تسعى شوحط اليهودية العربية من أصل عراقي (كما تعرف نفسها) والتي غادرت فلسطين نهائياً واستقرت في نيويورك حيث تدرّس في إحدى جامعاتها، إلى توسيع دائرة النقاش بشأن واقع الصراع العربي - الصهيوني ومستقبله، بأن تجعل من المزراحيم "حلقة متوسطة" بين الفلسطينيين والأشكيناز، حيث يشكل اليهود الأوروبيون في إسرائيل "نخبة من العالم الأول تسيطر لا على الفلسطينيين فقط، بل على اليهود الشرقيين أيضاً. وكشعب يهودي من العالم الثالث يشكل المزراحيم أمة شبه مستعمرة داخل أمة". وترى شوحط أن المزراحيم ضحايا الصهيونية الأشكينازية ومضطهدون في الدولة الأشكينازية، وإن يكن الفلسطينيون هم الضحية الرئيسية. وترى شوحط أن التشكل السياسي ـ الاجتماعي الإسرائيلي يولد باستمرار تخلف اليهود الشرقيين، وتعتقد أن المزراحيم يمكن أن يكونوا جسر سلام إلى العرب والفلسطينيين.
إن الخطاب النقدي البديل الذي يتعلق بإسرائيل وبالصهيونية ركز حتى الآن، وإلى حد كبير، على الصراع العربي ـ اليهودي، ناظراً إلى إسرائيل باعتبارها دولة مصطنعة، ومتحالفة مع الغرب ضد الشرق؛ دولة قائمة في أساسها على إنكار الشرق والحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني. وأود هنا أن أوسّع حدود النقاش إلى ما بعد الثنائيات السابقة (الشرق في مقابل الغرب، والعربي في مقابل اليهودي، والفلسطيني في مقابل الإسرائيلي) كي أُدخل قضية حُذفت في الصيغ السابقة، من أجل إدراك وجود حلقة متوسطة، هي اليهود العرب أو الشرقيون، وهم اليهود "المزراحيم" القادمون، على العموم، من الدول العربية أو الإسلامية. وفي رأيي إن التحليل الأكثر اكتمالاً لا بد من أن ينظر إلى النتائج السلبية للصهيونية، لا على الشعب الفلسطيني فحسب، بل على "المزراحيم" أيضاً الذين يشكلون الآن أكثرية السكان اليهود في إسرائيل. ذلك بأن الصهيونية لا تقوم فقط بالحديث نيابة عن فلسطين والفلسطينيين، "معوقة" بذلك تمثيل الفلسطينيين لأنفسهم، بل تفترض أنها تتحدث نيابة عن اليهود الشرقيين أيضاً. وللإنكار الصهيوني للشرق العربي ـ المسلم والفلسطيني نتيجته الطبيعية وهي إنكار "المزراحيم" اليهود ("الشرقيين") الذين كانوا كالفلسطينيين، وإنما بآليات أكثر خبثاً وأقل وحشية واضحة، قد جردوا هم أيضاً من حق تمثيل أنفسهم. وفي داخل إسرائيل وعلى مسرح الرأي العام العالمي، كان صوت إسرائيل الطاغي، بصورة لا تكاد تتغير تقريباً، هو صوت اليهود الأوروبيين، الأشكنازيم، بينما كان صوت المزراحيم، مخنوقاً ومطموساً إلى حد كبير.
تزعم الصهيونية أنها حركة تحرر لجميع اليهود، ولم يوفر الأيديولوجيون الصهيونيون أي جهد في محاولة جعل تعبيريْ "اليهودي" و"الصهيوني" مترادفين فعلياً. لكن الصهيونية، في الواقع، كانت، أساساً، حركة تحرر لليهود الأوروبيين (وهذا الأمر كما نعلم مشكوك فيه)، وبصورة أكثر دقة لتلك الأقلية الصغيرة من اليهود الأوروبيين القاطنين بإسرائيل فعلاً. ومع أن الصهيونية تزعم أنها تقدم وطناً إلى جميع اليهود، فإن ذلك الوطن لم يُقدَّم إلى الجميع على المستوى نفسه. فقد جيء باليهود المزراحيم في البداية إلى إسرائيل لأسباب صهيونية ـ أوروبية خاصة. ثم جرى التمييز بحقهم، بصورة منهجية، من قبَل الصهيونية التي بذلت طاقاتها ومواردها المادية، بصورة مميزة، لمصلحة اليهود الأوروبيين الدائمة، وللأذى الدائم لليهود الشرقيين. وفي هذه المقالة أود أن أرسم بدقة وضع الاضطهاد البنيوي الذي يعانيه اليهود المزراحيم في إسرائيل، وأن أعرض بإيجاز الأصول التاريخية لذلك الاضطهاد، وأن أقترح تحليلاً لأعراض الخطابات ـ التاريخية والاجتماعية والسياسية والصحافية ـ التي تصعّد ذلك الاضطهاد وتخفيه وتديمه.
علاوة على إشكال الشرق/الغرب هذا، هنالك إشكال آخر على صلة به، لكنه غير متطابق معه، هو العلاقة بين العالمين "الأول" و"الثالث". وعلى الرغم من أن إسرائيل لا تعد بأي تعريف مألوف أو بسيط بلداً من العالم الثالث، فإن لديها صلات وتشابهات بنيوية مع العالم الثالث، وهي تشابهات تمر من دون أن تُلْحَظ، في الغالب، وربما حتى في إسرائيل نفسها بالذات. وبأي معنى إذاً يمكن أن يُنظر إلى إسرائيل، على الرغم من وجهات نظر الناطقين الرسميين فيها، باعتبارها جزءاً من العالم الثالث؟ أولاً من حيث الديموغرافيا المحضة، إذ إن أكثرية سكان إسرائيل يمكن اعتبارها من العالم الثالث أو يعود أصلها إلى العالم الثالث. يشكل الفلسطينيون نحو 20% من مجموع السكان، في حين أن المزراحيم الذين تعود أكثريتهم، على ما نذكر، إلى بلاد المغرب والجزائر ومصر والعراق وإيران والهند، وهي بلاد تعتبر جزءاً من العالم الثالث، يشكلون 50% من مجموع السكان، الأمر الذي يجعل نحو 70% من السكان من العالم الثالث، أو يعود أصلهم إلى العالم الثالث (ونحو 90% إذا ضُم إليهم سكان الضفة الغربية وقطاع غزة). إن الهيمنة الأوروبية في إسرائيل، بهذا المعنى، هي نتيجة أقلية عددية واضحة، أقلية من مصلحتها أن تقلل السمة "الشرقية" لإسرائيل وانتسابها إلى العالم الثالث.
