يتحدث شلومو بن عامي عن تجربته الشخصية في أكثر من مجال، فيتحدث عن "الفردوس المفقود" في المغرب ممثلاً بالروح التضامنية والحياة المفعمة بالأمان، وعن مدينة طنجة التي هاجر منها فتى في الثانية عشرة، ويسرد سيرة عائلته فيها، كما يتحدث عن "جرح الخمسينيات" الذي لا يزال مفتوحاً، عندما وصل مع عائلته سنة 1955 إلى فلسطين ضمن موجة الهجرة الجماعية لليهود الشرقيين حيث رشّوهم بمادة الـ "دي دي تي" ثم نقلوهم إلى "المعبراه" حيث المشهد المأساوي في المكان اللامكان. وتشمل شهادته تجربته في حركة العمل، ويشير إلى أن أبناء الطوائف الشرقية لا يزالون يجدون صعوبة في الحصول على الشرعية الكاملة لوجودهم داخل هذا الفريق. ويقول إن هذه الطوائف توجه احتجاجها وسخطها نحو حركة العمل لا نحو الليكود، لأن هذه الحركة هي التي قادت التحديث طوال عشرين عاماً من دون أن تصل باليهود الشرقيين إلى الطمأنينة والمساواة.
[.......]
- لو أنت رئيس الحكومة، ما هي الخطوات التي كنت ستتخذها؟ وكيف كنت ستعبر عن وجهة نظرك؟
o أعتقد أن علينا انتهاج سياسة تقوم على تقليص الفجوات، أن نطوّر خطة عليا لمكافحة الفقر. يجب الانتقال من سياسة سعر الفائدة المرتفع والأجر المنخفض إلى سياسة سعر الفائدة المنخفض والأجر المرتفع. كما ينبغي لنا ضمان المساواة في الوصول إلى أجهزة التعليم، والنظر إلى العمالة كحق أساسي، وإلى التنظيم المهني القوي كعامل إيجابي يحقق الاستقرار في علاقات العمل. ويجب أن نسنّ قانوناً رسمياً للتقاعد، وآخر يتعامل مع التجاوزات في الأجور في القطاع العام على أنها مسألة خطرة جداً، إضافة إلى الامتناع من خصخصة الاحتكارات، وضمان [....] تنفيذ أي عملية خصخصة [....] عن طريق توزيع حقوق الملكية على الجمهور وبيع الأسهم للعاملين في المشاريع الكبرى.
لكن، كل ما تقدم غير كافٍ في حد ذاته. وبحسب اعتقادي، حتى لو تبنّى حزب العمل جدول أعمال اجتماعياً من النوع الذي أقترحه، فإنه سيجد صعوبة في الوصول إلى تلك الجماعات التي يتحتم عليه الوصول إليها. ذلك بأن ما يشغل بال تلك الجماعات هو مشكلة الهوية. وما يقدمه الليكود وحزب "شاس" إلى تلك الجماعات هو رد ـ سلبي وأصولي ومخادع ـ على مشكلة الهوية. ولذا، إذا لم يتبنّ اليسار سياسة واضحة تتعامل مع هذا الأمر أيضاً، فإنه سيخفق ثانية، وسيحكم على نفسه بالموت.
- ما المشكلة هنا، وما هو جذرها، وما الجرح المفتوح؟
- الجرح المفتوح هنا هو التقاليد، الإحساس بالمساس بالتقاليد. إن على اليسار أن يدرك أن لا وجود، أساساً، لما يسمى اليهودي العلماني المغربي الأصل. فالعلمانية، أساساً، مصطلح غربي. إنها نتاج للثورة الفرنسية، ولمبدأ الانعتاق الذاتي والحداثة الجارفة. وهذه المسارات لم تحدث في شمال إفريقيا، ولهذا السبب لم تظهر العلمانية هناك. كان هناك نوع غير واضح من حل وسط، غير منظم، بين التقاليد والحداثة. وهذا هو السبب في أن يهود الشرق الذين أتوا البلد [فلسطين] لم يكونوا علمانيين، لكنهم غير أصوليين [حريديم] أيضاً. إذ إن ممارساتنا الدينية لم ترتكز على أصول "الهالاخاه" [الشريعة اليهودية]، وإنما على الأساطير. إن قصص الصدّيقين رافقتني طوال فترة طفولتي، قصصاً عن هذا الصدّيق وعن ذاك. هذا ما كانت عليه ديانتنا: على حدود الآراء المسبقة، وعلى حدود الفولكلور، وفي مجال الإيمان الساذج.
