التصور الصهيوني لـ "الترحيل": نظرة تاريخية عامة
كلمات مفتاحية: 
الترحيل
الترانسفير
الصهيونية
حاييم وايزمن
فلسطين تحت الانتداب البريطاني
حرب 1967
نبذة مختصرة: 

تعالج الدراسة موضوع الترحيل ("الترانسفير") للسكان الفلسطينيين تحت العناوين الفرعية التالية: أوائل مقترحات الآباء البناة؛ الموقف العام من الفلسطينيين في إبان فترة الانتداب؛ خطة وايزمن للترحيل، سنة 1930؛ خطط الترحيل التي تقدم الييشوف بها، سنة 1936 وما تلاها؛ بعد إنشاء الدولة؛ بعد حرب 1967؛ خاتمة. وتخلص إلى أن المثابرة التي أبداها التيار السائد في الصهيونية في متابعة فكرة الترحيل في الماضي لعظيمة الأهمية في فهم أنشطة الترحيل المشابهة والوقاية منها في المستقبل.

النص الكامل: 

لقد أعيد إحياء التصور الصهيوني لـ "الترحيل" منذ سنة 1967. وفي السنوات الأخيرة تزايد عدد الشخصيات الإسرائيلية البارزة في المؤسسة السياسية العسكرية ممن يجاهرون بميلهم إلى طرد الفلسطينيين طرداً جماعياً، ولا سيما أهل الضفة الغربية وقطاع غزة. ويسود أوساط الليكود واليمين المتطرف اليوم ميل إلى المجاهرة بطلب "ترحيل" العرب عن الأراضي المحتلة التي قد صممت هذه الأوساط على استيطانها وضمها إلى إسرائيل. كما يذهب بعض ساسة الليكود، مثل النواب والوزراء مئير كوهين وميخائيل ديكل وأريئيل شارون، إلى التأسف الشديد على ازدواجية حزب العمل وريائه، ويَرْثون لما ارتكب في حرب 1967 من خطأ عدم إجلاء الفلسطينيين عن الأراضي المحتلة على نحو ما طُرد سكان اللد والرملة على أيدي بن - غوريون ويتسحاق رابين ويغآل آلون في حزيران/يونيو 1948. لذلك يخلص هؤلاء الساسة إلى أن حزب العمل لو كان تصرف على نحو يتسق وسياسة بن - غوريون في سنة 1948، لأمكن تحاشي "المشكلة السكانية" المتمثلة في الوجود العربي. ويتزعم جنرال احتياط آخر، هو رحبعام زئيفي، حزباً يحتل مقعدين في الكنيست، وينص برنامجه بصورة حصرية على خطة لـ "ترحيل" الفلسطينيين ترحيلاً جماعياً إلى خارج الأراضي المحتلة.

في كانون الثاني/يناير 1991، انضم زئيفي إلى حكومة شمير. وما يزيد في خطورة صدور مقترحات كهذه عن أعضاء المؤسسة السياسية العسكرية الإسرائيلية، وعن جنرالات ساسة (كشارون وزئيفي)، هو كون المجتمع الإسرائيلي مجتمعاً تقوم فيه الخدمة العسكرية وجنرالات الجيش بدور حاسم في تحديد برنامج العمل السياسي للدولة.

وقد أطلقت هذه المقترحات في أوساط الرأي العام الإسرائيلي سجالاً واسعاً في شأن "الحل بالترحيل"، مع تنامي النضال الفلسطيني من أجل وضع حد للاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني القائم على الحل ذي الدولتين. أما مسألة الأوضاع التي تتيح تنفيذ خطة "الترحيل" الجماعي عن الأراضي المحتلة فمسألة نظرية؛ ذلك بأن ثمة أمراً واحداً واضحاً تمام الوضوح، وهو أن معرفة أدق وفهماً أعمق لأصول فكرة الترحيل وللحوادث التي قادت إلى هجرة/إجلاء سنة 1948، هما أمران مهمان للحيلولة دون وقوع حوادث مماثلة في المستقبل.

إن فكرة "نقل" (ترانسفير) السكان الفلسطينيين، وفق ما يوري زئيفي بلباقة عن طرد الفلسطينيين، لفكرة شائعة في إسرائيل. وهذا المفهوم راسخ في الصهيونية إلى حد أن الأمل بتلاشيه ضئيل؛ فالفكرة متأصلة في النظرة الصهيونية إلى كون أرض إسرائيل حقاً وراثياً لليهود، وإلى كونها ملكاً لليهود حصراً (لا للعرب الفلسطينيين)، وهي فكرة يتبناها معظم يهود إسرائيل، وتقود طبعاً إلى الاستنتاج أن العرب "غرباء" وأن عليهم أن يقروا بيهودية أرض إسرائيل/فلسطين وبالسيادة اليهودية الحصرية عليها، أو أن يرحلوا. إن المطالبة بنقل/ترحيل سكان الأرض الأصليين سلك متصل يسلك في الفكر الصهيوني كله. والحق أن مطلب "الترحيل" هذا يرقى إلى بداية عهد المستوطنات الصهيونية في فلسطين ونشوء الصهيونية السياسية. فمنذ أيام هيرتسل لم تزل الهجرة اليهودية إلى فلسطين واستيطانها؛ ولم يزل تحويل أراضيها من أيدي العرب إلى أيدي اليهود حصراً؛ ولم تزل إعادة تشكيل البلد وتجريده من صفاته العربية، مع ما ترتب على ذلك من إقامة دولة صهيونية/يهودية في نهاية المطاف؛ لم تزل هذه الأفكار والأعمال كلها متضافرة مع فكرة "الترحيل" في تفكير القيادة الصهيونية وممارستها. إن فكرة إقامة أكثرية يهودية في إيرتز يسرائيل (فلسطين والأراضي المجاورة لها) لم تزل متحدة بفكرة إنشاء دولة يهودية متجانسة. وإذ شرعت القيادة الصهيونية تعمل على ترويج مذهبها في أن الحقوق الوطنية في فلسطين تعود حصراً إلى الشعب اليهودي ككل، فقد بدأت تفكر في ما اعتبرته المشكلة السكانية العربية، من وجهة نظرها. فقد كان الإطار الفكري الذي يقوم عليه مبدأ نقل/ترحيل السكان العرب الفلسطينيين المحليين مترابطاً ترابطاً وثيقاً بإيديولوجية تعصب ثقافي تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع السكاني والعرقي الديني لفلسطين، أي لبلد يسكنه بصورة غالبة شعب آخر حتى سنة 1948، وتحويله إلى دولة يهودية ذات ديانة واحدة.

أولاً: أوائل مقترحات الآباء البناة

يتيح التاريخ الصهيوني بينات وافرة توحي بأنه، منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين، كان موقف الأغلبية العظمى من التجمعات السياسية الصهيونية حيال السكان الفلسطينيين المحليين، قد تراوح بين مزيج من اللامبالاة والإهمال وبين السلوك الرعائي المتعالي؛ بين التنكر السافر لحقوقهم الوطنية وبين تفكيكهم وتفتيتهم تمهيداً لنقلهم إلى البلاد المجاورة. ويبدو، فضلاً عن ذلك، وانطلاقاً من النقاشات والإشارات الوفيرة إلى "المسألة العربية" في الكتابات والدعاوة الصهيونية المبكرة، أن العرب الفلسطينيين ما كانوا يُعدّون، من تلك الأيام المبكرة، "مسألة غير منظورة".(1)  بل إن الدراسات التي أُجريت في السنوات الأخيرة قد دلت على أن الزعماء الصهيونيين كانوا يهتمون بما سموه "المشكلة العربية".(2)  بيد أن هذا الاهتمام لم يمنع شخصيات بارزة، من أمثال يسرائيل زانغويل، الكاتب الأنغلو - يهودي البارز والمروِّج المتحمس لفكرة الترحيل، من الترويج للشعار القائل أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وقد وردت إشارة إلى فكرة "البلد الخالي" عينها على لسان حاييم وايزمن، الذي صار رئيس المؤتمر الصهيوني العالمي لاحقاً، في خطاب ألقاه سنة 1914.(3)  غير أن الأعمق دلالة من ذلك كله هو نكتة حكاها وايزمن لرئيس دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية، آرثر روبين، عن الطريقة التي حصل (وايزمن) بها على الوعد من بلفور سنة 1917. فلما سأل روبين وايزمن عما لديه من أفكار بالنسبة إلى العرب الفلسطينيين، أجابه هذا الأخير: "أخبرنا البريطانيون أن ثمة بضع مئات الألوف من الزنوج [كوشيم]، وليس لهؤلاء أية قيمة."(4)  إن هذا التصريح وأمثاله من تصريحات زانغويل المجسدة للعنصرية والتفوق الأوروبي، قد غرست في العقل الصهيوني فكرة الأرض الخالية - لا بمعنى غياب سكانها الفعلي بالضرورة، بل بمعنى عقمهم الحضاري الذي يسوِّغ الاستيطان الصهيوني، والاستهتار بمصير السكان الأصليين، وحتى ترحيلهم.

وقد تفكَّر موشيه سميلانسكي (وهو كاتب صهيوني من زعماء العمل المعتدلين هاجر إلى فلسطين سنة 1890) كتابةً وفي واحدة من المسائل الأساسية الحاسمة التي واجهت الاستيطان الصهيوني - مسألة الأرض - وذلك بالكشف عن طريقة تفكير أولئك "الروّاد" الأوائل من جماعة "حُفيفي تسيون" (أحباء صهيون). فقد أورد في إحدى قصصه حواراً دار بين مستوطِنَيْن في سنة 1891:

  • يجب أن نمضي شرقاً، إلى شرق الأردن. وسيكون ذلك امتحاناً لحركتنا.
  • هراء ... أليس في يهودا والجليل من الأراضي ما يكفي؟
  • الأرض في يهودا والجليل يحتلها العرب.
  • إذاً، نأخذها منهم. (صمت)
  • كيف؟
  • الثوري لا يسأل أسئلة ساذجة.
  • حسناً، يا حضرة "الثوري"، خبّرنا كيف.
  • ذلك أمر في غاية البساطة، سنضايقهم إلى أن يخرجوا... ليذهبوا إلى شرق الأردن.
  • وهل سنتخلى عن شرق الأردن بأسره؟ (جاء السؤال من صوت قلق).
  • حالما يكون لنا مستوطنة كبيرة هنا سنستولي على الأرض، ونستقوي، ثم نبدأ بالاهتمام بالضفة اليسرى [لنهر الأردن]. وسنطردهم من هناك أيضاً. ليعودوا إلى البلاد العربية.(5)

ليس هذا إلا مثالاً واحداً يبين كيف نبتت بذور فكرة "الترحيل" منذ أوائل أيام الصهيونية، ولا سيما فيما يتعلق بالدافع إلى الاستيلاء على أراضي العرب. ومن البيِّن أن الفكرة القائلة أن على العرب الفلسطينيين أن يجدوا، بطريقة ما، محلاً لهم في مكان آخر قد شغلت حيزاً مهماً في التفكير السياسي الصهيوني. إن مؤسس هذا الفكر، تيودور هيرتسل، يقدم لنا إشارة مبكرة إلى استباق عملية امتلاك الأرض المنهجية والمشفوعة بإزاحة السكان العرب الأصليين، مع التركيز الخاص على إبعاد وطرد الفلاحين الفلسطينيين الذين كانوا يشكلون أغلبية سكان البلد. ففي معرض تأمله الانتقالَ من حال "جمعية اليهود" (وهو الاسم الذي كان يطلقه هيرتسل على التنظيم السياسي الذي كان يعتبره الممثل المستقبلي للحركة الصهيونية) إلى حال الدولة، خطّ تحت الثاني عشر من حزيران/ يونيو 1895 من يومياته ما يلي:

