يتناول هذا المقال الأزمة التي يواجهها حزب العمل المتمثلة في حسم مسألتي القيادة وتحديد استراتيجيته المقبلة. ويستعرض الاتجاهات النشيطة في إطار الحزب، والخلاف داخله والمتمثل في خطه السياسي وليس سياسته الاقتصادية والاجتماعية. ويستبعد المقال أن يؤدي الخلاف غير المستند إلى أسس مبدئية متينة إلى انشقاق الحزب، ويرجح أن تجد أطراف الخلاف صيغة للتعايش وأن تواصل التعبير عن مواقفها المتباينة في إطار الحزب.
ينصرف حزب العمل الإسرائيلي إلى ترتيب أوضاعه الداخلية ورسم خطواته المقبلة في ضوء جملة الإخفاقات التي مني بها خلال المدة الأخيرة، وفي مقدمها فشل رهانه على تأليف حكومة عمالية برئاسة زعيمه شمعون بيرس، بدلًا من حكومة "الوحدة الوطنية" التي تقاسمها، على أساس من اللاتكافؤ، مع تكتل الليكود منذ انتخابات الكنيست الأخيرة. وهناك قضيتان مطروحتان بإلحاح على جدول أعمال حزب العمل، الذي ارتسمت له مؤخرًا صورة حزب فاقد الاتجاه، تتنازعه أهواء القادة وتتجاذبه التيارات المتضاربة، وهما: حسم مسألة القيادة؛ وتحديد استراتيجيته السياسية المقبلة.
لقد بدا لفترة طويلة أنَّ حزب العمل قادر على الجمع بين عدة متناقضات، والتعايش معها من دون حرج. فعلى مستوى القيادة، يحتل موقع القمة فيه زعيمان يقود كل منهما الحزب في غير اتجاه واحد. وعلى الصعيد السياسي، يضم حزب العمل في إطاره وجهات نظر وتيارات تبدو على غاية من التعارض. وإذا كان برنامج الحزب الذي أُقرَّ عشية انتخابات الكنيست الأخيرة يمثل قاسمًا مشتركًا مكَّن أجنحة الحزب من الالتقاء حوله في ذلك الحين، فإنَّه يبدو الآن أنَّ الإِجماع داخل الحزب أخذ يهتز بفعل التطورات السياسية التي تلت ذلك، وأنَّه بات من الصعب على أجنحته المختلفة، إذا أُخذت المواقف المتناقضة التي تصرح بها على حرفيتها، أنْ تتفق على القاسم المشترك نفسه.
إنَّ التداخل بين القضيتين المطروحتين على جدول أعمال حزب العمل كبير إلى درجة يستحيل معها الفصل بينهما. فاختيار زعيم معين يعني، بالضرورة، تفضيل خط على آخر في السياق الحزبي. كما أنَّ ترجيح استراتيجية محددة لا بد من أنْ يقترن بتغيرات في مراكز القوى تؤول إلى سيطرة أصحاب تلك الاستراتيجية على عملية صنع القرار في مؤسسات الحزب. ولذا فليس من السهل أنْ تحسم القضيتان، كلتاهما أو إحداهما، خلال فترة قصيرة. أمَّا عدم الحسم أو إطالة أمده، فمن شأن كل منهما أنْ ينعكس على أوضاع الحزب مزيدًا من التدهور.
مسألة القيادة
يتبين أنَّ فترة استقرار القيادة في حزب العمل، التي استمرت نحو عشرة أعوام، قد انتهت الآن، وأنَّ الحزب دخل مرحلة جديدة من الصراعات الداخلية. وقد بدأت مسألة القيادة تطرح، بصورة جدية، بعد انتخابات الكنيست الأخيرة؛ إذ شهدت صفوف الحزب تمردًا على شمعون بيرس الذي اتهم بالمسؤولية عن إخفاقات الحزب المتعاقبة، وبقيادة الحزب من فشل إلى آخر. وفي أوائل السنة الماضية، بعد إعلان نتائج انتخابات السلطات المحلية، أعلن أربعة من قادة الصف الثاني في الحزب، الذين ينتمون إلى الجيل المتوسط من حيث السن (موشيه شاحل، وموردخاي غور، وجاد يعقوبي، وعوزي برعام) عزمهم على منافسة بيرس، غير أنَّ أيًّا منهم لم يقدم على خطوة عملية كالدعوة إلى عقد اللجنة المركزية للحزب، وهي الهيئة المخولة حسم مثل هذه القضايا، نظرًا إلى الهيمنة التي يتمتع بيرس بها في مؤسسات الحزب.
