يتناول المقال مشكلة العمال الفلسطينيين الذين يتوجهون إلى العمل في إسرائيل والتي أثيرت بسبب "حرب السكاكين" التي ظهرت خلال العام الرابع للانتفاضة، وهي مشكلة ذات شقين: أمني يتمثل في حماية الإسرائيليين من هجمات العمال الفلسطينيين، ومشكلة اقتصادية عميقة تعانيها الأراضي المحتلة بعد 24 عاما على احتلالها.ويستعرض المقال أعداد العمال الفلسطينيين في إسرائيل وكيف حوّل الاحتلال هؤلاء العمال إلى يد عاملة رخيصة، ثم يسلط الضوء على كيفية معالجة إسرائيل مشكلة العمل الفلسطيني داخل الخط الأخضر من خلال: الإغلاق، واستصدار البطاقة الخضراء، وتشديد العقوبات، وتقليص عدد العمال.ثم يحاول الإجابة عن السؤال التالي: هل بإمكان إسرائيل الانفصال عن الأراضي المحتلة، وفي هذا المجال برزت ثلاثة آراء: إغلاق الخط الأخضر بشكل كامل، وفصل الأراضي المحتلة، والاحتفاظ بها. ويشير المقال إلى صيغتين للانفصال: يسارية ويمينية، ويستعرض مواقف مختلف الأحزاب من الصيغتين بالإضافة إلى الموقف العام للجمهور في إسرائيل الذي ركز على ضرورة وقف الاحتكاك بين الشعبين والفصل بينهما، ووقف تسلل الانتفاضة عبر الخط الأخضر إلى إسرائيل. ويخلص المقال إلى أن أزمة الخليج أدت إلى توقف آلاف العمال الفلسطينيين عن الذهاب إلى عملهم وهو ما أدى إلى ضائقة اقتصادية في صفوفهم، وإلى حالة من الشلل في عدد من القطاعات الاقتصادية في إسرائيل أبرزها قطاع أعمال البناء، الأمر الذي هدد مخططات إسرائيل لاستيعاب المهاجرين اليهود السوفيات، وهو ما دفع سلطات الاحتلال إلى السماح لستة آلاف فلسطيني بمعاودة العمل داخل الخط الأخضر لكن مع تحذيرهم بدفع الثمن في حالة حدوث أي اضطرابات، لكن استجابة العمال الفلسطينيين كانت محدودة جداً ولم تتجاوز 25 %.
مع دخول الانتفاضة عامها الرابع، وجدت إسرائيل نفسها أمام مشكلة أمنية تتهدد حياة مواطنيها داخل حدود دولتهم، هي مشكلة العمال الفلسطينيين من المناطق المحتلة داخل إسرائيل. والأمر الذي أعاد طرح هذه المشكلة القديمة قدم الاحتلال الإسرائيلي نفسه للضفة والقطاع، هو"حرب السكاكين" التي شهدتها أحياء وشوارع داخل الخط الأخضر، والتي قتل من جرائها عدد من اليهود طعناً بسكاكين وخناجر حملها معهم عمال فلسطينيون قدموا من الضفة والقطاع للعمل في إسرائيل.
وإذا كان العمل الفلسطيني يشكل اليوم مشكلة أمنية للإسرائيليين، فإنه يكشف في الآن ذاته عن مشكلة اقتصادية عميقة تعانيها المناطق بعد أربعة وعشرين عاماً على الاحتلال. ومن أبرز مظاهر هذه الأزمة، بعد مرور ثلاثة أعوام على الانتفاضة، ضخامة عدد العمال من الضفة والقطاع الذين يجتازون يومياً الخط الأخضر للعمل في إسرائيل.
يبلغ عدد عمال المناطق العاملين في إسرائيل حالياً، بالاستناد إلى الأرقام الإسرائيلية الرسمية، 110 آلاف عامل تقريباً. ولدى مقارنة هذه الأعداد بأعداد عام الانتفاضة الأول والثاني، نلحظ أنها لم تتراجع تراجعاً كبيراً (أنظر الجدول رقم 1). لكن إذا كانت الانتفاضة لم تفلح في تخفيض عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل، فإنها تسببت بانخفاض عدد ساعات العمل التي قام هؤلاء بها خلال العامين السابقين بالمقارنة مع ما قبلهما (أنظر الجدول رقم 2). إن انقطاع عمال المناطق عن الذهاب إلى أعمالهم في إسرائيل أيام الإضرابات العامة التي دعت القيادة الموحّدة إليها، أو بسبب إقدام السلطات على فرض حظر التجول على الأراضي المحتلة، ألحق بالاقتصاد الإسرائيلي أضراراً لا بأس فيها، ولا سيما في قطاع البناء حيث يشكل العمال الفلسطينيون نصف العاملين في هذا القطاع تقريباً*. لكن العدد الأكبر من هؤلاء العمال كانوا يعودون بعد ذلك، إلى مراكز عملهم كالمعتاد.
لكن ما يستوقف هنا أن جموع العمال هذه مرت، خلال هذه الفترة، بمرحلة تحول أساسية. فمع مرور الوقت، وتصاعد الانتفاضة، وتفاقم الوضع المعيشي، وغياب أي أفق للحل، تحول هؤلاء العمال من "يد عاملة رخيصة" موضوعة في خدمة أرباب العمل اليهود، وتقوم بـ"الأعمال القذرة" التي يأنف الإسرائيلي من القيام بها، إلى "خطر أمني" يتهدد الإسرائيليين في عقر دارهم، ونقلوا بخناجرهم وسكاكينهم الانتفاضة من الضفة والقطاع إلى داخل إسرائيل نفسها.
ثمة عوامل عدة ساعدت في تحويل العامل الفلسطيني في إسرائيل من إنسان يسعى وراء لقمة عيشه إلى انتحاري لا يخاطر بمورد رزقه فحسب، وإنما بحياته أيضاً. وفي طليعة هذه العوامل: ازدياد مشاعر العداء والكراهية بين اليهود والعرب، ولا سيما بعد حادثتين دمويتين أودتا بحياة الكثيرين من الفلسطينيين، وهما جريمة ريشون لتسيون في أيار/مايو الماضي ومجزرة المسجد الأقصى؛ اشتداد الضائقة الاقتصادية التي يعانيها سكان المناطق منذ بداية الانتفاضة، والتي فاقمتها أزمة الخليج، مع الإحساس بأن ليس لدى العامل الفلسطيني "الكثير ليخسره" نتيجة حالة الغبن والحرمان والتمييز التي يعانيها بالمقارنة مع العامل الإسرائيلي؛ تجاوب الجماهير الفلسطينية مع الدعوات الصادرة عن "حماس"، والداعية إلى تصعيد النضال وقتل اليهود أينما كانوا.
