يذهب الكاتب إلى أن الظاهرة الأبرز في الواقع السياسي الفلسطيني هو الانتقال المتسارع، منذ خروج م.ت.ف. من لبنان، لمركز الثقل النضالي ـ التنظيمي من خارج فلسطين إلى داخلها، وتغير مكونات "الشرعية" في النظام السياسي مع قيام السلطة الفلسطينية. ومن العناوين الفرعية في المقال: الحسم السريع لازدواجية السلطة؛ الحاجة الوطنية والاجتماعية ـ القيمية إلى تشكيل قطب ثالث؛ انتخابات مجلس الحكم الذاتي وموقف القوى الديمقراطية العلمانية.
مقدمة
توجد الحركة السياسية الفلسطينية في مرحلة انعطافية ذات سمات فريدة؛ وهي مرحلة تستمد سماتها وديناميتها الجديدة من تأثيرات متغيرات ومستجدات محلية وإقليمية ودولية، ليس هنا مجال الدخول في تفصيلاتها؛ ويتمثّل أبرز عناوينها في المتغيرات التي دخلت - بفعل عوامل ذاتية وموضوعية - على الواقع السياسي الفلسطيني واصطفافاته الداخلية والخارجية منذ خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت سنة 1982. وتسارعت هذه التحولات بعد اندلاع الانتفاضة في أواخر سنة 1987، وحرب الخليج الثانية سنة 1991، وانتهاء الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفياتي. ثم تسارعت مجدداً بعد بدء المفاوضات العربية - الإسرائيلية وتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل اتفاقات أوسلو والقاهرة وطابا. وقد تركت المعطيات الجديدة وتفاعلاتها آثارها في الوضعين العربي والإسرائيلي، وانعكست هذه بدورها على الشرط الفلسطيني السياسي والاقتصادي والاجتماعي. كما طرأت، منذ نهاية الثمانينات، تبدلات نوعية على الأوضاع السياسية والاقتصادية لمعظم التشكيلات الاجتماعية الفلسطينية في الشتات وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك بفعل سياسات الاحتلال الإسرائيلي، وتحولات السياسة العربية، ومتغيرات البنى الاجتماعية - الاقتصادية للدول العربية المضيفة.
تبلوُر مكوّنات جديدة للشرعية
تتمثل الظاهرة الأبرز في الواقع السياسي الفلسطيني، الذي ظهر بعد خروج منظمة التحرير من لبنان سنة 1982، في الانتقال المتسارع لمركز الثقل النضالي - التنظيمي من خارج فلسطين (وتحديداً لبنان بعد الانتقال من الأردن في إثر الصدام مع النظام في سنتي 1970 و1971) إلى داخلها (الضفة والقطاع)، أي إلى موطنه الطبيعي. وهو انتقال ساهمت في تحقيقه عوامل عدة، منها: توفر عامل الثقل السكاني على أرض فلسطينية تحتلها إسرائيل، والإقرار الدولي بعدم شرعية ذلك الاحتلال؛ المنحى الانحداري للوضع العربي الرسمي تجاه القضية الفلسطينية والقضايا القومية الأُخرى من جانب، وتراجع دور القوى الديمقراطية والقومية العلمانية العربية من جانب آخر، وما فرضه هذا وذاك من قيود وصعوبات إضافية على العمل السياسي والتنظيمي والعسكري الفلسطيني؛ إعلان الاستقلال الفلسطيني سنة 1988 في ظل انتفاضة شعبية كرست انتقال الثقل النضالي والتنظيمي إلى ساحتها الجغرافية - البشرية؛ قيام سلطة فلسطينية على جزء من الأرض الفلسطينية في إثر اتفاق أوسلو، والاتفاقات التالية. وقد ترافق المتغير الأخير مع تهميش دور مؤسسات منظمة التحرير وانتقال صنع القرار الفلسطيني إلى خارجها، وتكريسه، عملياً، في يد فرد واحد ممثلاً برئيس السلطة الفلسطينية ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
ومع قيام السلطة الفلسطينية، تغيرت مكونات "الشرعية" في النظام السياسي الفلسطيني من صيغ اعتمدت "الوحدة الوطنية"، و"الإجماع"، و"البرنامج السياسي" الموحد والمقر من هيئات منظمة التحرير وبمشاركة الفصائل الرئيسية وأغلبية الفصائل الأُخرى، واعتمدت تنوع أساليب النضال - مع إبراز العمل العسكري - ضد الاحتلال، إلى مكونات تعتمد صيغاً أُخرى على أساس استخدام مكونات القوة بمرتكزاتها العسكرية والمالية والإدارية من جانب، وعلى أساس فئوي تنظيمي من جانب ثانٍ، أي على أساس تنظيم واحد عملياً - وإن كان الأوسع، حالياً، في الساحة - لا على أساس الائتلاف الوطني الواسع والشامل في إطار منظمة التحرير، وعلى أساس إعادة تنشيط جوانب من المجتمع التقليدي (الحمائلية) المتقبل للمحسوبية ولسياسة التعيينات القائمة على أسس تمثيلية وجاهية عشائرية (معادية في أسسها لمفهوم المواطنة) من جانب ثالث، وعلى أساس عملية احتواء شريحة واسعة من "الإنتليجنسيا" الفلسطينية المحلية والعائدة، من جانب رابع. كما أن جزءاً من "الإنتليجنسيا" في الضفة والقطاع والقدس كان قد احتل، كجماعات أو كأفراد، وبصورة مباشرة أو عبر تنظيمات يسارية، مواقع مسؤولة فيما يعرف بمنظمات غير حكومية، وهي منظمات خدماتية "ريعية"، يعتمد عدد كبير منها على التمويل الخارجي لا على المجتمع المحلي، ويفتقر الكثير منها إلى آليات محاسبة محلية أو جمعيات عمومية فاعلة بحكم نشأتها وتسجيلها كجمعيات خيرية، ويفتقر أيضاً إلى تقاليد ونظم تكفل الديمقراطية الداخلية. كما أنها ستعتمد في عملها، في المرحلة الثانية من تطبيق اتفاق أوسلو، على إشراف وترخيص من السلطة الفلسطينية.
بتعبير آخر، هناك إعادة صوغ لأسس "الشرعية" ومكوناتها فلسطينياً، وذلك بالاعتماد على شرائح وقوى تنظيمية ومؤسسات تقليدية موجودة في "مجتمعات" محلية هي قاعدة للنخبة السياسية التي تولت السلطة في إثر اتفاق أوسلو. وهي سلطة تقدم نفسها، في الممارسة العملية والأيديولوجية، لا بصفتها وارثة لمنظمة التحرير الفلسطينية فحسب، بل أيضاً بصفتها نواة دولة تسعى لامتلاك مقومات السيادة وسماتها. ومن هنا المبالغة الشديدة في رموز السيادة الوطنية. وكانت العشائرية والزعامات التقليدية قد هزلت كثيراً، وهُمشت إلى درجة انعدام الوزن خلال المرحلة السابقة من العمل الوطني الفلسطيني، حيث شكلت منظمة التحرير الفلسطينية نظاماً سياسياً فلسطينياً قائماً على الانتماء الوطني وعلى أساس التعددية التنظيمية والسياسية والفكرية.
وتؤدي سياسة التعيينات في مختلف أجهزة السلطة ومؤسساتها دوراً مهماً في عملية إرساء شرعية جديدة، وفي توسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية. فهي تخدم، أولاً، عملية تنشيط البنية العائلية - العشائرية، وإعادة نوع من الاعتبار السياسي لها. وتخدم، ثانياً، عملية تحويل حركة "فتح" إلى حزب حاكم ومهيمن على أجهزة السلطة، وتربط العضوية التنظيمية بالوظيفة في أجهزة السلطة المركزية والسلطات المحلية، وما يتفرع عن هذه وتلك من مصالح وخدمات وأنشطة وعلاقات مختلفة في القطاعين العام والخاص. وهي تمكن، ثالثاً، من استيعاب وتحييد شريحة واسعة من المثقفين والتكنوقراط في أجهزة السلطة وأطرها.