وفي إسرائيل، يشكل اليهود الأوروبيون نخبة من العالم الأول تسيطر لا على الفلسطينيين فقط، بل على اليهود الشرقيين أيضاً. وكشعب يهودي من العالم الثالث، يشكل المزراحيم أمة شبه مستعمرة داخل أمة.
ديالكتيك التبعية
إن هذه المشكلات الموجودة في شكلها الجنيني في فترة ما قبل الدولة، أعطت ثمارها "المرة" بعد إنشاء إسرائيل، لكنها الآن باتت واضحة بفعل مجموعة متطورة من المسوغات العقلانية والمعالجات المثالية. وقد تحقق تطور إسرائيل الاقتصادي السريع في الخمسينات والستينات على أساس توزيع غير متساو للمنافع بصورة منهجية. وهكذا تشكلت البنية الاجتماعية ـ الاقتصادية على نقيض أساطير المساواة التي ميزت تمثيل إسرائيل لذاتها في العقد الأخير. ثم إن القرارات التمييزية التي اتخذها المسؤولون الإسرائيليون ضد المزراحيم بدأت قبل وصول المزراحيم إلى إسرائيل وقامت على أساس أن "الأشكنازيم"، باعتبارهم "ملح الأرض"، يستحقون أوضاعاً أفضل "وامتيازات خاصة".[1]
وعلى العكس من المهاجرين "الأشكنازيم"، عومل المزراحيم بصورة غير إنسانية في المعسكرات التي أقامها الصهيونيون في بلاد المنشأ كما في أثناء الانتقال. وعن معسكر في الجزائر يتحدث تقرير للوكالة اليهودية عن وضع كان يعيش فيه "أكثر من خمسين شخصاً في غرفة لا تتجاوز مساحتها 4 ـ 5 أمتار مربعة."[2] ويلحظ طبيب يعمل في معسكر انتقال في مرسيليا معَدّ للمهاجرين اليهود من شمال إفريقيا أنه نتيجة السكن السيىء وانخفاض التغذية مؤخراً، توفي أطفال؛ وأضاف: "لا أستطيع أن أدرك لماذا يزوَّد المهاجرون من جميع البلاد الأوروبية الملابس، بينما المهاجرون من شمال إفريقيا لا يزودون شيئاً."[3] وحين انتقلت المعلومات عن التمييز بحق المزراحيم في إسرائيل إلى شمال إفريقيا، حدث انخفاض في الهجرة. إذ غادر بعضهم المعسكرات للعودة إلى المغرب، بينما كان لا بد من "أن يؤخذ الآخرون إلى سطح المراكب بالقوة"،[4] كما قال موفد الوكالة اليهودية. وفي اليمن، أدت الرحلة عبر الصحراء، التي تفاقمت بفعل الأوضاع غير الإنسانية في معسكرات الانتقال الصهيونية، إلى المجاعة والمرض والموت الجماعي، الأمر الذي أدى بدوره إلى نوع قاس من "الانتقاء الطبيعي". وفي ظل القلق بشأن عبء العناية بالمرضى اليمنيين، طمأن يتسحاق رفائيل (من الحزب الديني القومي) زملاءه أعضاء الوكالة اليهودية إلى أن "لا حاجة إلى التخوف من وصول عدد كبير من المرضى المزمنين إذ لا بد من أن يسيروا على أقدامهم نحو أسبوعين، وأن المصابين بمرض شديد لن يستطيعوا السير."[5]
إن الاحتقار الأوروبي ـ اليهودي لحياة اليهود الشرقيين وحساسياتهم ـ الذي انتقل، أحياناً، إلى المزراحيم عبر "خبراء" أشكنازيم مستشرقين زعموا أن الموت للمزراحي شيء "عادي وطبيعي" ـ يتضح أيضاً في الحادثة المعروفة عن "أولاد اليمن المخطوفين."[6] [....] إذ وقع بعض المزراحيم، وأغلبيتهم من اليمنيين، ضحايا حلقة من أطباء وممرضين وعمال اجتماعيين مجردين من الضمير أمّنوا نحو 600 طفل يمني كي يتبناهم أزواج من الأشكنازيم لا أبناء لهم (بعضهم خارج إسرائيل)، وقالوا لآبائهم الطبيعيين إن الأطفال توفوا. وكانت المؤامرة واسعة إلى حد أنها تضمنت إصداراً منهجياً لإفادات وفيات مزورة للأطفال الذين تم تبنيهم، وضمنت أن مطالب المزراحيم بالتحقيق قد أُسكتت، لعدة عقود، وتلاعبت بها المكاتب الحكومية.[7] وفي 30 حزيران/يونيو 1986، عقدت "اللجنة العامة للكشف عن الأطفال اليمنيين المفقودين" اجتماعاً احتجاجياً كبيراً. وتم تجاهل هذا الاجتماع، مثل الكثير من الاحتجاجات والتظاهرات، تجاهلاً كلياً من وسائل الإعلام، لكن التلفزة الإسرائيلية قدمت بعد أشهر قليلة وثيقة بشأن الموضوع تضع اللوم على الفوضى البيروقراطية، في تلك الفترة، التي نجمت عنها "الشائعات البائسة، وتخلد الأسطورة التي تجعل من والدي المزراحيم آباء مهملين، قليلي المسؤولية نحو أولادهم.