وفي إثر فشل بيرس في تأليف حكومة جديدة بدلًا من حكومة الوحدة التي عمل على إسقاطها بدعم من التيار المؤيِّد له داخل الحزب، اتَّخذ الصراع في شأن القيادة بعدًا مختلفًا بإعلان يتسحاق رابين عزمه على منافسة بيرس. فمن المعروف أنَّ رابين، الذي يعتبره الشارع الإسرائيلي عمليًا رجل الحزب الأول، يتزعَّم معسكرًا مؤيِّدًا له ويتمتع بتأييد تيار "الصقور"، الجناح اليميني المتطرف في تركيبة الحزب، بالإضافة إلى عدد من الأعضاء "المعتدلين" المعروفين. ويعني هذا التطور أنَّ قادة الجيل المتوسط، ناهيك بجيل الشباب، لنْ يكونوا في هذه المرحلة طرفًا في التنافس بشأن رئاسة الحزب، إذ سيبقى التنافس مقتصرًا على قادة الصف الأول، وبالتحديد على بيرس ورابين، اللذين ينتميان إلى جيل الحزبين القدامى ويتمتعان بالنفوذ الأوسع في صفوف الحزب. وبما أنَّ من المفترض أنْ يؤدِّي التنافس إلى استبدال زعيم قوي بآخر، فمن المتوقع أنْ يقترن بصراعات قوى شديدة كتلك التي اقترنت بتنافس بيرس ورابين نفسيهما بين منتصف السبعينات وأوائل الثمانينات، قبل أنْ يستقر زمام القيادة في يد شمعون بيرس. وقد اعتبرت تلك الصراعات من العوامل التي أدَّت إلى تدهور مكانة الحزب والهزائم التي مني بها في المعارك الانتخابية منذ سنة ١٩٧٧ فصاعدًا.
وهناك عاملان سيقومان بدور مهم في حسم مسألة القيادة، وهما: توقيت الحسم؛ والإطار الحزبي الذي سيتم فيه. وتحمل مواقف طرفي الصراع من هذه المسألة عدة مؤشرات على موازين القوى السائدة في الحزب حاليًا. ففي حين يحاول رابين استعجال موعد الحسم، مستغلًا أجواء الاستياء المعادية لشمعون بيرس، يحاول هذا الأخير تأجيل المواجهة إلى ما قبل انتخابات سنة ١٩٩٢، مراهنًا على تغير الأجواء لمصلحته. ومع أنَّ دستور الحزب يقضي بانتخاب الرئيس من قبل اللجنة المركزية، المؤلَّفة من نحو ١٤٠٠ عضو، فإنَّ رابين يسعى لتغيير هذا الإِجراء والاحتكام إلى قاعدة الحزب لانتخاب الرئيس بطريقة مباشرة من قبل جميع الأعضاء، بسبب الأكثرية التي يتمتع بيرس بها في اللجنة المركزية.
مسألة الخط السياسي
إذا كان في الإمكان حسم مسألة القيادة خلال الأشهر المقبلة، فإنَّ الخط السياسي الذي سيعبر عن استجابة الحزب للمستجدَّات السياسية التي طرأت خلال الفترة الأخيرة لنْ يتضح قبل مؤتمر الحزب الخامس، الذي سيعقد في أيار / مايو ١٩٩١، والذي ستتوج قراراته النقاشات السياسية الدائرة بين مختلف أجنحة الحزب. ومع أنَّ انتخاب الرئيس سيحمل مؤشرات على الخط السياسي المقبل، إلَّا أنَّ الجدل الداخلي سيستمر حتى يصاغ هذا الخط في برنامج سياسي جديد تمهيدًا لانتخابات الكنيست المقبلة. وهناك عدَّة دلائل تشير إلى أنَّ الاتِّفاق على برنامج واحد سيكون أمرًا في غاية الصعوبة.