الحسم السريع لازدواجية السلطة
إن عملية التحول في النظام السياسي الفلسطيني، التي تقودها السلطة المنبثقة من اتفاق أوسلو سنة 1993، لا تواجه قوى فلسطينية معرقلة أو مؤثرة بقوة في مسيرتها أو في اتجاهها. وثمة عدة عوامل تتفاعل لتفسِّر ذلك، من أبرزها:
1) إن عملية التحول في النظام السياسي الفلسطيني تستند إلى عناصر قوة ينبغي عدم الاستهانة بها؛ فهي تستند إلى قوى عسكرية منظمة (أجهزة الشرطة والأمن) لا تملك المعارضةُ الفلسطينية، ومن غير المتوقع أن تملك في المدى المنظور، قوة مشابهة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد نجحت السلطة في أن تؤمّن في المناطق التي تسيطر عليها قدراً ملموساً من الأمن والإحساس بالأمان للمواطن العادي، قياساً بالفلتان الأمني الذي ساد قبل قيام السلطة الفلسطينية. وهي قوى تملك قدرة ردعية مؤثرة إذا ما أُخذ في الاعتبار غياب السلطة التشريعية والدستور والقضاء المستقل، وضعف الأحزاب السياسية العلمانية ذات القاعدة الجماهيرية. كما أنها، بخلاف الاحتلال وقوته العسكرية التي تتفوق بصورة نوعية وكاسحة على ما لدى السلطة الفلسطينية، تستند إلى قاعدة اجتماعية واسعة نسبياً. كما يتوفر للسلطة مصادر مالية (وإن محدودة بمقاييس بلاد أُخرى) يجري توظيفها في مجالات أمنية واقتصادية واجتماعية وإعلامية داعمة لتوسيع هذه القاعدة، وبالتالي لعملية "تشريع" النظام الناشئ وإن إلى حين. ويضاف إلى ذلك دور المؤسسات الفلسطينية العامة في المجالات التربوية والصحية والاجتماعية والثقافية، وغيرها.
2) الوهن الذي أصاب الأحزاب الديمقراطية العلمانية (اليسارية تحديداً) لأسباب ذاتية وموضوعية. وكان لمتغيرات الواقع الفلسطيني السياسي والاقتصادي - الاجتماعي والمعيشي اليومي في الضفة والقطاع، كما في الشتات، دورها في إنتاج حالة من الإحباط السياسي ساهمت في تقبّل أغلبية الناس في الضفة وقطاع غزة أن تُترك للسلطة شؤون المفاوضات والتسوية السياسية مع إسرائيل، وقد وجدت نفسها مشدودة إلى شؤونها الحياتية والمعيشية الصعبة. كما ساهمت الفصائل الفلسطينية، وإن بنسب ومسؤوليات متباينة، في فقدان الأمن الشخصي والاجتماعي في الضفة والقطاع خلال المرحلة الأخيرة من الانتفاضة؛ وهو أمر لم يعزز صدقية التنظيمات السياسية، بما في ذلك القوى الديمقراطية.
كان للفصائل اليسارية الفلسطينية أخطاؤها وتقصيراتها، سواء في إطار المواقف أو في المسلكيات خلال المرحلة التي سبقت اتفاق أوسلو. وقد اشتملت تلك الأخطاء والتقصيرات على: المشاركة في نظام "كوتا" لتوزيع المقاعد في أطر وهيئات منظمة التحرير القيادية، الأمر الذي عزَّز في المحصلة هيمنة تنظيم واحد على سياسة منظمة التحرير وبنيتها ومقدراتها، وساهم في التراجع التراكمي لدور مؤسسات المنظمة السياسي والتنظيمي، وانتقال صون القدرات الوطنية إلى خارج تلك المؤسسات؛ غياب الانسجام بين الشعار والممارسة، وتحديداً على صعيد الممارسة الديمقراطية الداخلية وفي العلاقة مع قوى "المجتمع المدني" الأُخرى (النقابات والاتحادات القطاعية والمهنية...)؛ الميل عند بعض قوى اليسار إلى طرح الشعارات السياسية غير الواقعية والدخول في تشكيلات تنظيمية لا تملك صدقية عالية على الصعيد الجماهيري (المشاركة في جبهات "الرفض"، و"الإنقاذ"، و"القوى العشر"...)؛ استسهال بعضها الاستنكاف أو التحالف غير الانتقادي مع قيادة "فتح"، إلخ. وتجد هذه الفصائل والقوى نفسها الآن في حالة من انعدام الوزن. وهي حالة تعيشها منذ توقيع اتفاق أوسلو (أي على مدار عامين كاملين).
بيد أن تلك الأخطاء والتقصيرات لا تنحصر في ذلك كله، بل إن الفصائل اليسارية أو الديمقراطية (أو تلك التي تعرّف نفسها كذلك) وقعت في أخطاء تكتية ذات أبعاد استراتيجية، منها: الإحجام عن الانخراط في النضال السياسي في الأطر الوطنية الفلسطينية القيادية، وعدم بذل الجهد الكافي لتطوير ودمقرطة وتفعيل مؤسسات العمل الوطني المركزية (لجنة تنفيذية؛ مجلس مركزي؛ مجلس وطني؛ هيئات أُخرى في منظمة التحرير؛ اتحادات قطاعية ومهنية...). بل إن أغلبية القوى والفصائل الديمقراطية العلمانية أخلت مواقعها في هذه المؤسسات، تاركة إياها حكراً لسيطرة تنظيم واحد. وقد وجدت قيادة هذا التنظيم المناسبة مؤاتية لتهميش دور تلك الأطر الوطنية لمصلحة التركيز على هياكل ودور السلطة الجديدة المنبثقة من اتفاق أوسلو. ولم يكتف بعض قوى اليسار الفلسطيني بذلك الموقف، بل إنه، وهو التيار العلماني الديمقراطي الوطني، لم يتوان عن الدخول في تحالفات سياسية ونقابية مع تيار الإسلام السياسي المعارض للعلمانية والديمقراطية، بل أيضاً لجزء أساسي من تعابير الوطنية الفلسطينية حتى وقت قريب على الأقل. وبانت تلك العلاقة للجمهور الفلسطيني بأنها علاقة تابعة، أي علاقة تقوم على التلطي وراء تنظيم سياسي ذي قاعدة جماهيرية، أو أنها تعابير عن مواقف تكتية منحرفة عن الاتجاه الصحيح. والأهم أن هذا النهج ساهم في تقوية اتجاه الإسلام السياسي ثقافياً، وفي إعطائه شرعية وطنية على حساب الموقف الذي يفترض أن يمثله هو. وهناك خشية الآن من أن تقترف هذه القوى والأحزاب خطاً تكتياً أكبر بالإحجام عن خوض معركة الانتخابات المزمع إجراؤها لانتخاب مجلس للحكم الذاتي، ورئيس لهذا المجلس خلال المرحلة الانتقالية.
لكن الإشكال التنظيمي الأكبر للقوى والفصائل اليسارية العلمانية يكمن في استمرار تشرذمها وتشظيها، بل تواصل هذا التشرذم، على الرغم من تقاربها البرنامجي المعلن واستعداداتها التنظيمية الأكبر المعلنة للدخول في أشكال من العلاقات الوحدوية.