ينبغي لنا أن نترفق في استملاك الأملاك الخاصة في الأراضي المعينة لنا. سنسعى لتشجيع السكان المعدمين على عبور الحدود بأن نجد لهم أعمالاً في البلاد التي يمرّون بها، مع الامتناع التام من تشغيلهم في بلدنا... يجب أن تتم كلا عمليتي الاستملاك وإبعاد الفقراء بأقصى درجات التأني والاحتراس.(6)     

ولم يكن اقتراح هيرتسل بالحالة المنفردة؛ بل كان يشكل أنموذجاً لمقترحات صهيونية مستقبلية كثيراً ما تقدم بها غيره من الآباء البناة. وكثيراً ما كانت هذه الأفكار تصاغ، في تلك المرحلة، بعبارات ملطفة مخففة، مثل "هجرة العرب الجماعية إلى بلاد العرب"، أو الهجرة السلمية التي سيحفزها الاستملاك الصهيوني للأراضي، وغير ذلك من الحوافز الاقتصادية. لكنْ كان ثمة أيضاً دعوات صريحة إلى طرد العرب الفلسطينيين، أطلقها نفر من أكابر الصهيونيين. فقد صدرت دعوة كهذه عن زانغويل الذي سبق ذكره، والذي كان من أوائل أعوان هيرتسل وأشدهم غيرة على تنظيم الحركة الصهيونية في بريطانيا. وقد زار فلسطين سنة 1897، ووقف وجها لوجه أمام الواقع السكاني لفلسطين العربية. وبعد سبعة أعوام، أعلن في خطاب ألقاه في مانشستر في إنكلترا موقفه من خيار الترحيل:

لفلسطين، في حد ذاتها، سكانها. والكثافة السكانية في ولاية القدس تبلغ ضعفي نظيرتها في الولايات المتحدة، إذ تبلغ نسبة الأنفس فيها اثنتين وخمسين في الميل المربع، ولا يكاد اليهود يشكلون ربع هذا العدد؛ لذلك لا بد من أن نعد أنفسنا لإخراج القبائل [العربية] المتملكة بقوة السيف كما فعل آباؤنا، أو أن نكابد مشقة وجود سكان أجانب كثر، معظمهم من المحمديين الذين اعتادوا احتقارنا منذ أجيال.(7)

وقد صار زانغويل، قبل الحرب الأولى وخلالها وبعدها، أشد دعاة فكرة الترحيل المعلنين نبرة، معرباً عن حججه بعبارات براغماتية وجيوسياسية. إذ كان من محاجَّته أن إخراج العرب من فلسطين لإفساح المجال أمام استيطان جماهير اليهود الأوروبيين، شرط لا بد منه لتحقيق الصهيونية. فهو يقول في كتابه "صوت أورشليم" (The Voice of Jerusalem): "لا يمكننا أن نسمح للعرب بأن يحولوا دون إتمام قطعة نفيسة وتاريخية كهذه من إعادة البناء... ولذلك لا بد من أن نترفق في إقناعهم بـ (الهجرة الجماعية) [إلى بلاد العرب]. أليست لهم بلاد العرب كلها، بما فيها من مليون ميل مربع... ليس ثمة من سبب خاص يحمل العرب على التشبث بهذه الكيلومترات القليلة. (طيُّ الخيام) و (الانسلال بصمت) هما دأبهم الذي سارت به الأمثال: فليوكدوه الآن."(8) وهذه الثقافة البدوية المتخلفة المزعومة و "مضارب العرب" الخاصة بالفلسطينيين، التي كني عنها بعبارة العقم الحضاري، هي اللازمة المتكررة في محاجّة الصهيونية ودفاعها عن تسهيل إزالة العرب عن فلسطين.

ثمة أدلة وفيرة توحي بأن فكرة "ترحيل" الفلسطينيين كحل صهيوني لمشكلة بلد آهل بالسكان وأراض مزروعة، كانت أكثر من مجرد فكرة خطرت ببال الأعضاء المؤسسين للنخبة السياسية الصهيونية. ذلك بأن هذه النخبة إذ عبرت عن خططها للعمل المستقبلي وبرامجها العملية للاستيطان في نطاق المجالس الداخلية للحركة الصهيونية التي ضمت، فضلا عن هيرتسل وزانغويل: ليون موتسكين، ونحمان سيركين، وناحوم سوكولوف، وآرثر روبين، وبيرلف كاتسنلسون، ومناحم أوسيشكين، وفيكتور يعقوبسون، وحاييم وايزمن، وأهرون أهرونسون، وزئيف جابوتنسكي، وأبراهام غرانوفسكي (غرانوت)، وإدموند دي روتشيلد وابنه، ودافيد بن - غوريون، ويتسحاق بن تسفي، وأبراهام شارون (شوادرون) وغيرهم، إنما كانت تخطط لاقتلاع وترحيل الفلاحين الفلسطينيين بصورة منتظمة وتوطينهم في البلاد المجاورة، تمهيداً لتنفيذ المشروع الصهيوني. وكان التخفيض الحاد في عدد العرب الفلسطينيين يُعدُّ أمراً جوهرياً إذا ما كان للدولة اليهودية الموعودة أن تقوم على أغلبية متينة متجانسة، وأن تكتب لها الحياة. وكانت هذه الشخصيات تنتمي إلى طيف عريض من التنظيمات السياسية الصهيونية على اختلاف أنواعها؛ فمن جهة الحركة العمالية الصهيونية مثلاً كان روبين، المعتدل نسبياً، مدير دائرة الاستيطان الصهيوني الذي اقترح منذ أيار/مايو 1911 "ترحيلاً محدوداً" للفلاحين العرب الذين سيجردون من أملاكهم إلى منطقتي حلب وحمص في شمال سوريا.(9)   كان تجريد المزارعين العرب وإجلاؤهم عن أراضيهم، كما كتب روبين بعد تسعة عشر عاماً، أمراً لا مفر منه، لأن "الأرض هي الشرط الحيوي لاستيطاننا في فلسطين. لكنْ لمّا لم يكن ثمة من أرض قابلة للزراعة إلا وهي مزروعة من قبل، فقد نجد أننا حيثما نشتري أرضاً ونسكنها لا بد لزرّاعها الحاليين من أن يطردوا منها... وستتزايد في المستقبل صعوبة شراء الأراضي نظراً إلى أن الأراضي القليلة السكان قلما توجد. وما يتبقى إنما هو الأراضي ذات الكثافة السكانية [العربية] العالية."(10)

وخلال الفترة نفسها تقريباً التي كان زانغويل يقود فيها حملة التخلص من العرب خلال الحرب العالمية الأولى وفي إثرها، وهي الفترة المطابقة لمؤتمر الصلح في باريس، تناول الفكرة زميله المهندس الزراعي أهرون أهرونسون، الذي كان من أعضاء البعثة الصهيونية التي رأسها وايزمن والتي زارت فلسطين سنة 1918. كان أهرونسون مثل زانغويل لا يمضغ كلامه. فقد كتب بصراحة فجة، في Arab Bulletin، وهي النشرة الأسبوعية السرية للاستخبارات البريطانية، عن الحاجة إلى "إخراج المزارعين العرب بالقوة" من الأراضي التي ستُشترى من الملاكين العرب الغائبين لإقامة المستوطنات الصهيونية (11)  كان أهرونسون ينظر إلى طرد المزارعين في إطار نظرته الأشمل إلى الترحيل، وبصفته عضواً في اللجنة التنفيذية الصهيونية انضم إلى وايزمن في مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919. ويروي صديقه الحميم وليم ك. بوليت، الدبلوماسي الأميركي والعضو في البعثة الأميركية إلى المؤتمر: "اجتمعت مرات عدة إليه [أي أهرونسون] وإلى الدكتور وايزمن، خلال مؤتمر الصلح في باريس وحين كان كلاهما ينظر في بعض السياسات والخطط. كان أهرونسون يقترح ما يلي: يجب تحويل فلسطين إلى دولة يهودية. ويجب أن يُستصلح وادي العراق الواسع، المروي بالفرات ودجلة، وأن يُزرع عن طريق اللجوء إلى الري المخطط... كما يجب أن يمنح عرب فلسطين أراضي هناك... يهاجر إليها كل من يمكن إقناعه بالهجرة."(12)  

ثانياً: الموقف العام من الفلسطينيين

في إبان فترة الانتداب

إن ما يتبيَّن من المقترحات الصهيونية المبكرة، الموصوفة أعلاه، هو ظهور مقاربة عامة متصلبة في التعامل مع الفلسطينيين: فالحل لمشكلات الفلسطينيين السكانية والوطنية كان يُلتمس خارج فلسطين وضمن الإطار الأوسع للبلاد العربية. وقد سعت القيادة الصهيونية، منذ وعد بلفور والاحتلال البريطاني فصاعداً، للالتفاف على التناقض بين مصالح الييشوف الصهيوني ومطالب سكان البلد الأصليين الذين كانت طموحاتهم الوطنية قوية أيضاً. وقد كان السعي للتوصل إلى اتفاق مع الزعماء العرب خارج فلسطين - كالاتفاق المبدئي بين فيصل ووايزمن في كانون الثاني/يناير 1919 ضمن إطار الإمبراطوية البريطانية واعتماداً عليها - كان ذلك السعي جزءاً من هذه المقاربة الاستراتيجية في السياسات الصهيونية. لقد اعتمد القادة الصهيونيون سياسة تستند إلى الصلة بالبريطانيين، فأجروا محادثات مع المسؤولين البريطانيين من أجل التوصل إلى حل لـ "مشكلة السكان العرب" في فلسطين عن طريق نقلهم إلى البلاد العربية. ويمكن التماس البينة على مثل هذه الاتصالات الخاصة بالمسؤولين البريطانيين في مراجعة ونستون تشرشل للشؤون الفلسطينية في تشرين الأول/أكتوبر 1919. فقد كتب ينتقد المطامع الصهيونية "وهناك اليهود الذين تعهدنا بإدخالهم إلى فلسطين والذين يعتبرون إجلاء السكان المحليين بما يلائم مطالبهم أمراً مفروغاً منه."(13) أما تجلي استراتيجية التيار السائد هذه، فيما يتعلق بفكرة الترحيل، فقد اكتمل منذ سنة 1930 فصاعداً من خلال خطة وايزمن للترحيل التي ظهرت في تلك السنة، ومن خلال اتصالاته باللجنة الملكية (لجنة بيل) سنة 1937 لاعتماد هذه المقترحات. وبموازاة ذلك، نجد العنصر الثاني في هذه المقاربة: البحث عن محاورين عرب خارج فلسطين؛ فقد كان زعماء الصهيونية يحتجون بأن الحكام العرب خارج فلسطين سيدركون ما يجنونه من مكاسب مادية جراء تعاونهم مع الصهيونية الأوروبية الواسعة النفوذ، وبأنهم سيرضون على الأقل بتوسيع الييشوف في فلسطين فيستوعبون العرب المنوي "ترحيلهم" عنها.

