ظل العرب بعيدين عن التأليف الموسوعي حتى منتصف القرن العشرين عندما شُغفوا بهذا المصطلح الوافد، فراحوا يطلقونه على أي عمل ذي تصنيف أو ترتيب أو يقارب العمل الموسوعي شكلاً ومضموناً. ثم بدأت تظهر، تباعاً وبالتدريج، مجلدات تحمل عنوان "موسوعة" أو "دائرة معارف". غير أن هذا كله لم يكن موسوعات بالمعنى العلمي الدقيق للعبارة لأن الجهد الموسوعي والعمل الموسوعي يحتاجان، أساساً، إلى مؤسسات ثقافية ذات تقاليد علمية وبحثية متراكمة، وإلى عمل جماعي منظم ودائب وطويل المدى. وعلى الرغم من هذا القصور الفادح والواضح فقد تصدى عدد ممن أرّقتهم حمى المعرفة لهذا الغرض وبادروا إليه بعزم واندفاع، وكان الرائد بينهم الدكتور عبد الوهاب الكيالي الذي أصدر "موسوعة السياسة" (المحرر الرئيسي عبد الوهاب الكيالي)، ثم "الموسوعة العسكرية" (المقدم الهيثم الأيوبي)، و"موسوعة الفلسفة" (عبد الرحمن بدوي)، و"موسوعة تاريخ الفن" (ثروت عكاشة). وبعدها أنجز الدكتور أنيس صايغ "الموسوعة الفلسطينية"، وأصدر محمد أحمد خليفة السويدي جزأين من موسوعة "فنون عصر النهضة" (ثروت عكاشة). لكن معظم هذه الموسوعات بحاجة الآن إلى التحديث والاستكمال وتدارك النواقص والأغلاط، وهي كثيرة.
"موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر" التي حررتها وأشرفت عليها الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي هي، إضافة إلى كونها جهداً علمياً مهماً وشوطاً جديداً في العمل الموسوعي العربي، تمرين على التأليف الموسوعي. إن إطلاق اسم "موسوعة" على هذا الأثر، الذي لا ريب في أهميته العلمية، ادعاء في غير محله وتطاول على المصطلح ما كان يجب الوقوع في إغرائه؛ فالذهن ينصرف، عند وقوع البصر على كلمة "موسوعة"، إلى ما توحي به هذه الكلمة من الشمول والإحاطة والصرامة المنهجية والمعايير الدقيقة في اختيار الأمثلة والعينات والنماذج. غير أن واقع الحال على غير هذا المنوال، وسنوضح ذلك في الحال:
موسوعة أم مختارات؟
الهدف من إصدار هذه الموسوعة هو "جمع الكنوز الثقافية الفلسطينية وتقديمها إلى العالم" (ص 15). هذا يعني، بالعبارة الصريحة، أن ما تحتويه "الموسوعة" هو كنوز ثقافية جديرة بتقديمها إلى العالم من خلال الترجمة. وهذه "الكنوز" جرى جمعها بدأبٍ وتأنٍ طوال أعوام كي تغطي فترة زمنية تنتهي بسنة 1991 على الأكثر وسنة 1990 على الأقل. هذا ما توضحه مقدمة النسخة الإنكليزية المؤرخة في 27/9/1991. غير أن ثمة إشارة إلى أن بعض الإضافات أُدخل إلى الطبعة العربية بعد سنة 1995، وتولى هذه المهمة كل من الناقد فخري صالح والشاعر والروائي إبراهيم نصرالله. ويحق لنا أن نفترض أن الأسماء والنصوص المدرجة في هذه الموسوعة جرى اختيارها بدقة وعناية فائقتين لتمثل شتى مظاهر الإبداع الأدبي في فلسطين، أكان ذلك في الشعر أم في القصة أم في الرواية أم في السيرة الذاتية والأدب التسجيلي.
لنتعقب، إذاً، ما بين أيدينا من نصوص وأسماء كي نرى هل هي "كنوز" فعلاً، وهل تمثل التيارات المختلفة والأجيال المتراكبة للأدب في فلسطين.