3) لا شك في أن حركة الإسلام السياسي في فلسطين المحتلة نجحت في الانتقال، بمساعدة ظروف موضوعية مؤاتية محلية وإقليمية ودولية وتطويرات برنامجية ذاتية، من كونها تنظيماً نخبوياً محدود التأثير ومحاصراً من قِبل حركة وطنية علمانية إلى كونها تنظيماً معارضاً ذا برنامج متعدد الأنشطة وذا قاعدة جماهيرية واسعة نسبياً. وليس مصادفة أن يكون ذلك قد تم في خضم الانتفاضة الشعبية. فقد كشفت هذه عن جوانب الخلل البنيوي والتعبوي الذي تعانيه منظمة التحرير: البيروقراطية المعادية للممارسة الديمقراطية (من زاوية توسيع المشاركة في صنع القرار، ومن زاوية إرساء تقاليد محاسبة ورقابة في الحياة العامة)؛ الترهل السياسي والتنظيمي؛ الفئوية الضحلة والمؤذية؛ الثقل القيادي المتمركز في الخارج والمتخوف من فقدان امتيازاته وسيطرته الإدارية؛ تغييب وطمس دور الهيئات والمؤسسات الوطنية... إلخ. وقد جاءت الانتفاضة لتكشف مدى استفحال البقرطة والروتين في أجهزة وفصائل منظمة التحرير بكل ما رافقها من ضعف الحساسية تجاه مشكلات وأمزجة وهموم قطاعات واسعة من الجمهور الفلسطيني، ومن فساد وإفساد يتعلقان بالمال والمناصب، وسلوكيات استعراضية.
لقد اختارت "حماس" لحظة استعداد جماهيري لعمل ثوري خُلُقاً وممارسة، وهو استعداد هدف إلى إزالة كابوس الاحتلال والاستيطان، وصولاً إلى تحقيق الاستقلال. ومن هنا، لم يكن اختيار حركة "حماس" للبرنامج الذي تبنّته الثورة الفلسطينية عند انطلاقتها، ولا اختيار أساليب هذه الثورة وخُلُقياتها، عفوياً بقدر ما جاء تلمساً واستجابة لمزاج جماهيري برز في الأرض الفلسطينية المحتلة في النصف الثاني من الثمانينات. ومن الممكن أن يكون تدهور الأوضاع المعيشية لقطاع واسع من الفلسطينيين مع بداية التسعينات نتيجة الأزمة المالية لمنظمة التحرير وتأثيرات نتائج حرب الخليج في دخل سكان الضفة والقطاع، وتبعية الاقتصاد الفلسطيني شبه الكاملة للاقتصاد الإسرائيلي، وتصاعد إجراءات القمع والاستيطان الإسرائيلية على الرغم من بدء مؤتمر مدريد وحتى بعد اتفاق أوسلو، من الممكن أن تكون هذه الأوضاع كلها قد ساهمت في تمهيد بيئة ملائمة لتوسيع الطاقة التعبوية لحركة "حماس"، ولا سيما أنها نجحت (ومعها "الجهاد الإسلامي") في تنظيم سلسلة من العمليات العسكرية المؤثرة ضد الاحتلال.
لكن "حماس"، وإن كانت طرحت في البداية على الأقل ممارسة وخلقية "ثوريتين" (كما فعلت الثورة الفلسطينية عند انطلاقتها)، فإنها تواجه حالياً المعضلة البرنامجية ذاتها التي واجهتها الثورة الفلسطينية، وذلك بحكم الاختلال الواسع في ميزان القوى المحلي والإقليمي والدولي، الذي يجعل شعاراً كشعار التحرير الكامل يبدو خيالياً. ولذا، فهي مضطرة، كي تتحول إلى جسم فاعل في السياسة الفلسطينية، إلى تقديم برنامج سياسي يتسم بشيء من الواقعية. وفي هذه الحال، فإن هذا البرنامج لن يكون مختلفاً كثيراً عما طرحته المنظمة سنة 1974 وأكده "إعلان الاستقلال" سنة 1988. فشعار "الإسلام هو الحل" يبقى شعاراً عاماً جداً فيما يتعلق بمعالجة القضايا السياسية الوطنية، ولا يوحي بالملموسية سوى في مجال قوانين الأحوال الشخصية (وهذه مطبقة في جميع الأحوال) وفرض قيود على حقوق المرأة في الحياة العامة والعمل. كما أن النماذج المتوفرة للإسلام السياسي الحاكم في عدد من دول المنطقة لا توفر دلائل على مقدرة خاصة على إحداث تغييرات جذرية لمصلحة عامة الناس (كما هي حال النموذجين الإيراني والسوداني)، ولا على منع تفجر حرب أهلية دامية بين القوى المتنافسة سياسياً (كما هي الحال في أفغانستان والجزائر). كما أن حركة "حماس"، كغيرها من التنظيمات السياسية المشكَّلة على أساس من التراتبية والاحتراف لكادر واسع نسبياً، عرضة لظواهر البقرطة والروتين والمرْكزة الشديدة، والاعتماد المتزايد على الأساليب الإدارية وأساليب إصدار الأوامر في القيادة... إلخ.
لكن اتجاه الإسلام السياسي، وهذا ينطبق على قوى المعارضة الأُخرى، وتحديداً تلك التي تملك قاعدة اجتماعية في الضفة وقطاع غزة، دخل وضعاً مستجداً ومختلفاً بعد إقامة السلطة الفلسطينية وبدء تشكلها الفعلي على أرض الواقع. فلم يعد هذا الاتجاه يواجه الاحتلال فقط، بل بات عليه، إن هو أراد البقاء في صفوف المعارضة وتجنب إشعال حرب أهلية، ابتداع أشكال جديدة من المناهضة السياسية للسلطة تختلف عما اتبعه في مواجهة الاحتلال، كما تختلف عن أشكال معارضة المشاركة في مفاوضات مدريد، وحتى معارضة اتفاق أوسلو. ففي المرحلة التي سبقت إقامة سلطة الحكم الذاتي، كانت المعارضة للمفاوضات معارضةً لموقف تنظيم من تنظيمات منظمة التحرير أو لاتجاه سياسي داخلها، لكنها بعد أوسلو أصبحت تأخذ شكل معارضة لسلطة رسمية قائمة على الأرض ولها قاعدتها الاجتماعية، وأجهزتها الأمنية والقضائية، ولها - بالنسبة إلى المجتمع الدولي على الأقل - حق استخدام العنف ضد القوى التي تعارض القوانين المحلية (التي تسنّها السلطة طبعاً) والاتفاقات المعقودة معارضة غير سلمية.
ولأن حركة "حماس" لم تدرك ذلك، فإنها فوجئت بقرار السلطة الفلسطينية بمواجهتها أمنياً في تشرين الثاني/نوفمبر 1994. وقد تواصلت هذه المواجهة الساخنة ضد "حماس"، وضد قوى المعارضة الأُخرى (وإن كانت اتخذت أشكالاً أقل حدة من أشكال المواجهة مع "حماس") عبر الحملات الإعلامية، واعتقال أعداد من قيادييها وكوادرها، وإغلاق صحفها بين حين وآخر. لقد جرى تحميل "حماس" و"الجهاد الإسلامي" مسؤولية تأخير تطبيق المرحلة الثانية من اتفاق أوسلو (إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي خارج المناطق الآهلة...) وتجويع عائلات العمال الذين يعتمدون في رزقهم على العمل داخل إسرائيل بفعل عملياتهما العسكرية ضد أهداف إسرائيلية.