إنَّ الاصطفاف الداخلي في حزب العمل حيال مسألة الصراع بين بيرس ورابين يتَّخذ، في أغلبه، طابع التماثل الأيديولوجي – السياسي، ولا يقوم على مجرَّد التأييد الشخصي. ومع أنَّ كليهما لا يُعْتَبر زعيمًا رسميًا لأي من التيارات المعروفة داخل الحزب، فقد أصبحا خلال السنوات الأخيرة بمثابة قطبين ينقسم حولهما وحول مواقفهما جسم الحزب إلى كتلتين رئيسيتين: إحداهما تضم الاتجاهات التي توصف بـ"البراغماتية المعتدلة" وتتماثل مع شمعون بيرس؛ والأخرى تضم الاتجاهات الدوغماتية المتطرِّفة وتؤيِّد يتسحاق رابين. ويوظف الزعيمان الخلافات السياسية في صراعهما، ويبرزان الفوارق بينهما بتضخيم يشوِّه معالم الحدود الحقيقية بين المناورة وجوهر الموقف. وينطبق الأمر نفسه على الخلافات التي تحتدم في أحيان كثيرة بين "الحمائم" و"الصقور" في حزب العمل؛ فهي إمَّا أنْ تكون وسيلة تسخَّر لخدمة المصلحة الشخصية، وإمَّا قد تدل على اختلاف وجهات النظر في شأن المقاربة المثلى التي يراد بها أنْ تخدم مصلحة الحزب العليا وتحقق هدفه في استعادة السلطة. فالمصلحة هي التي تملي الأيديولوجيا لا العكس.
يرى يتسحاق رابين ومؤيِّدوه أنَّ الصبغة "اليسارية" التي اكتسبها حزب العمل هي السبب الأساس في تراجع شعبيته منذ سنة ١٩٧٧، وأنَّ نزع هذه الصبغة هو ما سيعيد الحزب إلى مكانته السابقة؛ فيقول: "لقد دُفعنا كثيرًا نحو اليسار... إنَّنا نُتَّهم بأنَّنا نتحوَّل إلى ليكود ب، وأخشى أنْ نكون نتحوَّل، أكثر مما يجب، إلى راتس ب."(1) والتخلُّص من هذه الصبغة، بحسب وجهة نظر رابين، هو ما سيجلب متقرعين جددًا لحزب العمل: "علينا أنْ نفهم أنَّ ناخبينا المحتملين موجودون عن يميننا. علينا أنْ نتحرَّر، مرَّة وإلى الأبد، من الصورة 'الحمائمية الفلسطينية' التي ترتسم لنا بأكثر مما هو مكتوب في برنامجنا، حتَّى لو خسرنا مقعدين لراتس ومابام."(2) في المقابل، يرى بيرس والتيار المؤيِّد له أنَّ طريق حزب العمل إلى السلطة يمر عبر تأكيد الفوارق السياسية بينه وبين الليكود، وأنَّ مشاركته في حكومة واحدة مع الليكود تساهم في طمس لونه السياسي. ويصف أحد المحلِّلين الإسرائيليين الفارق بين مواقف الزعيمين من قضايا أساسية متعلِّقة بالتسوية على النحو التالي: "إنَّ رابين، على الرغم من امتناعه من التقدم بمشروع شامل كمشروع آلون، فإنَّه يمثل في حزب العمل خط المقاربة 'الأمنية' المتشدِّدة، الذي صاغه جيل البلماح الطيب الذكر، وهو يرفض التحرُّر من المواقف القديمة. أمَّا بيرس، الذي قدم في السابق بضعة مشاريع وتخلَّى عنها كلها، فيمثل موقفًا براغماتيًا مرنًا، وأحيانًا مداهنًا. إنَّ موقفهما من م. ت. ف. متشابه على صعيد التصريحات، لكنَّه مختلف على صعيد الأفعال. فرابين يعتبر م. ت. ف. عدوًّا حقيقيًّا ويواصل العمل على تحييدها، من دون أنْ ينجح في ذلك. بينما بيرس مستعد للتحدث مع م. ت. ف.، بل إنَّه فعل ذلك بطرائق غير مباشرة. وقد أوضح رابين أنَّه ينظر إلى عملية السلام على أنَّها عملية طويلة ومتعددة السنين، ربما عشرات السنين، أي أنَّها لنْ تتم في عهده أو في ظل مسؤوليته. أمَّا بيرس فيبشر بعملية سياسية حقيقية تقاس بسنوات معدودة."(3)
