المسيري. "اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهدّامة والسرية" (بالعربية)
النص الكامل: 

من أعظم المصائب على "العقل العربي" أن يكون بعض المشتغلين بقضايا الفكر والتفكير أول من يتنكر للعلم وللحقيقة. فقد اطمأن بعض هؤلاء إلى ما هم عليه من استقرار، وسكنوا إلى معارفهم الموروثة، وقعدوا عن البحث والتحقيقي والتدقيق، وانفلتوا عن المعرفة والتبصر إلى يقين زائف وإلى نوع من الكسل العجيب حينما يتطلب الأمر دراسة اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل.

واليوم، بعد خمسين عاماً على قيام إسرائيل، ومئة عام على ظهور الحركة الصهيونية، وأكثر من مئة وخمسة وعشرين عاماً على بداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ما زال "العقل العربي" مشغولاً بجمع الحقائق عن اليهود وإسرائيل من غير أن يرتقي بها إلى مصاف الحقيقة العلمية. وهذه الحال هي إحدى علامات العياء في الفكر العربي. ويتجسد هذا العياء بالانصراف إلى حشد الأوهام وأنصاف الحقائق وأرباعها، ثم إقامة معمار نظري عليها بحيث تبدو متماسكة ومتينة ويمكن الركون إليها وإلى نتائجها. وأكثر ما نصادف هذا الأمر في الكتابات التي لا ينفك ينشرها على الناس جماعات أقامت صروح تفكيرها على فرضيات لا يقين فيها، مثل "بروتوكولات حكماء صهيون" و"المؤامرة اليهودية العالمية" و"القوة الخفية لليهود"، فجاءت نتائج هذا التفكير زائفة على مثالها وغرارها.

إن كتاب "اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهدّامة والسرية" كتاب ثاقب في منهجه وفي شواهده وفي النتائج التي خلص إليها. فهو يسخّف التفكير الاختزالي السائد في الأوساط الثقافية العربية التي لا تزال تلوك مصطلحات مضلّلة من نوع "يد اليهود الخفية" و"العبقرية اليهودية" وغيرها من المصطلحات. وهو يطيح مرتكزات التفكير لدى أصحاب التصورات التوهمية وذوي الطريقة التآمرية في تفسير التاريخ، ويفكك أسس النظريات الهلامية ويكشف ضحالتها ثم يقيم، بدلاً من ذلك كله، واستناداً إلى الشواهد الحاسمة والبراهين الساطعة، معماراً نظرياً جديداً يتيح دراسة اليهود دراسة علمية صحيح. ووجهة النظر هذه ترى في اليهود واليهودية، أكان ذلك في التاريخ القديم أم الحديث، جماعات نشأت في سياق التاريخ لا خارجه؛ أي أن قوانين الاجتماع والعمران تنطبق عليهم ولا تستثنيهم.

وبناء على ذلك، يفند الكاتب كل الأوهام السارية عن أصل كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"، ثم يلوي على الأباطيل التي ما فتئت تشيع أن الماركسية والبلشفية هما من صنع حاخامات اليهود. ثم يركز الكاتب على دحض الخرافات التي عشتت طويىً في أدمغة بعض مَن تصدى لدراسة اليهودية والصهيونية وإسرائيل، والتي ما انفكت تتحدث عن "العبقرية الخاصة لليهود"، وعن هيمنة اللوبي على مقدّرات الولايات المتحدة وسيطرته على القرار الأميركي، وعن القدرة التي لا حدود لها لحكومة اليهود الخفية في العالم وإلى ما هنالك من تخاريف وأضاليل، ويحاول الإجابة عن بعض الأسئلة التي تشغل الكثيرين من الناس مثل: ما علاقة اليهود بالبهائي والماسونية؟ ما هو "المخطط اليهودي" للسيطرة على العالم كما ورد في روتوكولات حكماء صهيون؟ ما حقيقة "العبقرية اليهودية" و"الإجرام اليهودي" و"الانحلال الخلقي الذي لا يكف اليهود عن إشاعته في العالم قاطبة"؟

والكتاب في نقضه التفكير الاختزالي الشائع جداً في الأوساط الثقافية العربية، وفي زحزحته الأسس التي يقوم عليها التصور التآمري للتاريخ، يتقدم خطوات واسعة جداً نحو إرساء معالم منهج علمي تركيبي في حقل الدراسات اليهودية والصهيونية وما يتفرع منها من حركات واتجاهات ومنظومات فكرية ومنظمات سياسية. على أن هذا الكتاب ليس مساهمة جديدة خالصة في جملة مساهمات المؤلف الفكرية والنقدية؛ فقد نشر بعض فصوله، سابقاً، في كتاب بعنوان: "الجمعيات السرية في العالم" (القاهرة: دار الهلال، كتاب الهلال رقم 515، تشرين الثاني/ نوفمبر 1993). غير أن هذا الكتاب الجديد فيه تنويع وتفصيل ومزيد من الفوائد والمحاسن.