لقد حسمت السلطة الفلسطينية ظاهرة ازدواجية السلطة التي سادت فترة من الزمن (ربما حتى أواخر سنة 1994) في مناطق الحكم الذاتي، وأظهرت أنها قادرة على فرض الأمن والنظام العام في مناطق سيطرتها. وربما كانت كسبت بذلك تأييداً من بعض القطاعات الاجتماعية (المرأة، والعمال)، لكنها بالتأكيد استطاعت تعبئة وإعادة توحيد تنظيم "فتح" (وتجنيبه أية انشقاقات على الرغم من التناحرات التي ظهرت بين الأعضاء في قيادته) كحزب للسلطة، وأظهرت أن السلطة يهيمن عليها تنظيم "فتح" والخط البراغماتي الذي يقوده رئيس السلطة الفلسطينية، الذي نجح في تهميش المعارضة داخل "فتح"، والقيادات التي اختارت المعارضة من "الخارج".
إن هذا لا يعني أن "حماس" أصبحت تنظيماً هامشياً. فعلى الرغم من حسم ازدواجية السلطة لمصلحة السلطة الرسمية واضمحلال سطوة "حماس"، فإنها تبقى حركة ذات قاعدة جماهيرية تأتي - من حيث التأثير والحجم - في المرتبة الثانية بعد حركة "فتح". وتتفوق حركة "حماس" خاصة، والتيار الإسلامي السياسي عامة (وبفارق مهم)، على أي تنظيم ديمقراطي علماني (أو على مجموع التنظيمات الديمقراطية العلمانية) في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة.
إن عدم إدراك طبيعة وحجم التغيير الذي دخل على الخريطة السياسية الفلسطينية والإقليمية بفعل اتفاق أوسلو هو ما يفسر استمرار الخطاب السياسي الفلسطيني التقليدي عند بعض فصائل المعارضة: خطاب يدعو، على سبيل المثال، إلى الحوار الوطني الشامل، والوحدة الوطنية، وإسقاط اتفاق أوسلو، والتمسك في الوقت نفسه بصيغ تنظيمية تراتبية يقيم مركزها خارج مناطق السلطة الفلسطينية وخارج المواجهات المباشرة مع السياسة الإسرائيلية. فلغة "الحوار الشامل" و"الوحدة الوطنية" لا تأخذ في الاعتبار قيام سلطة رسمية وبروز الحاجة، بالتالي، إلى قيام معارضة رسمية وغير مقيدة، وربما تُضمر استعداداً للمشاركة، بصورة أو بأُخرى، في مؤسسات السلطة، أو أنها تسعى للتهرب من مهمات تشكيل قطب ثالث معارض. كما أن شعار إسقاط اتفاق أوسلو والاتفاقات اللاحقة له لا يطرح آليات لهذا الإسقاط، ولا يبين ما إذا كان الإسقاط يشمل السلطة المنبثقة من الاتفاق المذكور، وأية سلطة بديلة تحل مكانها. وربما كان الاعتبار نفسه (أي تقييد الديمقراطية السياسية عبر تقييد دور المعارضة) وراء مطالبة نص مشروع قانون الأحزاب السياسية المقدَّم من السلطة الفلسطينية بأن تساهم الأحزاب السياسية الفلسطينية "في تحقيق التقدم السياسي والاجتماعي على أساس الوحدة الوطنية."
4) التهميش الشديد لدور منظمة التحرير كمؤسسة وطنية جامعة (وفّرت - عبر مؤسساتها وعبر التشكيل الأفقي للتنظيمات السياسية - آليات للربط بين تجمعات فلسطينية شديدة التباين في أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية)، ومصادرة دورها ووظائفها ومعظم دوائرها من قِبل السلطة الفلسطينية الناشئة. وقد ساهمت قوى اليسار في عملية التهميش هذه تاريخياً عبر "نظام الكوتا" والتجزؤ، والتناقضات في المواقف السياسية، إلخ...، وراهناً عبر الاستنكاف عن خوض صراع داخل مؤسساتها وخارجها كلما اقتضى الأمر ذلك. لقد أدّى هذا الهزال الشديد للمنظمة وهياكلها، وتوقف الأغلبية العظمى من مؤسساتها وهيئاتها القيادية عن العمل، إلى تغييب الدور المرجعي والرقابي الذي تقع مسؤولية تأديته إزاء السلطة وسياستها على عاتق المنظمة. كما أن هذا التهميش يهدد بتعميق أوجه التعارض داخل صفوف الشعب الفلسطيني بين "داخل" و"خارج". ولقد حدث انقلاب سياسي أطاح منظمة التحرير وأدى إلى تنحيتها و"تقشيطها" ما كان قد بقي لها من نفوذ وتأثير في ساحة العمل الوطني الفلسطيني.
ورافق تهميشَ منظمة التحرير تهميشٌ (إلى حد الإلغاء في معظم الحالات) لجميع الاتحادات والنقابات القطاعية والمهنية، التي اعتمدت في وجودها ونشاطها على المنظمة ودعمها المالي. ومع أن هذه الاتحادات والنقابات شكلت امتداداً للمنظمة وتركيبتها الفصائلية، فإن غيابها لن يكون في مصلحة الاتجاه الديمقراطي، كونها شكلت أطراً لتأثير هذا الاتجاه، وإن بحدود، في سياسة الاتحادات تجاه قضايا مختلف قطاعاتها. وهناك خشية الآن من أن تقوم اتحادات ونقابات تابعة للسلطة كلياً، إذ إن ذلك يصيب المؤسسات النقابية والاتحادات القطاعية بالعجز عن ممارسة دورها، على غرار ما هو قائم في دول نظام الحزب الواحد، وما كان قائماً في الدول الاشتراكية سابقاً.
5) الدعم والإسناد الإقليميان والدوليان للسلطة الفلسطينية، وللتسوية السياسية الجارية. وهو عامل ينبغي عدم الاستهانة بتأثيره وأهميته. فالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي واليابان وروسيا تقف جميعها إلى جانب التسوية السياسية، ممثلة في اتفاق أوسلو ومترتباته. ويقف الموقف ذاته كل من مصر والأردن ودول الخليج والمغرب العربي، في الوقت الذي لا تعارض سورية ولبنان التسوية، بل يعملان على تحسين شروطها فيما يخص البلدين. هذا بالإضافة إلى الموقف الإسرائيلي الناشط باتجاه استكمال عملية التطبيع قبل انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة سنة 1967، وإرساء ترتيبات أمنية غير متكافئة بينها وبين جاراتها، ومنع الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير والعودة، وإقامة "كانتونات" معزولة أو قابلة لأن يُعزل بعضها عن بعضها الآخر بحيث يترسخ غياب التواصل الإقليمي للضفة الغربية والقدس وقطاع غزة (وبالتالي غياب وحدتها الإقليمية). وما يهم هنا هو أن اصطفاف القوى على النحو القائم محلياً وإقليمياً ودولياً لا يسمح في المرحلة الراهنة والمنظورة بتنامي قوى "رفضوية" فلسطينية (أي قوى ترفض، ومن موقع الفعل، التعاطي مع ميزان القوى المحلي والإقليمي والدولي الراهن). إن جوهر موقف هذه القوى هو الانتظار إلى حين تغير موازين القوى، أو رفض الاعتراف بوجودها أصلاً.