إزاء هذا الوضع، بات واضحاً للمسؤولين في إسرائيل فشل سياستهم الاقتصادية في المناطق. وهذه السياسة التي قامت على محاصرة وكبح أية محاولة تنمية اقتصادية مستقلة في المناطق، والسيطرة على أغلبية عناصر الإنتاج: الأرض والمياه واليد العاملة، وربط اقتصاد الأراضي المحتلة باقتصاد إسرائيل بصورة ملحقة ومستتبعة، هي المسؤولة اليوم عن المأزق الأمني والسياسي والاقتصادي الذي تمر إسرائيل به.
الجدول رقم (1)
عدد عمال المناطق العاملين في إسرائيل
وتوزعهم على قطاعات العمل*
من يهودا والسامرة |
المجموع |
الزراعة |
الصناعة |
البناء |
مجالات أخرى |
1970 |
14,0 |
2,6 |
1,9 |
8,0 |
1,5 |
1975 |
38,3 |
4,2 |
7,3 |
21,5 |
5,3 |
1980 |
39,2 |
3,9 |
8,4 |
19,9 |
7,0 |
1982 |
41,2 |
3,9 |
7,5 |
22,5 |
7,3 |
1985 |
45,2 |
4,9 |
7,8 |
23,9 |
8,6 |
1986 |
49,0 |
5,3 |
8,9 |
25,3 |
9,4 |
1987 |
60,0 |
6.1 |
11,0 |
29,6 |
13,2 |
1988 |
60,9 |
6,5 |
10,2 |
31,4 |
12,7 |
1989 |
62,6 |
6,6 |
9,0 |
34,1 |
12,8 |
من قطاع غزة |
|
||||
1970 |
5,8 |
2,4 |
0,5 |
2,8 |
(0,1) |
1975 |
25,6 |
5,0 |
4,6 |
13,7 |
2,3 |
1980 |
34,0 |
6,3 |
7,2 |
15,2 |
5,3 |
1982 |
35,4 |
6,0 |
6,3 |
18,5 |
4,6 |
1985 |
40,9 |
9,0 |
7,9 |
17,4 |
6,6 |
1986 |
42,6 |
9,4 |
7,4 |
19,1 |
6,6 |
1987 |
44,7 |
9,5 |
8,6 |
18,8 |
7,8 |
1988 |
43,3 |
9,7 |
6,3 |
20,6 |
6,3 |
1989 |
38,3 |
7,4 |
4,4 |
20,6 |
5,9 |
* المصدر:
Statistical Abstract of Israel, 1987, No. 38, p. 728; and Ibid., 1990, No. 41, p. 734.
الجدول رقم (2)
ساعات العمل الأسبوعي
لعمال المناطق في إسرائيل*
|
المجموع الإجمالي بالآلاف |
الزراعة |
الصناعة |
البناء |
قطاعات أخرى |
1983 |
3,517 |
448 |
649 |
1,872 |
548 |
1984 |
3,862 |
549 |
730 |
1,877 |
706 |
1985 |
3,838 |
587 |
725 |
1,832 |
694 |
1986 |
4,158 |
654 |
759 |
1,995 |
741 |
1987 |
4,654 |
670 |
893 |
2,140 |
951 |
1988 |
3,529 |
550 |
579 |
1,716 |
684 |
1989 |
3,616 |
463 |
500 |
1,939 |
711 |
* المصدر:
Statistitcal Abstract of Israel, 1990, No. 41, p. 736.
كيف تحوّل عمال المناطق إلى "يد عاملة رخيصة"؟
كانت الاعتبارات التي أخذ الاحتلال الإسرائيلي بها، لدى وضعه خطته الاقتصادية في المناطق، هي اعتبارات سياسية وأمنية في الدرجة الأولى، كما تقوم بصورة خاصة على إعطاء الأولوية المطلقة لمصالح القطاعات الاقتصادية في إسرائيل.
يقول شلومو غازيت، وهو الذي شغل منصب منسق الأنشطة الحكومية في المناطق لمدة سبعة أعوام، في كتابه "العصا والجزرة": "إن عدم وجود تخطيط ومشاريع... فرض على سكان المناطق مهمة تقديم اليد العاملة غير المهنية أو المتخصصة إلى الاقتصاد الإسرائيلي. وهكذا نشأ وضع خطر كان فيه العامل الفلسطيني يتقاضى أجراً أدنى من أجر العامل الإسرائيلي، من دون أن يكون في استطاعته زيادة مدخوله في المستقبل. ونظراً إلى عدم وجود حماية للإنتاج الصناعي في الضفة الغربية من المنافسة مع الإنتاج الإسرائيلي، فقد أدى ذلك إلى كبح نمو الصناعة المحلية."[1]
وفي الواقع، لم تكن المنافسة هي العائق الوحيد؛ فقد وضع الاحتلال قيوداً عدة على المستثمرين المحليين، وحدّ من إمكان نهوض صناعة محلية، بحيث تحولت "الأراضي المحتلة إلى مصدر للعمال بأجور متدنية، وإلى سوق مفتوحة للصادرات الإسرائيلية. هذا بالإضافة إلى ..... الضرائب المباشرة وغير المباشرة التي تصب مباشرة في الخزينة الإسرائيلية، وتستخدم في سد حاجات المستهلك الإسرائيلي."[2]
في إثر حرب 1967، بلغ عدد العاطلين عن العمل في الضفة 50 ألفاً، وفي قطاع غزة 20 ألفاً. وهذان رقمان ضخمان إذا ما قورنا بمجموع عدد العاملين في تلك الفترة والبالغ 85,700 عامل في الضفة، و 48,600 عامل في غزة. أي أن نسبة البطالة تراوحت بين 40 % و 50 %.