ولذا، فالانتقال إلى الحاخام كدوري[1] لا يعتبر قفزة كبيرة بالنسبة إلى يهود الشرق. إنه أمر طبيعي. فإن كنتم، أنتم القدامى، لم تستوعبونا جيداً، وإذا كنتم قد أخرجتمونا من ذلك الفردوس المفقود ولم تدخلونا إلى هذا الفردوس الحديث، فردوس النخب، عندها يتحول الحاخام كدوري إلى خيار بالنسبة إلينا. إن الحاخام كدوري نوع معين من الحلول.
- هل في استطاعتك أن تجعلني أتحسس ما كان عليه ذلك الفردوس المفقود. ما الذي كان هناك في المغرب وفقدتموه عقب انتقالكم إلى هنا؟
- بادئ ذي بدء سأقول لك ما الذي لم يكن عليه ذلك الفردوس. لم يكن فردوساً مادياً. أعتقد أن الانتقال من المغرب إلى إسرائيل، بالنسبة إلى الأغلبية العظمى من اليهود هناك، جلب معه تحسناً في الوضع الاقتصادي. حتى بالنسبة إلى أمي التي عاشت حياة غير مريحة في كريات شمونة، أصبح الوضع أفضل مما كان عليه في المغرب. هناك كنا نعيش في غرفة واحدة؛ ستة أفراد في غرفة واحدة، حتى أنه لم يكن هناك مكان لي أستطيع أن أحضّر فيه دروسي. وأنا أذكر كم كنت أحرص على المحبرة التي كنت أحضرها معي من المدرسة كي أستعين بها على كتابة فروضي المدرسية. وهكذا، لم نكن نعيش هناك في فردوس مادي.
لكن ما كان هناك في الواقع ـ وفقدناه ـ هو تلك الروح التضامنية. كانت الجالية اليهودية هناك منظمة جداً؛ كان هناك تكافل اجتماعي، وجهاز تعليم جيد متاح للجميع، وكنيس. كان هناك المنزل، ووجبات الطعام التي كانت تجمعنا حول المائدة العائلية. وبمعنى معين، كانت حياة يهود شمال إفريقيا حياة ما قبل الحداثة، مع كل دَعَة ما قبل الحداثة. كان هناك ذلك الإحساس بالأمان، وبنظام واضح المعالم للأمور. حتى عندما كانت تحدث متاعب كانت الأمور واضحة. كانت تلك حياة مفعمة بالأمان. كان هناك نسيج ما حافظ على الجميع.
- هل ما زالت تلك اللكمة المتمثلة في الانتقال الحاد والمتوحش إلى الحداثة الإسرائيلية، في أساس الألم المتفجر اليوم، كما نشهده، بين أمور أُخرى، في تظاهرات حزب "شاس"؟
- لا شك في ذلك. فكل منحى أصولي هو، من حيث الجوهر، رد على إحباط. وعلى العموم، هو رد على الحداثة المحبطة. وهنا، كانت عملية تحديث سريعة جداً لم تنجح تماماً، وهذا هو أيضاً السبب في أن الاحتجاج والسخط يوجهان نحو حزب العمل، لا نحو الليكود، وهذا يعود إلى أن حزب العمل هو الوكيل الأساسي لتحديث المجتمع الإسرائيلي. تماماً كما كان الشاه في إيران، وكما كانت الـ F. L. N. [جبهة التحرير الوطني الجزائرية] في الجزائر، فقد كانت الشرط الذي لا بد منه. ولهذا السبب فهو عنوان الشكاوى. لقد كنتم وكلاء عملية التحديث فترة ثلاثين عاماً، ومع ذلك لم نشعر بالاطمئنان، ولم نشعر بالمساواة، ولهذا نثور ضدكم. هذه هي المسألة، وهذا هو جوهرها.