وقد تزعم وايزمن سياسة التيار السائد، البادئة بالبروز، والداعية إلى اعتبار وضع الفلسطينيين أمراً ثانوياً تتم معالجته ضمن النطاق العربي الأوسع. وباتت فكرته حجر الزاوية في الاستراتيجية الصهيونية. فقد أنكر وجود هوية فلسطينية متميزة. كما أن الموقف القائل بوجوب إخراج الفلسطينيين من الدولة اليهودية المزمع إنشاؤها واستيعابهم في العالم العربي، كان من أُسس خطط الترحيل الصهيونية في الثلاثينات والأربعينات. منذ أواخر العشرينات وأواسط الثلاثينات بنحو أخص، راحت أحزاب العمل السائدة تعيد تقويم تحليلها لـ "مشكلة السكان العرب" بعد تنامي المقاومة الفلسطينية للهجرة اليهودية والاستيطان الصهيوني. وقد بلغت هذه المقاومة ذروتها في انتفاضة 1936-1939 ذات القاعدة الفلاحية. وعند هذا المفصل التاريخي سعت القيادة الصهيونية، بزعامة حزب ماباي ورئاسة بن - غوريون، لا لمعالجة المطالب المتناقضة تماماً لكل من الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية فحسب، بل أيضاً لاستغلال المقاومة الفلسطينية من أجل تقوية وتوسيع قوات الهاغاناه العسكرية، وتعزيز البنية التحتية للييشوف (المستوطنات الصهيونية) ومقوماتها. وقد حملت التعبئة والمقاومة الفلسطينيتان المتناميتان بن - غوريون على التسليم أمام المقربين بالطابع الوطني والجماهيري للمقاومة العربية الفلسطينية للصهيونية.(14)   لكن الفلسطينيين لم يكونوا في نظر بن - غوريون، جوهرياً، شعباً ذا حقوق وطنية في فلسطين، بل مجرد "عرب" أو "سكان عرب" أو "جماعة"، اتفق أنهم يقطنون البلد. فقد كان من رأيه أن "الفلسطينيين ليسوا شعباً."(15)   فـ "الشعب اليهودي" هو وحده صاحب الحقوق الوطنية و "صاحب الحق في امتلاك" فلسطين؛ إذ قبل بن - غوريون بتصور وايزمن المشار إليه آنفاً، من كون الفلسطينيين لا يشكلون أمة متميزة قائمة بذاتها، كما رفض مثله الفكرة القائلة أن الفلسطينيين لا يشكلون أمة متميزة قائمة بذاتها، كما رفض مثله الفكرة القائلة أن الفلسطينيين يشكلون طرفاً مهماً في الصراع مع الصهيونية؛ فهم ما كانوا يتعدون جزءاً لا يتجزأ من البلد الذي كانت الصهيونية تهدف إلى إعادة بنائه. بل كان الفلسطينيون، بحسب هذه النظرة، "سكاناً عرباً" يمكن إجلاؤهم ونقلهم إلى أرض عربية أخرى . ولم يعمل إنكار الكيان الوطني الفلسطيني على إسباغ "الشرعية" على مشروع الترحيل كحل لـ "مشكلة العرب" فحسب، بل إن إطار القومية العربية الأوسع قد اعتبر مصدراً تستمد الصهيونية منه مسوغاً "خُلُقياً" لنقل "عرب" فلسطين إلى البلاد العربية المجاورة.

وقد توالت التأكيدات الصهيونية من مثل: "فلسطين لا يحتاج العرب إليها"؛ "فهم مرتبطون بمراكز أخرى. هناك في سوريا وفي العراق وفي الجزيرة العربية موطن الشعب العربي"؛(16)   "ليست أورشليم عند العرب مثل ما هي عند اليهود. الشعب العربي يسكن بلاداً واسعة عدة."(17) كانت أمثال هذه التأكيدات حاسمة لا لإتاحة المسوغات للتيار السائد في حزب العمل الصهيوني في معارضته لأي تعريف بالفلسطينيين بما هم كيان وطني ذو حق في تقرير مصيره والسيادة على فلسطين أو حتى على جزء منها فحسب، بل كان لهذه التأكيدات أثر قوي في إرساء الأسس الإيديولوجية لفكرة الترحيل. ذلك بأنه إذا لم يكن الفلسطينيون أمة قائمة بذاتها، ولا كانوا يشكلون جزءاً مكوناً من فلسطين، بل كانوا مرتبطين بمراكز أخرى في سوريا والعراق وجزيرة العرب، وأنكر عليهم أي ارتباط تاريخي بفلسطين والقدس، فإن من شأن ذلك أن يسهل عملية إجلائهم ونقلهم وتوطينهم في البلاد المجاورة. وقد برزت هذه الحجج نفسها في محاجّة زانغويل، وفي عدة خطط ترحيل صهيونية أخرى في الثلاثينات والأربعينات.

كان تعزيز الجهاز العسكري للييشوف، الـ "هاغاناه"، في فترة الانتداب يتضافر مع اقتناع القيادة المتنامي بأن الحل الصهيوني الجذري لـ "مشكلة السكان لعرب" لا يمكن التوصل إليه إلا من موقع القوة العسكرية، ومن خلال إقامة الأمر الواقع الاقتصادي والعسكري والاستيطاني في فلسطين العربية. لذلك، كان يجب التماس الحل لـ "مشكلة العرب" لا بالتفاهم مع السكان الأصليين بل بالنصر العسكري الذي سيجعل الترحيل أمراً واقعاً. كانت ضرورة استعمال القوة حاضرة دائماً ومقبولة لدى معظم تيارات الييشوف، وذلك بهدف إكراه العرب الفلسطينيين على الجلاء متى صار الييشوف مستعداً لمجابهة عامة معهم. وقد عزَّز النصف الثاني من الثلاثينات نظرية القوة القاهرة هذه، بهدف إقامة دولة يهودية، وإكراه أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين على الجلاء. وقد برز الييشوف في النصف الثاني من الثلاثينات في موقع أقوى، مع تنامي عدده (فمع أن شراء الصهيونيين الأراضي العربية ظل حتى سنة 1948 محدوداً نسبياً: 6%، فقد بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين تهدد تفوق العرب العددي؛ إذ ارتفع عدد اليهود من 10% سنة 1917 إلى 33% سنة 1940)، وتنامي ثقته بذاته وبقوته العسكرية، وذلك بفضل الدعم القوي الذي لقيه من قبل سلطة الانتداب البريطاني وجيشه. وقد أدى تنامي هذه الثقة إلى تعزيز مقترحات الترحيل الصهيونية وتطورها إلى خطط كبرى ومفصلة.

ثالثاً: خطة وايزمن للترحيل،

سنة 1930

في سنة 1930 خطا حاييم وايزمن، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية وعضو اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، خطوة أبعد في المسعى الصهيوني لإيجاد "حل جذري" لمشكلتي "الأرض" و"السكان العرب"، بأن تقدم بخطة لترحيل العرب، وذلك في أثناء محادثات خاصة بينه وبين بعض الوزراء والمسؤولين البريطانيين. وقد جاء اقتراحه عقب المصادمات العربية اليهودية سنة 1929 وفي إثر تقرير لجنة شو لتقصي الحقائق. فقد أبرز تقرير هذه اللجنة سبب عدم الاستقرار عند الفلسطينيين، وألقى الأضواء على خطورة الوضع الذي قد يؤدي تزايد الاستيطان الصهيوني فيه إلى تجريد المزيد من الفلاحين العرب من أراضيهم ومصادر رزقهم. وقد اقترحت خطة وايزمن التي عرضت على وزارة المستعمرات أن يُمنح قرض قدره مليون ليرة فلسطينية يُجمع من أصحاب رؤوس الأموال اليهود، من أجل توطين جماعات الفلاحين الفلسطينيين في إمارة عبد الله في شرق الأردن.(18)

ومن الواضح أن المشروع سرعان ما رفضه اللورد باسفيلد وزير المستعمرات البريطاني، الذي بات يدرك إدراكاً حاداً مدى المعارضة الوطنية الفلسطينية للصهيونية، ثم رفضته الحكومة البريطانية برئاسة رمزي ماكدونالد. وكان من نتيجة ذلك أن أخفقت خطة وايزمن السرية لنقل المزارعين (إلى شرق الأردن والعراق) بعد أن رفضها البريطانيون. غير أن حجج وايزمن في الدفاع عنها باتت تشكل حجر الزاوية لكل محاجّة لاحقة تقدم بها أهم قادة الييشوف دفاعاً عن حل كهذا: إنه ليس في الدعوة إلى نقل السكان "شيء ينافي الأخلاق"؛ وإن نقل وتبادل السكان اليونان والأتراك يشكلان "سابقة" لحل يطبق في حالة العرب الفلسطينيين؛ وإن اقتلاعهم الجماعي وترحيلهم إلى شرق الأردن أو إلى العراق أو إلى أي بلد مجاور آخر، لن يكونا مأساة بالنسبة إلى الفلسطينيين بل مجرد "انتقال" من مقاطعة عربية إلى مقاطعة عربية أخرى.

 

رابعاً: خطط الترحيل التي تقدم الييشوف بها،

سنة 1936 وما بعد

              كان إدراك القيادة الصهيونية لضرورة الإحجام عن استثارة الرأي العام البريطاني حافزاً على حصر خطة سنة 1930 ضمن نطاق المحادثات الداخلية والخاصة مع المسؤولين البريطانيين. والحق أن هذه القيادة، وحتى سنة 1937، قلما كشفت عن هذه القضية الحساسة علانية، مع أن فكرة الترحيل كانت تحتل، كما رأينا، موقعاً مركزياً في تفكيرها. لكن تحولاً مهماً قد طرأ مع تنامي المقاومة العربية في فلسطين وتزايد هجرة اليهود ووصول اللجنة الملكية (بيل) لتقصي أسباب الاضطرابات المتصاعدة. وفي هذه المرحلة كانت القيادة التي تزايد اعتقادها بأرجحية تحقيق أغلبية يهودية ودولة يهودية في فلسطين، تزداد ثقة وتصميماً وتشعر بأن الزمن قد بات مؤاتياً للتقدم إلى تحويل مقترحات الترحيل إلى خطط متكاملة. وثمة أدلة واضحة على وجود خط سياسة ترحيل سرية في مناقشات اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في تشرين الأول/أكتوبر 1936؛(19) أي قبل أربعة أسابيع من وصول لجنة بيل إلى فلسطين، واستعداداً لوصولها.

ويوحي بعض الأدلة القوية بأن مقترحات ترحيل العرب التي تقدمت بها اللجنة الملكية البريطانية مستمدة سراً من كبار زعماء الوكالة اليهودية، ومنهم بن غوريون وشرتوك ووايزمن.(20) والحق أن فكرة الترحيل كانت تشغل بال زعماء الوكالة اليهودية طوال فترة مداولات اللجنة الملكية. وكانت الفكرة قد باتت عند بعضهم، مثل موشيه شرتوك وبن غوريون ووايزمن، وثيقة الصلة بفكرة التقسيم.