بدأ التمييز العرقي ضد المزراحيم مع بداية استقرارهم. فلدى الوصول إلى إسرائيل، وُزعت مجموعات المزراحيم المتعددة عبر البلد على الرغم من إرادة البقاء معاً. العائلات فرقت، والمجموعات القديمة فتتت، والقادة التقليديون جردوا من مناصبهم. واليهود الشرقيون أسكنوا، في الغالب، في "معبروت" (معسكرات انتقال) وقرى نائية ومستوطنات زراعية، وفي ضواحي المدن، ومنها ما أُفرغ حديثاً من الفلسطينيين. ومع استنفاد تسهيلات الاستيعاب أنشأت سلطات الاستيطان "عيّروت بيتوّاح" ("بلدات التطوير") في مناطق ريفية وحدودية في الغالب، أصبحت، كما هو متوقع، هدف الهجمات العربية. وكانت السياسة المعلنة "تعزيز الحدود" لا ضد الهجمات العربية العسكرية فحسب، بل أيضاً ضد أية محاولات يقوم بها لاجئون فلسطينيون للعودة إلى وطنهم. وإذا كانت الدعاية الإسرائيلية امتدحت كيبوتسات الأشكنازيم، المحمية بصورة أفضل، لشجاعتها في العيش على الحدود، ففي الواقع إن أعدادهم القليلة (نحو 3% من السكان اليهود، ونصف ذلك العدد إذا أخذنا المستوطنات الحدودية فقط) لا تكاد تمكنهم من ضمان أمان الحدود الطويلة، في حين كانت مستوطنات المزراحيم الأكثر عدداً على الحدود تضمن قدراً من الأمن. ثم إن مستوطنات الحدود المزراحية كانت تفتقر إلى بنى تحتية للحماية العسكرية القوية كتلك الموجودة لدى مستوطنات الأشكنازيم، الأمر الذي أدى إلى فقد أرواح المزراحيم، إن الفصل العرقي الذي يميل إلى تمييز الإسكان الإسرائيلي يعود أيضاً إلى هذه الفترة. ففي حين يتجه الأشكنازيم إلى العيش في المناطق الشمالية الأكثر ازدهاراً، كان المزراحيم مركزين في المناطق الجنوبية الأقل ثراء. وعلى الرغم من التمييز الظاهر، فإن الجاليتين مرتبطتان بعلاقة تبعية حيث الضواحي الفقيرة تخدم الضواحي الغنية، وهي علاقة بنيوية تعكس العلاقة بين الكيبوتسات "الاشتراكية" وبلدات التطوير المجاورة.
وفي الحالات التي نقل فيها المزراحيم إلى مساكن قائمة مسبقاً ـ وهي في إسرائيل تعني مساكن فلسطينية ـ كانوا ينتهون، في الغالب، إلى العيش في ظروف مشوشة لأن المواقف الاستشراقية للسلطات الإسرائيلية وجدت أن من الطبيعي أن تجمع عائلات مزراحية كثيرة في المسكن الواحد، على افتراض أنها "تألف" مثل هذه الحالات. ثم إن هذه الضواحي المزراحية كانت تعاني تمييزاً منهجياً ضدها فيما يتعلق بحاجات البنية التحتية، والمنافع التعليمية والثقافية والتمثيل الذاتي السياسي. بعد ذلك عندما أصبح بعض هذه الضواحي عقبة أمام التطوير المديني، أُجبر المزراحيم، وعلى الرغم من التظاهرات العنيفة، على الانتقال إلى ضواح فقيرة أُخرى "حديثة". وفي يافا، على سبيل المثال، جدّدت السلطات، بعد انتقال المزراحيم، المنازل نفسها التي كانت رفضت تجديدها لسكانها المزراحيم، وبذلك سهلت الانتقال الذي به أصبحت أقسام من يافا "الشرقية" محلة سياحية "بوهيمية" مرصعة بصالات فنية. ومنذ وقت قريب، مرت ضاحية المصرارة المزراحية في القدس بالعملية نفسها. وإذ لم تعد هذه الضاحية في جوار حدود سنة 1967 السابقة، تحاول السلطات أن تنقل المقيمين المزراحيم وأن ترغمهم على الإقامة بمستوطنات في الضفة الغربية، وذلك، مرة أُخرى، بحجة تحسين أوضاعهم المادية. إن المخطط واضح ومنهجي. فالمساحة التي أخلاها المزراحيم بالقوة سرعان ما أصبحت هدفاً لاستثمارات رئيسية أدت إلى نشوء ضاحية أرستقراطية أشكنازية حيث تعيش النخبة متمتعة بإطلالة على "المتوسط" لكن من دون وجود فلسطيني أو مزراحي مزعج، في حين أصبحت الضواحي المزراحية الجديدة أحياء فقيرة.
وباعتبار المزراحيم قوة عاملة رخيصة، ومتحركة، وقابلة للتلاعب بها، فقد كانوا ضروريين للتطور الاقتصادي لدولة إسرائيل؛ وإزاء الحاجة إلى الكثير من المساكن في الخمسينات، أصبح الكثيرون من المزراحيم عمال بناء بأجور منخفضة. ثم أدت الأرباح العالية، الناشئة عن الأجور المتدنية، إلى توسع سريع لشركات البناء التي يديرها الأشكنازيم أو يملكونها. وبتجنيد المزراحيم، بصورة خاصة، في قطاعات إنتاج الزراعة الممكننة وغير الماهرة في إطار مشاريع الحكومة الكبيرة النطاق، فقد قدموا معظم القوى العاملة من أجل تسوية الأرض. وبالنسبة إلى المستوطنات الزراعية أخذوا أراضي أقل اتساعاً وأقل خصوبة من المستوطنات الأشكنازية المتعددة كالكيبوتسات، كما حصلوا على أدوات إنتاج أقل كفاءة كثيراً، الأمر الذي أدى إلى إنتاج أدنى، وإلى دخل أقل، وإلى انهيار اقتصادي متدرج للكثير من المستوطنات المزراحية.[8] وبعد أن وصل التطور الزراعي وأعمال البناء إلى نقطة الإشباع، في أواخر الخمسينات وأوائل السبعينات، عملت الحكومة على تصنيع البلد، وأصبح العمال المزراحيم، مرة أُخرى، ضروريين للتطور الإسرائيلي السريع. وفي هذه الفترة، أصبح قسم كبير من المزراحيم يشكّل بروليتاريا صناعية (وفي الأعوام الأخيرة، راوحت الأجور الشهرية لعمال الإنتاج في معامل النسيج بين 150 دولاراً و200 دولار تقريباً، وهذا يعادل ما يكسبه العمال في العالم الثالث).[9] في الواقع، كانت نداءات إسرائيل للاستثمار الأجنبي (اليهودي في الدرجة الأولى) مبنية، جزئياً، على "إغراء" قوى العمل الرخيصة المحلية. وأدت أجور العمال المنخفضة إلى هوة متواصلة الاتساع بين المستويات العالية والمنخفضة للأجور في الصناعة. وصارت بلدات التطوير اللازمة للإنتاج الصناعي "بلدات لشركات"، حيث أصبح المصنع الواحد هو الذي يؤمن العمالة للمدينة بكاملها تقريباً، والتي صار مستقبلها مرتبطاً، بصورة متشابكة، بمستقبل الشركة.[10]
وفي حين أحال النظام المزراحيم على قعر لا مستقبل له، فإنه دفع الأشكنازيم صعوداً في السلم الاجتماعي، مستحدثاً حركية في الإدارة، والتسويق، والمصارف، والمهن التقنية. وتكشف الوثائق المنشورة مؤخراً الحجم الذي كان فيه التمييز سياسة محسوبة ميزت، عن قصد، المهاجرين الأوروبيين، وأوجدت، أحياناً، أوضاعاً شاذة يكون فيها المزراحيم المتعلمون عمالاً غير مَهَرَة، بينما يحتل الأشكنازيم الأقل تعلماً مواقع إدارية عالية.[11] وعلى العكس من المثال الكلاسيكي حيث ترتبط الهجرة بالرغبة في التحسن الفردي والعائلي والجماعي، فإن هذه العملية بالنسبة إلى المزراحيم في إسرائيل كانت معكوسة إلى حد كبير. وما كان للمهاجرين الأشكنازيم من روسيا أو بولندا "عَلِياه" (حرفياً: صعود)، كان للمهاجرين المزراحيم من العراق أو مصر "يريداه" (أي: "انحدار"). وما كان للأقليات الأشكنازية المضطهدة حلاً معيناً وشبه خلاص للثقافة، كان للمزراحيم القضاء الكامل على تراث ثقافي، وخسارة هوية، وانحطاطاً اقتصادياً واجتماعياً.