ولعل المثال الأبرز لذلك هو التحالف الجديد الذي نشأ في مواجهة الإسلام السياسي والذي يضم كلاً من مصر والسلطة الفلسطينية والأردن وإسرائيل. لكن هذا كله لا يعني أن على القوى اليسارية والديمقراطية والوطنية الجذرية الانتظار إلى أن يتغير ميزان القوى المحلي والإقليمي والدولي لبدء النشاط والفعل في مجرى الأحداث. بل يعني، بالإضافة إلى الاعتبارات التي ذكرناها سابقاً، أن عليها الانخراط بصورة واعية ومنظمة في الفعل السياسي الفلسطيني ومؤسساته بهدف التغيير والتأثير كمعارضة ديمقراطية وطنية جذرية (برنامجاً وشكلاً تنظيمياً وممارسة) لكل من الاتجاه الممسك بمقاليد الحكم الذاتي، الذي يجنح نحو السلطوية والممارسة التنظيمية الفئوية ونظام الحزب الواحد، واتجاه الإسلام السياسي الذي يأخذ المنحى نفسه، ويحمل رؤية معادية للديمقراطية والتعددية والتجديد الذي تمليه الحياة المعاصرة، كما يستند إلى الدين كأيديولوجية (أو كمنظومة خُلُقية) لتغليف برنامجه السياسي الدنيوي، مخرجاً إياه، بالتالي، من حيز المناقشة والمساءلة وإمكان التغيير.
الحاجة الوطنية والاجتماعية - القيمية
إلى تشكيل قطب ثالث
ليس صعباً إدراك الحاجة الوطنية الملحاحة إلى وحدة القوى الديمقراطية العلمانية، وإن بأشكال متدرجة. وهو إدراك تطرحه خريطة الاستقطابات السياسية في الساحة الفلسطينية الراهنة. فحركة "فتح" تسير نحو التحول إلى حزب حاكم يهيمن على الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية للدولة، كما تقوم بصوغ جدول أعمال يميل سياسياً إلى إبداء الاستعداد للتأقلم مع استراتيجية إسرائيل الإقليمية الساعية، بصورة عامة، لتحقيق "اندماجها الإقليمي" في المنطقة العربية على أسس غير متكافئة أمنياً واقتصادياً وسياسياً (وهذا هو جوهر عملية التطبيع التي تريدها إسرائيل والولايات المتحدة)، ولفرض تسوية لقضية الشعب الفلسطيني تنتقص من حقه في تقرير المصير وفي إقامة دولة ذات سيادة تكون القدس عاصمتها، وترفض كذلك حقه في العودة. كما يميل جدول أعمال السلطة المطروح حالياً إلى الاستجابة لمتطلبات البنك الدولي في توفير شروط اقتصاد سوق حرة يزيل العقبات من أمام حرية نشاط رأس المال المحلي والأجنبي (الإسرائيلي، ومتعدد الجنسيات). ويفتقر برنامج السلطة الفلسطينية حتى الآن إلى أي بعد اجتماعي أو ثقافي (إضافة إلى البعد الاقتصادي) ذي مضمون ديمقراطي، سواء بالنسبة إلى العمال، أو المرأة، أو التعليم، أو قضايا الضمان الاجتماعي.
ومن المتوقع أن يفرض جدول أعمال السلطة (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني) المذكور تحالفات واصطفافات طبقية - اجتماعية من لون معين، وخصوصاً أمام المأزق الاقتصادي المرشح للاستمرار، وربما للتفاقم، لفترة قد تطول. فمن المرجح أن تتولى النخبة التكنوقراطية - الأمنية في السلطة التحالف مع شرائح من البرجوازية المحلية (أصحاب العقارات، والتجار، والمتعهدون، والمستثمرون الصغار...) مع المستثمرين من الخارج. وسيقود ذلك إلى الإسراع في استبعاد ممثلي الفئات العمالية والمهنية والنسوية الديمقراطية من المشاركة في النظام السياسي الناشئ لمصلحة زيادة الاعتماد على الشرائح العليا من البرجوازية المحلية والتكنوقراط وممثلي مصالح رأس المال الأجنبي تحت شعار رفع كفاءة الاقتصاد الوطني وفعاليته، وتأمين الاستقرار السياسي والأمني للاستثمارات الرأسمالية، وسحب البساط من تحت التعنت الإسرائيلي. وفي العادة، تترافق هذه العملية مع المزيد من الاعتماد على الأجهزة الأمنية، و"بقرطة" العلاقة بين السلطة وقوى المجتمع لفرض المزيد من السيطرة عليها. فليس مصادفة الإكثار في الفترة الأخيرة من إقامة وتنشيط مختلف الإدارات والروابط (من مكتب دائرة العشائر، إلى لجان المقاتلين القدامى، إلى لجان الإصلاح ذات اللون السياسي الواحد...).
وستولّد سيطرة السلطة الفلسطينية على وسائل الإعلام الرسمية والتجارية وشبه الرسمية صعوبات أمام القوى الديمقراطية العلمانية في عملية معارضة الجدول الفعلي لأعمال السلطة، ولا سيما أن القوى الديمقراطية لم تبادر حتى اللحظة إلى إصدار صحيفة تكون منبراً لجدول أعمالها ومواقفها كمعارضة ولكشف وانتقاد جدول أعمال وممارسات السلطة. كما قد يجد اليسار صعوبة في التأقلم مع معطيات مالية أقل كثيراً من تلك التي اعتاد عليها في السبعينات والثمانينات.
وينبغي عدم التعويل على استمرار تيار الإسلام السياسي كمعارضة جذرية للسلطة، وذلك لعدة أسباب، منها:
أ - وصول التأييد الشعبي لهذا التيار قمته، حيث بات معرضاً للمراوحة في الحجم والتأثير، أو التراجع، كما أظهر سلوكه وسلوك السلطة في المرحلة السابقة، وخصوصاً إذا حافظ على أطروحاته السياسية السابقة (التحرير الشامل، إلخ) غير الواقعية وغير المقْنعة لقطاعات واسعة من الناس. وتشير استطلاعات الرأي بين سكان الضفة الغربية وقطاع غزة (خلال سنة 1995) إلى أن القوة الانتخابية السياسية - الدينية لـ "حماس" لا تتجاوز، كمعدل عام، 15%، في حين أنها تشير إلى أن قوتها الانتخابية النقابية المهنية هي في حدود 35% (انتخابات جامعتي بير زيت ونابلس، على سبيل المثال). وقد تستخلص حركة "حماس" من هذا التركيز في تحركها البرنامجي على القضايا التي هي أقرب إلى الأمور المسلكية والنقابية، والابتعاد عن التركيز على القضايا السياسية - الدينية، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى تخفيف حدة معارضتها للسلطة. كما قد يؤدي بها إلى اتخاذ قرار بالمشاركة في انتخابات المجلس الفلسطيني وطرح برنامج انتخابي مخفف كثيراً على المستوى السياسي - الديني (التركيز على انتقاد سياسة التعيين، ومهاجمة الفساد والمحسوبية، والتجاوزات الأمنية، مع الإشارة إلى التنازلات في المفاوضات مع إسرائيل...). وتراهن حركة "حماس" على أن مشاركتها في الانتخابات، وعلى أساس برنامج غير صدامي سياسياً، ستحافظ على قاعدتها الاجتماعية من البرجوازية الصغيرة التقليدية والمحافظة والمهنية الحديثة المحبطة، وشرائح من البرجوازية التجارية الكبيرة، وربما فئات عمالية ريفية رثة.