أما مقترحات اللجنة الملكية في شأن التقسيم والترحيل، فقد رفضتها بشدة قطاعات الرأي العام الفلسطيني كلها، واعتبرتها مؤامرة صهيونية لا لتجريد بعض الأفراد العرب من ممتلكاتهم وطردهم منها فحسب، بل لتعميم التجريد والطرد على شعب بأكمله. وقد عجل هذا الخطر في اضطرام شعلة المقاومة الشعبية العربية، وجعل الفلاحين الفلسطينيين من أهم حملة الانتفاضة في الريف. لكن، من وجهة النظر الصهيونية، أجازت اللجنة الملكية الحلم الذي طالما راود الصهيونيين بترحيل العرب من الدولة اليهودية الموعودة. وقد علق بن غوريون، رئيس الوكالة اليهودية وأهم زعماء الييشوف، أهمية حاسمة على فكرة الترحيل القسري. فقد كتب في يومياته بتاريخ 12 تموز/يوليو 1937: "إن ترحيل العرب قسراً من أودية الدولة اليهودية المقترحة قد يمنحنا شيئاً لم يكن لدينا قط...": جليلاً خالياً من السكان العرب.(21)  وأضاف "يجب أن نعدّ أنفسنا لتنفيذ" الترحيل.(22)   وقد كان بن غوريون مقتنعاً أيضاً بأنه قلّ من كان من العرب الفلسطينيين مستعداً للانتقال "طوعاً" إلى شرق الأردن، هذا إنْ وجد أحد أصلاً. ومع ذلك كان لا بد من وضع البنود "القسرية" موضع التنفيذ في المستقبل. ففي رسالة مهمة إلى ابنه عاموس الذي كان في 5 تشرين الأول/أكتوبر 1937 في السادسة عشرة من عمره، كتب بن غوريون: "لا بد من أن نطرد العرب ونستولي على أماكنهم... وأن نستعمل القوة إذا اضطررنا إلى ذلك لا لتجريد عرب النقب وشرق الأردن من ممتلكاتهم بل لضمان حقنا في الاستيطان في هذه الأماكن وذلك عندما تتوفر لدينا القوة."(23)

إن ما يلفت النظر في ردة فعل بن غوريون (ومثله وايزمن وشرتوك) على اقتراح التقسيم سنة 1937 هو أنه بدأ يعبر عن رأيه في أن إجلاء العرب الفلسطينيين أو معظمهم على الأقل إلى شرق الأردن وغيره من البلاد المجاورة، كان بمثابة عوض من قبوله بمشروع بيل للتقسيم، أو بأي تقسيم آخر لفلسطين، وأنه بمثابة شرط لا بد منه لإقامة دولة يهودية. كان عدد العرب الذين ستضمهم حدود الدولة اليهودية التي اقترحتها لجنة بيل، يبلغ نحو نصف السكان. وبينما كانت الوكالة اليهودية تسعى لتشجيع هجرة اليهود المكثفة إلى الدولة الموعودة، كان رئيسها بن غوريون يرى أنه إذا ما بقي عدد كبير من السكان المحليين داخل هذه الدولة، فإن اليهود لن يتسطيعوا مجاراة العرب في ارتفاع نسبة المواليد بينهم، وبذلك سيشكل الفلسطينيون خطراً سكانياً وسياسياً لا طريق إلى درئه إلا بالترحيل الذي يضمن السمة الصهيونية/اليهودية الغالبة والاستقرار للدولة الموعودة.

وعلى هدي المناقشات المستفيضة التي دارت في أعلى مراتب المنظمات الصهيونية خلال الفترة 1937 – 1938، بات من الواضح أن الخيارات الصهيونية بحثاً عن حل "جذري" (وفق كلمات وايزمن) لـ"مشكلة السكان العرب" عقب مقترحات بيل التقسيمية، قد انحصرت في مقاربة متشددة تطالب بالحد الأقصى، وترفض التقسيم، وتدعو إلى الترحيل؛ ومقاربة براغماتية تقبل بالتقسيم في المدى القريب وعلى أساس تكتي، وذلك في مقابل عملية ترحيل كبيرة وإنْ لم تكن شاملة. ومن الشواهد على انشغال القيادة الصهيونية سنة 1937 بمسألة ترحيل العرب، أن هذه القضية كانت إحدى أهم نقاط البحث على رأس جدول أعمال المؤتمر العالمي لإيحود بوعالي تسيون -(24)  أعلى هيئة في حركة الصهيونية العمالية العالمية السائدة – وكذلك على جدول أعمال المؤتمر الصهيوني العشرين،(25)  اللذين عقدا في زوريخ في آب/أغسطس 1937. وقد عبّر معظم المندوبين البارزين إلى المؤتمرين عن تأييده لفكرة الترحيل؛ أما الخلافات فقد ركزت على مسألة "الترحيل القسري"، وفيما إذا كان حل كهذا ممكناً عملياً في تلك السنوات، وفيما إذا كان الترحيل الجماعي القسري تعويضاً كافياً من القبول بخطة التقسيم. وقد أعرب نفر من أبرز زعماء العمل المعارضين للتقسيم، مثل بيرل كاتسنلسون، عن اعتقاده أن لا بد لأي ترحيل محتمل من أن يتم لا من الدولة اليهودية المقترحة إلى الدولة العربية التي اقترح قيامها تقرير بيل في فلسطين، ولا حتى إلى شرق الأردن، بل إلى سوريا والعراق. أما كون فكرة ترحيل العرب مشروعة "خُلُقياً" فقد قال به نفر من أكابر المندوبين، ومنه: بن غوريون، وغولدا مئيرسون (التي صارت مئير لاحقاً)، وبيرل كاتسنلسون، وأهارون تسيزلينغ، ومناحم أوسيشكين، وأليعيزر كابلان، ويوسف بنكوفر، ودافيد ريمز، وشلومو لافي، وإلياهو (لولو) هكرملي، ويوسف بيرتس، ونفتالي لنداو، وحاييم وايزمن، والحاخام ب. س. بريكنر، والحاخام ستيفن صامويل وايز.

وبين سنة 1937 وسنة 1948 صيغت وقدمت عدة خطط ترحيل صهيونية، ومنها: خطة سوسكين للترحيل القسري (سنة 1937)،(26)  وخطة فايتس للترحيل (كانون الأول/ديسمبر 1937)،(27)  وخطة بونيه (تموز/ يوليو 1938)،(28)  وخطة روبين (حزيران/ يونيو 1938)،(29)  وخطة "الجزيرة" (1934-1942)،(30)  وخطة إدوارد نورمان للترحيل إلى العراق (1934-1948)،(31)  وخطة بن – حورين (1943-1948)،(32)  وخطة يوسف شختمان للترحيل القسري (1948).(33)  وفي أثناء الفترة نفسها أُلّفت ثلاث "لجان ترحيل"، نيطت بها مهمة مناقشة وتصميم الطرق العملية لترويج خطط الترحيل: اللجنتان الأوليان ألفتهما الوكالة اليهودية (1937-1942)، أما اللجنة الثالثة فقد ألفتها الحكومة الإسرائيلية سنة 1948.

لقد سبقت الإشارة إلى سلسلة من مقترحات الترحيل. ولا بد من أن توضع كل خطة من هذه الخطط في سياقها الخاص، وتفهم من خلاله. فبينما تقع خطط فايتس وسوسكين وبونيه في إطار مشروع التقسيم، فإن خططاً ومقترحات أخرى كخطة وايزمن (سنة 1930) وخطة بن غوريون (كانون الأول/ديسمبر 1938 وتشرين الأول/أكتوبر 1941) لم تكن لها علاقة بالتقسيم. كذلك، بينما كانت لجنة الترحيل الأولى قد أُلفت في إطار مقترحات التقسيم وقدمت خططها في إطاره، فإن لجنة الترحيل الثانية ومثلها أنشطتها كانت مبنية على فرضية أن الدولة اليهودية الموعودة ستقوم على كامل أرض فلسطين. يضاف إلى ذلك أن بن غوريون قد أعلن منذراً، خلال المناقشات المهمة جداً التي دارت في اجتماع اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في حزيران/يونيو 1938، أن "ثمة أشياء [كالترحيل] يمكن أن تطبق على كامل أرض إسرائيل. فالدولة [اليهودية] وإنْ اشتملت على أرض إسرائيل التاريخية كلها، فستظل مع ذلك مشكلة الأقلية العربية. وهذا [الترحيل] لا يدخل في نطاق التقسيم بالضرورة."(34)   وخلال هذه المناقشات، أعربت أكثرية المندوبين عن تأييدها لشكل ما من أشكال الإجلاء القسري للعرب؛ أما الأقلية، فكانت تميل إلى الترحيل "الطوعي". وبديهي أن خطط الترحيل المذكورة سابقاً لم تكن متساوية في الوزن والأهمية؛ فالخطط التي وضعها زعماء التيار السائد في الييشوف والأعضاء  البارزون في اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي ولجان الترحيل الرسمية، كانت ارجح وزناً من تلك التي وضعها اليمينيون من الصهيونيين التصحيحيين من أمثال بن حورين، أو تلك التي وضعها اليهود الأميركيون المقيمون في نيويورك، من أمثال إدوارد نورمان. أما نقاد هذه الخطط من الييشوف وهم قلة، ولا سيما أعضاء "هاشومير هاتسعير"، فكانوا يعتقدون أن هذه الخطط ترهات "خطرة" و"مضادة للاشتراكية". غير أن الدعم العام لهذه الخطط ومحاولات ترويجها، من قبل المسؤولين في التيار الصهيوني السائد، ولا سيما من قبل أولئك الزعماء الذين قيض لهم أن يقوموا بأدوار بارزة سنة 1948 (بن غوريون، وشرتوك المسمى شاريت لاحقاً ووايزمن)، فيشير بوضوح إلى الرغبة في الترحيل وإلى التصميم اللذين جعلا ما حدث سنة 1948 أمراً ممكناً.

وقد تولدت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من تخطيط مسبق؛ فالتغيير العرقي الديني السكاني لفلسطين العربية، المشفوع بـ"ترحيل" أكبر عدد ممكن من سكانها الأصليين إلى خارج الدولة اليهودية الموعودة، قد تطور من حلم صهيوني عبر المقترحات والخطط المبرمجة (ابتداء من سنة 1937 فصاعداً) إلى خطط عملانية (كخطة دالت)، ثم إلى سياسة فعلية سنة 1948. ومن أبرز ملامح فكرة الترحيل، من حيث هي حل صهيوني لمعضلة السكان الفلسطينيين ومشكلات الأرض عند الصهيونيين، تحضيرات قيادة الييشوف وتخطيطها للترحيل واتباعها سياسة ترحيل غير معلنة بين سنتي 1937 و1948، حتى تطبيقها في حرب 1948. بيد أن الدعوة المستمرة إلى خطة سرية للترحيل لم يزل يصاحبها، على مدى هذه الفترة، قدر كبير من البراغماتية في متابعة الصهيونية العمالية لهذا الهدف. فكثيراً ما عبر نفر من من أعيان الييشوف عن التشكك والتخوف من قابلية هدف الترحيل الصهيوني للتحقيق وذلك حتى اندلاع حرب 1948 نظراً إلى معارضة الحكومة البريطانية والمقاومة العنيفة المتوقعة من قبل الأكثرية الفلسطينية. ومع ذلك، فقد كان لدى مختلف أحزاب التيار السائد إجماع عام ومتقادم العهد على تأييد المسوِّغات "الخلقية" والسياسية لحل متطرف كهذا، وتفاهم على مرغوبية وضرورة اقتناص الفرص واستغلال الظروف المستقبلية التي قد يستطيع الييشوف في ظلها أن ينظم إجلاء العرب جماعياً عن الدولة اليهودية المقترحة. أما الخلافات داخل الييشوف فكانت، في معظمها، بين دعاة الترحيل "الطوعي" ودعاة الترحيل القسري للسكان المحليين، وكان بن غوريون من أبرز زعماء الخيار الثاني.