"حاول الحكم العسكري الإسراع في البحث عن حل للمشكلة عن طريق استخدام هذه اليد العاملة في صيانة الطرق وشقها وتعبيدها، وفي أعمال تشجير في المناطق وإسرائيل. وللتخفيف من عبء البطالة، تم الاتفاق على توزيع العمل على الجميع، بحيث يعمل معظم العمال ليومين أو ثلاثة في الأسبوع."[3] لكن الحل ما لبث أن أتى من طريق آخر؛ إذ بدأ في تلك الفترة تسلل عمال المناطق بصورة سرية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وما لبثت هذه الظاهرة أن اتخذت حجوماً وأبعاداً جعلت من الصعب على السلطات الإسرائيلية تجاهلها. فقامت اللجنة الوزارية للاقتصاد، في 14 تموز/يوليو 1968، بالموافقة على اقتراح وزير الدفاع آنذاك، موشيه دايان، السماح لعمال وعاملات من مناطق "يهودا والسامرة" بالعمل في إسرائيل ما دام هناك نقص في اليد العاملة الإسرائيلية. وقررت اللجنة أن أجر العامل في عمل عادي يساوي أجر العامل الإسرائيلي في عمل مشابه. وكان الهدف من ذلك عدم تشجيع أرباب العمل على استخدام الفلسطينيين، والمحافظة على المظهر الخلقي الذي لا تبدو إسرائيل فيه أنها تستغل عمالاً أجانب تحتل هي أراضيهم. وبعد مرور عام ونصف العام، جرى تطبيق هذا القرار أيضاً على عمال غزة.[4]
لم يكن الهدف من تشغيل الفلسطينيين في تلك الفترة اقتصادياً، وإنما أمنياً بالدرجة الأولى. فلقد سعى الاحتلال، من وراء ذلك، لإعادة الحياة في المناطق إلى مسارها الطبيعي بأقصى سرعة ممكنة، والتقليص قدر الإمكان من مشاعر السخط وعدم الرضا بين الفلسطينيين. يقول اللواء احتياط رفائيل فيردي، وهو الذي شغل منصب الحاكم العسكري للضفة ومنسّق الأنشطة الحكومية في المناطق: "كانت وجهة النظر هي أنهم ما داموا [سكان المناطق] تحت سيطرتنا فيجب أن نسعى لأن يعم الهدوء، ولعدم قيام تحريض سياسي واجتماعي."[5] أي أن الاحتلال أراد، من خلال تشغيل العمال الفلسطينيين ومساعدتهم في رفع مستوى حياتهم، إيجاد حالة من الرفاه الاقتصادي بحيث يكون لدى السكان "الكثير مما يخسرونه"، في معارضتهم، أو في حال مساعدتهم للنشط الفدائي.
لكن العمل الفلسطيني في إسرائيل سرعان ما خرج عن الأطر القانونية التنظيمية التي وضعتها سلطات الاحتلال، وذلك بتواطؤ من أرباب العمل الإسرائيليين والمسؤولين في آن واحد. فبرزت ظاهرة العمل غير القانوني، أي العمال الذين يشتغلون من دون أذونات عمل ولا ينتمون إلى الهستدروت، أو إلى اتحادات أو نقابات عمالية تدافع عن حقوقهم. وبسرعة كبيرة ازداد عدد هؤلاء العمال، بحيث بلغ أضعاف عدد العمال المسجلين في النقابات والحاصلين على تراخيص. "مع العمل غير القانوني، برزت ظاهرة المقاولين والمتعهدين 'الريّاس' من الفلسطينيين الذين يقتطعون لأنفسهم حصة من أجر العمال، وبدأ تشغيل الأولاد في أوضاع استغلال تذكّر بأيام القرون الوسطى. وبرزت 'أسواق العبيد' في بني براك، ومفرق سيغولة وفي ريشون لتسيون."[6]
يتقاضى العمال الفلسطينيون غير القانونيين أجراً يقلّ 50 % تقريباً عن أجر العامل الحاصل على رخصة. ويعيش هؤلاء تحت رحمة أرباب العمل الإسرائيليين والريّاس، وليست لديهم أية حقوق، ولا يستفيدون من أية تقديمات أو ضمانات اجتماعية. ويبلغ عدد هؤلاء العمال، بحسب تقديرات إسرائيلية، نحو ثلثي عدد العمال الفلسطينيين العاملين في إسرائيل.
تقول عضو الكنيست شوشانا آربيلي – ألموزيلينو (المعراخ): "هناك أسواق 'عبيد' في ضواحي المدن والمستعمرات في إسرائيل، حيث يجري تشغيل آلاف العمال بأجر متدن جداً من دون أية ضمانات اجتماعية... هناك أكثر من 70 ألف عامل من المناطق غير منتسبين إلى نقابات عمالية، يضاف إليهم آلاف من العمال الأجانب تجمعوا من جميع أنحاء العالم."[7]
وهكذا انهارت الأسس التي وضعها الاحتلال لتنظيم العمل الفلسطيني ومراقبته، وانهار معها مجمل السياسة الاقتصادية المتبعة في المناطق منذ سنة 1967، ومعه الأهداف السياسية والأمنية. فإذا كان الهدف السياسي من تشغيل عمال المناطق في إسرائيل هو الأمل بانهيار الخط الأخضر مع مرور الزمن، فإن القرارات المتلاحقة لوزير الدفاع بإغلاق الخط الأخضر تدل على أن هذا الخط ما زال حياً وقائماً أكثر من أي وقت في الماضي. وإذا كان الهدف الأمني إيجاد وضع يكون للفلسطينيين فيه "الكثير مما يخسرونه"، في حال تمردهم وثورتهم، فلقد أثبتت الانتفاضة و"حرب السكاكين" عكس ذلك. فالاحتكاك العربي – اليهودي لم يؤد إلى "تقريب القلوب"، وإنما إلى زيادة الإحساس بالثغرة الاجتماعية التي تفصل بين مستوى حياة العمال العرب والمستوى المعيشي في إسرائيل. كما أنه عمّق "الشعور بالغبن والحرمان، وبثّ النيران تحت الطبقة الرقيقة من الرضا على من يمسك بيده مورد الرزق ومن هو عدوه في آن واحد."[8]
المعالجة الإسرائيلية لمشكلة العمل الفلسطيني داخل الخط الأخضر
سعت السلطات الإسرائيلية، في معالجتها لمشكلة عمال المناطق في إسرائيل، لتجاهل الجانب السياسي للمشكلة وحصر المعالجة في الجانبين الأمني والإداري. على الصعيد الأمني، جرى اتخاذ عدد من الإجراءات مثل "إغلاق الخط الأخضر" لفترات زمنية، واستصدار البطاقة الخضراء، وفرض عقوبات جماعية، وإصدار أوامر بالطرد. أما على الصعيد الإداري، فبدأ البحث في إمكانات تقليص عدد العمال الفلسطينيين ومراقبتهم، والوقوف في وجه ظاهرة العمل غير القانوني، واستبدال هؤلاء بعمال إسرائيليين عاطلين عن العمل، أو بمهاجرين يهود سوفيات. كما بدأت تبرز بوادر تغيرات وتعديلات للسياسة الاقتصادية المعتمدة في المناطق منذ سنة 1967.