واجهة المساواتية
نُفذت هذه السياسات التمييزية تحت رعاية حزب العمل والتابعين له، والذي كانت إمبراطوريته تشمل مجموعة أخطبوطية من المؤسسات أبرزها النقابة العامة للعمال (الهستدروت). تسيطر الهستدروت على القطاع الزراعي، والكيبوتسات، وعلى أكبر النقابات العمالية في القطاع الصناعي. وتمارس سلطة واسعة من خلال صناعاتها الخاصة وتعاونياتها التسويقية، وأنظمة النقل، والمؤسسات المالية، وشبكة الخدمة الاجتماعية (تستطيع سوليل بونيه، شركة البناء التابعة للهستدورت، مثلاً، بسهولة أن "تجمّد" بنّائين في القطاع الخاص من حزب الليكود). وكنوع من تشويه للنقابات العمالية تستخدم الهستدروت، على الرغم من أيديولوجيتها الاشتراكية المعلنة، قوتها الواسعة، على العموم، لمصلحة النخبة، بحيث تمنح، بصورة مستمرة، الأشكنازيم المواقع الإدارية الخاصة بذوي الياقات البيض، وتمنح المزراحيم العمل الماهر وغير الماهر الخاص بذوي الياقات الزرق، تاركة هؤلاء الأخيرين في مواقع حيث تقفل المصانع أو يطرد العمال، [....] ثم إن المؤسسات المسيطرة، ولا سيما النخبة الصهيونية ـ "الاشتراكية"، ترغم المزراحيم، فعلاً، على التخلف، وهذا بعكس الإنكار الأشكنازي أن يكون مثل هذه العمليات قد حدث، أو بعكس المزاعم أن هذه العمليات كانت غير واعية وغير مدروسة.
يخفي الخطاب الإنساني ـ الاشتراكي السائد في إسرائيل هذا الديالكتيك السلبي بين الثروة والفقر وراء واجهة ملغزة من المساواتية. ويحتكر كل من الهستدروت وحزب العمل، اللذين يدعيان تمثيل العمال، اللغة الاشتراكية. كما أن احتفالاتهما في أيار/مايو، ورفع الأعلام الحمر إلى جانب الأزرق والأبيض [العلم الإسرائيلي]، وخطاباتهما باسم "الطبقة العاملة" تخفي حقيقة أن شبكة حركة العمل تمثل، في الواقع، مصالح النخبة الأشكنازية فقط، التي لا يزال أعضاؤها يشيرون إلى أنفسهم، توقاً إلى الماضي، بأنهم "إيرتس يسرائيل هعوفيدت" (أرض إسرائيل العاملة). أمّا المزراحيم والفلسطينيون، الذين يشكلون أكثرية العمال في إسرائيل، فقد تمثلوا بدوائر الهستدروت الخاصة المسماة على التوالي "الدائرة الشرقية" و"دائرة الأقليات" (ولا داعي إلى القول إن الهستدروت غير منشغلة بالاستغلال الاقتصادي لعمال الضفة الغربية وقطاع غزة). وهكذا، فإن التلاعب باللغة النقابية وانتقاء الشعارات الاشتراكية كانا في منزلة دخان يخفي الاضطهاد. وفي النتيجة كان على المناضلين المزراحيم أن يواجهوا نوعاً من الكره العميق من طبقة المزراحيم الدنيا لكلمة "الاشتراكية" المرتبطة لديهم بالاضطهاد لا بالتحرر.
ومع أن الخطاب الرسمي التحسيني يفترض تضييقاً متدرجاً للهوة بين المزراحيم والأشكنازيم، فالواقع أن انعدام المساواة هو الآن أكثر وضوحاً مما كان منذ جيلين.[12] ويواصل النظام إعادة إنتاج نفسه في المعاملة التمييزية التي تُمنح، حالياً، للمهاجرين الأوروبيين الحاليين في مقابل معاملة المستوطنين الشرقيين القدماء. وفي حين يتجمد المزراحيم من الجيل الثاني في الضواحي الفقيرة، فإن الحكومة تسكن المهاجرين الروس الواصلين مؤخّراً (باستثناء المزراحيم الجورجيين) في مساكن مريحة في مناطق مركزية (وأنا هنا لا أفحص التمييز ضد اليهود الحبش الذين يعانون الآن ما عاناه المزراحيم في الخمسينات، فضلاً عن الإذلال الإضافي الناجم عن المضايقات الدينية). والواقع أن الولاءات العرقية للمؤسسة الحاكمة تتضح، بصورة خاصة، فيما يتعلق بسياسة الهجرة. وبينما يُفترض بالمؤسسة أن تعزز "العلياه" العالمية ونهاية الشتات، فإنها في ضوء خوفها (غير المعلن) من غلبة ديموغرافية مزراحية، تعزز بقوة هجرة اليهود السوفيات ـ أكثرهم يودون الذهاب إلى مكان آخر ـ في حين أنها تجر قدميها في الاستجابة لليهود الحبش الذين أرادوا أن يغادروا بعد أن صارت حياتهم في خطر.