- عندما تتجول اليوم في الأطراف، في بلدات التطوير، وتمر هناك كسياسي، وكمرشح للانتخابات الأولية، هل تجد أن ذلك الجرح، جرح الخمسينات، ما زال مفتوحاً، وما زال مصدراً للألم؟
- نعم، وخصوصاً أنه لم تتم عملية امتصاص واستيعاب هذا الإحساس العميق داخل تجارب حياتية أُخرى لتخفيف حدته. وهذا لم يتم، مؤكداً، في بلدات التطوير التي ما زال بعضها يبدو كأنه تعرض لإعصار. إن الفارق بارز للعين؛ فعندما تتوجه إلى شمال تل أبيب للقاء شخص ما، فإنك لا تتحدث معه عن السنة التي قدم فيها إلى البلد، ولا عن البلد الذي أتى منه وكيف كان ذلك. فالحديث يدور بشأن أمور حيادية أكثر. ولكن عندما تصل إلى بيسان أو إلى أوفكيم، يتمحور الحديث فوراً حول سنة الهجرة وبلد المنشأ، والسفينة التي جلبتهم، وهل قدموا مباشرة إلى البلد، أم مروا أولاً بمعسكر الانتقال قرب مدينة مرسيليا، وهل أسكنوهم مباشرة في أكواخ من التنك أم مكثوا في خيم. كل هذه الانطباعات لم تمح بعد. إنها مستمرة وتنقل من جيل إلى آخر. وفي الأماكن التي لم يتوقف فيها الإحساس بعدم المساواة والاضطهاد، من الصعب التحرر منها. وهذا، كأننا أوجدنا دائرة تخلّد ذاتها لحقبة نريد جميعاً نسيانها.
- هل أن لقاءك المتجدد مع الجمهور الشرقي قد أثر فيك أيضاً؟ وهل تغيرت أنت أيضاً خلال هذه الرحلة السياسية؟
- لقد حدث شيء شبه صبياني وساذج، نوع من اكتشاف جديد. في الواقع، كان ذلك عودة إلى الجذور، لأننا في نهاية المطاف، لا نستطيع التغلب على منشئنا؛ فسرّ الشجرة يكمن في ثمرها، ولا تغيّر وجهة نموها أو أغصانها في الأمر شيئاً. ففي الأساس، أنت تعود إلى هذا الأمر. وهذه الأنغام هي الأهم بالنسبة إليك، وذلك الطعام، وتلك الذكريات. إنني من الأشخاص الذين تنهمر الدموع من عيونهم بسهولة، وأنفعل جداً من أمور من هذا النوع. ومهما تكن المسافة التي آتي منها فأنا، في نهاية المطاف، آكل الطعام المغربي نفسه وأتحدث العربية باللهجة المغربية، وأبقى ابن العائلة التي تحدرتُ منها. هذا كل ما في الأمر. في هذه الأمور ليس في اليد حيلة. هذه هي المعطيات الأساسية.
- لقد هاجرت عائلتك إلى إسرائيل سنة 1955، وكنت، آنذاك، صبياً في الثانية عشرة من العمر. هل كان لقاؤكم الأول مع البلد لقاءً مع مادة الـ د. د. ت.؟
o بالتأكيد. لقد نزلنا من السفينة في ميناء حيفا، ومن هناك نقلونا بعد إخضاعنا لعملية رقابة، حيث أدخلونا غرفة تم فيها رش رؤوسنا وملابسنا بمادة الـ د. د. ت. وقد فعلوا ذلك بواسطة جهاز رش مثل الذي يُستخدم ضد الذباب.