ب - تشير الحوارات الجارية بين حركة "حماس" والسلطة، والنقاش الجاري داخل الحركة بشأن التحول إلى حزب، إلى استعداد حقيقي لدى القيادة للانتقال إلى معارضة رسمية (من داخل النظام السياسي القائم). والواقع أن التلاقي الواسع بين جدول أعمال حركة "حماس" وجدول أعمال السلطة على الصعيد الاقتصادي، وإلى درجة مؤثرة على الصعيد الاجتماعي، وخشية الطرفين من الديمقراطية في المجالات السياسية (بمعنى القبول بشرعية التعددية) والاجتماعية (القبول بمبدأ وتطبيقات المساواة بين المواطنين) والثقافية (بمعنى علمية وتقدمية المناهج التعليمية - من زاوية نظامها القيمي - في مختلف المستويات، إضافة إلى قبول تعددية مصادر وأجناس وتعابير ومدارس الثقافة العربية في تفاعلها مع الحضارات الأُخرى)، والاقتصادية (وضع قيود على اقتصاد السوق الحرة، وحماية المجتمع من الخراب الذي تخلفه قوى السوق الرأسمالية غير المقيدة)، إن هذا كله لا يطرح فقط مشاركة "حماس" في انتخابات المجلس الفلسطيني، على غرار ما حدث في الأردن، بل يطرح أيضاً مشاركتها، وإن كشريك أصغر، في السلطتين التنفيذية والقضائية، وسيطرتها على المجالات الثقافية، والسيطرة تحديداً على المجال التعليمي خاصة ووضع قيود على الثقافة عامة وعلى مجال التشريع فيما يخص الأحوال الشخصية. وهو أمر إذا حدث في ظل تشرذم القوى الديمقراطية العلمانية وانحسار نفوذها، فإنه سيغذي الميول السلطوية عند نخب النظام السياسي الناشئ. وقد حدث مثل هذا الأمر في أكثر من دولة في "العالم الثالث"، حيث حافظ الحزب الحاكم على سيطرته على الجهاز الأمني ونظام الانتخابات، ونظام توليد المحسوبيات، وسمح، في الوقت ذاته، بقيام أحزاب معارضة. كما قد تلجأ النخبة الحاكمة إلى إحاطة نظام الحزب الواحد بعدد من الأحزاب الصغيرة التابعة وغير الفاعلة، تفريغاً لمبدأ التعددية من مضمونه.
لكن حتى لو تحققت درجة معينة من الديمقراطية السياسية في الكيان الفلسطيني الناشئ، كما هو متوقع، فستبقى الحاجة قائمة إلى طرح مطالب وإنجاز برنامج يتعلق بترسيخ الديمقراطية السياسية وحقوق المواطن، وإرساء أسس للديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والثقافية. إنه من المتوقع أن تعمل السلطة الجديدة - كغيرها من نظم الدول الرأسمالية الطرفية والريعية - على إنتاج وإعادة إنتاج اللامساواة، إذا لم تتصد قوى سياسية ونقابية وقطاعية جماهيرية للحد من ذلك. لذا، يقع على كاهل القوى الديمقراطية العلمانية إدارة صراع من أجل توسيع نطاق الديمقراطية السياسية، وتوسيع حقوق المواطنة لتشمل الحق في التعليم المستند إلى مناهج تربوية عصرية تقوم على احترام العقل، وعلى قيم التسامح والمساواة والرعاية الصحية، وتأمين الحد الأدنى للدخل ونظام للضمان الاجتماعي، إلخ. وهذا يتطلب وجود تشكيل سياسي يحمل مشروعاً وطنياً وعلمانياً وديمقراطياً جذرياً: مشروعاً يستجيب لطموحات، ويعبّر عن مصالح، فئات واسعة في المجتمع: عمال، نساء، فئات مستنيرة من البرجوازية الصغيرة والوسطى، بما في ذلك صغار موظفي أجهزة السلطة، وربما مؤسسات المجتمع الطوعية الحريصة على الحفاظ على استقلالية دورها في المجتمع. أي أن المطلوب هو بلورة "كتلة تاريخية" عبر تنشيط التفاعل المتبادل بين العامل "الموضوعي" والعامل "الذاتي" للفئات الاجتماعية المذكورة. ولعل غياب الدور الموحد للقوى الديمقراطية الجذرية، على الصعيدين السياسي والاجتماعي، هو الذي يجعل ممثلي حركة "فتح" يطرحون أن للشعب الفلسطيني مشروعين، أحدهما لـ "فتح"، وهو بناء الدولة، والآخر للحركة الإسلامية. أمّا الفصائل الأُخرى فلا مشروع لديها.
لكن الحاجة إلى تشكيل سياسي للقوى الديمقراطية العلمانية لا تمليها فقط متطلبات دمقرطة النظام السياسي الفلسطيني وطرح نظام قيمي علماني تقدمي (موجّه نحو دمقرطة المجتمع وترسيخ التعددية فيه)، بل تستدعيها أيضاً - بحكم التداخل الفعلي القائم بين المهمات الوطنية والمهمات الاجتماعية - مجموعة المهمات الوطنية ذات الأهمية البالغة التي ما زالت تواجه القوى السياسية الفلسطينية (بما في ذلك السلطة الفلسطينية).
إن اعتماد تسوية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي تنفذ على مرحلتين، انتقالية ونهائية، يعني أن قضايا أساسية ستبقى مؤجلة إلى المرحلة النهائية. كما أن غياب الاتفاق على آلية لتنفيذ الاتفاقات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية المفاوضة (وإن فاوضت باسم منظمة التحرير) يعني أن المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية ستطول، وأن الفترة الانتقالية ستتم بازدواجية السلطة (فلسطينية - إسرائيلية)، حيث تشارك إسرائيل في تقرير الأمور الأبرز في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية. وستبقى الاعتبارات الأمنية طاغية على تعامل إسرائيل مع السلطة الفلسطينية خلال المرحلة الانتقالية، بما في ذلك الحفاظ على "أمن" المستوطنات والمستوطنين، وما يترتب على ذلك من إجراءات تسعى الحكومة الإسرائيلية من ورائها لأن تؤسس وترسخ على أرض الواقع نظام "كانتونات" أو معازل مغلقة بالمستوطنات، حيث يُحتجز جزء من الشعب الفلسطيني على جزء من أرضه، وحيث تتولى آليات أُخرى استثمار ما توفره هذه "الكانتونات" من قوة عمل رخيصة (المناطق الصناعية الحدودية، على سبيل المثال، أو إعادة فتح مجال العمل داخل إسرائيل، أو غير ذلك).
وتعطي المرحلة الانتقالية إسرائيل الوقت اللازم لترسيخ الشكل الذي تريده للحل النهائي، مستفيدة من ترتيبات التطبيع الجارية بينها وبين دول عربية عدة. لذا، فإن أشكالاً من التصارع والتوتر والمناوشة ستبقى قائمة بين السلطة وإسرائيل بحكم تواصل واقع ازدواجية السلطة في مناطق الحكم الذاتي بين الجهتين. وربما كان هذا من أسباب أن 40% من سكان الضفة الغربية قوّموا (في آب/أغسطس 1995) أداء السلطة الفلسطينية بما بين جيد وممتاز، وترتفع النسبة إلى 72% إذا ما أُضيف تقدير "متوسط" إلى "جيد" و"ممتاز". وهو أمر ينبغي ألاّ تغفله قوى المعارضة الديمقراطية.
ومن هنا، فإن القضايا الوطنية ستبقى مطروحة، لكن لن يكون في الإمكان عزلها عن برنامج واسع للتغيير السياسي والاجتماعي - الاقتصادي - الثقافي: الاستقلال السياسي في دولة ذات سيادة؛ الحدود؛ الانسحاب الإسرائيلي الكامل من أرض الضفة والقطاع؛ السيطرة على الموارد الطبيعية؛ تفكيك المستوطنات؛ استعادة القدس؛ صون حق العودة... كما يبقى تنظيم العلاقة وتنشيطها بين "الخارج" و"الداخل" الفلسطينيين حاضرين في جدول الأعمال الوطني، في ظل ما هو قائم من تهميش وتجاوز لمؤسسات منظمة التحرير، وأمام ضرورات الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني والدفاع عن مصالح تجمعاته في الشتات.