1- إغلاق الخط الأخضر لا يشكل حلاً
رداً على حادثة حي البقعة التي طعن فيها عامل عربي حتى الموت ثلاث يهود، اتخذ وزير الدفاع موشيه آرنس في 22 تشرين الأول/أكتوبر 1990، قراراً بإغلاق الخط الأخضر في وجه عمال المناطق لفترة غير محددة. واعتبر آرنس أن قرار الإغلاق هو نوع من "فصل للقوات" بين اليهود والعرب لإشاعة جو من التهدئة، وطلب من المسؤولين تشديد القيود على اجتياز العمال العرب الخط الأخضر، وإعداد قوائم بأسماء الذين لهم سوابق أمنية لمنع دخولهم إسرائيل.[9]
ولم تكن هذه أول مرة تغلق السلطات الإسرائيلية الخط الأخضر منذ بداية الانتفاضة. لكن الإغلاق هذه المرة استمر أربعة أيام، ليتضح أن مثل هذا الإجراء لا يشكل حلاً للمشكلة.
ففي رأي اللواء احتياط ألكناه هار – نوف، الرئيس السابق لشعبة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية والسكرتير العسكري ليتسحاق رابين،[10] "إن إغلاق المناطق كخطوة من ضمن خطوات لمنع الإرهاب وخرق النظام يجب تناوله على مستويات منفصلة: أن يكون الإغلاق ردة فعل مباشرة ولوقت قصير وذلك لمنع وقوع أعمال عنف منتظرة، أو لوقف موجة العنف عند انفجارها.. على الصعيد الاقتصادي، تعلم الطرفان – الاقتصاد الإسرائيلي وعمال المناطق – كيفية التعايش مع هذا التوقف القصير المتعمد عن العمل. فتحول إغلاق المناطق خلال الأعوام الثلاثة للانتفاضة إلى شكل ردة فعل، ولم يعد عامل استفزاز للمناطق." لكن إغلاق المناطق لفترة أسابيع أو أشهر واستخدامه لـ"معالجة جذرية" من أجل حل مشكلة الأمن داخل الخط الأخضر هما، في رأي هار – نوف، مسألة مملوءة بالصعوبات، و"ستخلق مشكلات في عمل أجهزة عدة في إسرائيل مثل قطاعات البناء والصناعة والتنظيفات وتأمين الخدمات في المستشفيات." ويضيف هار – نوف "أن للإغلاق الدائم انعكاسات ونتائج كثيرة تتجاوز الانتفاضة وتدخل في جذور النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. فهو سيزيد في التناقضات الجوهرية الموجودة في جذور النزاع، مثل التناقش بين الضرورة الأمنية للفصل بين سكان داخل الخط الأخضر وسكان المناطق... أي إعادة رسم الخط الأخضر – مما يتناقض بصورة كاملة مع وجهة النظر السياسية لحكومة إسرائيل الحالية، الرامية إلى إلغاء الخط الأخضر. علاوة على ذلك، فالفصل الإقليمي والجغرافي بين الشعبين هو اعتراف بفشل خيار المزج بينهما، وخصوصاً بين الأرضين. وهذا سيشكل دعوة للهيئة الدولية إلى العمل من أجل تغيير سياسي للوضع."
هذا هو، أيضاً، رأي اللواء شموئيل غورين منسق الأنشطة في المناطق. ففي رأيه أن إغلاق الخط الأخضر إغلاقاً دائماً ومستمراً يعني، سياسياً، استمرار بقاء الخط الأخضر. فقد ركّز غورين، في مقابلة أجرتها معه صحيفة "هآرتس"،[11] على المغزى الاقتصادي لقرار الإغلاق قائلاً: "إن المناطق مرتبطة اقتصادياً بإسرائيل. وقد نشأت هذه التبعية في أوضاع تاريخية معينة بسبب قرارات وتقصيرات، لكن هذا هو الواقع. هناك ارتباط معين للاقتصاد الإسرائيلي بالمناطق. نحن السلطات الحاكمة هناك، وعلينا واجب السهر على السكان بحيث يكون في إمكانهم العيش والاستمرار اقتصادياً. وهذا ليس واجباً قانونياً مفروضاً علينا، وإنما هو واجب خلقي." وعارض غورين بشدة إغلاق الخط الأخضر: "أنا أنطلق من افتراض أن دولة إسرائيل لن تعود إلى حدود 1967، إلى الخط الأخضر. أنا متأكد من أنه يجب ضرب كل من يستخدم العنف ويخرق القانون، لكن لا فائدة من معاقبة جميع السكان. وإذا فعلنا فلن نقدم جواباً على المشكلة الاقتصادية." وأضاف: "أنا مع تقليص عدد العاملين في إسرائيل، وعدم السماح لأصحاب السوابق الأمنية بالدخول." ويعترف غورين بأن مشكلة عمال المناطق تتطلب حلاً سياسياً، لكن: "يجب أن أكون واضحاً؛ فإذا كان متفقاً عليه أننا لن نعود إلى الخط الأخضر ولن نطردهم، فليكن معروفاً أيضاً أن من المستحيل وضعهم في معسكرات تجميع. يجب أن يُسمح لهم بدخول إسرائيل، لا من أجل العمل فقط وإنما للتجارة والزيارة والطبابة والالتقاء مع الإسرائيليين."
لقد ثبت خلال الأيام الأربعة لإغلاق الخط الأخضر، أن هذا الأمر لا يشكل عقوبة يدفع ثمنها سكان المناطق وحدهم وإنما أيضاً الاقتصاد الإسرائيلي. "فالذي بدا أول وهلة أنه عقوبة لعرب المناطق، اتضح خلال أيام فقط أنه عقوبة لا تقل قسوة على الاقتصاد الإسرائيلي. والدليل على ذلك مئات من أرباب العمل الذين يتوجهون اليوم إلى مكتب الاستخدام عاجزين عن جمع العمال الملائمين. وتبرز هذه الظاهرة بروزاً خطراً في قطاع البناء؛ فنصف عمال المناطق العاملين في البلد يشتغلون في البناء. وعدد كبير منهم يعمل حالياً في مشاريع ضخمة للبناء المعد للمهاجرين. والوضع مماثل في قطاع الأعمال الزراعية الموسمية، وفي أعمال التنظيف، ولا أمل في هذين المجالين بأن يحل عمال إسرائيليون محل العمال العرب."[12]
2- استصدار البطاقة الخضراء
البطاقة الخضراء بطاقة فرضت على سكان الضفة الغربية من أصحاب السوابق الأمنية، تحظر على حاملها اجتياز الخط الأخضر ودخول إسرائيل. والهدف منها مراقبة دخول العمال إلى إسرائيل، وكبح موجة العنف الأخيرة. ويأتي نظام البطاقة الخضراء ليضاف إلى جانب البطاقة الممغنطة التي سبق أن وزّعها الحكم العسكري قبل عام على عمال غزّة العاملين في إسرائيل. والبطاقة الممغنطة، على نقيض الخضراء، هي بمثابة شهادة حسن سلوك تجيز لحاملها دخول إسرائيل.