- أما زلت تشعر بالمهانة والتحقير؟
o كان لدينا إحساس بالغرابة. أذكر أن أمي بدأت تضحك. ما الذي يفعلونه بنا؟ وبدا الأمر لأبي غريباً. وفعلاً، كان الأمر غريباً. لكن كان لدى والدَي ميل إلى الاعتدال، حاجة ما إلى التعامل باعتدال مع الأوضاع. لذلك لا أعتقد أنهما كَنّا ضغينة لأي كان بسبب هذا الأمر. لم يحوّلا الأمر إلى راية للنضال، ولم يسمحا بتحوله إلى صدمة. فقد أدركا أن ذلك ثمن ما عليهما دفعه. إن ذلك حلقة في السلسلة الطويلة لعذابات التأقلم التي يجب أن يعبراها، في سياق تأهيل أنفسهما للعالم الجديد، العالم الإسرائيلي.
أمّ بالنسبة إليّ شخصياً، وعلى صعيد الانطباع الشخصي، فإن الصدمة الأساسية لم تكن تلك التي تلقيتها في حيفا، وإنما لحظة لقاء "المعبراه" [مكان الإقامة الموقت] وحالة العدم فيه. إنني لا أستطيع أن أنسى سفرنا من حيفا بالشاحنات. لقد كان الأمر شبيهاً بما حدث في اتفاق أوسلو؛ لم يقل أحد لنا إلى أين نحن متوجهون. وفي الطريق مررنا بكل تلك المستوطنات التي كانت قائمة في مرج ابن عامر، وفي كل مرة كنا نقول لأنفسنا، ها قد وصلنا، مؤكد هنا، مؤكد هنا، في هذا "الموشاف" الجميل، في هذا الكيبوتس حيث المرشّات كانت تروي العشب الأخضر. وعندها وصلنا إلى مكان، هو لا مكان. هو لا شيء، معسكر من الخيم. وكان يدعى "معبرات مانسي". لم يكن هناك صنابير للمياه. وأدرك الناس، فوراً، أنهم ضُللوا وأنهم كانوا ضحية عملية خداع، إذ إن أحداً لم يقل لنا إننا سنقيم بخيم، في شبه لا مكان كهذا. وكان هناك إحساس فظيع بالانكسار. النساء بكين، وشرعن في العويل كأنهن في مأتم، وقام بعضهن بمهاجمة أزواجهن، ضربنهم وصرخن في وجوههم: إلى أين أتيتم بنا، إلى أين؟ كان المشهد يمزق القلوب، وببساطة أقول كان مأساوياً.
لكن بالنسبة إليّ كانت الصدمة في المجال الذي شغل تفكيري شخصياً، وأقصد مجال الكتاب والتعليم. فقد وجدت نفسي أتعامل مع مجتمع شبه بربري. إذ في البداية، وطوال نصف عام، لم يتيحوا لنا فرصة الدراسة. وبعد ذلك أيضاً، وعندما تم نقلنا إلى "معبراه" آخر، قرب كريات شمونة بدأت الذهاب أخيراً إلى المدرسة، وكنت أعود إلى البيت وأقول لوالدتي إننا نعيش وسط مجتمع بدائيين. وهكذا أخذ يتملكني إحساس، أنا الصبي ابن العائلة البروليتارية من مدينة طنجة، أنني مع قدومي إلى البلد [فلسطين] هبطت بضع درجات من ناحية البيئة الاجتماعية والثقافية التي كنت أعيش وسطها.
- وماذا بالنسبة إلى الصعوبات التي واجهها والداك؟
o بالنسبة إليهما كانت الصدمة أقسى كثيراً. وأعتقد أن الأمر الجوهري هو إحساسهما المفاجئ بالعزلة، من دون تلك الحماية التي توفرها الجماعة، ومن دون الأمور الواضحة. إذ وبصورة مفاجئة أصبحا يعيشان لذاتهما، أصبحا وحيدين تماماً في مواجهة مؤسسة بعيدة وغير واضحة، مع لغة أُخرى ومعايير غير مفهومة، في خضم موجات من الهجرة الجماعية، حيث لا اعتبار فيها للإنسان الفرد ولا قيمة له. وأعتقد أنه بالنسبة إليهما، كما بالنسبة إلى أناس آخرين كثيرين، كانت الصدمة في تحطم الثقافة الجماعية التي كانا ينتميان إليها. ليس لدي توصيف آخر لذلك. لقد وجدا أنفسهما فجأة يقفان في وجه عالم غير مفهوم.