غير أنَّه يتبين أنَّ براغماتية بيرس لا تعبِّر عن تعامل واقعي مع المتغيرات السياسية وعن استجابة حقيقية لها بقدر ما تنم عن قدرة فائقة على مسايرة الأوضاع واستغلالها. وتتجلَّى مقاربته في ملاحظة دقيقة وردت في تعليق كتبه دان مرغليت عن منحى المواجهة بين بيرس ورابين وطريقة بيرس المحتملة في الرد على التحدي: "إنَّ رابين يحاول في هجومه تأكيد صورة حزب العمل كحزب متشدِّد في النواحي الأمنية، والعودة إلى مفهوم الحل الوسط الإقليمي لماباي العريق، وفق الصيغة التي نص مشروع يغآل آلون عليها. أمَّا بيرس، الذي زُجَّ في موقف دفاعي، فلم يكشف عن موقفه بعد، غير أنَّ من الواضح أنَّه سيُدفع نحو التعبير عن مفاهيم أكثر حمائمية من تلك التي كان يعرب عنها خلال الأشهر الأخيرة. إنَّه وخصومه، على حدٍّ سواء، يعتقدون أنَّ قوته ستضعف إذا دُفع إلى درجة الاعتراف بـ م. ت. ف. شريكًا في المفاوضات. غير أنَّ الواقع قد يضطره إلى ذلك كي يطرح بديلًا واضحًا من رابين..."(4) [التشديد من عندنا]. إنَّ هذه الملاحظة تعكس الذهنية المكيافيلية التي تصوغ في حزب العمل. فإلى أي مدى سيعبِّر اعتراف بيرس المحتمل بمنظمة التحرير الفلسطينية عن موقف حقيقي وجدي؟ وإلى أي مدى سيمثل خطوة تكتية تخدم هدفه الآني؟ إنَّ الموقف المعلن ليس من الضروري أنْ يكون الموقف المبدئي ما دام من شأنه أنْ يخدم الغاية.
إنَّ الالتباس يزداد غموضًا إذا دقَّقنا النظر في المواقف السياسية البالغة التناقض التي تصدر عن جهات مختلفة في حزب العمل، وخصوصًا منذ نشوب الانتفاضة. ففي أقصى "يسار" الحزب، هناك مثلًا مجموعة تطالب بتغيير البرنامج البرنامج السياسي وبالموافقة على التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهناك بين أعضائها من يؤيِّد إقامة دولة فلسطينية.* وفي أقصى اليمين، هناك تيَّار يطالب بتطبيق السيادة الإسرائيلية على المناطق التي ينصُّ مشروع آلون عليها، أي بضمِّها إلى إسرائيل، بينما يطالب قسم منه بالانسحاب من قطاع غزَّة وتطبيق السيادة على الضفة الغربية بكاملها. وفي الوسط، يقف التيار الذي يتمسَّك بمواقف الحزب التقليدية، ولا يزال ينادي بـ"الخيار الأردني". لعلَّه لا يوجد مثيل لحزب العمل يجمع في إطاره مواقف وتيارات متناقضة إلى هذا الحد. وإذا كانت هذه المواقف المعلنة حقيقية ونهائية، فالنتيجة المنطقية التي من المفترض أنْ تفضي إليها هي شق الحزب. وإذا لم تكن كذلك، فما هي حدود الخلاف، وإلى أي مدى تعبِّر المواقف التي يصرِّح المعتدلون بها، مثلًا، عن تغيرات سياسية ذات دلالة؟ أين يكمن تأثير الانتفاضة في مواقف حزب العمل؟ وهل أُسقطت حكومة الوحدة بسبب وجود رغبة جدية في التقدم في عملية التسوية، أم لهدف استغلال الفرصة من أجل الإِمساك بزمام السلطة؟ وإنْ كان الأمر لكلا الهدفين، فكيف؟