في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1990، ذكرت صحيفة "هآرتس"، استناداً إلى أوساط أمنية، أن عدد الذين وزعت البطاقة الخضراء عليهم بلغ 10 آلاف شخص. وفي 30 كانون الأول/ديسمبر 1990، ذكرت الصحيفة ذاتها أن العدد ارتفع إلى 12 ألفاً.
وعلى الرغم من ذلك، فالبطاقة الخضراء لا يمكن أن تكون الرد الناجع على أعمال العنف وانتقال الانتفاضة إلى داخل إسرائيل عن طريق عمال المناطق. فلقد أثبتت تحقيقات الشرطة أن جميع حوادث الطعن، بدءاً بحادثة البقعة، ومروراً بحادثة حافلة خط 66، إلى حادثة معمل حيفا، كانت أعمالاً فردية، قام بها أشخاص لا ينتمون إلى منظمات فلسطينية، وتصرفوا غالباً بدوافع شخصية.
في تقويم أوّلي للبطاقة الخضراء، جرى اجتماع للمسؤولين الأمنيين في 4 كانون الأول/ديسمبر 1990، أعرب فيه قائد المنطقة الجنوبية ماتان فيلنائي عن تخوفه من أن يؤدي توزيع البطاقات إلى زيادة التطرف؛ فهي "ستزيد في مفاقمة الوضع الاقتصادي في المناطق، وتشجع السكان العاطلين عن العمل بسبب حظر دخولهم إسرائيل على الانخراط في الأعمال التخريبية."[13]
3- التشدد في فرض العقوبات
شددت سلطات الاحتلال من عقوباتها إزاء مرتكبي حوادث الطعن داخل الخط الأخضر، وطبّقت عدداً منها، مثل تدمير منازل المتهمين، وفرض عقوبات جماعية على سكان القرى التي ينتمي هؤلاء إليها، كما قامت بعمليات اعتقال واسعة في صفوف الفلسطينيين، وأصدرت قرارات بطرد أربعة من نشيطي الانتفاضة. وارتفعت أصوات داخل الحكومة تطالب بتطبيق عقوبة الإعدام على المتهمين بجرائم خطرة. لكن رئيس الحكومة وضع حداً لهذه المطالبة، ورأى – في كلمة ألقاها أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست – "أن سياسة الطرد فعّالة أكثر."[14]
ومع ذلك، فلقد بدا أن الحكومة الإسرائيلية لا ترغب في إظهار تشدد مبالغ فيه إزاء سكان المناطق، كي لا تلفت أنظار الرأي العام الدولي إليها وتصرفه عما يجري في الخليج، الأمر الذي قد يسبب إحراجاً لواشنطن. فقد ذهب المعلق العسكري لصحيفة "هآرتس"، زئيف شيف، إلى "أن لأزمة الخليج تأثيرها غير المباشر في حجم الرد الإسرائيلي في المناطق. فالمنظمة ومؤيدوها ينتظرون أن تتخذ إسرائيل خطوات عنيفة من أجل اللجوء إلى مجلس الأمن وحمله على الاهتمام بموضوعات لا علاقة لها بالغزو العراقي للكويت؛ موضوعات ستربك واشنطن وشركاءها العرب في الائتلاف ضد العراق."[15]
4- تقليص عدد عمال المناطق العاملين في إسرائيل
في الأسبوع الأخير من تشرين الثاني/نوفمبر 1990، تقدّم وزير الاقتصاد والتخطيط دافيد ميغن أمام الحكومة بمشروع قانون يمنع استخدام العمال الفلسطينيين، غير المنتسبين إلى الاتحادات العمالية وغير الحاصلين على رخص عمل. كما ينص الاقتراح، في الوقت ذاته، على تقليص أذونات العمل المعطاة لعمال المناطق. وفي رأي الوزير ميغن أن من شأن هذا القانون أن يقلص عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل إلى 50 ألفاً.[16]
إن محاولة الوزير ميغن حل مشكلة اليد العاملة الفلسطينية بوضع حد لظاهرة العمل غير القانوني، قد توحي بأنها مبادرة في الاتجاه الصحيح. لكن إحالة الاقتراح على "لجنة وزارية مصغرة" لدراسته جعلت بعض الإسرائيليين يستنتج أن هذا هو نهايته. فمثل هذه اللجان، في رأي الصحافي ران كسليف، هو "مقبرة الاقتراحات". لذا تنبأ كسليف بفشل الاقتراح أو عرقلته، لأن أطرافاً فعّالة عديدة في الليكود ومن أصحاب النفوذ ورجال الأعمال، يجنون أموالاً طائلة من تشغيل عمال المناطق بصورة غير قانونية.[17]
وإذا كانت مبادرة الوزير ميغن ما زالت موضع أخذ ورد، فإن اتحاد المقاولين والمزارعين بدأ الإعداد لاستبدال نحو 43 ألف عامل من المناطق بعمال إسرائيليين عاطلين عن العمل، وبمهاجرين جدد: فقد اتخذت إدارة اتحاد المقاولين قراراً باستبدال 35 ألف عامل فلسطيني في قطاع البناء من مجموع 58 ألفاً بعمال إسرائيليين. كما قرر اتحاد المزارعين استبدال 8 آلاف عامل من المناطق، أي ما يشكل ثلثي العاملين في الأراضي الزراعية، بعمال إسرائيليين؟ وحذر الاتحاد من تشغيل عمال من المناطق بسبب تصاعد حدة الانتفاضة.[18]
من جهة أخرى، بدأ عدد من المقاولين في مجال البناء استخدام مهاجرين سوفيات لسد النقص في اليد العاملة الناجم عن قرار إغلاق الخط الأخضر. وعُلم أن المقاولين يعرضون على المهاجرين أجوراً أعلى من تلك التي كانت تدفع للفلسطينيين، وهذا ما تفعله شركات البناء أيضاً.[19]
لكن الظاهر أن عملية استبدال العمال الفلسطينيين بآخرين إسرائيليين أو مهاجرين سوفيات، ليست بالأمر السهل أو السريع. وربما هذا هو السبب الذي كان وراء قرار الحكومة الإسرائيلية في 7 كانون الثاني/يناير 1991، بجلب 10 آلاف عامل أجنبي للمساعدة في بناء مساكن لليهود السوفيات، أي ما يعادل تماماً عدد العمال من الضفة الذين بسبب حيازتهم البطاقة الخضراء حُظّر عليهم العمل داخل إسرائيل.