[.......]
- هل كان هناك إحساس بالظُلم؟ بالسخط إزاء الكيبوتس؟
o [.......]
إزاء الكيبوتس أحسست بمشاعر مختلطة. فمن ناحية، أحببت الكيبوتس حباً حقيقياً. لقد شغفت به. وإلى يومنا هذا، عندما أهبط من بوريا [ضاحية بالقرب من مدينة طبرية] نحو بحيرة طبرية، يُخيَّل إليّ أنني ولدت هناك، وأنني من أبناء غور الأردن. من ناحية شخصية ليس لدي احتجاج. فإسرائيل القديمة تلك، وذاك الكيبوتس، كانا جيدين معي. وكانت تربطني بالمدربة في منظمة الشبيبة، كيمياء ومحبة كبيرتان. وأنا مدين لها بالكثير. وكانت العائلة التي أخذتني برعايتها عظيمة. وفي نهاية المطاف، تزوجت من روتي ابنة [كيبوتس] غينوسار، كما وُلد أبنائي الثلاثة في الكيبوتسات.
لكن، مع ذلك، كنت دائماً ابناً من الخارج، وهذا ليس بالأمر السهل. فأنت لا تحس بالانتماء، وأنت لست جزءاً من السبط [الجماعة]، وأنت لست شريكاً في نظام الرموز والأعراف الداخلي. وعلى الدوام يرافقك ذاك الإحساس بأنهم لن يتساهلوا معك ولن يحسنوا إليك. هذا لأن ابن الكيبوتس، المنتمي إليه، يبقى على الدوام من "عظام الرقبة"، حتى لو لم يتفوق في الدروس، وحتى لو لم يجتاز امتحانات "البغروت" [الشهادة الثانوية]. أمّا بالنسبة إليك فالأمر مختلف، إذ في إمكانك أن تصبح واحداً منهم، بفضل مؤهلاتك فقط وبفضل إنجازاتك، ولذا فأنت تقول لنفسك على الدوام: كف عن التباكي، إعمل بكد وحقق الإنجازات.
وبمعنى معين، ما زلت إلى يومنا هذا ابناً من الخارج في حركة العمل. إذ إن أمثالي من أبناء الهجرات في الخمسينات، ما زالوا يعتبرون أبناء خارجيين، حتى لو تمكنوا عبر مسار شاق من احتلال موقع موازٍ لمواقع النخب. وحتى عندما يبدو لنا، أول وهلة، أننا أصبحنا جزءاً لا يتجزأ من هذه الثقافة الرائدة، فإننا لن نصبح تماماً من أبناء السبط. نحن في الداخل ولسنا في الداخل، إذ إن الرجل الآتي من الخارج، ابن الطوائف [الشرقية]، ما زال يجد صعوبة في الحصول على الشرعية الكاملة لوجوده داخل هذا المعسكر.
- هل ما زال حزب العمل حزب هذا السبط الأبيض؟
o القصة أكثر تعقيداً. فأولئك الذين ينتسبون إلى حزب العمل، أولئك الذين يحملون على عواتقهم الديمقراطية الحزبية، لا يختلفون، من حيث الجوهر، عن المنتسبين إلى الليكود. والشريحة الاجتماعية في مؤتمر حزب العمل أوسع، لكن قيادة الحزب وعملية تعاقب الأجيال وأنماط العمل لم تتغير بعد. وعلى سبيل المثال، روى لي موشيه شاحال أنه أتى إلى بيرس، بعد اغتيال رابين، وطلب منه تعيينه وزيراً للخارجية. طبعاً، كان الرد دفعه كي يسقط عن درجات السلالم، وتعاملوا مع ترشيحه لنفسه كدعابة تافهة.
