أزمة الخليج والمأزق الأمني العربي
ملف خاص: 
كلمات مفتاحية: 
الأمن الإقليمي
الأمن القومي العربي
الاجتياح العراقي للكويت
أزمة الخليج
نبذة مختصرة: 

يتناول المقال المأزق الأمني العربي الناجم عن أزمة الخليج (احتلال العراق للكويت) ويرى أن هذه الأزمة فتحت الباب أمام عدة حسابات فات موعد استحقاقها للعرب وشعوب الشرق الأوسط، أهمها أربعة: حساب تاريخي مع الغرب؛ وحساب اجتماعي واقتصادي؛ وحساب سياسي؛ وحساب ثقافي.ويستعرض المقال احتمالات متباينة بشأن مستقبل الأمن في دول الخليج: ترتيبات غربية، أو شرق أوسطية، أو إيرانية. ويرى أن نجاح أي من الاحتمالات رهن بكيفية حل الأزمة الراهنة، ويقدم اقتراحات لتحقيق الأمن في الخليج، وفي الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تقديم ضمانات أمنية دولية.

النص الكامل: 

سبّب الاجتياح العراقي للكويت، في 2 آب/أغسطس 1990، صدمة عميقة رددت أرجاء العالم الأربع أصداءها فوراً. وتدل التأثيرات المتلاحقة لهذا الحدث على عمق الترابط في عالمنا الحاضر. لكنها تدل، أيضاً، على سذاجة الطروحات القائلة بـ"نهاية التاريخ" ومدى ابتسارها للزمن. فعندما كتب فوكوياما مقالته الشهيرة، كان الذي انتهى هو لربما فصل واحد فقط في النزاع بين الشرق والغرب، وكلاهما من دول الشمال الصناعي. أما ما افترضه فوكومايو وصحبه من أن الأمر يتعلق بالعالم بأسره، وبالتالي أنه ليس ثمة من متنازعين، فليس إلاّ مثال آخر لقصر النظر الذي يتخذ العالم الشمالي مركزاً له. ومن دون التركيز على هذه النقطة بالذات، فإن "النظام العالمي الجديد" لن يسير قدماً إلاّ إذا كان فعلاً عالمياً في اهتماماته ومبادئه ومصالحه المتبادلة. أما الكفاح من أجل "الأمن"، فيجب أن يواكبه كفاح مماثل من أجل "العدالة" للجميع؛ وإلاّ فإن الشرق الأوسط ومناطق الجنوب ستشهد المزيد من أمثال صدام حسين، أي من الذين يفسدون خطط مناطق الشمال. 

الحسابات الشرعية والمحاسب المخطىء

قبل الشروع في الموضوع، وهو مأزق الأمن العربي، لا بد من معالجة بعض النقاط المتصلة به.

أولاً، لم يكن العالم لينزعج بمثل هذه السرعة، ولا ليحشد قواه ضد الاجتياح العراقي للكويت، لولا النفط، وذلك على الرغم من المبادىء الشرعية الدولية كافة. فقد اجتاحت إسرائيل أراضي ثلاث دول عربية سنة 1967، كما اجتاحت لبنان سنة 1982، لكن ردة الفعل في الغرب كانت صامتة، إنْ لم تكن مشجعة لإسرائيل في السر، وذلك لعدم وجود أي خطر مباشر على إمدادات النفط.

ثانياً: إن اجتياح الكويت قد فتح، وبصورة درامية، عدة حسابات فات موعد استحقاقها بالنسبة إلى العرب وشعوب الشرق الأوسط وبينها حسابات رئيسية أربعة:

1-  حساب تاريخي مع الغرب: نشير هنا، وبالتحديد، إلى الآثار المتفاعلة لمعاهدة سايكس – بيكو، ووعد بلفور سنة 1917. إن النتيجتين المتقيّحتين لهاتين الموروثتين عن الغرب كانتا: بلقنة العالم العربي، واغتصاب فلسطين. إن الانهيارات على المستوى السكاني والجغرافي قد أدت إلى بؤس إنساني لا يوصف، وإلى نقصان بنيوي واختلالات في التوازن الجغرافي السياسي. إن تسديد هذا الحساب يستدعي حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية، وترتيبات تهدف إلى إعادة اللحمة إلى الصفوف العربية، وإنْ لم تؤد إلى وحدة تامة. فإذا كان في وسع الغرب طوعاً، أو بتردد، أن يساند حل المسألة الألمانية، فليس ثمة من سبب وجيه لعدم القيام بالشيء ذاته فيما يختص بالنزاعات المتواصلة والطموحات القديمة الأجل في العالم العربي.

2- الحساب الاجتماعي والاقتصادي: بسبب التفاوت الذي فُرض من الخارج بين الجغرافيا والسكان، فإن العرب الذين حملتهم العوامل الاجتماعية والسياسية على الإيمان بأنهم جزء من "أمة واحدة"، يجدون أنفسهم يعيشون في "دول" متعددة. وبعض هذه الدول يحظى بأعلى معدلات الدخل للأفراد في العالم سنوياً (15,000 دولار في دولة الإمارات)، أما البعض الآخر فهو يرزح تحت أدنى المعدلات (500 دولار تقريباً في الصومال). وهذا التفاوت الفاضح في الدخل ليس نتيجة القدرة الإنتاجية لدى البشر، بل إنه ليس إلاّ مفارقة جيولوجية. وعلى الوجه الأعم، فقد صودف أن في الدول الأغنى عدداً قليلاً من السكان، وفي الدول الأفقر العدد الأكبر من السكان. وهذا التفاوت في البنية بين دول تنتمي إسمياً إلى أمة واحدة، ما كان له أن يستمر على مر الزمن لولا الضغوط الغربية الخارجية. وهذا حساب يجب تسديده بصورة أكثر عدالة.

3- حساب سياسي: شاءت سخرية الأقدار أن تكون الأنظمة، المتصارعة مباشرة في أزمة الخليج، كلها استبدادية. فالعراق نظام استبدادي حديث، مزود بآلة عسكرية حديثة ذات فعالية نسبية ونظام داخلي يقوم على القمع. أما دول الخليج الأخرى، فهي تمثل درجات متفاوتة من الاستبداد التقليدي المبني على العشائرية. وأما سخرية السخريات، فهي أن النظام الوحيد الذي يتمتع بما يشبه الديمقراطية في الخليج هو نظام الكويت، وهو الضحية الأولى للأزمة الحالية. فقد بقيت جميع الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي في قيد الحياة، وذلك بفضل حُماتها الخارجيين في الحرب الباردة إما جزئياً وإما كليّاً. أما التحالفات الاجتماعية الاقتصادية الجديدة، والتي بذلت جهوداً متصاعدة للوصول إلى الديمقراطية في هذه الدول، فقد خابت آمالها المرة تلو الأخرى. وهذا الحساب يطالب بالتسديد وبصوت مرتفع في العالم العربي، كما في العالم الثالث إجمالاً.

4- حساب ثقافي: يبدو أن الغرب يميل، على الرغم من أصالته العلمانية، إلى النظر إلى العرب بمنظار ديني – استشراقي. وعلى الرغم من أن الإسلام يمثل جزءاً رئيسياً في الثقافة والهوية لدى العرب، فإن اختزال الطموحات المشروعة عند العرب نحو الاستقلال والديمقراطية والوحدة والتطور والأصالة الثقافية، والتعامل معها كأنها نتاج حماسة دينية، يتضمنان تبسيطاً شديداً ومغلوطاً فيه. ووسائل الإعلام الغربية، التي تصل الآن وبسهولة إلى العالم العربي، مملوءة بالعبارات التي تحمل مغزى معيناً وبالإثارة الرخيصة. ولا تُبذَل أيةُ محاولة جدية، وبنيّةٍ خالصة، للفصل بين الموضوعات المتعددة التي تتضمنها عمليات التطور التي يمر العرب بها. ولا مراء في أن بعض حكّامنا المستبدين مسؤولون، وبالقدر ذاته، عن هذا التخبط، وخصوصاً في الأزمنة التي يشعرون فيها بالعزلة الداخلية أو الخارجية. وعندئذ يُصار إلى اللجوء وبكل سهولة إلى تشبيهات من أيام الصليبيين، وإلى ترديد أصداء صيحات الجهاد وذلك خدمة لمصالحهم. وهناك دائماً عرب مسلمون يتجاوبون مع هذه الصيحات. من هنا، فإن النظرات السائدة إلى "العرب" من قبل الغرب، يجري التلاعب بها مجدداً من جانب حكّام مستبدّين من أجل الحشد السياسي في أزمنة تلائم هؤلاء الحكّام. وهذا الارتباك الثقافي يجب أن يُحل؛ فهو حساب آخر يجب أن يُسدّد.