ولذا، فإن الملاحظة الأبرز بشأن مشروع قانون الأحزاب السياسية، الذي صدر في نهاية الأسبوع الأول من أيلول/سبتمبر 1995، هو التعامل مع ساحة الحكم الذاتي باعتبارها ساحة دولة ذات سيادة واستقرار، متغافلاً عن تداخل مهمات التحرر الوطني مع مهمات البناء الديمقراطي (السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي). هذا بالإضافة إلى كونه يتجاهل خصوصية الواقع الفلسطيني، وتحديداً في الشتات، وأهمية صون وحدة الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية، بما في ذلك حقه في العودة. بل هو يستخدم عبارة "الوحدة الوطنية" وتعبير "السلام الاجتماعي" على نحو قد يفسَّر لمصلحة فرض قيود على النضالات النقابية أو على النضال من أجل الديمقراطية الاجتماعية أو العدالة الاجتماعية، ويأتي في سياق يتيح للسلطة فرض قيود على حرية العمل السياسي ووضع أهداف مسبقة للأحزاب السياسية، إضافة إلى استثنائه العنف من الوسائل النضالية المسموح باستخدامها. وهو يتجاهل منظمة التحرير مرجعيةً سياسية وبرنامجاً وإطاراً جامعاً، كما أنه لا يعتمد "إعلان الاستقلال" وثيقةً وطنيةً شرّعت التعددية السياسية والديمقراطية البرلمانية لدولة فلسطين العتيدة.
صحيح أن طرح القوى الديمقراطية العلمانية لبرنامج يتلاءم مع مهمات المرحلة الراهنة هو عنصر حيوي في عملية إعادة الاعتبار إلى العمل السياسي المنظم، لكن ذلك لا يشكل شرطاً كافياً. فهناك ضرورة دمقرطة الحياة الداخلية للتشكيل السياسي الجديد بما يشرك الأعضاء والمؤيدين في صوغ سياسة الحزب وتوجهاته وإغنائها، وضرورة دمقرطة العلاقة مع المجتمع وضمان التفاعل الدائم بما يعزز قدرات التشكيل السياسي على تمثيل مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية (أشرنا إليها أعلاه)، التي يسعى لتمثيلها. إن شكل التنظيم السياسي على قدر كبير من الأهمية في مرحلة تشهد الساحة الفلسطينية فيها نفوراً وانسحاباً من الأحزاب و"السياسة". وهو نفور غذته الممارسات المنفرة والمعادية للناس التي برزت تحت سمع وبصر وممارسة بعض (وربما معظم) الفصائل، في المرحلة الأخيرة من الانتفاضة، والنتائج المحدودة لاتفاق أوسلو، وما بدر من ممارسات من قِبل بعض أجهزة السلطة الفلسطينية ومسؤوليها، بما في ذلك سياسة التعيينات وما يبدو من مظاهر فئوية ومحسوبية في مؤسسات السلطة وأجهزتها. كما يغذيه نوع من عقلية "فهلوية" ظهرت بين بعض شرائح بيروقراطية منظمة التحرير، وبعض فصائلها، وهي تهاجر الآن إلى السلطة مع انتقال تلك الشرائح لاحتلال مواقع قيادية فيها. وهي عقلية تبدي استعداداً لتقبّل مختلف أشكال المحسوبية والفئوية، والمناورات السياسية غير المبدئية، وتنظر إلى القمع باعتباره ظاهرة "طبيعية" في مجتمعنا. وتستشري هذه الظاهرة عند غياب الحضور المؤثر للأحزاب الديمقراطية العلمانية والنظام القيمي الذي تطرحه بديلاً من براغماتية تبدو بلا روح أو مبادئ، وإسلامية سياسية تدّعي امتلاك الحقيقة ذات البعد الواحد، وتغيّب دور العقل وقيم المساواة، وتعادي الحداثة الواعية. كما يشجع غياب دور الأحزاب اليسارية الديمقراطية (وممارساتها السابقة) التداول اليومي للحكايات والقصص الموجهة بصورة عامة ضد السياسيين والبيروقراطيين، وهي عملية تخدم على هذا النحو أو ذاك إدارة الظهر للعمل السياسي، وهذا الأمر يصب في خانة السياسات المحافظة والرجعية.
يخطئ من يعتقد أن السلطة تخشى أن تبشِّر بالديمقراطية قوى لا قواعد اجتماعية لها، بل نجد أنها تتبنى الديمقراطية السياسية في خطابها الرسمي. ولهذا أسبابه: السلطة أولاً ليست وحدة متراصة ولا هي موحدة في جميع المستويات، بل هي حلبة تحوي تباينات واختلافات وتوترات. وهذا ينطبق، إلى حد ما، على حركة "فتح" وهي تسير نحو التحول إلى حزب يضم اتجاهات ديمقراطية علمانية، وإن كان يقوم على تحويل المراتبية البيروقراطية في السلطة إلى مراتبية سياسية في التنظيم، وهو ما قد يؤدي إلى محاصرة هذه الاتجاهات. كما نجد التباينات داخل السلطة لا كمؤسسات وأجهزة فحسب، بل كقوى سياسية أيضاً. وهو أمر نشهده كذلك على صعيد المعارضة التي لم تستطع حتى اللحظة الاتفاق على برنامج حد أدنى. فالسلطة ستبرز ما يحيط بها من أحزاب صغيرة تابعة أو غير فاعلة، وستبدي استعدادها لتمثيل قوى المعارضة بمختلف فصائلها في مؤسسات السلطة، على غرار ما كان يحدث سابقاً في هيئات منظمة التحرير المركزية. ولا شك في أن القائمين على السلطة يعرفون أن هناك أغلبية شعبية تؤيد الديمقراطية بما هي إجراء انتخابات نزيهة ودورية، وبما هي محاسبة وتعددية وتدوير سلطة وحرية تعبير وتنظيم واجتماع وتنقل، وغير ذلك.
إن القضية ليست التبشير بالديمقراطية ومجتمع المؤسسات والقانون والشفافية وحقوق الإنسان والمواطن، على الرغم من فوائد ذلك، بل هي في الأساس توليد تشكيل سياسي موحد قادر على أن يكون أداة صوغ وتعبئة ونضال لمصالح وتطلعات (راهنة ومستقبلية) شرائح واسعة نسبياً من الشعب الفلسطيني لا تجد في "فتح" كحزب حاكم، ولا في الاتجاه الإسلامي، ما يقترب من جدول أعمالها ورؤيتها وتوجهاتها السياسية والاجتماعية والثقافية؛ حزب يسعى لإدارة وتوليد نضال دؤوب من أجل استقلال شعب فلسطين وتحرره وعودته، والمساهمة مع الأحزاب والقوى اليسارية الديمقراطية العربية في وضع استراتيجية لإقامة نظام إقليمي عربي موحد على أسس ديمقراطية وتكاملية وتنموية متوازنة، وعلاقات دولية تقوم على أسس متكافئة. فلا حلَّ جذرياً لمشكلة الشعب الفلسطيني بمعزل عما يدور من ترتيبات ومستجدات في الواقع العربي الإقليمي. وهو واقع تسكنه حالياً اختناقات وتناقضات مركّبة (المسار الانحداري الفلسطيني الراهن ليس معزولاً عنها ولا عن حيثياتها أو تداعياتها). وهذه إشكالات تعول إسرائيل على استثمارها لتوليد نظام "شرق أوسط جديد" يشرع لها دوراً إقليمياً مركزياً، ويكرسها قوة إقليمية مقررة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن ترسيخ الديمقراطية في المجتمع يتطلب وجود حركة نقابية عمالية نشيطة وذات نفوذ ووزن. وهو أمر ينطبق كذلك على وجود حركة نسوية فاعلة وواسعة الانتشار. والسبب في ذلك بسيط، وهو أن هناك مصلحة أكيدة للعمال والمرأة في قيام نظام ديمقراطي. فالعمال بحاجة إلى نظام يوفر لهم إمكان التنظيم النقابي والمفاوضات الجماعية مع أرباب العمل والحكومة لتحسين الأجور وشروط العمل والضمانات الاجتماعية. والمرأة بحاجة إلى نظام ديمقراطي ليوفر لها المساواة في الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية. لذا، فإن لليسار الديمقراطي مصلحة في دعم الحركة النقابية العمالية والحركة النسوية ومساندتهما وترسيخ الاستقلالية فيهما. وهي استقلالية ذات مصدر قوة على درجة كبيرة من الأهمية في إشاعة قيم ومسلكيات الديمقراطية في المجتمع، وفي حمايتها من أية نزعات سلطوية، أكانت ثيولوجية أم علمانية (والعلمانية تعني، فيما تعني، احترام الأديان وحرية ممارسة الشعائر الدينية لجميع أفراد المجتمع، بعيداً عن الإكراه السلطوي، وتجنباً لاستغلال الدين لأغراض سياسية منفعية لمصلحة شريحة اجتماعية محدودة).