وإذا ما قابل المرء بين مراحل تطور فكرة الترحيل على اختلافها، تبيَّن له بوضوح تكثيف الأنشطة الصهيونية في اتجاه التقدم بهذا الحل، مع تنامي ثقة قيادة الييشوف بنفسها؛ ذلك بأن تزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتنامي المستوطنات قوة وتنظيماً في الثلاثينات والأربعينات، قد حدا القيادة الصهيونية على أن تصمم بنشاط، وإنْ بعيداً عن الأضواء، خططاً مفصلة لترحيل العرب.

ففي حرب 1948 كانت سياسة الهاغاناه والجيش الإسرائيلي في الترحيل / الطرد تصدر عن اقتناع وتصميم لا عن برنامج مكتوب، وذلك لأسباب يمكن فهمها. وقد استُمدت هذه السياسة من خطط الترحيل في الثلاثينات والأربعينات، وكذلك من بعض المسلمات والأصول الصهيونية المستبطنة والهادفة إلى إنشاء دولة يهودية حصرية متجانسة. كما تأثرت هذه السياسة بعوامل سياسية وعسكرية، فضلاً عن اعتبارات براغماتية، منها الأوضاع الدبلوماسية العالمية. فقد أثرت الأوضاع الدبلوماسية العالمية، مثلاً، في كون أنماط الطرد قد اتُّبعت بمزيد من القوة والإصرار ابتداء من حزيران/يونيو 1948 (بعد إقامة دولة إسرائيل). أما العوامل الأخرى، كالاختلافات بين البراغماتيين وبين المتطرفين من القادة العسكريين، وأمثالهم من زعماء الييشوف بين الذين يميلون إلى الإجلاء "الجزئي" وبين القائلين بترحيل العرب بأسرهم مثل يوسف فايتس فقد أدت إلى قدر كبير من الارتباك والتناقض في تطبيق الجيش الإسرائيلي نماذج الترحيل في مختلف القرى والمناطق.

يضاف إلى ذلك أن مذهب الترحيل لم يكن يطبق على نحو شامل في سنة 1948، كما أن سياسة الترحيل أخفقت في تخليص إسرائيل من الأقلية العربية الصغيرة التي بقيت (ولا سيما في الجليل وفي المثلث الصغير لاحقاً). ولما تم للقيادة الإسرائيلية البراغماتية التخلص من ثلاثة أرباع المليون فلسطيني وإخراجهم من الدولة اليهودية الحديثة الإنشاء (ومن الواضح أنه لو أُتيح لهؤلاء العرب المكوث حيث هم إذاً لكانوا شكلوا أكثرية السكان في هذه الدولة)، اعتقدت هذه القيادة البراغماتية أنها حلّت مشكلة الأرض و"مشكلة السكان العرب" حلاً ناجعاً، وباتت مستعدة لتحمل أقلية عربية صغرى خاضعة معزولة، ويسهل التحكم فيها داخل الدولة اليهودية. والحق أن إحدى توصيات لجنة الترحيل الثالثة، المقدمة إلى رئيس الحكومة بن غوريون في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1948، كانت تنص على أنه يجب ألا يتجاوز عدد العرب 15% من سكان المدن المختلطة، مثل مدينة حيفا.(35)  كذلك لم يعد وجود أقلية عربية صغيرة (130,000 نسمة في سنة 1949) داخل الحدود الموسعة للدولة اليهودية، يشكل في نظر زعامة العمل البراغماتية أي خطر على المشروع الصهيوني برمته. 

خامساً: بعد إنشاء الدولة

              في أوائل الخمسينات كان على حزب ماباي، بصفته القوة السياسية الحاكمة والمسيطرة في إسرائيل، أن يستوعب واقع العرب الساكنين في الدولة اليهودية. وقد تداول الحزب الخيارات المطروحة للتعامل مع الأقلية العربية. وكان ثمة تياران أساسيان: التيار الأول كان يسعى للتخلص من العرب بطريقة أو بأخرى. وكان يتسحاق بن تسفي، ثاني رئيس للدولة (من كانون الأول/ديسمبر 1952 إلى سنة 1963)، ويوسف فايتس من الصندوق القومي اليهودي، يمثلان هذا التوجه. كان هذان الزعيمان، منذ النصف الثاني من الثلاثينات، من أشد دعاة الترحيل حمية، وكانا يؤيدان هذا الاحتمال. وكان كلاهما يعتقد، مع ذلك، أن الطرد الجماعي غير واقعي في زمن السلم، وأنه لا بد لذلك من أن تسعى الحكومة للحصول على "ولاء" العرب للدولة. لكن إذا ما "اكتُشف بعض العرب غير الموالين، فمن شأن ذلك أن يتيح لنا التعامل معهم على نحو مختلف، وطردهم" – على حد قول بن تسفي.(36)    وكان ر. بركات، رئيس الدائرة العربية في الهستدروت، يعبر عن آراء مماثلة. أما التيار الثاني، فقد أدرك أن العرب الذين مكثوا في إسرائيل كانوا ينوون البقاء. لذلك، فقد رأى أصحاب هذا الرأي أن لا بد، في المدى القصير، من تغليب الجانب "الأمني" على أي اعتبار آخر في التعامل مع هذه الأقلية.

وتشير الأدلة المتاحة إلى أنه خلال فترة أوائل الخمسينات عمل رئيس الوزراء بن – غوريون، ووزير الخارجية موشيه شرتوك، ويوسف فايتس من الصندوق القومي اليهودي، على مناقشة وإقرار مشروع "ترحيل العرب المسيحيين من الجليل إلى أميركا الجنوبية."(37)    وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1951، أُرسل فايتس إلى الأرجنتين من أجل مشروع الترحيل هذا. والظاهر أن هذا المشروع قد أخفق لأن فايتس أخفق في إقناع الفلسطينيين المسيحيين بالهجرة إلى الأرجنتين، وقد تحاشت السلطات الإسرائيلية استعمال التدابير القهرية السافرة ضد مواطنين إسرائيليين.

في أواسط الخمسينات، وضعت السلطات الإسرائيلية خطة ترحيل تهدف إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين في ليبيا. وقد نوقشت الخطة في اجتماعات غير رسمية للجنة رفيعة المستوى، شارك فيها بن – غوريون، وشاريت، وليفي إشكول (وزير المال يومها)، وغولدا مئير، وتيدي كوليك (رئيس بلدية القدس)، وفايتس، وعزرا دانين، ويعقوب بالمون.(38)   وكان دانين وبالمون قد شاركا في أنشطة لجنة الترحيل الثالثة سنة 1948، وكانا أرفع اثنين من "مستعربي" الحكومة مستوى. ويبدو أن لجنة "الترحيل" الرابعة هذه قد توصلت إلى ترحيل بضع مئات من الفلسطينيين عن إسرائيل إلى ليبيا، ولا سيما من بعض القبائل الفقيرة التي رشت السلطات شيوخها. وقد حُلّت هذه اللجنة بعد أزمة السويس.

عادت مسألة "الترحيل" إلى الظهور على نحو محدود، عندما طلب أريئيل شارون، الذي كان عقيداً في الجيش الإسرائيلي يومها، من مرؤوسيه، فيما يروى، أن يبحثوا عن عدد حافلات الركاب والشاحنات التي قد يحتاج إليها في حال نشوب حرب، وذلك لـ"نقل" عدد من الثلاثمائة ألف فلسطيني إسرائيلي من شمال إسرائيل إلى خارجها. ويروي كاتب سيرة شارون، أوري بنزيمان (وهو صحافي بارز في صحيفة "هآرتس")، أن مرؤوسي شارون قد رفضوا، في معظمهم، التعاون والامتثال لهذا الطلب ما لم يتلقوا أوامر مكتوبة من هيئة أركان الجيش العامة في تل أبيب.(39)  (وينكر شارون نفسه رواية بنزيمان).

سادساً: بعد حرب 1967

                        ساهم انتصار إسرائيل في حرب 1967، واحتلالها ما تبقى من فلسطين، وما عقب ذلك من بروز الصهيونية المسيحانية، في انتعاش فكرة الترحيل. ففي إثر نصر سنة 1967، لم يعد تصور إيرتز يسرائيل (أرض إسرائيل) ككل وقفاً على معسكر حيروت (الليكود لاحقاً) التصحيحي فحسب، بل بات يعم ويتنامى حتى شمل الأحزاب الصهيونية الرئيسية كلها، بما فيها حزب العمل المعروف بنزعته البراغماتية. وقد وجد التيار التوسعي تعبيراً عن ذاته في حركة أرض إسرائيل الكاملة التي أُسست بسرعة بعد الحرب، وهدفت إلى الاستيطان في الأراضي "المحررة" كلها. وقد اخترق هذا التوجه إلى الضم جميع خطوط الأحزاب الإسرائيلية. ولا نعجب إذا ما رأينا أن إحدى كبريات المسائل التي شغلت أصحاب هذا التوجه كانت ماذا يجب أن يُعمل في شأن الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين مكث سوادهم الأعظم حيث هو. ولم يأت الناطقون باسم هذه الحركة بأفكار جديدة تذكر في هذا المضمار. فألفاظهم وأفكارهم، مثل "المشكلة السكانية" و"الترحيل"، التي لم تزل تستعمل منذ بداية الصهيونية السياسية عادت فجأة إلى العلن. وفي أول مجموعة من المقترحات ظهرت بُعَيْد حرب 1967، تحت عنوان "كل شيء"، أعرب الناطقون بلسان الحركة عن الخطوط العريضة لمواقفهم من سكان "يهودا" و"السامرة" وغزة. والموضوع المتواتر ذكره في مواقفهم، هو أن ليس من الممكن أن تُدمج أقلية عربية كبيرة في دولة إسرائيل. لذلك استعين بالحلول الصهيونية القديمة، ولا سيما نقل السكان العرب إلى البلاد العربية المجاورة، مع الاستشهاد – تسويغاً لذلك – بـ"أمثلة" و"سوابق" مزعومة، من "ترحيل" سابق للسكان – وهي أمثلة سبق أن وردت في الخطط الصهيونية للثلاثينات والأربعينات، ومنها اليونان – تركيا، وبولندا – ألمانيا. كما أن الناطقين بلسان الحركة قد كرروا أيضاً النظرية الصهيونية الأساسية القائمة أن الفلسطينيين لا يشكلون أمة، وأن وطنهم – لذلك – ليس أرض إسرائيل بل العراق وسوريا وبلاد العرب.