يتبيَّن أنَّ التيار "المعتدل" في حزب العمل نجح، منذ انتخابات الكنيست الأخيرة، في كسب عدد من النقاط في مواجهاته المستمرَّة مع التيار المتشدد. وأنَّ سقوط حكومة الوحدة في آذار / مارس الماضي إنَّما تم نتيجة اختلال موازين القوى الحزبية لمصلحته في تلك الفترة (مع أنَّ فشل بيرس في تأليف حكومة بديلة وجّه إليه ضربة قوية). ولا بد من الإشارة إلى أنَّ هذا التيار، شأن التيار "الصقري"، لا يشكل جسمًا متجانسًا في خلفيته السياسية الفكرية أو الاقتصادية – الاجتماعية، بل يضم بضعة تجمعات يطلق على كل منها صفة "وسط" أو منبر أو مجموعة، نشأت لأسباب مختلفة وتعمل بتنسيق – جزئي أو كلِّي – فيما بينها، وتعبِّر عن مصالحها ومواقفها في مؤسسات الحزب. وهي لا تشكل إطارًا تنظيميًا ثابتًا أو تمثل موقفًا سياسيًا ملزمًا. وتقود نشاط التيار المعتدل مجموعتان هما "مشوف" و"هكفار هَيَروك" اللتان تضمَّان ثمانية من أعضاء الكنيست، بينهم يوسي بايلين وأبراهام بورغ وحاييم رامون.* وينشط مع هؤلاء أيضًا عدد آخر من أعضاء الحزب البارزين، أمثال عضو الكنيست نسيم زويلي رئيس حركة الموشافيم، بالإضافة إلى: آبا إيبن، ولوفا إلياف، وعيزر وايزمن، وحاييم تسادوك، وغيرهم. ومن المواقف اللافتة للنظر، التي يدعو هذا التيار إليها، التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، من دون أنْ يعني ذلك موافقة على إقامة دولة فلسطينية. ومن التعليلات النموذجية لهذا الموقف: "أنَّ أحدًا من أعضاء حزب العمل الذين يؤيِّدون إجراء محادثات مع م. ت. ف. لا يؤيِّد الحوار لأسباب أيديولوجية. ما يقوله هؤلاء الأعضاء هو أنَّه نظرًا إلى أنَّ الخيار الأردني غير قائم.... ونظرًا إلى أنَّه لا يوجد اليوم في المناطق [المحتلَّة] قادة مستعدون للتوصُّل ولو إلى تسوية مرحلية مع إسرائيل من دون أنْ يحملوا صفة ممثلين عن م. ت. ف.، أو بمباركتها الكاملة (التي ليست في المتناول)، ففي الإِمكان فقط التحدث مع م. ت. ف. وحدها. بكلمة أخرى: إنَّ الخيار ليس بين الأردن وعرب المناطق و م. ت. ف.، وإنَّما بين م. ت. ف. أو اللاشيء."(5)
وقد نجح هذا التيار في فرض عدد من مواقفه على الحزب، وكان من أهمها سلسلة القرارات التي اتَّخذتها لجنته المركزية في ٨ آب / أغسطس من السنة الماضية، ردًّا على ما عرف بمعسكر "الأطواق" أو الشروط التي وضعتها اللجنة المركزية لليكود. وحددت تلك القرارات موقف حزب العمل من التسوية السياسية على النحو التالي:
– إنَّ اللجنة المركزية لحزب العمل ترفض سياسة "ولا شبر"، وضم ١,٦ مليون فلسطيني [إلى إسرائيل]، وتؤكِّد أنَّ التسوية الدائمة ستضمن الطابع اليهودي والديمقراطي لدولة إسرائيل.
– ستُجرى المفاوضات الآيلة إلى الحل الدائم على أساس قراري مجلس الأمن ٢٤٢ و٣٣٨. وستستند التسوية الدائمة إلى سياسة أراض في مقابل سلام، من خلال احتفاظ إسرائيل بحدود آمنة ومناطق استيطان وأمن ورفض إنشاء دولة فلسطينية مستقلَّة.
