ثم خطوط حمر وضعتها إسرائيل للجيش السوري في لبنان. وهناك طبعاً "خطوط حمر" كثيرة تضعها إسرائيل للوطن العربي، لحرمانه من التقدم وصرفه عن البناء. وطبعاً "الخطوط الحمر" المتعلقة بلبنان جاهزة دائماً.

وكلما برز تطور جديد في لبنان شهرت إسرائيل سلاح "الخطوط الحمر"، إمّا بالتهديد المباشر وإمّا بالتهديد المبطن؛ فمثلاً يعارض رئيس هيئة الأركان إعلان "الخطوط الحمر"، ويفضل المحافظة على المبادىء التقليدية على الأرض من دون أن يسمّيها.[19]  وثمة رأي شبيه يجزم أنه "ينبغي لحكومة إسرائيل والجيش الإسرائيلي الامتناع حالياً من الإدالاء بتصريحات علنية إزاء 'الخطوط الحمر' لإسرائيل في لبنان. فمصالح إسرائيل في لبنان و'الخطوط الحمر' تلك معروفة جيداً من سوريا والولايات المتحدة، ولا ضرورة للتذكير بها علناً."[20]

بيد أن البعض الآخر يواصل التذكير بهذه "الخطوط الحمر"؛ فالمعلق العسكري ورجل الاستخبارات السابق، عاموس غلبواع، يعتبرها ما زالت قائمة حتى هذه اللحظة، وهي: "منع سوريا من إدخال صواريخ أرض – جو إلى المنطقة اللبنانية، ومنع القوات السورية من التوجه إلى الجنوب اللبناني، ومنع سلاح البحرية السوري من الذهاب جنوباً إلى مدينة بيروت، ومنع سلاح الجو السوري من التحليق في أجواء جنوبي طريق بيروت – دمشق. وفي المقابل تتمتع إسرائيل بحرية النشاط الجوي والبحري في أجواء لبنان ومياهه. وفي وقت لاحق، خلال سنة 1985، أضيف إليها الحزام الأمني في الجنوب اللبناني."[21]

وفي هذا السياق، يذكر غلبواع أنه ما دام السوريون لا ينتهكون "الخطوط الحمر" المشار إليها، فإن "وضعنا من الناحية الاستراتيجية – الأمنية لن يتغير في الجوهر. والشيء الذي سيكون نافذاً هنا هو قوة الردع الشاملة لإسرائيل في مواجهة سوريا، وليس بالذات توقيع المعاهدة الحالية بين سوريا ولبنان. ومشكلة إسرائيل على هذا الصعيد، وفي المدى الأبعد، ستكون ما إذا كان السوريون سيحاولون إجراء 'اختبارات' مختلفة لنا تحت ستار شرعيتهم."[22]

لا شك في أن هذه "الخطوط الحمر" هي، في ظاهرها، تهديد مبطن وصريح باستخدام القوة العسكرية ضد أية محاولة للمساس بالأوضاع التي أوجدتها إسرائيل في لبنان، ولا سيما في جنوبه، وبحقائق الأمر الواقع التي أنشأتها على الأرض اللبنانية. وتتجلى هذه فيما يسمى "الحزام الأمني"، أي المنطقة التي احتلتها إسرائيل من الجنوب اللبناني بذرائع مختلفة ولا تنوي الانسحاب منها أبداً ضمن مخططها التمددي في الأراضي اللبنانية. ومن هنا يقول المراسل العسكري لصحيفة "دافار" إن "السوريين يريدون أيضاً الامتناع من استخدام قوات عسكرية من مسافة قريبة جداً من الحزام الأمني. إنهم يفهمون حساسيتنا تجاه التوجه جنوباً."[23]

إن الغاية الحقيقية من إشهار سلاح "الخطوط الحمر" هي الاستعانة بهذا السلاح كي تبقى إسرائيل قادرة على التحكم في مجريات الأمور في لبنان، وعلى منع الدولة اللبنانية ومؤسساتها العسكرية والسياسية من ممارسة هذه السيادة، تماماً كما حاولت إسرائيل أن تفعل مع مصر في سيناء (مصادرة آبار النفط)، وكما تفعل الآن مع سوريا في الجولان (الاستيلاء على الهضبة كلها)، ومع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وأساليب إسرائيل كلها واحدة، ولها الغايات نفسها.

"ثغر جزّين"

              بعيد غزو إسرائيل للبنان خلال سنة 1982، أخذت تتردد على ألسنة الإسرائيليين وفي صحفهم عبارة "ثغر جزّين". والغاية الحقيقية من إطلاق هذه العبارة على منطقة جزّين لم تعد خافية في القاموس الإسرائيلي. ومثل "الخطوط الحمر" و"الحزام الأمني" و"الجدار الطيب" وغيرها من التسميات الطنّانة، كان تعيين "الثغور" و"الجيوب" من قبل إسرائيل في الأراضي العربية أداة بارزة في خلق حقائق الأمر الواقع، القائمة على الاحتلال والتوسع. و"ثغر جزّين" ما هو إلا عملية لتوسيع المنطقة التي تسيطر إسرائيل عليها. ومنطقة جزّين، في المفهوم الإسرائيلي، مثل "الحزام الأمني"، أُدرجت تحت "الخطوط الحمر"، إذ يحظر على أية جهة عربية الاقتراب منها، بل جُعلت خاضعة للسيطرة الإسرائيلية غير المباشرة بواسطة ما يسمى "جيش لبنان الجنوبي". وتصر إسرائيل على "حرية عمل لسلاح الجو في أجواء لبنان كله، وسلاح البحرية قبالة شواطئه، وقوات برية في الحزام الأمني في الجنوب، وفي ثغر جزين..."[24]