وجاء اجتياح صدام حسين للكويت، وما تبعه من ردة فعل غربية تجلّت في  إرسال الأساطيل والجيوش بسرعة إلى الخليج، ليعيدا فتح هذه الحسابات الأربعة كلها. إن السبب الأكبر للشرخ العميق في الصف العربي حيال هذه الأزمة، يكمن في أن العرب كلهم تقريباً يعترفون بشرعية هذه الحسابات الأربعة، لكن ذلك يواكبه غموض في الرأي بشأن "المحاسب الأصلح" لتسويتها. فقد أبدى صدام حسين براعة كبيرة في توسيع رقعة هذا الغموض وتعقيده. وهذا الشرخ العربي لا مثيل له في التاريخ العربي الحديث؛ فهو يتعدى الخلافات بين الأنظمة العربية ليصل إلى الشعوب العربية، بل إلى الأفراد. أما تردد الولايات المتحدة، على الأخص، في الاعتراف بشرعية هذه الحسابات الأربعة والترابط فيما بينها، فهو يخدم مصالح صدام حسين. وأما عملية المساومة التي جرت في شأن إصدار مجرد قرار بسيط في مجلس الأمن، بعد أن قتلت السلطات الإسرائيلية بوحشية عشرين فلسطينياً، فليست إلا المثال الأخير لما نرمي إليه؛ فهذا الأمر يعزز الاتهام الموجه إلى الغرب بأنه منافق، وذو مقاييس خلقية مزدوجة، ولا يؤمن بالقيم المطلقة. وحتى بعد صدور قرارات عن الأمم المتحدة، من دون استخدام حق "الفيتو"، فالغرب لم يحرّك ساكناً لوضع هذه القرارات موضع التنفيذ. وفي رأي الكثيرين من العرب، فإن هذه السياسة الغربية لا يمكن تفسيرها إلا بأنها تنبع من تحيز ثقافي عنصري، أو بأن النفط ليس معرضاً للخطر، أو بالأمرين معاً. 

حدود الأمن بين الدول العربية

من المُسلّم به أن الوصول إلى الأمن القومي المطلق، من جانب بلد ما، يهدد إلى حد ما أمن جيرانه. من هنا، فإن التعريف العملاني للأمن القومي يبقى دائماً تعريفاً نسبياً. وهذا الأمر ينطبق على الدول العربية فيما بينها، كما على الدول العربية وجيرانها من غير العرب (كإسرائيل وإيران وتركيا). لكن، ومنذ قيام النظام الإقليمي العربي رسمياً في سنة 1945 (أي تأسيس جامعة الدول العربية) تصرفت الدول العربية، في معظمها، كأنها ليست موضع تهديد من جانب جيرانها من العرب. فالضوابط الخلقية القومية هي التي جعلت مثل هذا الأمر بعيد الاحتمال، لا ميثاق الأمم المتحدة أو ميثاق جامعة الدول العربية. لذا، فإن الاجتياح كان أمراً لا يمكن التفكير  فيه. وقد كانت تجري حوادث فردية على الحدود بين الحين والآخر، لكنها لم تصل قط إلى حد الاجتياح الكامل، أو الاحتلال الدائم، أو الضم الرسمي أو الفعلي. فقد مورست هذه الضوابط الخلقية بحيث أضحت بمثابة النواهي الدينية.