– سيُسمح لعرب القدس الشرقية، من حاملي الجنسية الأردنية، المشاركة في الانتخابات، شرط ألَّا تُجرى الانتخابات في القدس، التي ستبقى غير مقسَّمة، موحَّدة وتحت سيادة إسرائيلية.
– ستُجرى المفاوضات المتعلِّقة بإجراء الانتخابات مع الفلسطينيين في موازاة الجهود الآيلة إلى تهدئة الانتفاضة.
– ستكون الانتخابات سياسية حرة وديمقراطية، وسيُنتخَب الممثلون لثلاثة أمور: إجراء مفاوضات في شأن التسوية المرحلية؛ تشكيل نواة الحكم الذاتي؛ تشكيل نواة المجموعة التي ستدير المفاوضات في شأن الحل الدائم.
– لدى تطبيق التسوية المرحلية، سينسحب الحكم العسكري إلى مناطق سيتم تحديدها بناء على المبادىء الواردة في اتفاق كامب ديفيد.
– سيتم إشراك فلسطينيين من الخارج، يُتَّفق عليهم بين إسرائيل ومصر وفلسطينيي المناطق، في المفاوضات بشأن الحل الدائم.
– لدى الشروع في المفاوضات، لنْ تقام مستعمرات جديدة إلى حين انتهاء الفترة الانتقالية. وسيتم البحث في موضوع المستعمرات خلال المفاوضات بيننا وبين سلطة الحكم الذاتي.(6)
ومنذ أوائل السنة الحالية، ركز هذا التيار جهوده على تجنيد أكثرية بين أعضاء مكتب الحزب لاتِّخاذ قرار بحل حكومة الوحدة. وكان التكتيك الذي اتَّبعه محاولة إجبار وزراء حزب العمل على مطالبة المجلس الوزاري باتخاذ قرارات واضحة فيما يتعلَّق بإشراك المبعدين في الوفد الفلسطيني إلى محادثات القاهرة، ومشاركة عرب القدس الشرقية في الانتخابات.(7)
وفي شباط / فبراير من السنة الحالية، تمكَّن هذا التيار، في اجتماع دعا إلى عقده واشترك فيه ١٠ أعضاء كنيست ونحو ٤٠ من أعضاء مكتب الحزب (من مجموع ١٢٠)، من إصدار قرار هدف إلى إلزام وزراء حزب العمل في الحكومة بتبنِّي المواقف التالية ومطالبة المجلس الوزاري بإقرارها:
- إنَّ الحكومة الإسرائيلية تكتفي برسالة الضمانات الأميركية في صيغتها الحالية.
- إنَّ الحكومة الإسرائيلية لنْ تعارض إشراك مبعد واحد أو مبعَديْن في الوفد الفلسطيني إلى الحوار.
- إنَّ الحكومة الإسرائيلية لنْ تعارض إشراك شخص أو شخصين من سكان القدس الشرقية، ممَّن لديهم عنوان آخر في القدس الشرقية، في الوفد الفلسطيني. وستبقى القدس غير مقسَّمة وموحَّدة في ظل السيادة الإسرائيلية.(8)
وبحلول آذار / مارس الماضي، كان هذا التيَّار قد نجح في حمل حزب العمل، وضمنه يتسحاق رابين، على توجيه الإنذار المعهود بالرد إيجابيًا على أسئلة بيكر، الذي كان السبب المباشر في سقوط الحكومة. ولم يكن هذا القرار قط خطوة أجمع الحزب عليها أو ولدت بلا مخاض عسير؛ فقد نشط التيار "الصقري"، بالتنسيق مع يتسحاق رابين، لإِجهاض محاولات إسقاط الحكومة، وعمد إلى إقامة جبهة مضادة لتنسيق المواقف، وعارض محاولات إسقاطها حتى اللحظة الأخيرة.