إن النظام التعليمي في إسرائيل القائم على الفصل وعدم المساواة، إلى حد كبير، يعيد أيضاً إنتاج الانقسام العرقي للعمل عبر نظام متسلسل يوجه باستمرار الطلبة الأشكنازيم نحو مواقع مهمة لذوي الياقات البيض، والتي تتطلب إعداداً أكاديمياً قوياً، بينما يوجه الطلبة المزراحيم نحو المهن المنخفضة المستوى لذوي الياقات الزرق. وللأشكنازيم تمثيل في مهن الياقات البيض يبلغ ضعف ما للمزراحيم. كما تتمتع المدارس في الضواحي الأشكنازية بتسهيلات أفضل، وبمدرسين أفضل، وبمستوى أرفع. وللأشكنازيم، على العموم، ثلاثة أعوام من التعليم أكثر مما للمزراحيم. وحضورهم في المدارس العالية الأكاديمية يعادل 2.4 ضعف، كما يبلغ خمسة أضعاف في الجامعات.[13] إضافة إلى ذلك فإن أغلبية الأطفال المزراحيم تدرس في مدارس محددة من قبَل وزارة التربية كمدارس "تِعوني تِبُّواح" (حرفياً: من هم بحاجة إلى "تطوير" أو "محرومون" ثقافياً) وهو تحديد قائم على معادلة الفارق الثقافي بالنقص. ويعمل هذا النظام التربوي، كما يقول شلومو سويرسكي، "كآلية تصنيف ضخمة لها، بين أمور أُخرى، تأثير خفض الإنجازات والتوقعات لدى الطلاب الشرقيين وآبائهم."[14]
على جميع المستويات ـ سياسة الهجرة، أو التنمية المدينية، أو السياسة إزاء العمال، أو المعونات الحكومية ـ نجد نمط التمييز نفسه الذي يصيب حتى تفصيلات الحياة اليومية. فالحكومة، مثلاً، تدعم أموراً غذائية أساسية، منها الخبز من النوع الأوروبي، أمّا ذاك الذي يفضله المزراحيم والفلسطينيون فلا ينال أي دعم. إن هذه الممارسات التمييزية التي تشكلت في فترة الصهيونية الأولى، يعاد إنتاجها يومياً على المستويات كافة، وتصل إلى أعماق النظام الإسرائيلي الاجتماعي. وفي النتيجة، على الرغم من أن المزراحيم أكثرية، فإنهم ممثلون تمثيلاً منخفضاً في مراكز السلطة القومية: الحكومة؛ الكنيست؛ مراتب الجيش العليا؛ الهيئات الدبلوماسية؛ الإعلام؛ العالم الأكاديمي، لكنهم ممثلون تمثيلاً أعلى في المجالات الهامشية والمشوهة للحياة الاجتماعية والمهنية.
إن التقارير السوسيولوجية الغالبة عن "المشكلة العرقية" في إسرائيل تردّ الوضع المتدني لليهود الشرقيين لا إلى طبيعة المجتمع الإسرائيلي الطبقية، وإنما إلى أصولهم في مجتمعاتهم "المتخلفة ثقافياً" و"ما قبل الحديثة". [....] وبما أن التشكيلة الاجتماعية الإسرائيلية يُنظر إليها على أنها ذلك الكيان الذي أُحدث بصورة جماعية، في أثناء فترة "الييشوف"، فقد كان ينظر إلى المهاجرين كأنهم يدمجون أنفسهم في جماعة دينامية موجودة، متمثلة في مجتمع حديث قائم على أساس النمط الغربي. [....] واستتبع استيعاب ("كليتا") المهاجرين المزراحيم في المجتمع الإسرائيلي قبول الإجماع القائم للمجتمع "المضيف" والتخلي عن التقاليد "ما قبل الحديثة". وفي حين لم يكن المهاجرون الأوروبيون بحاجة إلى غير "الاستيعاب"، فإن المهاجرين من إفريقيا وآسيا احتاجوا إلى "الاستيعاب عبر التحديث". [....] بل أحياناً تكون الضحية "ملومة على لوم" النظام الظالم. ويقول العالم السوسيولوجي يوسف بن ـ دافيد: "في مثل هذه الحالات تجعل الصعوبات العرقية أزمة الهجرة أكثر حدة... وسيميل المهاجر إلى تبرير الفشل بوضع اللوم، صراحة أو ضمناً، على التمييز العرقي."[15]
غير أن الأشكنازيم أختبأوا وراء العبارة السطحية "المجتمع الإسرائيلي"، وهو كيان يُفترض أن يجسد قيم الحداثة والصناعة والعلم والديمقراطية. ومن شأن هذه العملية، كما يشير سويرسكي، أن تموّه العملية التاريخية الفعلية بإخفاء عدد من الحقائق: أولاً، إن الأشكنازيم ليسوا مختلفين عن المزراحيم، إذ جاؤوا أيضاً من بلاد على أطراف النظام الرأسمالي العالمي، وهي بلاد دخلت عملية التصنيع والتطور العلمي ـ التكنولوجي، في الوقت نفسه تقريباً كبلاد المزراحيم؛ ثانياً، إن مجتمع الييشوف الطرفي لم يصل هو أيضاً إلى مستوى تنمية قياساً بمجتمعات "المركز"؛ ثالثاً، إن "الحداثة" الأشكنازية أصبحت ممكنة بفضل القوى العاملة التي أمنتها الهجرة الشرقية الجماعية.[16] وكثيراً ما يُحذف الأساس العرقي للعملية، حتى من أغلبية المحللين الماركسيين التي تتحدث عامة عن "العمال اليهود"، وهو تبسيط مواز للحديث عن استغلال العمال "الأميركيين" في مزارع القطن في الجنوب.
[......]