انتخابات مجلس الحكم الذاتي
وموقف القوى الديمقراطية العلمانية
تتعايش في ساحة الضفة الغربية وقطاع غزة رؤى عدة تتعلق بالمشاركة في انتخابات مجلس الحكم الذاتي. فهناك، أولاً، من يناقشها من منطلق تقني بحت (لوائح وإجراءات وترتيبات وقوانين، إلخ). وعلى أهمية هذا الجانب، وتحديداً من زاوية تأثيراته السياسية في محصلة العملية الانتخابية، فإنه يبقى ذا أهمية ثانوية إذا ما عزل عن سياقه السياسي والزمني المحددين. وهناك، من جانب ثان، من يرى في الانتخابات الحل السحري لجميع المشكلات الفلسطينية. فالانتخابات، من وجهة النظر هذه (القريبة من السلطة)، هي "ممارسة حق من حقوق السيادة، وهي ستفرض واقعاً جديداً على الأرض" يعكس نفسه إقليمياً ودولياً كونها ستقوّي أوراق المفاوض الفلسطيني لأنها ستمده بالشرعية الشعبية الفلسطينية، وهي تؤسس لنظام حكم ديمقراطي في فلسطين يمكّن من المحاسبة السياسية والمالية والإدارية، ويشكل خطوة نحو الهدف الوطني في إقامة دولة مستقلة باعتبار أن هذا الهدف سيفتح الباب لتغيير اتفاقات المرحلة الانتقالية. كما يمكن للمجلس المنتخب، وفق هذه الرؤية، أن يساهم في تصحيح وضع منظمة التحرير ويعيد تنشيطها عبر اعتبار أعضاء المجلس المنتخب أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني. وترى وجهة نظر ثالثة أن المشاركة في الانتخابات تعني "الانخراط في تطبيق آليات اتفاق أوسلو"، والتعاطي مع إفراز من إفرازات هذا الاتفاق، على الرغم من أن اتفاق "أوسلو 2" بشأن انتخابات مجلس الحكم المحلي يستجيب لبعض مطالب المعارضة (كأن يكون للمجلس سلطة تشريعية، والفصل بين هذه وبين السلطة التنفيذية). ويعتبر بعض أصحاب وجهة النظر هذه أن مجرد إجراء انتخابات لمجلس حكم ذاتي فلسطيني سيعني نهاية منظمة التحرير، وسيحولها (وربما سيحول المجلس الانتخابي نفسه) إلى جسم تابع لرئيس السلطة الفلسطينية، الذي سيتم انتخابه مباشرة، الأمر الذي سيعطيه صلاحيات رئاسية واسعة.
لقد حُدِّد النصف الثاني من كانون الثاني/يناير 1996 موعداً للانتخابات، وطُرح الآن قانون الانتخابات الفلسطيني من دون أن يُعرض للنقاش العلني، ومن دون مشاركة القوى السياسية في صوغه. ومن الواضح كذلك أن السيادة الكاملة لن تكون من سمات المرحلة الانتقالية. ومن المتوقع أن يكون هناك من يسعى لتحويل الانتخابات من أداة ديمقراطية إلى أداة سلطوية، وتحويل "مؤسسة الرئاسة" إلى بديل من مجلس الحكم الذاتي، بل إلى وارث لمنظمة التحرير.
لكن الاعتبارات السابقة كلها لا معنى لها إن لم يتم تحويل عملية الانتخابات إلى حلبة صراع وإلى آلية ديمقراطية فعلاً. وهي عملية تبدأ من اللحظة الراهنة (أي مع إعلان مشروع قانون الأحزاب في نهاية الأسبوع الأول من أيلول/سبتمبر 1995، وإعلان قانون الانتخابات في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 1995)، وتستمر إلى ما بعد إعلان النتائج، حيث سيكون مطروحاً على تلك القوى كيفية التعاطي مع نتائج الانتخابات. إن هذا يعني خوض الانتخابات منذ البداية على أساس أنها معركة سياسية بين برامج ومسلكيات وقيم مختلفة لأقطاب سياسية ثلاثة من جانب، وباعتبارها محاكمة للاحتلال وإجراءاته وسياسته المعادية لحق تقرير المصير وللسلام بمضمونه القائم على العدالة والاعتراف بالحقوق الوطنية والتكافؤ في العلاقات المتبادلة، من جانب آخر.
ومن الطبيعي أن تسعى القوى الديمقراطية للاستفادة، وإلى أقصى حد، من الأضواء التي ستسلط على العملية، وما سيصاحبها من رقابة محلية ودولية. وهذا لن يتم من دون تشكيل موحد (جبهوي في أضعف الإيمان) للقوى الديمقراطية الجذرية (بالمعنى البرنامجي) وللفئات الاجتماعية التي تتوجه للحصول على تمثيل وللدفاع عن مصالحها. كما يعني هذا الموقف الكفّ عن النظر إلى الانتخابات باعتبارها عملية تبدأ وتنتهي بإدلاء الأصوات (وهو أمر تقول أغلبية كبيرة من أبناء الضفة والقطاع الآن أنها تنوي ممارسته). بل إن أهم ما في خوض عملية الانتخابات (كعملية ديمقراطية) هو التصارع العلني بشأن البرامج والمواقف السياسية، وبشأن أداء السلطة في مختلف المستويات خلال الفترة السابقة، والتوجهات المطلوبة للمرحلة المقبلة، والتصارع أيضاً بشأن نظام الانتخابات وشروطها. كما أن الانتخابات فرصة للقوى الديمقراطية العلمانية لتختبر برامجها، ولتعيد تعبئة قواها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية.
أمّا إذا أدارت تلك القوى ظهرها للمعركة السياسية بحجج "طهرانية" (هروبية، في الواقع) وشعارات غير واقعية (كإسقاط اتفاق أوسلو)، وإذا لم تستغل الفرص التي ما زالت متوفرة (وفي مقدمها فرصة الانتخابات) لتجديد ذاتها واستعادة ثقة جماهيرها الفعلية بها كأداة وبرنامج وقيم، فإنها تكون قد تصرفت بلا مسؤولية وطنية، وربما قادت نفسها بنفسها إلى الاندثار. فعلى القوى التي تهمها الديمقراطية فعلاً لا قولاً أن تدرك أن الديمقراطية محصلة صراع متواصل ومنظِّم له في الوقت نفسه، وأن مضمونها يتطور وينمو بتقدم المجتمع وتطور إمكاناته. فكما أنه لا تحرر وطنياً بلا صراع، فإنه أيضاً لا نظام ديمقراطياً أو تغيير اجتماعياً - اقتصادياً جذرياً من دون صراع، وإن تباينت أشكاله في الحالتين.
تشرين الأول/أكتوبر 1995