تقود التيار الصقري مجموعة رئيسية تمثل مواقف ماباي التقليدية في حزب العمل، وتطلق على نفسها اسم "التيار المركزي". وقد تشكَّلت كإطار دائم يحمل هذا الاسم داخل الحزب في سنة ١٩٨٦، بهدف الرد على الطروحات "اليسارية" التي كثر تردادها في صفوفه، وللتشديد على أنَّ أكثرية الحزب تتماثل معها ومع أهدافها.(9) ويعمل هذا التيار، الذي يتزعمه شلومو هلّيل، بتنسيق وثيق مع مجموعة "جيل الاستمرار"، ويمثِّلهما في الكنيست تسعة أعضاء، بينهم: ميخائيل بار – زوهار، وشمعون شطريت، ورعنان كوهين، وميخا غولدمان.(10) وينشط هذا التيار، الذي يدعم يتسحاق رابين ويعمل أيضًا بالتنسيق مع معسكره، في محاربة الاتجاهات التي تدفع الحزب إلى تبني مواقف مرنة إزاء التسوية السياسية. فعلى سبيل المثال، عندما دعا بعض أطراف الحزب إلى تغيير البرنامج الانتخابي عشية الانتخابات الأخيرة وتبني صيغة تعبِّر عن موافقة مشروطة على التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، تصدَّى هذا التيار لإِحباطها، وطالب عدد من أعضائه بإقرار صيغة بديلة تؤيِّد تطبيق القانون الإسرائيلي على المناطق التي يشملها مشروع آلون.(11) وفي إثر القرارات التي تبنَّتها اللجنة المركزية للحزب في ٨ آب / أغسطس ١٩٨٩، بضغط من التيار الحمائمي، دعت مجموعة من المتشددين إلى "إحداث انقلاب في مفهوم الحزب السياسي"، يقوم على الأسس التالية: "انسحاب إسرائيل من قطاع غزَّة فورًا وتحويله إلى مدينة – دولة على غرار سنغافورة؛ اعتبار شرق الأردن دولة للفلسطينيين؛ إنشاء اتحاد فدرالي مع الضفة، بما في ذلك تطبيق السيادة الإسرائيلية على مناطق يهودا والسامرة كافة.(12) وذهب عدد من أعضاء حزب العمل إلى حد التنسيق مع "مجموعات من الليكود والمفدال وشينوي، للتعاون على نشر فكرة تطبيق السيادة السياسية على المناطق."(13)
وعندما أخذت فكرة إسقاط حكومة الوحدة تتبلور بسبب امتناع الليكود من الرد بالإيجاب على أسئلة بيكر، عمد هذا التيار إلى تشكيل "جبهة للتنسيق السياسي" من أجل إحباط المحاولات الرامية إلى حل الحكومة وتأليف حكومة ضيِّقة، ومن أجل العمل على "لجم الاتِّجاه اليساري – المتطرِّف.... الذي يقول بوجوب بدء مفاوضات مع م. ت. ف.، بل بتغيير برنامج الحزب من أجل هذه الغاية."(14) ويستدل من القراءة الدقيقة للمواقف التي عبَّر هذا التيار عنها قبيل سقوط الحكومة، أنَّه كان يتمسَّك بها كضمانة لعدم تقديم تنازلات سياسية على طريق التسوية. وحتَّى عندما سقطت الحكومة وكلَّف بيرس تأليف حكومة جديدة، أعلن هذا التيَّار أنَّه لنْ يؤيِّد حكومة شمعون بيرس تأييدًا تلقائيًا،(15) واضطره إلى التعهد بألَّا تنحرف سياسة الحكومة العتيدة عن برنامج حزب العمل في كل ما يتعلَّق بوحدة القدس، والاتِّصالات بمنظمة التحرير الفلسطينية والاعتراف بها، وإقامة دولة فلسطينية.(16)
خلاصة
إنَّ العرض السابق لا يعبِّر تعبيرًا دقيقًا عن جميع الاتجاهات النشيطة في إطار حزب العمل*. وقد لجأنا إلى تقسيمها إلى تيارين رئيسيين، بكثير من التعميم، وذلك لإِبراز وجهتي الخلاف السياسي المحتدم حاليًا في صفوف الحزب، الذي ينقسم جميع أعضائه في شأنهما بصورة أو بأخرى. إنَّ جزءًا من هذا الخلاف كامن في تركيبة الحزب نفسها، كونه تَشَكَّل سنة ١٩٦٨ من ثلاثة أحزاب هي: ماباي، وأحدوت هعفوداه – بوعالي تسيون، ورافي. غير أنَّه أخذ يكتسب طابعًا أكثر حدَّة بعد هزيمة الحزب في انتخابات سنة ١٩٧٧، وتفاقم إلى أنْ بلغ الأبعاد التي تجلَّت خلال الأشهر الأخيرة بسبب الانتفاضة. ويقع الخلاف أساسًا في شأن خط الحزب السياسي لا في شأن سياستيه الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كان المحرك الرئيسي لهذا الخلاف هو الصراع بين بيرس ورابين والبحث عن الطريق الذي سيعيد الحزب إلى السلطة، فإنَّ طرح مواقف كالتي ينادي التيار المعتدل بها ينطوي، في حد ذاته، على دلالات مهمة، كونه يعني أنَّ في المجتمع الإسرائيلي أرضًا خصبة لمثل هذه المواقف.