إنني أعرف موشيه شاحال وأجد فيه شخصاً مؤهلاً وقديراً لا مثيل له، وفي إمكانه أن يصبح وزيراً ممتازاً للخارجية، وبالتأكيد هو ليس أقل جودة من الذي عيّن في هذا المنصب في النهاية. لكن الرفض المسبق لترشيحه ليس مسألة شخصية. إنه مثال. إنه جزء متوارث من الثقافة السياسية لحزب لم تفكر قيادته، في أي يوم من الأيام، في أن أبناء الهجرات جديرون باحتلال مناصب سياسية واستراتيجية. وبحسب قوالب حزب العمل، فالشؤون الرسمية الكبيرة ما زالت من اختصاص النخب التقليدية. أمّا الآخرون ففي إمكانهم معالجة الأمور الأُخرى، الأمور الإثنية.
- والحال هكذا، كيف نسمي هذه الظاهرة؟ عنصرية؟ وصاية؟
o لا أعتقد أن كلمة عنصرية ملائمة للواقع الإسرائيلي. إن عمليات التمييز الاجتماعي، وحتى الطائفي، لا ترقى إلى مستوى العنصرية. لكن يوجد هنا عملية وصاية. ربما جاز اعتبارها وصاية كولونيالية، أو نيوـ كولونيالية. يوجد هنا فرضية تقول إن الآخرين، الأغراب، لا يفهمون لغة الحوار التي نستخدمها. ويوجد هنا ثقافة سياسية لجيل قام بعملية الاستيعاب، ولم يتخل بعد عن مكانته هذه. فهو على الدوام يواصل القيام بعملية استيعاب الآخرين، وعلى الدوام يقوم بتعليمهم.
سأعطيك مثلاً: عندما عينني شمعون بيرس رئيساً للجنة اللاجئين، تفوه بجملة بدت لي غريبة، إذ قال: جميل جداً، إن من سيمثلنا في لجنة اللاجئين هو لاجئ أيضاً. هذه الجملة كانت مربكة جداً في نظري. فالسيد بيرس، كما هو معلوم، لاجئ أيضاً. لكن في نظر القيادة، يبقى اللاجئون هم الآخرون، أولئك الذين قدموا مع موجات الهجرة الجماعية.
[.......]
- أين تضع نفسك هنا، بين هذه الهويات المتناقضة؟
o [....] يبدو لي أنني جد مشدود إلى الحالة الإنسانية وإلى الظروف الأساسية للوجود الإنساني. فأنا لا أتعالى على الآخرين، ولا حتى على طالبي التعاويذ. إنني لا أحتقرهم، بل أُصغي إلى كل أنواع الإجابات التي تولدها الحالات الإنسانية. وعلى سبيل المثال، فقد واصلت تقبيل يدي والدي عندما كان يعود من الكنيس، حتى عندما تقدمت في العمر. وكما قلت لك، ففي ثقافتنا الشرقية لا وجود للعلمانية، كلنا نحافظ على التراث بهذا الشكل أو ذاك. وهذا ما لم يقبلوه هنا، فقد حكموا على عالمنا من دون أن يحاولوا فهمه، لم يدركوا أن لا تناقض بين تقبيل يدي الوالد وبين المواطنة في دولة عصرية.
لكن مع ذلك، لا أعتقد أن خطابي هو خطاب طائفي، بل هو، أحياناً، مضاد للطائفية. وأنا بالذات من يتحدث عن ضرورة تجفيف مستنقع الإحباطات الذي قامت عليه حركة "شاس"، وعن أنه لا يجوز للدولة أن تموّل أجهزة الرفاه الاجتماعي والتعليم المستقلة ذاتياً والتي يسيطر عليها الأصوليون. إن مقاربتي هي مقاربة عالمية والحلول التي أقترحها حلول اجتماعيةـ ديمقراطية. وما يزعجني جداً، ويجعلني أحس بالإهانة، أحياناً، أنه بدلاً من الإصغاء إلى أقوالي ذات الأبعاد المتعددة، يحاول البعض دفعي حشراً إلى داخل المحرمات الإثنية. ففي نهاية المطاف، أنا لا أريد هدم النخب الإسرائيلية ولا الحلول مكانها. إن ما أقترحه هو تجديد شبابها فقط. كما أعتقد أن الطريق الوحيد للدفاع عن ثقافة هذه النخب والحفاظ عليها هو إصلاحها، وجعلها أكثر تعددية؛ جعلها مركبة وأكثر اتصالاً بالواقع الذي نعيشه.