علامات التمرد المزراحي
على الرغم من هذه العقبات، فقد استمرت الثورة والمقاومة المزراحية. وفي معسكرات الانتقال، كان هنالك تظاهرات تطالب بـ "الخبز والعمل". وقد وصف دافيد هوروفيتس، المدير العام لوزارة المالية، آنذاك، السكان المزراحيم في المعسكرات بـ "متمردين"، ووصف الوضع بأنه "مشتعل" ومثل "الديناميت"،[17] وذلك في أثناء استشارة سياسية مع بن ـ غوريون. وفي سنة 1959، وفي حي وادي الصليب في حيفا، بدأت ثورة أُخرى كبرى ضد البؤس والتمييز، وعمدت السلطات الإسرائيلية إلى إخمادها بالإرهاب العسكري والشرطة. إضافة إلى ذلك حاول حزب العمل (مباي) أن يضعف التنظيم السياسي الذي انبثق من الاضطرابات بإجبار السكان الفقراء على الانضمام إلى الحزب إذا ما أملوا بأن يحظوا بعمل. وانفجر بعد ذلك تمرد، على نطاق واسع، في السبعينات، حين دعا "الفهود السود" الإسرائيليون إلى تدمير النظام وإلى إحقاق الحقوق المشروعة لجميع المضطهدين بغض النظر عن الدين أو الأصل أو القومية. وأدى ذلك إلى إثارة الرعب في المؤسسة الحاكمة، ووُضع قادة الحركة في قيد الاعتقال الإداري. وفي تلك اللحظة، قام الفهود السود بتظاهرات هزت البلد بأكمله. وفي تظاهرة أصبحت شهيرة بعد ذلك (في أيار/مايو 1971) اقتحم عشرات الآلاف الشوارع ردّاً على قمع الشرطة، وألقوا قنابل مولوتوف على الشرطة والأهداف الحكومية. وفي المساء نفسه، اعتقل 170 ناشطاً، وأدخل المستشفى 35 شخصاً وجرح أكثر من 70 شرطياً وضابطاً. إن ثورة الفهود السود التي أخذت اسمها من الحركة الأميركية كانت بقيادة أبناء المهاجرين الذين كان كثيرون منهم جانحين عرفوا التأهيل في المراكز والسجون. وعندما أصبحوا، بالتدريج، واعين للطبيعة السياسية لـ "نقصهم"، خرّبوا أسطورة "بوتقة الصهر" إذ أثبتوا أن في إسرائيل اليهودية شعبين لا شعباً واحداً. وكثيراً ما استخدموا عبارة "دفوكيم فيشحوريم" (مخوزقين وسود) للتعبير عن الموقع العرقي/الطبقي للمزراحيم، ونظروا إلى تمرد السود الأميركيين كمصدر وحي (من المفارقات أن اختيار تسمية الفهود السود قلبت المعنى المتضمن في إشارة الأشكنازيم للمزراحيم إلى أنهم "حيوانات سود"). ومنذ وقت قريب، في كانون الأول/ديسمبر 1982، انفجرت تمردات رداً على قتل الشرطة لأحد فقراء المزراحيم الذي كانت جريمته الوحيدة توسيعاً غير قانوني لمسكنه المكتظ.
في هذه الأثناء، حاولت المؤسسة الحاكمة باستمرار أن تقلل من شأن مظاهر التمرد المزراحي: تظاهرات "الخبز والعمل" في معسكرات الانتقال اعتبرت نتيجة عمل تحريضي لمهاجرين عراقيين يساريين؛ تظاهرات وادي الصليب والفهود السود عُدت تعبيراً لـ "المغاربة الميالين إلى العنف"؛ أعمال المقاومة الفردية عدت رموزاً لـ "تشوش عصابي"، أو "عدم التكيف". وقد شكت غولدا مئير، رئيسة الحكومة، في أثناء تمردات الفهود مستخدمة تعبيرات أمومية: "إنهم ليسوا أولاداً طيبين." ووصفت الصحافة المتظاهرين بالمنحرفين من حثالة البروليتاريا، وصوَّر الإعلام الحركة باعتبارها "تنظيماً عرقياً" ومحاولة لـ "تقسيم الأمة". وكثيراً ما قُمع العداء الطبقي والعرقي باسم ما يفترض أن يكون كارثة "أمن قومي" وشيكة. وفي أية حال، واجهت كل محاولات النشاط المزراحي السياسي المستقل تدابير العصا والجزرة المضادة من قِبَل المؤسسة، تتراوح بين إيماءات رمزية نحو علامات "تغيير" عبر البنى التحتية للرعاية الاجتماعية، مروراً بالانتقاء المنهجي للناشطين المزراحيم (إذ إن تأمين الوظائف والامتيازات هو مصدر كبير للقوة في بلد صغير ممركز)، وصولاً إلى المضايقات وتحطيم الشخصية والسجن والتعذيب، ثم الضغط لترك البلد أحياناً.
إن الهجمات المنسقة على نشاطات المزراحيم السياسية المستقلة ـ بما في ذلك من اليسار ـ نفذت باسم "الوحدة القومية" في وجه التهديد العربي. وكان الافتراض، على العموم، هو أن الأحزاب السائدة لم تكن "عرقية" [....]، في حين أن المؤسسات الإسرائيلية القائمة كانت، أصلاً، مبنية عرقياً وفقاً لبلاد المنشأ، وهي حقيقة تخفيها واجهة لغوية تجعل الأشكنازيم "إسرائيليين" والمزراحيم "بني عِدّوت همزراح"، أي "أبناء الجوالي العرقية الشرقية". وتغطي صيغة الجمع هنا حقيقة التفوق العددي المزراحي، مع تأكيد تعدد الأصول، قياساً بوحدة إسرائيلية (أشكنازية) مفترضة قائمة من قبل، كما تخفي حقيقة أن المزراحيم، مهما تكن بلاد منشئهم، جاؤوا إسرائيل كي يشكلوا وحدة جماعية قائمة على القرابة الثقافية وتجربة الاضطهاد المشتركة. وكالكثير من المجموعات الأُخرى السائدة عرقياً، يشعر الأشكنازيم بشيء من الخفر تجاه تسميتهم. ومن النادر أن يشيروا إلى أنفسهم أو إلى سلطتهم كأشكنازيم، فهم لا يرون أنفسهم كمجموعة عرقية (جزئياً لأن تعبير "الأشكنازي" يثير ذكرى غير حميدة ليهود "شتاتل".