وهذه الضوابط الخلقية هي التي سمحت لدول عربية صغيرة وضعيفة بأن تتعايش، بل تزدهر جنباً إلى جنب مع دول عربية أكبر وأقوى منها كثيراً، وذلك على امتداد الفترة ما بين سنة 1945 وسنة 1990. وهذه الاستمرارية في التعايش السلمي على امتداد نصف قرن تقريباً، هي التي جعلت من اجتياح العراق للكويت وما تبعه من إعلان الضم في آب/أغسطس 1990 صدمة كبيرة. فهذا الاجتياح هو بمثابة تدمير للأسس الشرعية والخلقية للنظام الإقليمي العربي.

ومن المشكوك فيه أن هذا النظام سيعود يوماً إلى ما كان عليه في 1 آب/أغسطس 1990. وإذا كان لمثل هذا النظام أن يوجد على الإطلاق، فيجب إعادة تشكيله بالكامل. وبكلام آخر، لا بد من قيام نظام عربي جديد من أنقاض أزمة الخليج. وفي هذا الوقت بالذات (تشرين الثاني/نوفمبر 1990) لا يمكن لأي كان أن يتكهن بما سيكون عليه مثل ذاك النظام، ولا بما قد يواكبه من أنظمة سياسية وأمنية.

وفي الوقت الحاضر، يجري تداول أربعة احتمالات متباينة في شأن مستقبل الأمن في دول الخليج. وهذه الاحتمالات هي، بالتتابع، ترتيبات غربية، أو شرق أوسطية، أو عربية، أو إيرانية. وهي كلها تفترض أن الخليج أهم من أن يُترك لوسائله الخاصة وإمكاناته العسكرية المحدودة، بالنظر إلى إمدادات النفط التي سيوفرها للعالم بأسره في العقود المقبلة من الزمن.

أما احتمال الترتيب الأمني الذي يرعاه الغرب، فقد جاء على لسان الرئيس الأميركي بوش في الأسابيع الأولى من أزمة الخليج، وعلى لسان وزير الخارجية بيكر، وغيرهما من المسؤولين الأميركيين. ويشمل هذا الترتيب، فيما يشمل، ضم منطقة الخليج إلى نظام أمن حلف الأطلسي. وستقوم الولايات المتحدة، وبوضوح، بالدور الرئيسي في هذا الترتيب؛ وهو يتضمن وجوداً عسكرياً أميركياً دائماً في الخليج، لكن على نطاق أضيق مما هو عليه الآن. وجاءت ردّات الفعل الفاترة من الاتحاد السوفياتي والصين والدول العربية المعتدلة، وردّات الفعل المعادية من دوائر لها صوت مسموع في الرأي العام العربي، فوضعت هذا الترتيب على الرف موقتاً. لكن هذا الترتيب لم يزل بعيداً جداً عن نهايته.

أما الترتيب الثاني، وهو ترتيب شرق أوسطي أوروبي، فيجري النظر إليه على نطاق أوسع من نطاق دول الخليج مباشرة، كي يشمل دولاً عربية أخرى ودولاً غير عربية، وخصوصاً إيران وتركيا، ويواكبه دعم أوروبي صامت. وفي المستقبل، قد تنضم إسرائيل نفسها إلى مثل هذا النظام الأمني، كوسيلة ضغط ووسيلة ترغيب معاً لحل القضية الفلسطينية من خلال مؤتمر دولي مضى زمن طويل على استحقاقه، ويساهم فيه الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن. وقد عرضت عدة دول أوروبية مثل هذا الترتيب، كما أشارت إليه الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، بصورة خفية، في قمة هلسنكي. ومثل هذا الترتيب يشابه المؤتمر الأوروبي للتعاون والأمن. وعلى الرغم من الخلافات في الصف العربي حيال أزمة الخليج، فإن العرب في معظمهم لا يحبذون علناً اشتراك فعاليات غير عربية في نظام إقليمي أمني رسمي. لكن اعتراضهم على مثل هذا الترتيب قد يتضاءل إذا تم حل القضية الفلسطينية، وإذا ساندته القوتان العظميان، و/أو الأمم المتحدة. أما دول المجموعة الأوروبية، فستدعم دول المنطقة اقتصادياً في مثل هذا الترتيب.