- أما زلت تتوق إلى طنجة؟
o إنني مجنون بهذه المدينة. عدت إليها، أول مرة، سنة 1984 ودرستها من جديد وعشقتها مجدداً، وأعتقد أنني تواصلت حسياً من جديد مع طنجة في محاولة من جانبي لفهم نفسي. ومع ذلك، فقصتي ليست بسيطة. أنا أتحدر من عائلة بسيطة جداً. كان والدي حمّالاً في الميناء، ولم يكن والدَايْ يعرفان القراءة والكتابة. وكان مهماً بالنسبة إلي أن أفهم كيف وصلتُ إلى المكان الذي أنا فيه، وكيف وصلت إلى ما أنا عليه أو إلى ما أردت أن أكون عليه. وظننت أن الجواب عن هذه الأسئلة غير موجود في بلدة أوفكيم أو في كريات شمونة، وإنما في طنجة. إنه موجود في تلك الطرق الغريبة التي تركت فيها هذه المدينة بصماتها عليّ، وفي طابعها الكوزموبوليتاني، وفي ذلك اللقاء الناعم بين الثقافات الذي كان قائماً فيها: الثقافة الإسلامية والمسيحية؛ أنماط الحياة الأميركية والإيطالية؛ التراث الفرنسي والإسباني. وكل هذا الأمر الذي كان في داخلي هو نوع من النشوة، أو العاصفة الداخلية التي امتزجت، بشكل من الأشكال، داخل كل هذا الكوكتيل الذي أشعر بأنه موجود في أعماقي.
لهذا كله، أكرر العودة إلى هناك. وأفعل ذلك نظراً إلى أن طنجة توضح لي ما في أعماقي وتفسره. إنها تسوي تناقضاتي، إذ يوجد فيها شيء ما من الإحساس بالراحة، وشيء من الميل الجميل جداً في نظري نحو عدم إغلاق الأمور، أي البقاء في حالة ما من الانفتاح اللانهائي، مع الكثير من التعاطف مع الحالات الضعف الإنسانية، ومع تعايش بين الرموز الخلقية والثقافية المتعددة من دون دكتاتورية قيم واحدة، ومن دون أحادية النغم؛ تعايش بين العرب والأوروبيين واليهود، وبين المهربين والكتّاب. وهذا الطيش، ورائحة الخطيئة في الجو.
لا أريد هنا توصيف وضع مثالي، إذ إن طنجة لم تكن سهلة بالنسبة إليّ. وعندما ترعرعت فيها كنت على الدوام ابن العائلة الفقيرة الذي كان عليه أن يناضل من أجل احتلال مكان له، ولم تصل الأمور إليّ بسهولة في أي وقت من الأوقات. وكان يختلج في داخلي ذاك الدافع كي أكون ابن الفقراء الذي تخرج منه المعرفة والعلوم. لكن الوتيرة كانت مختلفة، كما هي اليوم أيضاً مختلفة. إذ لم يكن هناك وجود لهذا التسابق الجنوني نحو الحداثة والإنماء والمقاييس الاقتصادية.
إنني أحب طنجة كثيراً. واليوم لم يعد فيها ذاك السحر الذي كان في السابق، قبل انهيار الكولونيالية، عندما كنت صبياً. لكن ما زال يأتي إليها أشخاص، مثلي، للتفتيش فيها عن ذلك الفردوس؛ عما كان في يوم من الأيام. وهناك سحر معين في مجرد عملية التفتيش هذه. وعندما أكون هناك أشعر بأن هذه المدينة تعيدني بصورة ما إلى نفسي. إنها أنغام إسبانيا، والبحر، وذاكرة الجالية اليهودية تلك التي كانت تخلب العقول ببساطتها وسذاجتها وبالإحساس بالوجود الجماعي الذي كانت تبثه. إنها تلك العلاقة الحميمة بالشوارع التي ترعرعت فيها. إنها دفء ذاك الرحم المفقود.
[1] أحد المراجع الدينية العليا لليهود الشرقيين عامة، ولحزب "شاس" خاصة.