              وكان همّ إسرائيل الأكبر، خلال تحركات الجيش اللبناني الأخيرة في منطقة صيدا، عدم اقترابه من منطقة جزين لممارسة سيادته عليها. وعلى حد تعبير المعلق العسكري رؤوفين فدهتسور، أنه "سيكون لنتائج الصراع بشأن منطقة صيدا انعكاس مباشر على الجيش الإسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي. وبسيطرة الجيش اللبناني على التلال شرقي صيدا، بات جنوده قريبين جداً من ثغر جزين. وهذا الثغر المسيحي، الذي مركزه مدينة جزين، يسيطر عليه جنود اللواء لحد. وأوضحت أوساط رسمية في إسرائيل أكثر من مرة أن إسرائيل ملتزمة إزاء مواصلة سيطرة جيش لبنان الجنوبي على ثغر جزين. ومن شأن جزين أن تكون المحك لخطة فرض سيادة الحكم المركزي في بيروت. وسيكون نجاح الجيش اللبناني في طرد عناصر الإرهاب من منطقة جزين أساساً للتأكد من أنه لم تعد هناك ضرورة للاحتفاظ بجنود جيش لبنان الجنوبي هناك. وسيزعم الرئيس الهراوي أن الجيش اللبناني هو الذي سيتولى الدفاع عن سكان الجنوب ضد تحركات عناصر معادية."[25]

              ويوغل الإسرائيليون في هواجسهم وخوفهم من إفلات منطقة جزين من سيطرتهم، إلى درجة أن أحد المعلقين لم يستبعد نشوء "تعاون" بين الجيش اللبناني والفلسطينيين وحزب الله، "في نضال عسكري" في المستقبل "لإلغاء الحزام الأمني الإسرائيلي، أو على الأقل لتصفية ثغر جيش لبنان الجنوبي في جزين..."[26]

              وذكر المراسل العسكري لصحيفة "دافار" أن "لإسرائيل مصلحة واضحة في هذا الثغر." ونقل عن "مصادر عليا" إسرائيلية قولها إنه "على الرغم من أن جزين لم تُعلَن من قبل إسرائيل جزءاً من الحزام الأمني، فإن الحكومة اللبنانية تدرك أنها تُعتبر جزءاً من الحزام الأمني، وتعرف أنها غير قادرة على إرسال قوات لبنانية إلى هذه المنطقة، من دون التنسيق المسبق مع إسرائيل. وفي هذه المرحلة، لا يوجد أي تهديد لجزين."[27]

الخلاصة

              يمكن أن نستنتج من مواقف إسرائيل التكتية وأهدافها ومراميها الاستراتيجية تجاه لبنان، أنها لن تفك ارتباطها به. ولن تتوقف عن محاولة التأثير في مجريات الأمور فيه، في اتجاه يخدم مصالحها. وستواصل إسرائيل استخدام تكتيكاتها وأدواتها التي أوجدتها في لبنان، سعياً وراء عدم تمكنه من استعادة سيادته على أراضيه، وحرصاً على الإبقاء عليه مفككاً. والمسار الذي نشاهده حالياً، في ظل محاولات استعادة لبنان لكيانه، هو أن إسرائيل تعزز وجودها العسكري والمادي في الجنوب، وكأنها باقية فيه إلى ما لا نهاية. فقد نُقل عن بعض "ضباط الإدارة المدنية في لبنان" القول إن "توظيفات إسرائيل في الحزام الأمني في لبنان، ولا سيما في البنية التحتية وفي تعزيز قوة جيش لبنان الجنوبي، لن تتقلص، بل ستكون هناك زيادة كبيرة في الميزانية المخصصة  لذلك." وصرح "رئيس الإدارة المدنية في لبنان" أن "توظيفات إسرائيل في الحزام الأمني تعطي ثمارها، إذ إن المناخ بين السكان بات أفضل، وهناك تعاون بين وحدات الاتصال التابعة للجيش الإسرائيلي وبين زعماء القرى."[28]