وبعد نحو عقد من الزمان، ظهر مجلد ضخم شبه رسمي عن الحركة الداعية إلى الضم تحت عنوان "كتاب أرض إسرائيل الكاملة" (The Book of the Whole Land of Israel). مرة أخرى أصرّ "خبراء" الحركة بالشؤون السكانية على أن "ترحيل" الفلسطينيين سيكون الحل الأمثل. لكنهم كانوا يدركون أن الطرد الجماعي لن يمكن تنفيذه دفعة واحدة إلا في أوضاع الحرب. يضاف إلى ذلك، أن الناطقين بلسان الحركة لن يروا أي فارق بين الفلسطينيين الإسرائيليين وفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد ذهب دوف يوسفي، في مقالة له (عنوانها: حل إنساني للمشكلة الديموغرافية)، إلى القول: "حتى في حال انسحابنا من يهودا والسامرة فإن المشكلة السكانية، ومثلها مشكلة التعايش العربي – اليهودي في الدولة، لن تحلا. فكل حجة تتعلق بأقلية عربية من مليون ونصف المليون تصح على أقلية عربية من مليون أو من نصف مليون نسمة."(40)

              ليس ثمة من شك في أن الكثيرين من دعاة أرض إسرائيل الكاملة يودون طرد الفلسطينيين، أو على الأقل طرد أهل الضفة الغربية وقطاع غزة. ففي مقال بعنوان "سياسة حكمائنا الواقعية" (The Realpolitik of Our Sages) نشرته دائرة الإعلام في حركة غوش إيمونيم الاستيطانية، ذهب يسرائيل شيب – إلداد، وهو من كبار قادة حركة أرض إسرائيل الكاملة، إلى أن الفلسطينيين يواجهون المأزق نفسه الذي واجه الكنعانيين فيما مضى. وقد أشار إلى أن الخيار الذي يريدهم أن يختاروه – أن يهاجروا موطنهم الأصلي – لم يكن قط جديداً على الصهيونية السياسية. ففي رأيه، أن "الأخلاق اليهودية" وإنْ حَرَّمت الطرد الجماعي دفعة واحدة إلا في زمن الحرب، فإن خير إجراء هو استدراج العرب إلى الهجرة الواسعة النطاق، من خلال تعمد خلق صعوبات اقتصادية في "الأراضي المحررة". وإلداد، الذي كان عضواً في قيادة ليحي (عصابة شتيرن) خلال سنة 1948، كان قد قال بعيد حرب 1967: "لولا دير ياسين لكان نصف مليون عربي يعيشون اليوم داخل دولة إسرائيل. وما كان لدولة إسرائيل أن توجد. يجب ألا نغفل عن هذا، مع إدراكنا التام لما ينطوي عليه من مسؤولية. كل الحروب قاسية. ولا مناص من هذا. وهذا البلد إما أن يكون إيرتز يسرائيل بأكثرية يهودية ساحقة وأقلية عربية صغرى، وإما أن يكون إيرتز إشماعيل وستبدأ الهجرة اليهودية مرة أخرى إن لم نطرد العرب بطريقة أو بأخرى، وعلى رجال الفكر أن يبينوا كيف يجب أن يعمل ذلك.(41)  ولا يبدو أن آراء إلداد قد صارت أكثر اعتدالاً مذَّاك. معلوم أن تصور إلداد لـ"الترحيل" يقوم على مسلمة عنصرية مضمرة، مفادها أن ليس لسكان فلسطين الأصليين الحقوق الإنسانية والسياسية التي تمنح عادة لليهود. بيد أن تبرير الذات عند إلداد "عقلاني"، ويصدر – كصدوره عند غيره من دعاة الضم – عن إدراكه أن ضم الضفة الغربية وغزة، بمن فيهما من السكان العرب، سيؤدي إلى نشوء دولة ذات قوميتين. وهو يفترض أنه ما لم يطرد السكان العرب أو يحملوا على الهرب عن طريق الإرهاب – كما في دير ياسين – وتعمُّد خلق المشقات والصعوبات الاقتصادية، فإن الدولة اليهودية ستتحول إلى دولة ذات قوميتين.

لم تكن فكرة الترحيل يوماً وقفاً على اليمين الإسرائيلي، وإنْ كانت آراء حزب العمل في الترحيل أرفق صيغة من آراء إلداد. فمن ذلك أن يتسحاق رابين قد دعا، يوم كان رئيساً للحكومة (في سنة 1974)، إسرائيل "إلى أن تخلق في غضون السنوات العشر أو العشرين المقبلة أوضاعاً من شأنها أن تجذب اللاجئين إلى الهجرة الطوعية الطبيعية من قطاع غزة والضفة الغربية إلى الأردن. ولتحقيق ذلك علينا أن نتفق مع الملك حسين لا مع ياسر عرفات."(42) وقد بات من التقاليد المعروفة في الصهيونية العمالية أن ينظر إلى ملك الأردن (شرق الأردن، سابقاً) باعتباره المحاور في المفاوضات، لا إلى سكان فلسطين الأصليين. ولم يكن رابين يأتي بموقف جديد في هذا الشأن، وكذلك في شأن تمسك حزب العمل بخطط الترحيل. فبعد أسبوعين فحسب من نهاية حرب 1967، انعقد مجلس الوزراء الإسرائيلي، الذي كان يسوده حزب العمل، في جلسة سرية للنظر في "المشكلة السكانية": ما العمل بما يزيد على مليون نسمة من سكان الأراضي المحتلة؟ وقد ورد في الملاحظات التي سجلها في تلك الجلسة المدير العام لمكتب رئيس الحكومة يعقوب هيرتسوغ، شقيق رئيس دولة إسرائيل الحالي، إن وزير المال بنحاس سابير، يدعمه وزير الخارجية آبا إيبن، دعا إلى توطين اللاجئين في البلاد العربية المجاورة، ولا سيما سوريا والعراق. أما يغآل آلون، نائب رئيس الوزراء، فقد اقترح أن يُنقل اللاجئون الفلسطينيون إلى صحراء سيناء، وأن يُعمل على إقناع الفلسطينيين بالرحيل إلى الخارج: "نحن لا نعمل ما يكفي لتشجيع العرب على الهجرة" – على حد قول آلون. أما مناحم بيغن، الذي كان يومها وزيراً بلا حقيبة، فقد اقترح تقويض مخيمات اللاجئين وترحيل سكانها إلى سيناء التي غنمت من مصر.(43)  

ونتيجة هذه المناقشات، شكل رئيس الحكومة ووزير الدفاع والجيش وحدة سرية مهمتها "تشجيع" الفلسطينيين على الرحيل. وقد برزت هذه الخطة إلى العلن في تشرين الثاني/نوفمبر 1987، يوم أخبر أريئيل شارون جمهوراً في تل أبيب: "لم تزل يد المعونة تمد لسنوات عدة بعد حرب الأيام الستة، لمن كان يرغب في الهجرة من العرب. وكان ثمة منظمة تعالج هذا الأمر." وقد كان لهذه "المنظمة" / "الوحدة السرية" مركز عمليات في شارع المختار في غزة، وكانت تقدم لـ"المرحَّلين" تذكرة سفر بلا عودة إلى دول مختلفة في أميركا الجنوبية، ولا سيما باراغواي، بوساطة وكالة سفر مقرها تل أبيب، وكانت تعدهم بمساعدة مالية وبمعاونة على الاستقرار بعد أن يصلوا؛ وهو وعد لم تف به على ما يظهر. وقد استمرت هذه الخطة نحو ثلاثة أعوام، ثم انهارت جراء حادث مفاجىء. ذلك بأن أحد "المرحَّلين"، واسمه طلال ابن ديماسي، وكان قد وُعد بالمعونة المالية إلا إنه لم يتلق منها شيئاً، ذهب من يأسه إلى القنصلية الإسرائيلية في أسنسيون في باراغواي، في 4 أيار/مايو 1970، وطلب مقابلة السفير، فلما رفض طلبه، أردى سكرتير السفير بطلق ناري. وفي رواية الصحافيين الإسرائيليين يوسي ميلمان ودان رفيف، تمكنت هذه الوحدة السرية من "ترحيل" ألف فلسطيني سراً.(44)

إن خطة "الترحيل" الموصوفة أعلاه، والمعروفة أيضاً باسم خطة موشيه دايان، تظهر أن حكومة العمل قد اتبعت سياسة ترحيل سرية أواخر الستينات وأوائل السبعينات، وإنْ كانت حكومات العمل بعد سنة 1967 لم تدعُ إلى ضم الضفة الغربية وقطاع غزة ضماً كاملاً، ولا صرّحت بدعمها مطالب حركة أرض إسرائيل الكاملة. وإن ما يثير القلق أن فكرة الترحيل ليست حكراً لليمين. فدعاة الترحيل وذوو الباع الطويل في ممارسته يتخللون قطاع حزب العمل في المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة. والأدعى إلى القلق أن زعماء العمل وقادته العسكريين، بن – غوريون، وآلون، ورابين، وغيرهم، قد أشرفوا على عمليات الطرد سنة 1948، وأن خيار الترحيل قد ظل وارداً – في نظر بعض زعماء العمل – بعد سنة 1967. وفي السنوات الأخيرة، كانت التصريحات العلنية قليلة، لكن عدداً من الشواهد يدل على أن مخاوف الفلسطينيين من نيات العمل ليست بلا أساس. ففي سنة 1984، صرح يتسحاق نافون، رئيس إسرائيل السابق المعتدل نسبياً والسياسي العمالي البارز، خلال حملة 1984 الانتخابية: "إن غاية برنامج الصهيونية العمالية هي أكبر قدر ممكن من الأرض وأصغر عدد ممكن من العرب."(45)   وفي أوائل الانتفاضة، وإذ كان الفلسطينيون من مواطني إسرائيل يعبِّرون عن دعمهم لإخوانهم في الضفة الغربية وغزة، حذرهم الرئيس حاييم هرتسوغ "من فصل جديد في المأساة الفلسطينية"؛(46)   وهو تهديد ضمني بالطرد. وقد أنذر زميل هرتسوغ، رابين (وزير الدفاع يومها)، الفلسطينيين الإسرائيليين عينهم قائلاً: "يجب أن تظلوا كما كنتم حتى اليوم، موالين... في الماضي البعيد عرفتم المأساة، وخير لكم ألا تعودوا إلى تلك المأساة."(47)  ولا يخفى على أحد ما ينطوي عليه إنذار رابين. فرابين نفسه قد قام، بمعاونة يغآل آلون، بتنفيذ أوامر بن – غوريون بطرد 60,000 إلى 70,000 نسمة من سكان اللد والرملة سنة 1948.

              والواقع أن حزب العمل قد ساهم في تعزيز التأييد الشعبي لفكرة الترحيل في السنوات الأخيرة الماضية. فقد بدا حزب العمل الأكثر ارتباكاً بين الأحزاب الإسرائيلية. إذ إن خطه السياسي يقوم، بصورة أساسية، على فكرة "الخطر السكاني" – الخوف من أن يصبح العرب أكثرية إذا ما أصرت إسرائيل على ضم الأراضي المحتلة. بيد أن فهم الرأي العام اليهودي الإسرائيلي لهذه الفكرة العنصرية لا يرجّح، بالضرورة، الميل إلى الحل الوسط الإقليمي. بل إن الناس في إسرائيل أميل إلى الاستنتاج أن الفلسطينيين يجب أن يطردوا، أو أنهم يجب ألا يمنحوا الجنسية الإسرائيلية؛ وهذا، بعبارة أخرى، تدعيم لنظام "الأبارتهايد" في الأراضي المحتلة.