من ناحية أخرى، وعلى صعيد آخر، أخذت تظهر بدايات تغيير في السياسة الاقتصادية للاحتلال في المناطق. وقد برز ذلك في موافقة الإدارة المدنية مؤخراً على طلب رجال أعمال فلسطينيين من المناطق إقامة عشرات المعامل الجديدة ومنح رخص للمعامل القديمة التي أُقيمت من دون ترخيص، وذلك في إطار سياسة جديدة تهدف إلى تطوير بنية اقتصادية مستقلة للمناطق، عكس السياسة القديمة التي خنقت المبادرات المستقلة وأوجدت حالة تبعية اقتصادية. وفي السياق ذاته، وافقت الإدارة المدنية على توظيفات للمنظمات الدولية في المناطق، تقدّر هذه السنة باثني عشر مليون دولار.[20]
إن كل هذه المعالجات الرسمية للمشكلة لم ينجح في إخفاء طابع المشكلة السياسي. وفعلاً، فقد أثارت "حرب السكاكين" ومشكلة اليد العاملة الفلسطينية في إسرائيل جدلاً كبيراً في الأوساط الحزبية أعاد طرح مسألة المستقبل السياسي للمناطق والحلول الممكنة والمطروحة لها.
هل في إمكان إسرائيل الانفصال عن المناطق؟
هذا هو السؤال الذي طرحته الأوساط الحزبية والحاكمة في إسرائيل على نفسها. فالكل مدرك أن مشكلة عمال المناطق العاملين داخل الخط الأخضر هي مشكلة ذات بُعد سياسي بالدرجة الأولى، وأن حلها لا يمكن أن يكون باتخاذ إجراءات أمنية وإدارية، وإنما يفترض طرحاً سياسياً لمستقبل هذه المناطق.
في خضم هذا الجدل، برزت ثلاث وجهات نظر أساسية: الأولى تطالب بإغلاق الخط الأخضر إغلاقاً كاملاً، وفصل المناطق عن إسرائيل. ومؤيدو هذه الفكرة هم، للمفارقة من أتباع اليسار الإسرائيلي مثل حركة شينوي وراتس، وأحزاب اليمين القومي المتطرف مثل حركة تحيا وموليدت. أما وجهة النظر الثانية، فترى أن على إسرائيل الاحتفاط بالمناطق، سواء التزاماً منها بمواقف أيديولوجية – وهذا هو رأي زعماء الليكود عامة – أو لضرورات أمنية – وهذا ما يؤيده تيار المحافظين في حزب العمل أمثال يتسحاق رابين وحاييم بار – ليف. أما وجهة النظرة الثالثة، والتي يتبناها حمائم حزب العمل أمثال ابراهام بورغ وتيارات واسعة داخل الصحافة الإسرائيلية، فهي التي تقول بالانفصال المتدرج عن المناطق والذي يمكن أن يبدأ في المجال الاقتصادي ليصل إلى المجال السياسي.
هناك صيعتان للانفصال عن المناطق: الصيغة اليسارية، وصيغة أتباع اليمين.
يقول عضو الكنيست أمنون روبنشتاين (شينوي)، المؤيد للفكرة، إن فكرة الفصل بين الشعبين وإغلاق الخط الأخضر تحمل معنيين مختلفين: فهي بالنسبة إلى أنصار اليمين القومي، تعني "أن ليس لسكان المناطق أية حقوق، وليس لنا تجاههم أية واجبات، فعلى الفلسطيني القبول بموقعه الأدنى... بوصفه واقعاً تحت الاحتلال ومعرضاً للضرر"؛ وهي تحمل معنى آخر مختلفاً. "فهي مقترنة بشرطين: الشرط الأول أن يترافق الفصل والإغلاق بترتيبات تقلص إلحاق الأذى البشري والاقتصادي بالسكان الفلسطينيين؛ والشرط الثاني أن يكون الفصل موقتاً أو مدخلاً للفصل السياسي القادم في المستقبل... ومن شأن هذا الشرط أن يدفع عملية السلام والتسوية."[21] ويشدد روبنشتاين على ضرورة "الاعتراف بفشل فكرة إسرائيل الكاملة"، وأن الفصل يجب أن يتضمن ثلاثة عناصر: "أ – تشجيع إقامة اقتصاد مستقل ومنفرد في المناطق؛ ب – تقليص كبير لعدد الذين يسمح لهم بالتحرك الحر في إسرائيل أو بالبقاء فيها؛ ج – البدء بمفاوضات سياسية، على الرغم من تشاؤمي إزاء إمكان التعايش."[22]
أما بالنسبة إلى اليمين المتطرف، فإغلاق المناطق هو تحويلها إلى غيتوات، والقضاء على آمال الفلسطينيين بكيان مستقل وتخليهم عن مطالبهم الإقليمية، ووضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما القبول بالاحتلال، وإما الترحيل. تقول غيئولا كوهين (تحيا): "إن الانتفاضة ذات طابع شعبي، والسبيل الطبيعي لمواجهتها ولمواجهة هدفها هو المزيد من الطرد وعدد أقل من القتلى. يجب أن نقلّل من قتلهم. علينا أن نقتل الأمل فيهم. وقتل هذا الأمل يكون بإقامة المزيد من المستعمرات." وتضيف كوهين: "أنا مع الطرد بقوة القانون. سواء بضع عشرات من زعماء الانتفاضة، أو مئات، أو قرية معادية، أو قريتان هما مصدر العمليات والاعتداءات... يجب إغلاق غزة ويهودا والسامرة، ومنع السكان من الخروج عن حدود الحكم العسكري... لا يجدر بي أن أطعم اليد التي تحمل سكيناً. فليعطهم العالم مالاً بمراقبة إسرائيل. أنا مع عقوبة الإعدام."[23]
وهذا هو أيضاً رأي زعيم حركة موليدت، رحبعام زئيفي، وهو من كبار أنصار فكرة الترانسفير. فهو يقول: "في كل مكان في العالم يفرقون بين شعبين: في إيرلندا، ولبنان، وألمانيا، وبلغاريا. لقد تم نقل 124 مليون شخص من بلد إلى بلد في أنحاء العالم من أجل السلام. ونحن أقدمنا على الترانسفير في يميت وأوفيرا وسدوت."[24]
أما الليكود فهو يعارض الانفصال عن المناطق وإغلاق الخط الأخضر، لأن هذا معناه التخلي عن فكرة "أرض إسرائيل الكاملة"، وتهافت الأيديولوجيا التي قامت حركة حيروت عليها. يقول بني بيغن (الليكود): "إن إغلاق الخط الأخضر خطوة غير عملية وغير ملائمة... إن الفائدة من إغلاق الخط الأخضر تعادل الفكرة الفاشلة لحزب العمل في إجراء انتخابات سنة 1988، التي اقترح خلالها وضع سور إلكتروني بين قلقيلية وكفار سابا. إن الذين يقترحون حلاً كهذا سيتسببون، في نهاية الأمر، بانفصال دولة إسرائيل عن أراضي الوطن في يهودا والسامرة وقطاع غزة."[25]