أما الترتيب الأمني الثالث، فهو ترتيب يبقى محصوراً بالعرب، لكن مع وجود ضمانات أكثر فعالية ومصداقية من شأنها أن تنال ثقة دول الخليج العربية، كما دول الشمال الصناعي. ومن المرجّح أن ينال هذا الترتيب رضا العرب أجمعين. وتقوم مصر والسعودية بالدور الأهم في مثل هذا الترتيب، لكن نجاحه يعتمد على مجموعة من الشروط على المستويات المحلية والعربية عامة، والإقليمية والدولية، ولا جدال في أن هذه الشروط هي أيضاً الشروط الواردة في الترتيبين السابقين.

أما الترتيب الرابع، فهو الترتيب الإيراني. وقد طرحه الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني في خطبة الجمعة، يوم 12 أيلول/سبتمبر 1990. وهذا الترتيب يدعو إلى قيام نظام أمن إسلامي في الخليج، تقوم إيران فيه بالدور الرئيسي. وهو يشتمل على معاهدة عدم اعتداء بين الدول الإسلامية في الخليج والشرق الأوسط، وعلى محكمة إسلامية للعدل، وإعلان المنطقة خالية من الجيوش الأجنبية وأسلحة الدمار الشامل. وحتى الآن، فإن سوريا وحدها هي التي عبّرت عن التعاطف العلني مع هذا الترتيب الإيراني.

القبول في النهاية أو الفرض بالقوة

إن نجاح أي من الترتيبات الواردة أعلاه يعتمد، إلى حد كبير، على كيفية الوصول إلى حل الأزمة الراهنة في الخليج. فإذا تم حلها عسكرياً، فإن ترتيب حلف الأطلسي الذي تسانده الولايات المتحدة يصبح أقرب احتمالاً، مهما يكن اسمه. أما إذا تم تسوية الأزمة سلمياً، وهذا يعني أن تتفادى القوة العسكرية العراقية الدمار الشامل، فإن الترتيب العربي الشامل و/أو الشرق الأوسطي –  الأوروبي يصبح عندها أقرب احتمالاً. ومن الممكن أيضاً قيام ترتيب يشمل عناصر منتقاة من هذه الترتيبات كافة.

لكن القبول بأي ترتيب أمني، أو فرضه بالقوة، لا يضمن نجاحه في المدى المتوسط. فما دامت دول الخليج الغنية بالنفط والفقيرة بالسكان تعيش على مسافة قصيرة من بلد متوسط القوة، كالعراق وإيران، فستبقى المنطقة غير مستقرة في البنية. وفي المدى البعيد، يجب التصدي لبعض الاختلالات البنيوية، بما فيها الحسابات الأربعة التي يجب تسديدها والمذكورة أعلاه. إن تسديد هذه الحسابات هو مسؤولية القوى الغربية والعالم العربي عامة، ودول الخليج خاصة. والأمر المهم هنا، ليس تسديد هذه الحسابات فوراً أو في الوقت ذاته، بل البدء بعملية تتمتع بمصداقية وترمي إلى ذاك الهدف. 

طبقات متعددة من الأمن

تتراوح تعريفات الأمن القومي بين القدرة على الدفاع عن الأرض ضد الخطر الخارجي حين وقوعه، وبين القدرة على الردع قبل وقوع مثل هذا الخطر، وبين تقديم الحوافز الإيجابية للجيران من أجل تشجيع التعايش السلمي. وبعض التعريفات لـ"الأمن القومي" يخرج عن نطاق الدفاع عن "الأرض" ليصل إلى الدفاع عن "الأنظمة الحاكمة"، و/أو "نمط الحياة".