وبينما يبدي حزب العمل استعداده للنظر في تقسيم الأراضي المحتلة بين إسرائيل والأردن، فإن تحالفات الليكود المتنوعة لم تزل تسير قدماً في اتجاه الاستيطان وبسط السيادة الإسرائيلية على "يهودا" و"السامرة" وغزة. كما أنها قد ضمت مرتفعات الجولان من طرف واحد. وخلافاً لما يذكر كثيراً، فإن حكومة الليكود لم تدعُ إلى ضم الضفة الغربية وغزة رسمياً، ولا تبدو معنية بهذا الأمر في المستقبل المنظور. إن بسط السيادة الإسرائيلية – أو على الأقل الإعلان الفعلي للنية – صيغة مرهفة من الضم الفعلي تتيح لإسرائيل أن تستوطن الأرض، بينما تحصر السكان الفلسطينيين في غيتوات متزايدة الصغر، وأن تجد في الوقت نفسه الطرق لنفي القيادات وخفض عدد السكان ما أمكن. إن الضم الرسمي الصريح سيثير مشكلة منح سكان الأراضي المحتلة الجنسية، بينما يبدو أن الضم الفعلي يلقى دعماً واسعاً في إسرائيل وتساهلاً في الغرب، ولا سيما في الولايات المتحدة. وأية تكن الحال، فإن منطق سياسة الاستيطان عند الليكود يبدو مستنداً إلى أنه يجب خفض عدد السكان العرب بطريقة أو بأخرى، ولا غرابة في أن الكثيرين من ساسة الليكود يعلنون دعمهم الصريح لفكرة الترحيل. والأبرز بين هؤلاء هو أريئيل شارون، وزير الإسكان الإسرائيلي حالياً، الذي "يأمل بطرد الفلسطينيين كلهم من الضفة الغربية وغزة، ودفعهم إلى الأردن."(48)   ومع تكرار شارون لاقتراح الترحيل، فقد قال إن على إسرائيل أن تكف عن التحدث عن ذلك، وأن تضعه موضع التنفيذ.(49)

وقد تكتل حول نائب وزير الدفاع، ميخائيل ديكل، جماعة من نواب الليكود في الكنيست وغيرهم من النضاليين الذين يدعون صراحة إلى حل بالترحيل للمشكلة الفلسطينية.(50)  ويصرّ ديكل وزملاؤه على أن من الممكن نزع الضفة العربية من الأراضي المحتلة، وذلك عن طريق الاستيطان المكثف والترحيل الجماعي للسكان العرب عبر نهر الأردن، بدءاً بسكان مخيمات اللاجئين. وقد سبق أن أعلن نائب رئيس الكنيست، مئير كوهين، سنة 1983 "ان إسرائيل قد ارتكبت خطأ فادحاً إذ لم تطرد 200,000 – 300,000 عربي من الضفة الغربية سنة 1967."(51)   وقد علّقت صحيفة Jerusalem Post يومها قائلة إن إحجام حكومة الليكود عن التنصل من ملاحظات كوهين قد خلّف انطباعاً بأنه "يعبّر عن المسلمات المضمرة في السياسة الرسمية." ومؤخراً، هدّد جدعون بات، وزير العلوم السابق في حكومة الليكود، العرب من مواطني إسرائيل بأنهم سيوضعون في شاحنات وسيارات أجرة ويرسلون إلى الحدود إنْ لم يحسِّنوا مسلكهم.(52)   أما أهارون بابو، وهو من دعاة الليكود النشيطين، فقد ذهب إلى أن الطرد سيكون إنسانياً. وقد روي حديثاً عن كوهين أفيدور نائب الليكود في الكنيست، وعن بنيامين نتنياهو نائب وزير الخارجية، أنهما أدليا بتصريحات تؤيد الترحيل. كما أن يوسف شابيرا، وزير الحزب الديني القومي في حكومة شمير، قد أثار مسألة الترحيل قبيل اندلاع الانتفاضة. وقال إن على إسرائيل أن تشجع هجرة الفلسطينيين إلى الخارج على نطاق واسع، ولا سيما في صفوف الأنتلجنسيا. كما أن شابيرا ذهب إلى حد الاقتراح بأن تدفع الحكومة الإسرائيلية 20,000 دولار لكل فلسطيني يوافق على المغادرة.(53)

أما أعلى أنصار الحل بالترحيل نبرة (سواء أكان الترحيل كلياً أم جزئياً) فهم زعماء أحزاب أقصى اليمين والجماعات الدينية المسيحانية: حزب موليدت بزعامة زئيفي، وحزب تحيا (بزعامة غيئولا كوهين ويوفال نئمان)، وحزب تسومت بزعامة رفائيل إيتان رئيس أركان الجيش سابقاً، والحزب الديني القومي، وحركة غوش إيمونيم الاستيطانية، وحركة كاخ. وأحزاب أقصى اليمين ممثلة جميعاً في حكومة شمير الائتلافية الحالية، باستثناء كاخ. واليمين الأقصى يدعو إلى ضم علني وشامل للأراضي المحتلة.

إن أحزاب أقصى اليمين تتمتع بنحو 15% من أصوات الإسرائيليين. غير أن هذه الأحزاب تعتمد على أن فكرة "ترحيل" السكان الفلسطينيين واسعة الانتشار. وقد أكد المشتغلون باستطلاعات الرأي العام في إسرائيل الفكرة القائلة إن السنوات القليلة الماضية قد شهدت ميلاً ثابتاً في الرأي العام، يتراوح قوامه بين 35% و40% يؤيدون الطرد، يضاف إلى ذلك أن هذه النسبة تتزايد فعلاً؛ إذ إن أحد الاستطلاعات قد أشار إلى أن واحداً من كل إسرائيليَّين يهوديَّين يميل إلى خيار الطرد. ومع ذلك، يبدو أن أكثرية صغيرة من الإسرائيليين، وفيها البعض ممن يجدون هذا الخيار "مرغوباً فيه" و"مقبولاً"، ما زالت تشك في كونه قابلاً للتنفيذ. وما يجدر ملاحظته التقارب النسبي بين الرأي العام الإسرائيلي وسياسة الحكومة تجاه الفلسطينيين، وكون المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية – سواء في ذلك الليكود أو العمل – مسؤولة إلى حد بعيد عن الموقف العدائي العام من العرب سواء في إسرائيل أو في الأراضي المحتلة. فقد بدرت ملاحظات عدة، من شمير وأعضاء في الكنيست وقادة الجيش، تصف الفلسطينيين بأنهم "حيوانات من ذوات الساقين"؛ "صراصير مخدَّرة" (وهي لفظة توازي لفظة “niger” في الولايات المتحدة الأميركية)؛ "سرطان في جسد الوطن"؛ "الحثالة العربية"؛ "عربوشيم"؛ "أغراب". إن توليد هذه المواقف العنصرية اللاإنسانية المستهزئة تجاه الضحية المقصودة، شرط طبيعي لا بد منه لموافقة الرأي العام على سياسة الطرد وتأييدها.

سابعاً: خاتمة

              إن المثابرة التي أبداها التيار الرسمي السائد في الصهيونية، ولا سيما مؤسسة حزب العمل، في متابعة فكرة الترحيل في الماضي لعظيمة الأهمية في فهم أنشطة الترحيل المشابهة والوقاية منها في المستقبل. وفي الوقت نفسه، أبدى قادة حزب العمل مزيجاً متميزاً من البراغماتية والاحتراس في متابعتهم لفكرة الترحيل، آخذين في الحسبان ردات فعل الرأي العام الغربي.

حالياً، ثمة قطاع كبير من المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة ونصف اليهود الإسرائيليين يقفان إلى جانب فكرة الترحيل، وثمة أسباب وجيهة للتخوف من أن تتزايد نسبة اليهود الإسرائيليين المؤيدين لفكرة الترحيل مع بقاء المشكلة الفلسطينية بلا حل، ومع استمرار انزلاق الرأي العام الإسرائيلي في اتجاه اليمين.

ما هي الأوضاع التي يمكن أن يحدث فيها "الترحيل" الجماعي؟ وما الأشكال التي قد يتخذها؟ وعلى الرغم من أن الأجوبة عن هذه الأسئلة تخمينية، فإن في وسع المرء أن يشير إلى عدد من الإمكانات المستندة إلى الأدلة المتاحة.

أولاً، إن "الترحيل" كما يتصوره أنصاره الإسرائيليون قد يتخذ أشكالاً متعددة. فهو قد يرافق حرباً تشنها إسرائيل ويتهم فيها الفلسطينيون في الأراض المحتلة بالقيام بدور فعال. ويمكن لهذا الإمكان أن يكون في الواقع فعلاً لا مسبب له من استفزاز أو سواه، بل مجرد تجسيد لقرار متعمد من الحكومة الإسرائيلية. وكما لاحظ الجنرال أهارون ياريف، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، أنه كان ثمة منذ سنة 1980 "رأي واسع الانتشار" يميل إلى استغلال أية حرب مقبلة لطرد 700,000 – 800,000 فلسطيني. وقد حذّر من أن هذه الخطة موجودة وأن وسائل تنفيذها قد أُعدت.(54)   ثانياً، في حال غير حال الحرب يمكن محاولة اتباع سياسة الطرد الجماعي "رداً" على تصعيد الفلسطينيين لمقاومتهم سياسة الضم الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. ثالثاً، يمكن أن تكثف الحكومة الإسرائيلية سياساتها الهادفة إلى خلق أوضاع غيتو لا تطاق الحياة اليومية فيه، بحيث يضطر الكثيرون من السكان إلى المغادرة.

ثمة تياران كبيران داخل حكومة التحالف الحالية. أما التيار الأول، الذي يتألف من أحزاب أقصى اليمين – موليدت، وتسومت، وتحيا، إلخ – وقطاع من الليكود، فهو لا يقيم وزناً لاعتبارات البراغماتية، ويؤمن بأن إسرائيل قوية إلى حد يمكّنها من أن تفعل ما تريد، بما في ذلك الترحيل. أما التيار الثاني الأقرب إلى البراغماتية نسبياً، فهو إلى جانب قبوله بأنه لا بد من المضي في سياسات الاستيطان والضم يؤمن بأن التعاون الاستراتيجي، أو على الأقل العلاقة الجيدة بالولايات المتحدة يجب المحافظة عليها باعتبارها من مصالح إسرائيل الحيوية. ويذهب البراغماتيون إلى أن اعتماد إسرائيل الحالي على المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي تمدها الولايات المتحدة بها تجعل سيناريو الطرد الجماعي دفعة واحدة أمراً غير قابل للتنفيذ. والسيناريو الأقرب إلى الاحتمال والذي يعتمده تكتل الليكود الحاكم في المدى القريب، هو خلق أوضاع غيتو لا تطاق في سائر أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة، على أمل دفع الكثيرين من السكان إلى الهجرة. إلا إن تراجع البراغماتية وانحطاطها داخل المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة عامة، والليكود خاصة، فضلاً عن استقواء أحزاب أقصى اليمين، ستزيد في إمكانات "الترحيل" الشامل زيادة ملحوظة.

