السيدات والسادة
قادة الجاليات اليهودية العالمية
مؤتمر السلام
القدس
مع موجة التغيير التي تشهدها هذه المرحلة من حياة الإنسانية، يشعر الشعب الفلسطيني بأن المعاني النبيلة التي أعيد تبلورها: الحرية، الديمقراطية، وحقوق الإنسان – هي المعاني ذاتها التي ينسجم نضاله البطولي من أجل إحرازها، مع الواقع الإنساني الجديد، ومع الطبيعة الجديدة لنهايات هذا القرن.
لذلك: فإن شعبنا الذي له حق الوجود والطمأنينة والأمن والحرية مثله مثل بقية الشعوب على هذا الكوكب الأرضي، كان قادراً على الإسهام في عملية الإلهام الثوري، بأساليب تعبيره الوطنية الفذة، قادر أيضاً على الاستلهام من انتصار هذه المعاني: طاقة جديدة لمقاومة القمع والاحتلال، وهكذا، فإن الانتفاضة الفلسطينية تستمد من المناخ العالمي الجديد وهي التي أعطته نماذج إنسانية راقية مزيداً من الثقة بقدرتها على الاستمرار حتى الانتصار، ومزيداً من التعاطف العالمي مع أهدافها الوطنية والإنسانية، وتنسجم تماماً مع سعي البشرية إلى صياغة عالم من الديمقراطية والحرية والسلام، ورفع قيمة حقوق الإنسان إلى مرتبة القداسة. إن الانتفاضة الشعبية الفلسطينية تشكل ذروة اكتمال مسيرة شعبنا في المنافي والشتات ومنها إلى أرضنا ووطننا لنؤكد عليها هويتنا الوطنية ونقرر فيها حقنا في تقرير المصير والحرية والاستقلال الوطني.
وإن مضمون الانتفاضة هو مضمون سلمي، كما أن أداة تعبيرها سلمية أيضا، كما قررنا لها هذا حتى الآن. فهي تطمح من مقاومة الاحتلال إلى الحرية والسلام والتعايش، على أساس احترام حقوق الشعوب جميعها في المنطقة. ولا مرجعية لها غير حق شعبها في تقرير المصير والاستقلال، أسوة بسائر الشعوب، ولا مرجعية لها غير الشرعية الدولية..
وفي ظل الانتفاضة الواسع، وبقوتها المعنوية والسياسية، صاغت منظمة التحرير الفلسطينية في مجلسها الوطني في الجزائر، مشروع السلام الفلسطيني.
ونحن، إذ نفترض ان مضامين مشروع السلام الفلسطيني معروفة لكم، وأن هذا المشروع هو خيار استراتيجي، لا مناورة تكتيكية كما يقول أعداء السلام. وان هذا المشروع يحظى بالدعم الكامل من الشرعية الفلسطينية، ومن الشرعية العربية، ومن الشرعية الدولية.
ومن المؤسف أن يواجه هذا المشروع الذي يؤسس الأمن والأمان للجميع وينهي احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية، بهذه الحملة من الشك والمخاوف. إن المخاوف الإسرائيلية، سواء كانت طبيعية أو مصطنعة، حقيقية أو مفتعلة، هي مخاوف تعنينا وتقلقنا، لأن استمرار التذرع بها يبطئ إيقاع التسوية التاريخية والراهنة.
ومع ذلك، فإننا ما زلنا عميقي الإيمان في أن الضمان الأمني الحقيقي والوحيد للإسرائيليين يكمن في الإقدام الحكيم على تحقيق السلام مع الشعب الفلسطيني، على أساس إنهاء الاحتلال للأراضي العربية والفلسطينية، وعلى أساس مشاركتنا الاعتراف بمبدأ الدولتين، وفقاً لأحكام الشرعية الدولية، وكما نصت على ذلك مبادرة السلام الفلسطينية التي دعمت وأكدت عربياً ودولياً سواء في القمم العربية أو الأمم المتحدة أو السوق الأوروبية المشتركة أو الدول الاشتراكية أو اليابان أو الدول الاسكندنافية أو دول عدم الانحياز أو الدول الإسلامية والافريقية.