وفيما يخص دول الخليج، فإن التعريف الأوسع للأمن هو الأقرب إلى التطبيق بسبب جميع الاختلالات البنيوية الداخلية الخاصة بتلك الدول. من هنا، فإن الخروج من هذا المأزق الأمني يستلزم بالضرورة، ترتيبات متعددة الطبقات. وفي أثناء ذلك، فإن حاجات الأمن والتطور للعرب ودول الشرق الأوسط الأخرى ستُلبَّى أيضاً.

الطبقة الأولى من أمن الخليج

إذا افترضنا أن أزمة الخليج ستُحلّ بحيث تُعطى الدول المعرضة للخطر أكثر من سواها عامين أو ثلاثة أعوام من الحماية الخارجية الموثوق بها ضد تهديدات صادرة عن جيران أقوياء (العراق، إيران، اليمن المتحدة، إسرائيل)، فعلى دول الخليج العربية الغنية بالنفط الشروع فوراً في برنامج يعزز ويلبي شروطهم الأمنية الداخلية؛ وهذا يتضمن بالضرورة:

1-  توسيع اليد العاملة العسكرية: إن لدى دول الخليج فائضاً من الأعتدة العسكرية، لكنها تواجه نقصاً في اليد العاملة، وفي التدريب. فمجموع سكان دول مجلس التعاون الخليجي يساوي مجموع سكان العراق، أي نحو 17 مليوناً. لكن حجم قواتها العسكرية، مجتمعة، لا يبلغ سوى عُشر قوات العراق (أي 120 ألفاً). وليس ثمة من مانع جدي يمنع زيادة هذه القوة العسكرية إلى خمسة أضعافها لتصل إلى نصف مليون. وهذا يقتضي طبعاً فرض الخدمة العسكرية الإجبارية على السكان كافة، بالإضافة إلى الخدمة العسكرية الطوعية السائدة حالياً.

2-  سياسات منفتحة للهجرة والجنسية: على الرغم من وجود ذاك العدد الهائل من "العمال المهاجرين" القاطنين في دول الخليج، وبعضهم يقيم فيها منذ عدة أعوام، فإن الدول تتّبع سياسات صارمة للغاية فيما يختص بالهجرة والجنسية. وقد ظهرت الآثار السلبية لمثل هذه السياسات منذ أعوام عدة، كما انكشفت بصورة فاضحة بعد الاجتياح العراقي للكويت. وإذا تم تجنيد عدد أكبر من شباب هذه الدول، فهذا يعني ازدياد الحاجة إلى العمال الضيوف. ومن أجل بناء الشعور بالولاء، فإن مصالح  هؤلاء العمال يجب أن تُعزز من خلال انتهاج سياسة للتجنيس أكثر انفتاحاً. ومثل هذه السياسة قد يُمارَس في البدء مع بعض العمال الضيوف من العرب، وبصورة انتقائية، وتحت شروط محددة، كالسكن لفترة خمسة أعوام، والخدمة العسكرية للشباب منهم، وإلى ما هنالك.

3-  إصلاحات سياسية: إن أحد الأسباب التي لا يتم الجهر بها للحفاظ على قوة عسكرية صغيرة في دول الخليج، يتعلق بخوف هذه الأنظمة من انقلابات عسكرية محتملة. وعلى الرغم من أن لهذا الخوف ما يبرره، فإن معالجته يجب أن تتم بطريقة المنع، وذلك من خلال الشروع في إصلاحات سياسية منتظرة منذ أمد بعيد. فالسير قدماً في الطريق الديمقراطي هو الحل في المدى المتوسط. أما الهدف النهائي، أي بعد نحو عشرة أعوام مثلاً، فيجب أن يكون التحول نحو أنظمة ملكية دستورية. وهناك الآن طبقات وسطى جديدة، وهي لا تزال تنمو باطراد، ويشترط دعمها المستمر لهذه الأنظمة حدوث مثل هذه الإصلاحات.