كما أن إسرائيل ستواصل استخدام آلتها العسكرية للتأثير في التطورات الجارية في لبنان. وستواصل، بصورة خاصة، استخدام سلاح الجو أداة تحذير وتلويح وإرباك وتعطيل لأية مساع جدية لتحقيق وحدة لبنان. وعلى حد قول أحد المعلقين العسكريين، فإن الهجمات الجوية الإسرائيلية تمثل "سياسة دائمة بتوجيه ضربة شديدة إلى كل هدف يعرض إسرائيل للخطر."[29]  وطبعاً، فإن الإشارة إلى وجود "خطر" على إسرائيل ما هي إلا ذريعة لاستخدام القوة العسكرية لأغراض أخرى. ومرة أخرى يقول المعلق المذكور أنه "على الرغم من النفي التقليدي للجيش الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية بأن الهجمات الجوية على لبنان مرتبطة بمسار معين أو بتاريخ معين، فإن الهجمات الأخيرة – بحسب قول مراجع عسكرية رفعية المستوى – هي تحصيل حاصل لما يجري في لبنان منذ توقيع اتفاق الأخوة بين سوريا ولبنان... وأُضيفت إلى المهمة الدائمة لتلك الهجمات مهمة التلويح للسوريين بأنهم في حال قيامهم بأعمال تهدد حدودنا الشمالية، فإن تدخل سلاح الجو في الأجواء اللبنانية سيتسع كثيراً."[30]

إن الشاغل الإسرائيلي الأكبر هو مواصلة الاحتفاظ بالجنوب اللبناني أرضاً ومياهاً، وتثبيت الاحتلال، وعدم السماح بإدخال الجنوب في أية تسويات سياسية يمكن التوصل إليها في مقابل انسحاب إسرائيل منه. بل إن إسرائيل ستعمل على الربط بين احتلالها لجزء من هذا الجنوب وبين موافقتها على المقايضة في أماكن أخرى. كما أن إسرائيل ربطت نفسها بتقرير مستقبل لبنان. وقد تجلى هذا الربط في افتتاحية إحدى الصحف الإسرائيلية التي ذكرت أن "أحداث الأيام الأخيرة تجسد، مرة أخرى، التعقيدات الأمنية للمثلث الإسرائيلي – السوري – اللبناني... والآن بعد تثبيت حكم الهراوي، واستسلام ميشيل عون، ونزع سلاح بعض الميليشيات الطائفية، وصل دور منطقة الجنوب."[31]   ولن تسمح إسرائيل بحدوث أي تغيير في هذه المنطقة التي تعتبر السيطرة علهيا حكراً عليها. وكما ذكر أحد المعلقين الصحافيين، معيداً إلى الأذهان مواقف إسرائيل التقليدية قبيل احتلالاتها للأراضي العربية سنة 1967، فإن "إسرائيل لا تستطيع أن تكون غير مبالية بتغيير الوضع الأمني الراهن على حدودها، سواء في الجو أو في البر؛ فهي لن تكون غير مبالية بأي تغيير في الأردن، وهي لن تكون غير مبالية بأي تغيير في الأوضاع على حدودها الجنوبية..."[32]

وأخيراً، تبقى المياه اللبنانية محط أطماع إسرائيل، لا التاريخية فحسب بل أيضاً الآنية بصورة خاصة؛ وذلك في ضوء أزمة المياه التي تواجهها إسرائيل، والتي بلغت حداً يدفع بها إلى الإقدام على أي عمل تراه ملائماً ليضمن لها اغتصاب المياه اللبنانية. وحتى لو أقدمت إسرائيل على أية تراجعات تكتية، نتيجة ضغط دولي عليها، فإنها لن تتراجع عن التمسك بمصادرة منابع المياه من الأنهر اللبنانية، ولو اقتضى ذلك منها خوض مغامرة عسكرية لإيجاد أوضاع جديدة تساعدها في تحقيق مراميها.

                                                                                                                            15/7/1991

 

[1]  "دافار"، 23/5/1991.

[2]  "معاريف"، 23 – 24/5/1991.

[3]  "هآرتس"، 22/5/1991.

[4]  المصدر نفسه.

[5]  المصدر نفسه.

[6]  "دافار"، 24/6/1991.

[7]  "معاريف"، 5/7/1991.

[8]  "هآرتس"، 3/7/1991.

[9]  المصدر نفسه.

[10]  المصدر نفسه.

[11]  المصدر نفسه.

[12]  "عال همشمار"، 24/5/1991.

[13]  "دافار"، 29/5/1991.

[14]  "عال همشمار"، 24/5/1991.

[15]  آفي بنياهو، "عال همشمار"، 7/6/1991.

[16]  آفي بنياهو، "عال همشمار"، 24/5/1991.

[17]  "دافار"، 26/5/1991.

[18]  بنياهو، مصدر سبق ذكره، 24/5/1991.

[19]  "معاريف"، 5/7/1991.

[20]  بنياهو، مصدر سبق ذكره، 24/5/1991.

[21]  "معاريف"، 24/5/1991.

[22]  المصدر نفسه.

[23]  "دافار"، 29/5/1991.

[24]  "دافار"، افتتاحية، 4/7/1991.

[25]  "هآرتس"، 5/7/1991.

[26]  دان أفيدان، "دافار"، 5/7/1991.

[27]  "دافار"، 29/5/1991.

[28]  "هآرتس"، 3/7/1991.

[29]  بنياهو، مصدر سبق ذكره، 7/6/1991.

[30]  المصدر نفسه.

[31]  "دافار"، 4/7/1991.

[32]  موشيه زاك، "معاريف" 24/5/1991.