كما أننا نرى أن الضمانة السياسية للشعب الفلسطيني، أمام خطر المناورات الإسرائيلية، تكمن في مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً لشعب فلسطين، أينما وجد، تحت الاحتلال وفي المنافي، مشاركة فعلية على جميع المستويات وفي كافة مراحل عملية السلام وحتى يبنى السلام مع من يمكنه صنع السلام وإعطاء ضمانات الأمن والاستقرار. لذلك، فان مخاوف الإسرائيليين من المستقبل التي تقابلها مخاوف الفلسطينيين المشروعة وهم يعانون القمع والإرهاب الرسمي المنظم والاحتلال الاستيطاني ومن حرمانهم من أبسط حقوق الإنسان والحياة الحرة الكريمة، هذه المخاوف جميعها، لن يحلها غير الضمانات الدولية للطرفين، وفي إطار المؤتمر الدولي للسلام وفي نطاق المسؤولية الدولية.
ومن مخاوفكم: «حق العودة»
وسواء كان هذا الخوف ذريعة لتأجيج نار الخوف من السلام، ومداواته ببرد بل ونيران الحرب التي لن تبقي ولن تذر لذلك، نحن نرى أن حل هذه المسألة هو بقبول بعضنا البعض مع مبدأ الاعتراف المتبادل لكلينا والشروع في المفاوضات.
ولكننا لا بد لنا من التركيز على عدد من المبادئ التي تقود رؤيتنا في مسألة حق العودة: ان حق العودة هو حق مشروع ومعترف به من الأمم المتحدة، وفقاً للقرار 194 الصادر في [11 كانون الأول / ديسمبر 1948]. ومن المفيد أن نتذكر في هذا المجال القرار 273 الصادر في 11 أيار [/مايو] 1949، والذي قبلت إسرائيل بموجبه عضواً في الأمم المتحدة وتعهدت باحترام ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها بما فيها قرار رقم 194.
من هنا، فإن حق العودة هو حق مقدس، لأنه يتصل بجوهر حقنا ومشروعيته. ولكننا سنقبل التفاوض حول شروط تطبيق هذا الحق، وسيكون القرار 194 قاعدة البحث في هذا المجال.
ومن مخاوفكم: إطار عملية السلام
وأود هنا أيضاً التأكيد على أن الشعب الفلسطيني في حاجة إلى ضمانات، كالأطراف الأخرى بل وأكثر من الشعوب الأخرى حيث لا يخرج الشعب الفلسطيني من تيه إلا ليدخل إلى تيه جديد ومن حصار إلى حصار ومن مجزرة إلى أخرى. هذه الضمانات لا يمكن الحصول عليها إلا من الدول العظمى والأمم المتحدة كما هو جار مع مختلف المشاكل الدولية في بقية بقاع العالم، وكذلك بمشاركة الأطراف الإقليمية المعنية. وهذا ما يفسر إلحاحنا في المطالبة بإطار دولي للحل لا يتعارض مع الحاجة الإسرائيلية إلى الضمانات، هذا الإطار هو المؤتمر الدولي للسلام.
ومن أجل التغلب على العقبات التي تعترض انعقاد المؤتمر الدولي، والناتجة أساساً عن التعنت الإسرائيلي المدعوم والمحروس أميركياً، ومن أجل خلق مناخ من الطمأنينة والتغلب على قلق الذات الإسرائيلية، وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على إجراء حوار بين ممثلي الحكومة الإسرائيلية وممثلي الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، على أن يكون هذا الحوار جزءاً من عملية التسوية الشاملة والنهائية، وأن يستوعب جدول أعماله كافة الأفكار والمقترحات والقضايا ومن ضمنها: الانتخابات، والنقاط المصرية العشر.. ولكن الحكومة الإسرائيلية، برفضها مبدأ الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية، بإصرارها على تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني، على رفض تطبيق أحكام القرار 242، وعلى رفض مبدأ الأرض مقابل السلام، لا تعيق عملية التسوية السلمية فحسب، بل تفضح المضمون الدعائي لمشروع الانتخابات الذي ادعت أنه مشروعها. ولتضليل الرأي العام العالمي، والإسرائيلي، ولكسب الوقت من أجل إطالة عذاب الشعب الفلسطيني وقمع الانتفاضة، ولخلق وقائع جديدة، ديموغرافية وسياسية، في الأرض الفلسطينية المحتلة، تعيق عملية التسوية، وتجمد وعي السلام، وتقود شئنا أم أبينا إلى انفجار مدمر جديد في المنطقة واضعين نصب أعيننا أن منطقته هي المنطقة الوحيدة التي لا يوجد فيها حد للأسلحة وإنما تحشيد وتكاثر لها – أسلحة ذرية وكيماوية وكلاسيكية – فهل هذا هو خيار القيادة الإسرائيلية. أما خيارنا نحن فقد أكدناه ولا زلنا نؤكده. إننا نريد السلام – سلام الشجعان لا استسلام المغلوبين والغالبين.