4- دمج دول الخليج في كونفدرالية: تم تأسيس مجلس التعاون الخليجي، الذي مضى عليه الآن عشرة أعوام، للرد على التأثيرات الجانبية المحتملة للحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988). ومع حدوث أزمة أكثر عنفاً الآن، فإن فشل هذا المجلس قد أصبح واضحاً تماماً. فالعديد من اتفاقياته الرسمية لم يُنفّذ قط. وقد آن الأوان للسير بهذا المجلس نحو كونفدرالية حقيقية من دون أي تردد. وحتى هذه الخطوة يجب ألا تمثل سوى خطوة أولية قد يليها فيما بعد فدرالية متوقعة مع حلول سنة 2000 مثلاً. إن كونفدرالية تضم دول الخليج العربية من شأنها أن تبدد بوضوح الأخطار الخارجية المحتملة، وخصوصاً إذا تم تنفيذها في الوقت ذاته مع الإجراءات الثلاثة المقترحة أعلاه. ومن شأن فدرالية تضم أنظمة ملكية دستورية أن تجعل الأخطار الخارجية بعيدة الاحتمال.

الطبقة الثانية: الأمن بين الدول العربية

إن الطبقة الأولى من الأمن في الخليج، حتى لو تم تطبيق الإجراءات المقترحة أعلاه كافة، تبقى غير كافية على الأقل على المستوى النفسي، إذا لم تدعمها طبقة من الأمن العربي. وعلى الرغم من صعوبة الأمل بالوصول إلى إجماع عربي في شأن ترتيبات أمنية بعد حل أزمة الخليج الراهنة مباشرة، وخصوصاً إذا تم اللجوء إلى القوة، فإن مشاركة عدة دول عربية رئيسية في مسعى كهذا أمر ممكن ومستحب. فمصر وسوريا دولتان مهيأتان فوراً؛ فهما تشاركان منذ الآن في الدفاع عن دول الخليج، وقريبتان جغرافياً، ولهما قدرات عسكرية. وفي هذا المجال، يمكننا أن نتصور حلفاً للتعاون والأمن بين مجلس التعاون الخليجي وهاتين الدولتين. فالتكامل في مجالي الاقتصاد واليد العاملة بين الطرفين، من شأنه أن يمنح هذا الحلف قوة كبيرة.

أما سائر الدول العربية، وخصوصاً اليمن والأردن، وحتى العراق في ظل نظام معتدل، فقد يصار إلى تشجيعها على الانضمام إلى مثل هذا الترتيب الموقت. وإذا ما قُيض لهذه الخطة أن تُنفّذ، فقد تصبح النواة الصلبة لنظام أمني عربي شامل. وعندها يصبح في الإمكان إعادة تركيب النظام الإقليمي العربي بأسره على أسس جديدة، تجعله أكثر عدالة وديمقراطية واستقراراً.

الطبقة الثالثة: أمن الشرق الأوسط

على دول الخليج بمفردها (الطبقة الأولى)، وداخل نظام أمني عربي (الطبقة الثانية)، أن تعمل على تحييد، إنْ لم تعمل على ضم، دول شرق أوسطية أخرى غير عربية، وخصوصاً إيران. وهنا، فإن معاهدات عدم الاعتداء يجب أن يعززها تعاون اقتصادي وثيق وتنسيق في سياسات النفط داخل منظمة أوبك، وتفاهم في شأن وجود أو عدم وجود قوات أجنبية في المنطقة.

ويبقى موقع إسرائيل داخل هذه الطبقة موضع تساؤل لبعض الزمن. فالتقدم نحو حل للقضية الفلسطينية من شأنه، قطعاً، أن يعزز ضم إسرائيل إلى هذه الطبقة الأمنية في الشرق الأوسط. وهذا أمر مرغوب فيه على المستويات كافة، ولا سيما إذا كان من المفترض أن يصار إلى تخفيض عدد أسلحة الدمار الشامل، أو مراقبتها، أو إزالتها كلياً من المنطقة.