إن مهمة "الترحيل" الجماعي ستكون عسيرة التنفيذ في زمن السلم، ومستحيلة التنفيذ من دون إرقاة الدماء لأن الكثيرين من الفلسطينيين سيقاومون حتى الموت عملية إجلائهم، ولأن أية محاولة لتطبيق الطرد الجماعي ستلقى مقاومة جسدية من قبل الفلسطينيين وستستلزم لذلك استعمال القوة المكثفة والمستمرة من قبل الجيش الإسرائيلي. ويعزى هذا، في جزء منه، إلى أن الفلسطينيين باتوا يدركون تاريخ خروجهم ومنفاهم في سنتي 1948 و1967، وأن ما ينتظرهم في المنفى لن يكون خيراً مما يجدون في وطنهم. ولذلك ستساهم المقاومة من جانب الفلسطينيين في تطويل أجل خطة الإجلاء، وفي تعبئة الرأي العام الليبرالي في إسرائيل، وفي ممارسة الضغوط الدولية لإحباط عملية إجلاء السكان بالقوة. وثمة في إسرائيل أقلية لا يستهان بها، غير مستعدة للبقاء صامتة أمام مشهد الترحيل الجماعي المحتمل. وربما حاولت هذه الأقلية أن توقع الترحيل إذا ما شرع فيه. وربما قام الساسة إلى يسار الوسط (من مابام وراتس وشينوي وحتى بعض نواب حزب العمل في الكنيست) بدعوة الجيش إلى رفض الامتثال لأوامر الطرد الجماعي.

وقد يكون من شأن ذلك، بدوره، أن يحمل الحكومة على تشكيل وحدات خاصة لتنفيذ عملية الترحيل. أما الخطر الحقيقي الآخر على الفلسطينيين في حال كهذه، فهو القوى التي ترغب في طردهم، والتي تضم عنصراً مسلحاً من المجتمع الإسرائيلي: مستوطنو غوش إيمونيم والمتعاطفون معهم في الجيش، مع ما يتلقون من دعم يمدهم به أصحاب النفوذ من قادة المؤسسة الحاكمة؛ إن هذه القوى قد تشرع في تنفيذ الحل الذي تراه من طرف واحد. إن أكثر من نصف مليون إسرائيلي، أو أن واحداً من كل سبعة يهود إسرائيليين يمتلك سلاحاً نارياً. كما أنه لا يمكن تجاهل احتمال وجود بعض العناصر في الجيش ممن قد يرتكبون الفظائع من أجل استثارة دوافع الناس إلى الهرب. ويبقى سؤال مطروحاً، مع ذلك: هل سيقف الجيش في وجه تطورات كهذه، أم هل سيخلص إلى الاستنتاج أن الحل العسكري الوحيد هو الطرد؟ وفي أية حال، فإن محاولة ضبطهم وردهم من قبل القطاع الأكثر اعتدالاً في الجيش والقطاع الليبرالي في المجتمع الإسرائيلي، قد تكتسي أهمية كبرى، وربما كان من شأن هذا وما سيشفع به من مقاومة فلسطينية جسدية ومن ضغوط سياسية دولية، أن يحبطا عملية تجريد الأراضي المحتلة من سكانها. 

 

*  باحث فلسطيني (الأراضي المحتلة 1948) مقيم في لندن، أمضى عدة أعوام في إعداد كتاب عن "الترحيل" (الترانسفير) سيصدر قريباً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية باللغتين العربية والإنكليزية.

(1) يستعمل والتر لاكور (Walter Laquer)، في كتابه: A History of Zionism (London, 1972), p. 215 هذه اللفظة إشارة إلى مقالة مشهورة ليتسحاق إبشتاين عنوانها "القضية الخفية"، في "هاشيلواح"، 1907، ص 193 – 206.

(2) أنظر: Neil Caplan, Palestine Jewry and the Arab Question, 1917-1925 (London: Frank Cass, 1978); Simha Flapan, Zionism and the Palestinians (London: Croom Helm, 1979).

(3) كلمة أُلقيت في اجتماع الاتحاد الصهيوني الفرنسي في باريس بتاريخ 28 آذار/مارس 1914 في: The Letters and Papers Of Chaim Weizman (Jerusalem: Israel University Press, 1983), Vol. I, Series B., pp. 115-116.

(4) أنظر: محضر خطاب روبين في اجتماع الهيئة التنفيذية للوكالة اليهودية، في 20 أيار/مايو 1936، في: يوسف هلر، "الصراع من أجل الدولة: السياسة الصهيونية 1936-1948" (بالعبرية)، (القدس، 1984)، ص 140.

(5) مذكور في: Ahmad El Kodsy and Elie Lobel, The Arab World and Israel (New York: Monthly Review Press, 1970) p. 120.

 (6) أنظر:  Raphael Patai (ed.), The Complete Diaries of Theodore Herzl (New York: Herzl Press and T. Yoseloff, 1960), Vol. I, p. 88.

(7) خطاب ألقي في نيسان/ إبريل 1905، في: Speeches, Articles and Letters of Israel Zangwill  (London: The Soncino Press, 1973), p. 210.

(8) Israel Zangwill, The Voice of Jerusalem (London: William Heinemann, 1920), p. 93.

(9) مذكرة روبين مذكورة في: Laqueur, op.cit., p. 231.                                                                                                                                                                  

(10) يوميات روبين، رسالة روبين إلى هانز كوهن، 30 أيار/مايو 1930، في: Flapan, op. cit., pp. 172-173, 189.

(11) Arab Bulletin, No. 64, October 7, 1917, pp. 389-391, im PRO (London), F.O. 882/26.

(12) مذكور في: يوسف نداف، "خطط ترحيل السكان لحل مشكلة أرض إسرائيل"، "غيشر" (القدس)، المجلد 24، العددان 1 – 2، ربيع ـ صيف 1978، ص 155.

(13) Martin Gilbert, Winston S. Churchill, Vol. 4, 1916-1922 (London: W. Heinemann, 1975), p. 484

(14) أعرب بن ـ غوريون عن آرائه في الأمانة العامة المشتركة لأحدوت هعفوداه وهابوعيل هاتسعير، 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1929، مذكور في: ج. شيفر، "الحل العام في مقابل الاعتدال في الصراع العربي ـ الإسرائيلي"، في كتاب" "الصهيونية والمسألة العربية" (بالعربية)، (القدس: مركز زلمان شازار، 1979).

(15) مستشهداً بخطاب بن ـ غوريون في لجنة العمل الداخلي في القدس، 12 تشرين الأول/ أكتوبر 1936، في Flapan, op. cit., p. 131.

(16) Yosef Gorny, Zionism and the Arabs, 1882-1948 (Oxford: Clarendon Press, 1987), p. 214.

      مستشهداً بالمقال التالي: موشيه بيلينسون، "الحق في فلسطين"، "دافار"، 4/12/1929.

(17) مذكور في: Shabti Teveth, Ben - Gurion and the Palestinian Arabs (Oxford: Oxford University Press, 1985), p. 39.

(18) أنظر: Flapan, op.cit., pp. 69-70 and note 65, p. 93; The Letters and Papers of Chaim Weizmann, Vol. I, Series B., paper 116, pp. 591-592.                                                                                                                                             

(19) أنظر: Flapan, op.cit., pp. 260-261.

(20)  موشيه شاريت، "يوميات سياسية، 1936 – 1938" (بالعبرية)، (تل أبيب: عام عوفيد، 1971)، المجلد 2، تاريخ 12 حزيران/ يونيو 1937، ص 187 – 188؛ بن – غوريون، "مذكرات" (بالعبرية)،  (تل أبيب: عام عوفيد، 1974)، المجلد 4, ص 173، 175، 207؛ شاريت، مصدر سبق ذكره، ص 91.

(21)  بن غوريون، "مذكرات"، مصدر سبق ذكره، المجلد 4، ص 297 – 299.

(22)  المصدر نفسه؛ وأيضاً: Teveth, op.cit., p. 182.

(23)  Teveth, op.cit., p. 189.

(24)  نُشرت وقائع مؤتمر إيحود بوعالي تسيون بعد عام تحت عنوان ما ترجمته: "على درب سياستنا: المجلس العالمي لاتحاد بوعالي تسيون (C.S.) – التقرير الكامل، 21 تموز/يوليو 7 آب/أغسطس" (تل أبيب: المكتب المركزي للنشر التابع لإيحود بوعالي تسيون، 1938).

(25) أنظر: The New Judea (London), Vol. XIII, Nos. 11-12, August-September 1937, pp. 220-225; The protocols of the 20th, Zionist Congress.                                                                                                                                        

(26) Central Zionist Archives (CZA), (Jerusalem), S 25/247.

(27)  CZA, protocol of the Committee for Population Transfer, S 25/247.

(28)  CZA, “Transfer of the Arab Populatiom,” S 25/247.

مذكرة كتبها أ. بونيه وأرسلها إلى بن – غوريون في 27 تموز/ يوليو 1938.

(29)  CZA, protocol of the Jewish Agency Executive meeting, June 12, 1938.

(30)  CZA, Weitz Diary, A 246/7.

(31)  CZA, A 246/29.

(32)  أنظر: Eliahu Ben-Hurin, The Middle East: Crossroads of History (New York: WW Norton & Company, 1943).

(33)  توجد هذه الخطة في معهد بحوث الاستيطان، رحوفوت.

(34)  CZA, protocol of the Jewish Agency Executive meeting, June 12, 1938.

(35)  أنظر: بن – غوريون، "يوميات الحرب" (بالعبرية)، (تل أبيب، 1982)، المجلد 3، تاريخ 26 تشرين الأول/أكتوبر 1948، ص 776 – 777؛ يوسف فايتس، "يومياتي ورسائلي إلى الأولاد" (بالعبرية)، (تل أبيب: مساده، 1965)، المجلد 3، تاريخ 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1948.

(36)  مذكور في: Reinhard Wiemer, “Zionism and the Arabs after the Establishment of the State of Israel,” in A. Schölch (ed.), Palestinians over the Green Line (London, 1983), p. 36.                                                     

(37)  Weitz’s Diary, in Israel Shahak, “A History of the Concept of ‘Transfer’ in Zionism,” Journal of Palestine Studies, Vol. XVIII, No. 3, Spring 1989, p. 28.                                                                                          

(38)  Ibid., p. 29.

(39)  أنظر: Yossi Melman and Dan Raviv, “Expelling Palestinians,” The Washington Post, February 7, 1988.

(40) دوف يوسفي، "حل إنساني للمشكلة الديموغرافية" في: أهارون بن – عامي (محرر)، "كتاب أرض إسرائيل الكاملة" (تل أبيب، 1977).

(41)  منشور في "ديعوت"، العدد 35، شتاء 1968، في:

Uri Davis and Norton Mezvinsky (eds.), Documents from Israel 1967-1973 (London: Ithaca Press, 1975),     

  1. 187.

(42) The Christian Science Monitor (Boston), June 3, 1974.؛ "معاريف"، 16/2/1973.

(43)  Melman and Raviv, op.cit.; The Guardian Weekly (London), February 21, 1988;  "دافار"19/2/1988.

(44) Melman and Raviv, op.cit.

(45) مذكور في: Bernard Avishai, The Tragedy of Zionism (New York, 1985), p. 340.

(46) أنظر: Jerusalem Post International, January 23, 1988.

(47)  مقتبس من الصحافة العبرية، في: David McDowall, Palestine and Israel (London: I.B. Tauris, 1989), pp. 259-260.

(48) Amos Perlmutter, New York Times, May 17, 1982.

(49) Melman and Raviv, op.cit.

(50) Benny Morris, Jerusalem Post International, October 3, 1987.

(51) New York Times, April 4, 1983، مستشهداً بملاحظات أبداها كوهين في 16 آذار/مارس 1983.

(52) Melman and Raviv, op.cit.

(53) Ibid.

(54) "هآرتس"، 26/5/1980.