* غير أن المزراحيم لا يشاركونهم هذا الخجل. وأياً كان ولاء المزراحيم السياسي السطحي فإنهم يشيرون، في الغالب، إلى "الدولة الأشكنازية" و"الصحف الأشكنازية" و"التلفزة الأشكنازية" و"الأحزاب الأشكنازية" و"المحكمة الأشكنازية"، وأحياناً حتى إلى "الجيش الأشكنازي". إن الأكثرية الساحقة، الفارة من الجيش، موجودة في الجالية المزراحية، ولا سيما بين الطبقات الدنيا التي يدل تصرفها على تردد في "إعطاء أي شيء لهذه الدولة الأشكنازية"، وهذا في مجتمع تبعث بنيته الرسالة اللاواعية: "حاربوا العرب ثم نقبلكم." وفي افتتاحية حديثة في صحيفة مزراحية بعنوان "40 عاماً من الدولة الأشكنازية" إيجاز لمشاعر المزراحيم بعد مرور أربعة عقود عن قيام الدولة:
إنه العام الأربعون لاستقلال الدولة الأشكنازية المدعوة إسرائيل، لكن من سيحتفل؟ إخواننا المزراحيم القابعون في السجون؟ شقيقاتنا المومسات من تل باروخ؟ أم أن أبناءنا في المدرسة سيحتفلون بتدهور التربية؟ هل نحتفل بالمسرح الأشكنازي [....]؟ أم بالتعصب المتزايد في مجتمعنا؟ بالفرار من السلام؟ بالموسيقى المزراحية التي تذاع فقط في غيتوات الإعلام؟ بالبطالة في بلدات التطوير؟ يبدو أن المزراحيم لا سبب لديهم للاحتفال. فالفرح والسرور للأشكنازيم فقط، ولمجد الدولة الأشكنازية.[18]
وعلى الرغم من الطمس أو الحجب بسبب الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وعلى الرغم من المضايقات الرسمية، فإن المقاومة المزراحية موجودة دائماً، تمر عبر تحولات، وهي تغير الأشكال التنظيمية. وعلى الرغم من المحاولات لإثارة الصراع بين المزراحيم والفلسطينيين، فقد كان هناك دائماً بين النشاطات المزراحية نشاطات لمصلحة العدالة للفلسطينيين. وهنالك أعضاء كثيرون من الجيل المزراحي القديم، داخل إسرائيل وخارجها، متحمسون لأن يكونوا جسر سلام إلى العرب وإلى الفلسطينيين. لكن جهودهم رُفضت أو ضُربت باستمرار من قبَل المؤسسة.[19] ولما رأى "الفهود السود" أنهم "جسر طبيعي" للسلم دعوا، في السبعينات، إلى "حوار حقيقي" مع الفلسطينيين الذين هم "جزء لا يتجزأ من المشهد السياسي في الشرق الأوسط، وإلى "أن يسمح لممثليهم بالمشاركة في جميع الاجتماعات والمناقشات التي تسعى لحل الصراع."[20] وكان الفهود أيضاً بين المجموعات الإسرائيلية الأولى التي التقت منظمة التحرير الفلسطينية. وفي الثمانينات، كانت حركات مثل "الشرق من أجل السلام" و"الجبهة المزراحية في إسرائيل" و“Perspectives Judeo-Arabes” في فرنسا ـوهي أسماء تشير بنفسها إلى إسقاط العيب الذاتي، وإلى يوتوبيا الاندماج في الشرق السياسي والثقافي ـدعت إلى دولة فلسطينية مستقلة بقيادة م. ت. ف. وتؤكد الجبهة المزراحية أن المزراحيم ليسوا صهيونيين بالمعنى التقليدي، وإنما "بالمعنى التوراتي
لـ (صهيون)، أي حياة يهودية في مسقط رأس الشعب اليهودي." كما تشدد على "ديْن احترام للبلاد العربية التي منحت [نا] الحماية طوال عصور"، وعلى "الحب المزراحي القوي والاحترام للثقافة العربية"، ذلك بأن "لا عداء بين الوجود العربي والوجود [اليهودي] المزراحي."[21]
خاتمة
كانت الصهيونية الأوروبية، من نواح كثيرة، خدعة ثقة كبيرة لُعبت على المزراحيم؛ وهي مجزرة ثقافية ذات نسب ضخمة، ومحاولة ناجحة جزئياً لإلغاء، في جيل أو جيلين، آلاف الأعوام من الحضارة الشرقية المتجذرة، والموحدة حتى في تنوعها. أبادر إلى القول إن حجتي هنا ليست جوهرية. وأنا لا أضع ازدواجية جديدة لعداء أبدي بين الأشكنازيم والمزراحيم. ففي عدد من البلاد والأوضاع، تعايشت المجموعتان على الرغم من الفوارق الثقافية والدينية، بسلام نسبي. وفي إسرائيل وحدها تقوم بنيهما علاقة تبعية واضطهاد (في أية حال، إن 10% فقط من مجموع اليهود الأشكنازيم هم في إسرائيل). من الواضح أن اليهود الأشكنازيم كانوا الضحايا الأولين لأعنف أنواع معاداة السامية الأوروبية، وهي حقيقة تجعل وضع وجهة نظر مؤيدة لا للفلسطينيين وحدهم فحسب، بل مؤيدة للمزراحيم أيضاً، أمراً أكثر دقة. فمن المتوقع أن يُقمع أي نقد للمزراحيم باسم تهديد "وحدة الشعب اليهودي" في فترة ما بعد المحرقة النازية (الهولوكوست) (كأنما في جميع الوحدات، ولا سيما الحديثة النشوء، ليس هنالك فوارق واختلافات). كذلك حجتي ليست خلقية أو قطعية، قائمة على مخطط مانوي* يقابل المزراحي الجيد بالأشكنازي الشرير الظالم. إن حجتي بنيوية، وهي محاولة لتفسير "بنية الشعور" نظرياً، أي تفسير تيار الغضب العميق ضد المؤسسة الإسرائيلية والذي يوحد معظم المزراحيم مهما يكن انتماؤهم الحزبي المعلن. كما أن حجتي وضعية وتحليلية، فهي تزعم أن التشكل السياسي ـ الاجتماعي الإسرائيلي يولّد باستمرار تخلف اليهود الشرقيين.