إن منظمة التحرير الفلسطينية قد قدمت كل ما في وسعها أن تقدمه من التزامات تجاه الحل، وشيدت قاعدة للسلام الشامل القائم على أساس الشرعية الدولية ومراعاة توازن المصالح بين أطراف الصراع كلها، دون أن تحصل من الطرف الإسرائيلي الرسمي على أي تجاوب إيجابي وعلى أي التزام تجاه عملية السلام. لقد سارت الحكومة الإسرائيلية في اتجاه معاكس: أمعنت في التنكر للإجماع الدولي ولنداءات التجمعات اليهودية وتجاهلت مبادرات السلام الدولية كلها، وتوغلت في الهرب من المستقبل بالإصرار على السفر الطائش في الماضي وفي الخرافة، وفي السير عكس تيار التاريخ ورياح التغيير التي تعصف بكل العقليات المتخلفة والجامدة. ومع ذلك، مع ذلك لن نتخلى عن رسالة السلام التي رفعناها للذات وللآخر من أجل أطفالنا وأطفالكم. لن نقترب من هاوية الإحباط واليأس التي يحفرها لنا ولكم هذا الجنون الإسرائيلي الرسمي وغطرسة القوة الزائلة. فإننا نتطلع إلى هذا الاجتماع بتفاؤل.. نتطلع إلى تفاعل رسالة السلام العادل والشامل، في وعي أنصار السلام الإسرائيليين، أفراداً وجماعات، وفي عمق وجدان الضمير اليهودي العالمي، فعلى هؤلاء وأولئك أن يشكلوا قوة ضغط، معنوية ومادية، لحماية الإنسان الإسرائيلي من تحجّر قيادته المدمر، دفاعاً عن قيمه الروحية وحفاظاً على قيمه الإنسانية.
إن تأثيركم المعنوي والعملي كبير في إسرائيل وفي غير إسرائيل، ونحن ننتظر الكثير من اجتماعكم للضغط على الحكومة الإسرائيلية للاستمرار في عملية السلام.
لقد لعب اليهود، عبر التاريخ الإنساني، دوراً طليعياً في معارك الدفاع عن الحرية والإنسانية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أولئك الرجال العظام من قادة الجاليات اليهودية في العالم الذين وقفوا دائماً وأبداً هذه المواقف السامية النبيلة.
ومن المواضيع الهامة التي أتوجه إليكم وأدعوكم لبحثها هي محاولة الحكومة الإسرائيلية استثمار حق اليهود السوفيات في الهجرة في محاولة إلغاء حق الشعب الفلسطيني في الوجود.
هنا، أود أن أحدد أمامكم موقفنا من هذه المسألة، بلا لبس أو غموض: نحن نؤيد حق الأفراد في التنقل، ونحترم حريتهم في اختيار البلد الذي يريدون العيش فيه. ولكن لهذا الحق حدودا، مثل أي حق آخر، يمكن تحديدها كالتالي: ان حدود أي حق يرسمها حق إنسان آخر ولا يكون على حسابه، هذا الحق هو: حق الشعب الفلسطيني في العيش في وطنه، وحقه في مقاومة محاولة اقتلاعه وتشريده وتهجيره، بالإضافة إلى حق المهاجر اليهودي في اختيار البلد الذي يريد الهجرة إليه لا أن يساق قسراً ضد رغبته إلى حيث لا يريد.
ان حركة الهجرة القسرية هذه ستؤدي شيئاً فشيئاً، شئنا أم أبينا، إلى تفجرات خطيرة قد تنزل ضربة قاصمة بجهود التسوية كلها.
أيها السيدات والسادة
إن أمام منطقتنا فرصة تاريخية لتحقيق السلام. لا تدعوا الفرصة تمر، لأن التأخير والمماطلة معناهما سنوات من الدمار والموت والمآسي ستمر قبل أن نشهد فرصة أخرى مواتية، فلا مفر من السلام.. السلام هنا هنا.. السلام الآن الآن.. السلام لنا.. السلام لكم.. السلام لأطفالنا ولأطفالكم، ولنسائنا ولنسائكم، ولمستقبل نبني فيه ولا نهدم، السلام لأرض السلام.. أرض الأنبياء والرسل وسلام الأنبياء والرسل.
تونس في: 17/2/1990
[التوقيع]
ياسر عرفات
* المصدر: أوراق دولة فلسطين – منظمة التحرير الفلسطينية - تونس.