ونظرًا إلى أنَّ هذا الخلاف لا يستند إلى أسس مبدئية متينة، فمن المستبعد أنْ يؤدي إلى انشقاق الحزب. والمرجَّح أنْ تجد أطراف الخلاف صيغة للتعايش، وأنْ تواصل التعبير عن مواقفها المتباينة في إطار الحزب، كما فعلت دائمًا. ويلاحظ من تتبُّع مسار الصراع بين بيرس ورابين، ولا سيما منذ تأليف حكومة الليكود في حزيران / يونيو الماضي، أنَّ هناك نسبة مهمَّة من أعضاء الحزب الحمائم انتقلت إلى صف رابين وباتت تدعمه، لاعتقادها أنَّ شعبيته في الشارع الإسرائيلي ستعود على الحزب بفائدة انتخابية كبيرة. وبينما يشكِّل هذا التطور برهانًا آخر على أنَّ مصلحة الحزب العليا هي الأساس، فإنَّه يشير أيضًا إلى خلط أوراق التحالفات وبداية عهد جديد من الاصطفاف الداخلي، الذي قد يعبِّر عن نفسه – في حال فوز رابين – بنمط جديد من التزاوج الأيديولوجي – السياسي في حزب العمل.
28/5/1990
(1) "دافار"، 24/4/1989.
(2) المصدر نفسه، 8/6/1990.
(3) روبيك روزنتال، "الحسم"، "عال همشمار"، الملحق الأسبوعي، 17/4/1990.
(4) دان مرغليت، "التوقيت سيحسم مصير المعركة"، "هآرتس"، 28/5/1990.
يقول عضو الكنيست عن حزب العمل شيفح فايس إنَّه أجرى إحصاء بيَّن له أنَّ 12 عضو كنيست في حزب العمل يؤيِّدون إقامة دولة فلسطينية. أنظر: إيلان شاحوري، "قلبوا جلدهم"، "هآرتس"، 17/8/1989.
لمزيد من التفاصيل عن هاتين المجموعتين وغيرهما، أنظر مثلًا مقالة عاليزا فالخ، "جيل الانتقال في المعراخ"، "دافار"، 12/1/1990؛ ومقالة شيلا هاتيس رولف، "ذنب اليسار"، "دافار"، 3/4/1989.
(5) شيلا هاتيس رولف، "ذنب اليسار"، مصدر سبق ذكره.
(6) أنظر نص القرارات الكامل في: "دافار"، 9/8/1989.
(7) "هآرتس"، 7/2/1990.
(8) "دافار"، 9/2/1990.
(9) عن نشأة هذا التيار وأهدافه وأعضائه، أنظر مقالة أيال إرليخ، "ماباي التاريخي"، "هآرتس"، الملحق الأسبوعي، 12/2/1988.
(10) أنظر: "هآرتس"، 24/1/1990؛ المصدر نفسه، 14/1/1990.
(11) "هآرتس"، 18/8/1988.
(12) "دافار"، 28/8/1989.
(13) "هآرتس"، 11/1/1990.
(14) المصدر نفسه، 14/1/1990؛ المصدر نفسه، 4/2/1990.
(15) "عال همشمار"، 23/3/1990.
(16) "هآرتس"، 28/3/1990.
أنظر عرضًا أكثر تفصيلًا لتلك الاتجاهات في مقالة مناحم راهط، "برنامج حزب العمل السحري"، "معاريف"، 8/1/1988.