أما حزب المفدال، فهو يعارض أيضاً الانفصال عن المناطق. ففي رأي عضو الكنيست يتسحاق ليفي أن القيود الكبيرة المفروضة على دخول العرب إلى إسرائيل هي "إحياء للخط الأخضر، وإقامة دولة أمر واقع فلسطينية. أنا مع الإغلاق كعقوبة موقتة لا كنهج. يجب التضييق على الدخول، والحرص على عدم مبيت العرب داخل إسرائيل، وتقصير يوم العمل."[26]
يختلف موقف يتسحاق رابين عن المواقف المذكورة هنا في معارضته الانفصال عن المناطق. ففي رأيه أن "لا حياة لسكان المناطق من دون العمل في إسرائيل"، وأنه "يمكننا أن نحوّل كل المناطق إلى سجون كبيرة، وليحدث ما يحدث. لكننا نكون بذلك قد ألحقنا ضرراً بالأساس القانوني والخلقي للصلاحيات التي تعطينا حق السيطرة. فالسيطرة على المناطق هي سيطرة على أشخاص، وهي مسؤولية تجاه مصيرهم. من هنا، يجب عدم القبول بفكرة إغلاق المناطق."[27] ويقدم رابين، في دفاعه عن موقفه، حججاً خلقية وقانونية، ويحجم عن عرض الدافع الحقيقي لهذا الموقف – وهو دافع أمني. ففكرة الاحتفاظ بالمناطق كضرورة أمنية لإسرائيل هي التي كانت في أساس سياسة حزب العمل في الأعوام التي تلت الاحتلال، والتي ما زال رابين من المتمسكين بها.
إلى جانب هذا الموقف المحافظ في حزب العمل، هناك وجهات نظر تؤيد الانسحاب من قطاع غزة. وهذا يشكل أساس المشروع الذي يرفعه يوسي بيلين، ويؤيده حاييم بار – ليف. ففي رأي الأخير ليس لغزة "أهمية استراتيجية"، ومن الممكن الانسحاب منها خلال عامين. لكنه، في المقابل، لا يوافق على التخلي عن الضفة للأسباب التالية: "أ – للضفة أهمية أمنية، فهي تحد الجبهة الشرقية؛ ب – يعيش في الضفة الآلاف من الإسرائيليين، وخروجنا من هناك يعتبر تخلياً عنهم؛ ج – غنى العلاقات بين الضفة وإسرائيل."[28]
أما أبراهام بورغ، وهو من حمائم حزب العمل، فيرى أن التعايش بين الشعبين اليهودي والعربي قد "مات"، وأن الشعبين يريدان "الانفصال". لكنه، من جهة أخرى، يعتقد أن هذا الانفصال يجب أن يتم بالتدريج، وأن يكون على أنواع: "أ – العمالة، فكما أن العامل من البرتغال غير قادر على العمل من دون رخصة، كذلك يجب أن يكون الأمر بالنسبة إلى العامل من المناطق؛ ب – انفصال اقتصادي؛ ج – انفصال إداري؛ د – انفصال عسكري – سياسي."[29]
الموقف العام للجمهور في إسرائيل
استناداً إلى تقارير الشرطة الإسرائيلية، فإن "حرب السكاكين" أثارت موجة ذعر وعدم اطمئنان في أوساط الناس عامة. واعترف الكثيرون من الإسرائيليين بأنهم باتوا لا يعرفون ما إذا كان الشخص الذي يسير وراءهم على الرصيف نفسه، أو ذلك الذي يجلس إلى جانبهم في الحافلة، عاملاً عربياً قد ينقض عليهم فجأة شاهراً سكينه وصارخاً "الله أكبر". وهكذا، ومن المرات القلائل ساد الشعور بعدم الأمن والاطمئنان بين سكان مدن إسرائيل الذين باتوا هم، أيضاً، هدفاً للاعتداءات. يقول شيف: "اليوم من غير الضروري أن تسكن في مستعمرة على طول الحدود اللبنانية أو في ألفي منشية أو في أريئيل في المناطق، وحتى ليس بالقرب من حدود السلام مع مصر، كي تتحول إلى معطى إحصائي في قائمة المصابين المتزايدة في النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. فيمكن أن تطعن حتى الموت في حي البقعة في القدس، أو في تسومت ألونيم شمال البلد، أو في ورشة في إشكلون، أو خلال سفر في الحافلة على طريق رئيسي وسط غوش دان.... هذه الظواهر ستتفاقم كلما تعمق النزاع بين الشعبين."[30]
وأبرز دليل على عمق النزاع بين الشعبين اليهودي والفلسطيني، وفشل صيغة التعايش بينهما، هو موجات الانتقام الشرسة التي يقوم الجمهور الإسرائيلي الغاضب بها ضد الفلسطيني في كل مرة يقع فيها هجوم ويذهب ضحيته غالباً عمال فلسطينيون أبرياء. وهذا الأمر دفع الصحافي أ. فولص إلى التساؤل عما إذا كانت "حرب السكاكين" تعني أن الانتفاضة دخلت مرحلة جديدة، انتقلت خلالها من ثورة على سلطات الاحتلال إلى "حرب الشعب الفلسطيني ضد الشعب اليهودي؟" ويخلص فولص إلى القول: "إن أرض – إسرائيل مقسمة، والقدس بالذات هي النموذج على ذلك. فعرب الضفة والقطاع يؤكدون يومياً، من جديد، عدم رغبتهم في أن يكونوا محكومين من اليهود، وأولئك في أغلبيتهم الساحقة لا يؤمنون بإمكان التعايش بين الشعبين.... وحتى لو تغيرت الأوضاع، وحتى لو نجح الجيش الأميركي في تفكيك الآلة الحربية للطاغية العراقي، وتم اقتلاع حجر الزاوية من التحالف العسكري العربي الشامل المضاد لنا، فإننا لن نستطيع مواصلة السيطرة على مليون ونصف المليون فلسطيني يتطلعون إلى حق تقرير المصير."[31]
إن الشعور العام لدى المواطن الإسرائيلي هو ضرورة وقف الاحتكاك بين الشعبين والفصل بينهما، ووقف تسلل الانتفاضة عبر الخط الأخضر إلى داخل إسرائيل.