هنالك شبح يلازم الصهيونية الأوروبية، وهو الشبح المتمثل في أن كل ضحاياها ـ من فلسطينيين ومزراحيم (وكذلك الأشكنازيم النقديين، داخل إسرائيل وخارجها، والموسومين كمستائين "حاقدين على أنفسهم") ـ سيدركون التشابهات التي تربط بين أعمال الاضطهاد التي تعرضوا لها. ولاستحضار هذا الشبح قامت المؤسسة الصهيونية في إسرائيل بكل ما في وسعها: إثارة الحرب وعبادة "الأمن القومي"؛ التصوير التبسيطي للمقاومة الفلسطينية أنها "إرهاب"؛ تشجيع الأوضاع التي تحفّز على التوتر المزراحي ـ الفلسطيني؛ تصوير المزراحيم "مبغضين للعرب" و"متعصبين دينياً"؛ استخدام النظام التربوي ووسائل الإعلام في تعزيز "بغض العرب" ورفض المزراحيم لأنفسهم؛ قمع جميع الذين قد يعززون التحالف الفلسطيني ـ المزراحي أو احتوائهم. أنا لا أقصد أبداً أن أقابل بين المعاناة الفلسطينية والمعاناة المزراحية ـ فمن الواضح أن الفلسطينيين هم الذين أساءت إليهم الصهيونية أكثر من غيرهم ـ ولا أعني مقارنة لائحة الجرائم الطويلة ضد الطرفين. فالقضية قضية علاقة وتشابه أكثر من كونها تطابقاً كاملاً في المصالح أو التجربة؛ وأنا لا أطلب من الفلسطينيين أن يشعروا بالأسف على الجنود المزراحيم الذين ربما يكونون بين من يطلق الرصاص عليهم. من الواضح أن المزراحيم ليسوا هم الذين يُقتَلون، مرة بعد المرة، في شوارع غزة أو في مخيمات اللاجئين في لبنان. في أية حال، إن الشيء المهم ليس التنافس في شأن العطف وإنما البحث عن بدائل. وإلى الآن، كان الفلسطينيون والمزراحيم، بالنسبة إلى الأيديولوجيا والسياسات الصهيونية، كائنات يقع عليها الفعل، لا أشخاصاً فاعلين لهم كيانهم الخاص، كما أنه جرى استخدام الواحد ضد الآخر إلى الآن. لكن المزراحيم ليسوا هم الذين اتخذوا المقررات الحاسمة المؤدية إلى التهجير والاضطهاد الوحشيين للفلسطينيين ـ حتى لو جُنِّد المزراحيم كذخيرة للمدافع ـ تماماً كما أن الفلسطينيين ليسوا هم الذين هجّروا المزراحيم واستغلوهم وأذلوهم. إن النظام الحالي في إسرائيل ورث عن أوروبا كرهاً شديداً لاحترام حق تقرير المصير للشعوب غير الأوروبية [....]. وكما أنه يستحيل تصور السلام بين إسرائيل والعرب من دون الاعتراف بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني وتأكيدها، كذلك فإن سلاماً حقيقياً يجب ألاّ يتجاوز الحقوق الجماعية للمزراحيم. ومن قصر النظر أن تجري المفاوضة مع الذين في السلطة أو مع القيمين عليها، مغفلين اعتبار اليهود من البلاد العربية والإسلامية كمشكلة عربية "داخلية". من الواضح أنني لا أفترض أن يوافق المزراحيم جميعاً على تحليلي، مع أن الأغلبية تؤيد الكثير منه. إن ما أفترضه هو أن مثل هذا التحليل يفسر التعقيدات في الوضع الراهن، كما يفسر عمق الغضب المزراحي وحجمه. إن تحليلي يأمل، أخيراً، بأن يفتح مجالاً بعيد المدى يمكن أن يساعد في جهد أكبر لتجاوز المأزق الراهن الذي لا يطاق.
[1] توم سيغف، "1949: الإسرائيليون الأوائل" (القدس: مطبعة دومينو، 1984)، ص 171 ـ 174 (بالعبرية).
[2] مقتبسة من: Tom Segev, 1949: The First Israelis (New York: The Free Press, 1986), p. 160.
[3] مقتبسة من: سيغف، مصدر سبق ذكره، ص 166.
[4] المصدر نفسه، ص 167، 328.
[5] المصدر نفسه، ص 330.
[6] المصدر نفسه، ص 178.
[7] أنظر: دوف ليفتان، "هجرة (بساط الريح) بوصفها استمراراً تاريخياً لهجرات اليمنيين السابقة"، رسالة ماجستير مقدمة إلى دائرة العلوم السياسية في جامعة بار ـإيلان (إسرائيل)، 1983 (بالعبرية)؛ سيغف، مصدر سبق ذكره، ص 185 ـ 187، 331.
[8] Segev, op.cit., pp. 172-173.
[9] Shlomo Swirski and Menachem Shoushan, Development Towns in Israel (Haifa: Breirot Publishers, 1986), p. 7.
[10] أنظر: Ibid.
[11] للاطلاع على اقتباسات من بعض الوثائق أنظر: Segev وخصوصاً:
Part II: “Between Veterans and Newcomers,” pp. 93-104.
[12] Ya’acov Nahon, Patterns of Education, Expansion and the Structure of Occupation Opportunities: The Ethnic Dimension (Jerusalem: The Jerusalem Institute for the Research of Israel, 1987).
[13] Samm Samooha, Israel: Pluralism and Conflict (Berkeley: University of California Press, 1978),
pp. 178-179.
[14] Shlomo Swirski, “The Oriental Jews in Israel,” Dissent, Vol. 31, No. 1, Winter 1984, p. 84.
[15] Yosef Ben – David, “Integration and Development,” in S.N. Eisenstadt, Rivkah Bar Yosef and Chaim Adler (eds.), Integration and Development in Israel (Jerusalem: Israel Universities Press, 1970), p. 374.
[16] شلومو سويرسكي، "الشرقيون والأشكنازيم في إسرائيل" (حيفا: محبروت لمحْكار أوليبكورت، 1981)، ص 53 ـ54 (بالعبرية).
[17] Segev, op.cit., p. 161.
* تشير إلى أي من الجوالي اليهودية القروية السابقة في أوروبا الشرقية، وخصوصاً في روسيا.
[18] بني زاده، "40 عاماً من الدولة الأشكنازية"، "بَعَمون"، العدد 16، كانون الأول/ديسمبر 1987.
[19] آبا إيبن، مثلاً، عارض "فيما يتعلق بمهاجرينا من الدول الشرقية، أن يكونوا جسراً في اتجاه اندماجنا في العالم الذي ينطق بالعربية." (Smooha, op.cit., p. 88.)
[20] مقتبسة من مؤتمر صحافي عقده الفهود السود في باريس، في آذار/مارس 1975.
[21] المقتطفات مأخوذة من كلمات عدة للجبهة المزراحية ألقيت في اجتماع عُقد بينها وبين م. ت. ف. في فيينا، تموز/يوليو 1986.
* نسبة إلى ماني الفارسي الذي دعا إلى الإيمان بعقيدة قوامها الصراع بين النور والظلام.