وتترك الطبقة الأمنية الثالثة الباب مفتوحاً أمام التنسيق والتعاون مع الأسرة الأوروبية والاتحاد السوفياتي، لكونهما أقرب الدول إلى الشرق الأوسط وأكثرها تأثراً بالاستقرار أو بعدم الاستقرار في هذه المنطقة. وهذان اللاعبان أكثر ميلاً نحو الربط بين موضوع الخليج والقضيتين الفلسطينية واللبنانية. إن سياسة التحفظ التي انتهجاها في الأزمة الراهنة في الخليج تعزز، من دون شك، إمكان القبول بهما من جانب معظم اللاعبين الإقليميين في هذه الطبقة الأمنية.

الطبقة الرابعة: ضمانات أمنية دولية

على الرغم من تورط الولايات المتحدة العميق في أزمة الخليج خاصة، وفي الشرق الأوسط عامة، فإن دورها المرئي في أية ترتيبات أمنية يبقى مصدراً للشقاق العميق في المنطقة ذاتها. وفي واقع الحال، يزعم البعض أن مصدر الشرخ الأكبر في العالم العربي هو في شأن هذا الموضوع بالذات، أي وجود "القوات الأجنبية". ومع ذلك، فإن على جميع اللاعبين الإقليميين الاعتراف بأن الولايات المتحدة لا تقدر أن تبقى بعيدة عن الساحة، ولا تنوي أن تفعل ذلك. كما أن المصالح الحيوية لدول الشمال الأخرى المتطورة صناعياً، وخصوصاً الإمدادات المؤمنة والأسعار المستقرة للنفط، تجعل تورطها المستمر أمراً حتمياً.

لذا، فالسؤال هو فقط في شأن "الشكل" و"الفعالية" والمصداقية. إن الشكل الذي ينال القبول الأعم لدى جميع اللاعبين في الشرق الأوسط، هو مظلة الأمم المتحدة التي تضمن واحدة أو أكثر من الطبقات الأمنية المذكورة أعلاه. وفي غياب مثل هذه المظلة، فالترتيب الأفضل يشمل دول مجلس التعاون الأوروبي، واليابان، والصين، ودول الشرق الأوسط طبعاً. ومن شأن هذا الترتيب أن يضمن دوراً أميركياً بارزاً في المنطقة، لكن أقل بروزاً وأكثر شرعية على المستوى الدولي.

غير أنه على الرغم من هذا الشكل الأكثر قبولاً، فإن فعاليته ومصداقيته لدى شعوب المنطقة مشروطتان بالتصدي بجدية للنزاعات القديمة الأخرى، و/أو للطموحات الطويلة الأمد، أي تلك الحسابات الأربعة التي لم تسدد بعد والتي جاء ذكرها في صدر هذه الدراسة. 

خاتمة

سيبقى الشرق الأوسط ذا أهمية حيوية لسائر دول العالم لعشرات من السنين، وعلى الأقل بسبب النفط إنْ لم يكن لغيره من الأسباب. وكما بيّنتْ الأزمة الراهنة في الخليج، وبوضوح، فمن الطيش بمكان أن نعود إلى بناء نظام عالمي جديد بعد تسوية الأزمة، وكأن شيئاً لم يكن.

إن الإجماع الدولي شبه الكامل السائد حالياً، فيما يختص بأزمة الخليج، يمنح اللاعبين الكبار في النظام العالمي الجديد فرصة جديدة لا مثيل لها من أجل التصدي للنزاعات الطويلة الأمد في المنطقة. وقد ضاع مثل هذه الفرص في الماضي، أو تم تبديده. وكلنا أمل بأن لا تلقى هذه الفرصة الجديدة مصيراً مماثلاً. بل كلنا أمل بأن لا تنقلب هذه "الفرصة الجديدة" وبصورة مشوهة، إلى "انتهازية جديدة".

 

* قُدم هذا البحث إلى مؤتمر "دينامية تقرير المصير" في جامعة أمستردام الحرة، الذي عقد في الفترة 21 – 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1990.

السيرة الشخصية: 

سعد الدين إبراهيم: أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة الأميركية في القاهرة.