حرب الخليج تهدّد بوقف عمل الفلسطينيين في إسرائيل
مع بدء المعارك في الخليج، فرضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي حظر تجول عاماً وشاملاً في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما اضطر أكثر من مليون ونصف المليون من الفلسطينيين إلى ملازمة منازلهم أياماً وأسابيع متتالية.
ومع استمرار الحرب وحالة منع التجول توقف الآلاف من العمال الفلسطينيين عن الذهاب إلى أعمالهم، الأمر الذي أدى إلى ضائقة اقتصادية بين سكان المناطق المحتلة، وحالة من الشلل في عدد من القطاعات الإسرائيلية، وفي طليعتها قطاعا البناء والزراعة. فقد عانى قطاع البناء معاناة خاصة من جراء نقص حاد في اليد العاملة يمكن أن يهدد، مستقبلاً، مخططات وزارة الإسكان لبناء منازل جديدة للمهاجرين السوفيات، ويعرقل بالتالي كل خطط الاستيعاب التي تعمل الحكومة الإسرائيلية على تنفيذها. ولم تنجح محاولات المقاولين استبدال العمال الفلسطينيين بمهاجرين جدد؛ فقد تبين أن عدد المهاجرين الجدد الذين التحقوا بقطاع البناء لم يتجاوز 5 آلاف شخص، في حين تشير التقديرات إلى أن النقص في هذا القطاع يبلغ حالياً 30 ألفاً.[32] وهذا كله دفع الأجهزة الأمنية إلى البحث في السبل الكفيلة بإيجاد مخرج لهذه المشكلة. ففي رأي هذه الأجهزة، من الصعب لا بل من المستحيل إبقاء مليون ونصف المليون من الفلسطينيين في ظل الحظر الشامل للتجول من دون عمل، ومن دون إمكان التنقل خارجاً، هذا إضافة إلى حاجة القطاعات الإسرائيلية إلى اليد العاملة الفلسطينية.
وهكذا، ولأول مرة منذ حرب الخليج، اتخذت السلطات الإسرائيلية في 10 شباط/ فبراير 1991* قراراً بالسماح لنحو ستة آلاف فلسطيني بمعاودة العمل داخل إسرائيل. لكنها حذرتهم من أنهم سيدفعون ثمن أية اضطرابات تقع في قراهم ومدنهم. وأوضح نائب منسق وزارة الدفاع لشؤون الأراضي المحتلة، أن عودة العمال ستقتصر على العمال المسجلين في النقابات والحاصلين على أذونات عمل. وتجدر الإشارة، بناء على تقديرات وزارة الدفاع، إلى أن عدد العمال المسجلين يبلغ نحو 30 ألفاً من مجموع 120 ألف عامل فلسطيني غير مسجل.
في اليوم الأول لمعاودة العمل داخل إسرائيل، كانت استجابة العمال الفلسطينيين ضئيلة؛ فلم يأت سوى 1000 عامل من قطاع غزة و500 من الضفة الغربية. ويدرك العمال الفلسطينيون العاملون في إسرائيل اليوم أنهم لا يعملون في مناخ من العداء والحذر السابقين فحسب، وإنما أيضاً في أجواء من الخوف والرعب اللذين زرعتهما الصواريخ العراقية في نفوس الإسرائيليين، الأمر الذي يجعل وضع هؤلاء العمال محفوفاً بالمخاطر على المستويات كافة.
12/2/1991
* لمزيد من المعلومات في هذا الشأن، يمكن العودة إلى مقالة سمير جبور: "الانتفاضة والاقتصاد الإسرائيلي"، وإلى ما كتبه خالد أبو هديب تحت عنوان "فك الارتباط عن سلطات الاحتلال"، وذلك في "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 1، شتاء 1990.
[1] شلومو غازيت، "العصا والجزرة: الحكم اليهودي في يهودا والسامرة" (تل أبيب: زمورا بيتان، 1985)، ص 243.
[2] رجا شحاده، "قانون المحتل: إسرائيل والضفة والغربية" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1990)، ص 228.
[3] شلومو غازيت، مصدر سبق ذكره، ص 251.
[4] المصدر نفسه، ص 254.
[5] "دافار"، 26/10/1990.
[6] المصدر نفسه.
[7] شوشانا آربيلي – ألموزيلينو، "عمل عرب المناطق في إسرائيل، وصمة سوداء"، "دافار" 27/11/1990.
[8] يهوديت فينكلر، "هآرتس"، 28/10/1990.
[9] "دافار"، 24/10/1990.
[10] المصدر نفسه، 2/11/1990.
[11] "هآرتس"، 6/11/1990.
[12] داني روبنشتاين، "إغلاق المناطق: الضرر على إسرائيل مباشر وعلى العرب ضئيل"، "هآرتس"، 26/10/1990.
[13] "هآرتس"، 5/12/1990.
[14] المصدر نفسه، 18/12/1990.
[15] زئيف شيف، "لكل عقوبة ثمن"، "هآرتس"، 7/12/1990.
[16] "هآرتس"، 22/11/1990.
[17] المصدر نفسه.
[18] المصدر نفسه، 25/11/1990.
[19] المصدر نفسه، 28/10/1990.
[20] المصدر نفسه، 23/11/1990.
[21] المصدر نفسه، 28/10/1990.
[22] "دافار"، 21/12/1990.
[23] المصدر نفسه.
[24] "هآرتس"، 2/12/1990.
[25] "دافار"، 21/12/1990.
[26] المصدر نفسه.
[27] "هآرتس"، 3/12/1990.
[28] "دافار"، 2/11/1990.
[29] المصدر نفسه.
[30] "هآرتس"، 4/12/1990.
[31] المصدر نفسه، 26/10/1990.
[32] المصدر نفسه، 21/1/1991.
* نقلاً عن: "النهار"، 11/2/1991.