في الشعر: أغفلت الموسوعة شعراء كثيرين جداً ممن نالوا شهرة لافتة وكان لهم حضور أدبي فاعل، بينما أدرجت بين الخمسة والستين شاعراً عدداً من الشعراء المشكوك في شاعريتهم وممن لم يكن الشعر ميدانهم الأصلي. فمثلاً ورد اسم ناجي علوش بين الشعراء الفلسطينيين وهو لم ينشر في حياته إلاّ مجموعة يتيمة متواضعة القيمة الشعرية بعنوان: "هدية صغيرة" (أصدرها في عمان سنة 1967)، في حين أغفلت شعراء معروفين جيداً من عيار علي فودة (له ست مجموعات شعرية)، وفوزي الأسمر، وثريا ملحس (لها سبع مجموعات شعرية)، والمتوكل طه (رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين)، ويوسف الخطيب، وراضي صدوق، وعبد الناصر صالح، وطلعت سقيرق، وإبراهيم قراعين، وفواز طوقان، وفاروق مواسي، وأكرم عرفات، وأمين شنار، وجميل الخوري، ورجاء أبو غزالة، وحنا أبو حنا، ومحمد العدناني، وزياد أبو الهيجاء، وكلثوم مالك عرابي، ونايف سليم، وعصام حماد، ومحمد حسيب القاضي، ونزيه حسون، وسهام داود، ومريم قاسم السعد، وكمال كامل أحمد، وعز الدين القلق، وكثيرين غيرهم.
إن الموسوعة لا تشير البتة إلى المعيار النقدي، أو إلى الضوابط المنهجية التي اتبعتها الدكتورة الجيوسي في اختيار الشعراء ونصوصهم، لذلك ظهرت عملية الاختيار على طريقة رمي النرد.
في القصة القصيرة: أدرجت الموسوعة أسماء ستة عشر من كتّاب القصة القصيرة، بعضهم من ذوي المكانة المتواضعة جداً في الكتابة القصصية أمثال: وليد رباح، ويحيى رباح، ويحيى يخلف (كان يجب الاكتفاء بتصنيفه في فئة الروائيين فهو أقرب إلى هذا المجال). بينما أغفلت كتّاباً مشهورين جداً في هذا المضمار من الكتابة أمثال: أفنان القاسم، وإبراهيم العبسي، وجمال بنورة، وجمال جنيد، وسلمان ناطور، وسلوى البنا، وعبد الله تايه، وإبراهيم سكجها، وعفيف سالم، ونبيه القاسم، ويوسف ضمره، ويوسف جاد الحق، وعلي حسين خلف، وغز الدين القلق، والحكم بلعاوي (له ثلاث مجموعات قصصية)، وزياد عبد الفتاح، وراضي عبد الهادي.
في السيرة الذاتية: بين عدد كبير من الذين تناولوا فن السيرة الذاتية تعرضت الموسوعة لستة عشر كاتباً فقط وأغفلت واحداً من أهم الأعمال الأدبية لجبرا إبراهيم جبرا، وهو سيرته الذاتية التي نشرها في كتابين: الأول بعنوان "البئر الأولى"[1] والثاني بعنوان "شارع الأميرات"،** في حين أدرجت كتاب "الجبل والضباب" للكاتب جهاد صالح، وهو ضرب من الأدب التسجيلي متواضع القيمة الأدبية. كذلك أوردت اسم ثريا أنطونيوس كروائية وهي تكاد تكون غير معروفة، إلى حد كبير، في العالم العربي.
هذه، إذاً، مختارات أدبية وملتقطات من النصوص "الإبداعية" لبعض الكتّاب والشعراء الفلسطينيين، لا موسوعة للأدب الفلسطيني المعاصر لأنها افتقدت المعيار النقدي في اختيار الأسماء والنصوص، ولأنها جانبت، في هذا المقام، ما كان يجب أن يظل ماثلاً أمامنا على الدوام وهو الشمول والإحاطة والدقة. أمّا عن محدودية القيمة الأدبية لبعض الكتب والكُتّاب الواردة أسماؤهم في هذه الموسوعة فهي مجرد رأي نقدي ولا تعني، في أي حال، التعرض بالاحتجاج لورودها في صفحات الموسوعة. إن ما قصدنا إليه هو نقد الإغفال لا نقد التصريح. ويقيناً أنه كان على القائمين على أمر هذه "الموسوعة" ألاّ يتهاونوا فيتركوا الكثيرين من الكتّاب ذوي الشأن خارج هذه الموسوعة، في حين أنهم لم يتوانوا عن منح مَن هم أدنى في القيمة والإبداع صفحات من هذه "الموسوعة" لا يستحقونها البتة.
[1] الطبعة الأولى: بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 1987. والطبعة الثانية: بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993.